سألته بنوع من القلق:
ماذا هنالك ؟
نريدك أن تأتي ..
لماذا ؟!
تعال وستعرف ..
قالها في فتور وكأنه يرى سؤالي سمجا ونوع من قلة الأدب ..
قلت له ولم يفارقني القلق:
سآتي بعد انتهاء الدوام المدرسي
لماذا يريدون استجوابي ؟! .. لا شك أن للأمر علاقة بمقتل (راشد) .. ولكن ما دخلي في الموضوع ؟! .. هل يشتبهون بي مثلا ؟! ..
ذهبت إلى المدرسة وقد شعرت بأن اليوم الدراسي كان بطيئا جدا كحال أي شخص ينتظر شيئا بفارغ الصبر بعد المدرسة ..
والآن .. ها أنا ذا في مخفر (......) مع ضابط المباحث في غرفة يملؤها دخان التبغ مما جعل الرؤية ضبابية .. ويحيط بالضابط حشد من العسكريين الذين تبدو على وجوههم سيماء الخطورة .. وهم يرمقونني جميعا بشك لا مبرر له أبدا ..
كان المحقق ودودا مجاملا بتلك الطريقة المرعبة التي يجيد رجال المباحث أداؤها .. في حين كان ينظر لي الآخرون بحدة وصرامة دون سبب واضح !!.. الأمر الذي جعلني على وشك الاعتراف !! .. بماذا ؟! .. بأي شيء.. فلوهلة شعرت وكأنني قد ارتكبت جريمة بسبب نظراتهم المريبة لي.
أشار إلي أحدهم كي أجلس .. فجلست محاولا أن أبدو طبيعيا .. شعور سخيف سببته نظراتهم المتشككة لي .. فشعرت بذقني يرتجف رغما عني .. كعادتي حين أتحدث إلى مجموعة من الناس .. دعكم من أن هذا الجو العسكري المتوتر قد جعلني أشعر بتقلص في معدتي .. وأتصرف بالضبط كأنني شخص مريب .. إن ارتباكي سيجعلهم يشكون في أمري .. و ..
وأخيرا قطع أحدهم حبل الصمت ليقول لي:
هل كانت تربطك بـ(راشد) أي علاقة .. سواء إيجابية أم سلبية ؟!.
هذا هو المتوقع طبعا .. أن يكون للأمر علاقة بمقتل (راشد) .. ازدردت لعابي وقلت بصعوبة بسبب دقة الموقف أولا .. ولأنني سأكذب ثانيا:
لا ..
هل أنت متأكد من ذلك ؟
نعم ..
هل تحدثت إليه من قبل ؟
قليلا .. كنا زملاء دراسة كما تعلمون .. ولم تمتد علاقتنا أبدا إلى خارج أسوار المدرسة ..
هل تعرف أحدا من الممكن أن يكره (راشد) إلى درجة القتل ؟
حككت رأسي قليلا مفكرا .. وقلت وأنا أتمنى أن أجد سبيلا للفرار:
- إذا كانت الشرطة لا تعرف .. فكيف لي أن أعرف.
سألني بنفاد صبر:
هل حصل أي احتكاك بينكما لأي سبب ؟.
حسنا .. الآن سأكذب كذبة صغيرة لكنه لن يصدقها .. فتحت فمي .. فقال بصرامة:
لا تحاول الكذب .. نحن نعلم أنك قد تعرضت للضرب على يده ؟! إنك حتى لم تذكر هذا في التحقيق الذي جرى معك في المستشفى لمحاولة كشف هوية المعتدين عليك .. لماذا ؟!
اللعنة .. لقد وقعت في مأزق .. كنت أخشى معرفتهم بالأمر كي لا تتجه شكوكهم إلي .. الجو العام أربكني كثيرا وجعلني أتصرف بحماقة ..
كيف ؟! .. كيف عرفتم ذلك ؟!
إننا رجال الشرطة .. مهمتنا أن نعرف .. وعلى كل حال فإن أحد أصدقاء (راشد) قد أخبرنا بذلك ..
ثم قال وكأنه قد تذكر شيئا:
يجب أن تجيب على أسئلتي .. فأنا من أسأل في هذا المكان وليس أنت.
قلت له باستسلام وقد قررت إخبارهم بكل شيء بعد أن وجدت أنهم يعرفون كل شيء أصلا:
بصراحة كنت أخشاه بشدة .. أخشى انتقامه .. لم أرد أن أزيد الوضع سوءا .. إنني فتى في حالي ولا أؤذي أحد.
سألني في شك:
ولماذا اعتدى عليك ضربا بتلك الصورة البشعة التي جعلتك تبيت في المستشفى أكثر من شهر ؟!.
كان واضحا لهؤلاء القوم أنني القاتل .. فقط يحتاج الأمر إلى ضغط نفسي أكثر .. أو إلى بعض الصفعات والركلات .. ولكن حمدا لله أن هذا لا يحدث في (الكويت) .. ومن يفعل هذا من رجال الأمن يعاقب على اعتباره قد تعدى على الحقوق الدستورية للمواطن ..
أخبرته بالقصة كاملة دون إهمال أي تفاصيل .. سوى خطة انتقامي طبعا .. وقد
راح يصغي إلي بانتباه شديد وعيناه تضيقان وهو يرمقني بشك .. كأنما الجاني - أنا - قد صار قريبا جدا من الوقوع في المصيدة .. فزاد هذا من توتري وتلعثمي في الكلام ..
قطع حديثنا جرس الهاتف الذي كان يرن بإلحاح .. رفع الضابط سماعة الهاتف .. وإذا بشخص أعلى منه رتبة كما كان واضحا من طريقة حديثه معه ومخاطبته بلقب سيدي .. التفت يمينا ويسارا بترقب كي ينتهي هذا التحقيق .. فوقع بصري على مجموعة من الصور الملقاة بإهمال على مكتب الضابط .. مددت رأسي قليلا دون أن ينتبه أحد لأرى تلك الصور المبعثرة .. فرأيت شيئا رهيبا لا يوصف !! .. أقسم لكم بأنني شعرت أن العصارة الحمضية قد احتشدت في معدتي وبدأت بالصعود .. سينفجر بركان القيء من فمي قريبا .. فقد كان ما شاهدته هو بعض الصور التي التقطها رجال الشرطة لجثة (راشد) في مسرح الجريمة .. كانت الجثة تنزف من عشرة مواضع على الأقل !! وبدا واضحا أن (راشد) قد تعرض إلى عملية تعذيب بشعة .. لأن كل أطرافه كانت مهشمة .. وقد التوى عنقه للخلف !! .. ليس بتلك الطريقة الشهيرة التي نراها في الأفلام .. وإنما بشكل آخر لم أنتبه إليه في البداية .. ولكن عندما أمعنت النظر بما تسمح لي وضعية الصور على مكتب الضابط .. أدركت أن اتجاه وجه (راشد) كان لأعلى في حين أن بطنه في الاتجاه الآخر !!! .. أي أن عنقه كان ملتويا باستدارة كاملة .. هنا كدت أن أصاب بنوبة قلبية .. واحتجت إلى دقائق كي ألتقط نفاسي .. ولا زلت أجاهد كي أمنع نفسي من التقيؤ .. إلا أن لاحظ الضابط أنني قد رأيت الصور .. فإذا به يخفيها بسرعة وينظر إلي بعتاب وغضب شديدين وهو مازال ممسكا بسماعة الهاتف.. وعلى كل حال .. لست مسوؤلا عن إهماله بترك صور كهذه ملقية على مكتبه حيث يستطيع الجميع رؤيتها.
أنهى الضابط المكالمة .. ونظر لي بعدها نظرة طويلة لم أفهم معناها .. ثم أمرني بالانصراف وقال قبلها ما توقعته:
لن يكون مسموحا لك بالسفر .. ستظل في (الكويت) حيث نستطيع أن نجدك في أي وقت لإكمال التحقيق .. وسنخبرك متى ما فرغنا منك
قلت له وقد أغاظني أسلوبه المستفز:
ولماذا أعامل وكأنني مشتبه به ؟! .. ظننت أنني هنا للإدلاء بمعلومات قد تفيد التحقيقات !!.
بهت الضابط لسؤالي للحظة .. ثم أجاب بصرامة:
لقد أنكرت كل ما حدث لك مع (راشد) .. كما أنك تملك دافعا جوهريا قويا لقتله.. وهو الثأر.. لذا فيجب أن تعاوننا بصدق أكبر كي تساهم في إبعاد نفسك من دائرة الشبهات ..
هنا احمر وجهي من شدة الغضب وقلت للضابط بعصبية بعد أن شعرت أنني لن أرتاح حتى بعد موت (راشد) وقلت له ما أشعر به بكل صراحة:
حسنا .. أتمنى أن أكون أنا من قتله .. ولو فعلت فسأعترف بهذا وسأكون قد قدمت للعالم خدمة جليلة لعالم بالتخلص من هذا الوغد الذي عاث في هذه الدنيا فسادا وأتمنى أن يحترق في جهنم ..
بدت الدهشة مع الامتعاض على وجوه الجميع .. فلم يتفوهوا بحرف .. وكأنني قد صدمتهم بكلامي ..فشجعني هذا كي استطرد محتدا:
لا أستطيع أن أعتبر (راشد) شخصا طاهرا وملاكا رقيقا لمجرد أنه قتل .. لقد كان مجرما حقيرا.
قلت هذا ونهضت بحدة لأرحل ..
هذه هي ضريبة المراهقة التي يدفعها كل من هم في مثل سني .. وهي أن لا أحد يصدقنا بسهولة.. فالمراهق متهم حتى تثبت براءته .. وتهمة الاستهتار والتهور تحوم حول رؤوسنا دوما !!.
كم أود أن أعرف ملابسات تلك الجريمة وأبعادها ومرتكبها .. ولكن يظهر أن الشرطة لا تعرف شيئا على الإطلاق .. فقط يتظاهرون بالخطورة والغموض ..
ولكني عرفت فيما بعد أن (راشد) قد جاء إلى المدرسة بعد انتهاء الدوام المدرسي ودفع رشوة بسيطة إلى رجل الأمن كي يسمح له بالدخول إلى الفصل ليلا ليكتب على طاولته كل المعلومات التي يحتاجها لامتحان الغد !!.. وعرفت أنه قد فعل هذا أكثر من مرة .. فأمر كهذا لا يمكنه فعله في فترة الفسحة مثلا .. لأن أبواب الفصول تقفل في تلك الفترة .. يا لها من طريقة غريبة ومبتكرة في الغش !! .. لن يتوقف هذا الفتى أبدا عن إبهاري بأساليبه الملتوية .. حتى بعد مقتله !! ..
وقد عثر (بدر) على جثة (راشد) في الصباح الباكر – قبل أن تمتليء المدرسة بالطلبة - وهو في طريقه إلى دورة المياه القريبة من الفصل .. صدفة غريبة بالفعل .. يقولون أن (بدر) شرع يصرخ ويولول ويبكي كالنساء .. خاصة وأن موقف كهذا كان كافيا كي يفقده عقله إلى الأبد .. وعندما رأيته في المدرسة بعد تلك الحادثة .. بدا لي وكأنه امرأة عجوز في السادسة عشر من العمر !!.
لقد عرف رجال الشرطة كل شيء عن (راشد) .. كل شيء تقريبا بسبب تحرياتهم المكثفة .. ولكن والده استغل سلطاته الواسعة لتحوير الحقائق بمساعدة جيش من المحاميين حتى يخرج ولده بصورة الشهيد الذي تعرض للقتل على يد غادرة ..
وفي النهاية .. قيدت القضية ضد مجهول !! .. ولا أنسى أن أذكر لكم أن رجل الأمن قد فصل من وظيفته طبعا ..
كان من الممكن أن تنتهي أحداث القصة عند هذا الحد لولا فضولي الشديد والصدفة التي لعبت دورا كبيرا في هذه القصة.
كنت أتحرق شوقا لمعرفة القاتل .. لماذا ؟! .. لا أدري .. حقا لا أدري .. لقد كاد (راشد) أن يقتلني وتسبب في أضرار جسدية ونفسية هائلة لا زلت أعاني منها .. ولا أبالغ لو قلت بأنه قد حطمني تحطيما .. فبعد كل هذا أعتقد أنه من حقي أن أعرف من قتله .. إن شخصا كـ(راشد) لا شك أن له الكثير من الأعداء .. ولكني لم أجد أي إجابة على تساؤلاتي ..
تناسيت الأمر مع مرور الوقت .. خاصة وأن الشرطة لم تستدعيني بعدها على الإطلاق .. مما جعلني أخمن أنهم قد استبعدوني من دائرة الشبهات لأسباب أجهلها .. ولكني لم أستطع الابتعاد عن (بدر) .. الضحية الوحيدة الباقية التي أعرفها من ضحايا )راشد( .. كانت حالته النفسية قد تحسنت قليلا .. وعندما أقول تحسنت قليلا فهذا يعني أنه قد عاد كما أعرفه .. مشتت تائه عيناه ترمقان أبعادا أخرى مجهولة !! .. ولكنه ازداد تلعثما .. وأصبح وكأنه طفل رضيع عاجز تماما ويحتاج إلى الحماية والرعاية المستمرتين .. ووجدت نفسي –من باب الإشفاق الشديد- أذهب إليه وقت الفسح وأبحث عنه وأهتم بأمره .. وقمت بمساعدته كثيرا في فروضه المنزلية وفي دراسته .. إلى أن جاء اليوم الذي طلب مني زيارته في منزله .. وكان هذا قبل اختبارات آخر العام بفترة قليلة .. ترددت في البداية .. فأنا لم أزر أحدا في حياتي .. ولكني وجدت أن لا ضرر هنالك ولن أخسر شيئا على كل حال .. فوعدته بزيارة قريبة .. ولا أملك في الواقع ما أمنحه لهذا المسكين سوى الصداقة ..
وفي اليوم الموعود قمت بزيارته في منزله الكائن في منطقة (سلوى) .. وهو في الحقيقة ليس منزل .. بل شقة صغيرة في عمارة متهالكة ..
تخيلوا معي .. فتى يعيش مع والدته غير الكويتية .. والتي لا تحمل أي مؤهلات دراسية تساعدها على الحصول على وظيفة .. ومعيل الأسرة قد توفي بسبب جرعة زائدة من المخدرات !! .. وضع مأساوي فعلا تعيشه هذه الأسرة .. إنهم (مقطوعين من شجرة) كما يقال ..
كانت والدته موجودة وهي - بالمناسبة - المرة الأولى التي أراها .. مرتدية ثيابا توحي وكأنها على وشك الخروج .. ولكن تبرجها والحق يقال كان مبالغا فيه مما يوحي إلى الجهة التي ستقصدها .. رحبت بي بطريقة ودية كان واضحا من خلالها أن ولدها قد أخبرها بكل شيء عني .. واحتضنت ولدها بقوة قبل تخرج من المنزل .. ورغما عني .. شعرت بأنني أبدي نوعا من التحفظ معها .. ربما بسبب الوسيلة التي تجمع بها المال.
جلست مع (بدر) قرابة الساعتين تحدثنا فيهما عن كل شيء .. وأدخلني إلى غرفته حيث رأيتها مرتبة إلى درجة بدت لي وكأنها غرفة فتاة .. ألم أقل لكم أنه أقرب إلى الفتيات ؟! .. ولفت انتباهي امتلاكه لمكتبة تحوي عدد كبير من كتب تعليم فنون القتال بمختلف أنواعها .. مما يدل على ما يحلم أن يكونه .. فغالبا ما ترى الضعفاء المتخاذلين يحلمون بالحصول على القوة للدفاع عن أنفسهم .. فتراهم يشترون كتب كتلك ويعلقون صور الأبطال في غرفهم .. وهذا بالفعل ما لا حظته أيضا في غرفة (بدر) .. بوستر كبير الحجم للنجم العالمي (سلفستر ستالون) !! ..
لقد كشف لي (بدر) في تلك الزيارة كل أسراره الخاصة تقريبا .. حتى أن عيناه قد اغرورقتا بالدموع أكثر من مرة وهو يصف لي حاله السيء ويقول:
أعرف أن الكل ينظر إلي على أنني أشبه الفتيات .. أحاول التخلص من ضعفي لكني عاجز عن ذلك .. أشعر أنني مفكك من الداخل .. مشتت الذهن .. إنني جبان .. أعترف بهذا .. إنني أخشى كل شيء .. الظلام والصراصير ومواجهة الناس وأعاني من فوبيا ركوب المصاعد ..
يعض على شفتيه بأسى وهو يقول:
إنني كتلة من الضعف والخوف.
سألته بحيرة:
ولماذا لا تطلب استشارة نفسية ؟
لا أعتقد أن تلك الاستشارات النفسية ستزرع في نفسي قوة داخلية .. أشعر أن العلاج النفسي إكذوبة .. وليس له مقاييس ..
في الواقع أنني أتفق معه في هذا بعض الشيء ..
أرجو ألا تنسى عزيزي القاريء أن (بدر) يعاني من صعوبة في النطق .. ولكني أنقل لكم كلامه بوضوح كي لا تصابوا بالملل .. فالجملة التي قد تستغرقك ثوان لتقولها قد تحتاج منه إلى دقيقتين .. فلا أعتقد أنكم ستقرأون كلامه حين يقول:
أ.. أ .. أ .. أحب .. أ .. أ .. أن .. أتـ .. أتـ .. أتخلص مـ .. من .. صعوبة النـ .. النــ .. النطق .. الخ ..
ولكني مع هذا لم أشعر بالملل .. مثلما شعرت بالشفقة لحاله كما ذكرت ..
تحدثنا قليلا عن حادثة مقتل (راشد) .. وأخبرني عما شاهده حين رأى الجثة .. وهو بالضبط ما أخبرتكم به عندما رأيت الصور بالصدفة في المخفر.. وسرت في جسدي رجفة قوية حين تذكرت الصور .. لقد كان منظر الجثة بشعا للغاية بالفعل .. ثم أن هناك لمسة درامية مخيفة في أن يموت الإنسان بهذه الصورة البشعة .. لمسة درامية تبرر تلك الرجفة في ساقي ودقات قلبي المضطربة كلما أتذكر أمر تلك الصور ..
وما يثير حيرتي هو كيفية لي رقبة (راشد) بتلك الصورة .. إن هذا يحتاج إلى قوة بدنية هائلة .. فليس لي الرقبة بتلك الصورة بالأمر السهل .. ويحتاج الأمر أيضا إلى أعصاب فولاذية كي يفعل الإنسان ذلك مع تهشيم أطراف الجثة .. وطعنها عدة مرات .. وإنني لا زلت أجهل إن كان القاتل قد فعل كل هذا بعد قتل (راشد) .. أم قبل ذلك !! .. يقال أن القاتل قد مثل بالجثة أي أنه قد فعل ما فعل بعد أن قتل (راشد) .. ولكن هذا ليس مؤكدا .. ولا أعرف بطبيعة الحال ما قادت إليه تحريات الشرطة .. إلا أنني قد عرفت من (بدر) أن رجال المباحث قد استجوبوه بطبيعة الحال كونه الشاهد الأول وراء تلك الجريمة الغريبة .. وعرفوا كل شيء بدءا من علاقة (رهام) بـ(راشد) وانتهاء بانتحارها .. ثم تركوا (بدر) وشأنه مع تحذيره ألا يغادر البلد لحين الانتهاء من التحقيق .. تماما كما فعلوا معي .. لقد بلغ الانفعال مبلغا من (بدر) وهو يصف لي جريمة القتل كما رآها .. ولم أتوقع إطلاقا أنه يشعر بالأسف لذلك لمقتل (راشد) تصوروا !! .. فقد اغرورقت عيناه بالدموع ودفن وجهه بين راحتي كفيه وهو يقول بانفعال صادق وجسده يرتجف بقوة:
صدقني يا (خالد) إنني أتمنى أن يعثروا على القاتل .. فالقتل أمر بشع مهما كانت دوافعه .. وإنني كنت مخطئا في السابق حين تمنيت لو أنني أمتلك القدرة على قتل (راشد) بنفسي
أثرت بي لهجته الصادقة كثيرا.. ولم أجد ما أقول سوى أنني ربت على كتفه مطمئنا.. لأتركه بعدها شاعرا بأنني أميل كثيرا إلى هذا الصبي .. وهذه أول مرة في حياتي أقول بأن لدي صديق أعتز بصداقته على الرغم من كل سلبياته .. لقد شعرت بأن (بدر) إنسان أصيل المعدن ليس سوى ضحية ظروف قاهرة ابتداء من قسوة والده وتربية والدته له وخوفها المرضي عليه .. وانجرافها وراء التيار القذر .. ثم انتحار شقيقته.
تكررت زياراتي لـ(بدر) وشعرت براحة كبيرة جدا بالتعامل معه .. وإن كنت أحاول أحيانا كثيرة شد أزره وزيادة ثقته بنفسه .. ولكني عجزت عن ذلك مع الأسف .. ففاقد الشيء لا يعطيه .. فأنا أعاني من نفس المشكلة .. مشكلة عدم الثقة بالنفس .. ولكنها بنسبة أقل عما هي عليه عند (بدر) بالطبع .. ومشكلة عدم الثقة بالنفس هي – بالمناسبة - مشكلة رئيسية يعاني منها معظم المراهقين على حد سواء .. لكنهم يحاولون مداراة هذا العيب بالتظاهر باللامبالاة والسخرية من كل شيء.
لم يكن هناك شيئا غير عادي أثناء زياراتي لـ(بدر) .. مجرد تبادل لأطراف الحديث .. ومساعدته في دراسته .. متى شعرت أن هناك أمرا ليس على ما يرام ؟! .. حدث هذا عندما قمت بزيارته ذات مرة بعد إن اتصل بي وطلب مني ذلك لقضاء بعض الوقت معا .. ليس هناك أي شيء مريب في هذا.. ولكن ما حدث بعد ذلك كان أمرا غريبا بالفعل .. ففي تلك الزيارة فوجئت بطريقة استقباله لي .. كان استقبالا فاترا إلى أبعد حد !!.. وكانت عيناه تحملان نظرة صارمة للغاية لم أعتدها على الإطلاق .. الأمر الذي أعطى وجهه لمسة رجولية خشنة .. إن هذا لأمر غريب بالفعل !! .. دعاني إلى الداخل بإشارة من يده اليمنى دون أن ينطق بكلمة .. فدخلت إلى غرفته .. واستأذنني بحزم غريب ليذهب إلى الحمام .. فتركني حائرا أجهل ما دهاه .. هل زرته في وقت غير مناسب مثلا ؟! .. هل هذه طريقته لإبلاغي بأنني ضيف غير مرغوب به ؟! .. استبعدت هذا الاحتمال لأنني لا أزوره إلا بناء على طلبه .. لم يكن هو يزورني لأن والدته لا تسمح له بالخروج على الإطلاق بسبب خوفها المرضي عليه ..
ظللت في غرفته لحظات شاعرا بحيرة بالغة من جموده الغريب وعازما على أن أسأله عما به عند عودته من الحمام .. و .. لا أدري لماذا فعلت ذلك !! .. ربما هو الفضول .. فقد فتح أحد أدراج مكتبه !! .. تصرف بعيد تماما عن اللياقة .. ولكن لا أدري له سببا بالفعل .. ربما هو الفضول كما أخبرتكم .. أعرف أن كل إنسان يتصرف أحيانا بحماقة .. ولعلي تصرفت بحماقة هذه المرة .. ولكن هذه الحماقة قادتني إلى أمرا غير متوقع على الإطلاق ..
فقد وجدت خطابا مكتوبا بخط يد (بدر) .. أعرف خط يد (بدر) جيدا لأنني أساعده كثيرا في حل فروضه المنزلية .. وقد فجر الخطاب قنبلة من الذهول في أعماقي !! حتى كاد أن يغمى علي .. إلا أنني تمالكت نفسي لحسن الحظ .. كان الخطاب موجها لشخص اسمه (عدل) !! .. اسم غريب حقا !!.... وقد كان (بدر) يخاطب هذا الشخص باحترام وود بالغين وكأنه أصدق أصدقاؤه ومثله الأعلى .. وهذا نص الخطاب:-
--------------------------------
أخي العزيز (عدل):
لم أشعر يا صديقي بالأمان مثلما شعرت به حين عرفتك .. لقد أشعرتني بأنك ملاكا حارسا يحميني من كل الأخطار .. لقد ذهب (راشد) بفضلك إلى الجحيم حيث يستحق .. وجعلته مع سكرات الموت يتذكر الموبقات التي ارتكبها في حياته والآلام التي سببها لضحاياه .. إنني أتصور لحظة مصرعه .. لا شك أنها كانت شنيعة يشيب لهولها الولدان .. ولكن هذا لا يساوي نصف ما فعله بالآخرين .. ولا يساوي نصف ما فعله بأختي التي كانت تفيض بالحياة .. والآن فرغت منها الحياة كلعبة أطفال تلفت بطاريتها .. كل هذا بسبب هذا المجرم .. لذا فأنا أشكرك يا أخي .. أشكرك كثيرا يا ملاكي الحارس .. لقد حققت لي الانتقام الذي أصبو إليه وأتمناه .. إن تاريخ لقائي معك مخلد في ذاكرتي .. وصداقتك أكثر ما أعتز به في هذه الدنيا .. ولن أخشى شيئا أبدا طالما يوجد في هذا العالم شخصا مثلك يحمي الضعفاء أمثالي حين يعجز القانون عن رد اعتبارهم.
----------------------------------------
طويت الخطاب ووضعته بسرعة في مكانه .. وبعدها بلحظات عاد (بدر) إلى الغرفة .. لحسن الحظ لم يرني !! .. فأمسك بالريموت كنترول الخاص بجهاز التلفاز بيده اليمنى بحركة آلية .. وبوجه جامد قام بالبحث بين المحطات عن شيئا نشاهده .. فعل كل هذا دون أن ينطق سوى بكلمات قليلة جدا وكأنه مستاء من وجودي بالفعل !!.. أفكار وخواطر عديدة تتضارب بقوة في ذهني الذي أصبح شبيها بحائط لعبة الإسكواش حيث تضربه الكرات (الأفكار) دون توقف .. حتى بدا ارتباكي واضحا بسبب ما عرفت للتو .. فشعر بأنني لست على ما يرام .. ونظر إلي بشك متسائلا بهدوء شديد وبتلك النظرات الصارمة عما أصابني .. قلت له بأنني سأضطر إلى الذهاب .. فقد تذكرت أن علي اصطحاب جدتي لزيارة بعض الأقارب .. وأنني سأزوره غدا لتكملة الدراسة ..
بالطبع كنت أكذب عليه .. فلا أقارب لدي لأزورهم كما تعلمون .. كنت أصبو إلى الاختلاء بنفسي .. نظر إلي نظرة لم أفهم معناها .. ثم أشار إلي بيده اليمنى وببرود كي أخرج دون أن ينطق بكلمة .. فتركته وذهبت إلى البيت مشيا على الأقدام وأنا أجد صعوبة بالغة في التنفس من هول المفاجأة .. والأرض تدور من حولي حتى أنني بالكاد أستطيع الوقوف .. ووجدت نفسي لا شعوريا أستند إلى سيارة متوقفة وأفكر بما يجري وأنا ألهث وكأنني فرغت للتو من سباق مائتي متر للعدو ..
إذا (بدر) يتحمل مسؤولية مقتل (راشد) !! .. هذا واضح .. ولكنه طلب من شخص آخر أن ينتقم له لأنه يعجز عن ذلك بالطبع لأسباب نعرفها جميعا .. لا أعتقد أن هذا الشخص قاتل مأجور مثلا .. فلا يوجد شيئا كهذا في مجتمعنا على حد علمي ..
ولم أقرأ يوما في الصحف عن وجود قتله مأجورين في (الكويت) !! .. ثم تذكرت شيئا .. لا أعتقد أن ذلك القاتل الذي يدعى (عدل) قاتل مأجور .. فالطريقة التي خاطبه (بدر) فيها كانت واضحة .. إنه يعتبره أصدق أصدقائه وملاكه الحارس كما يقول .. إذا فهناك علاقة تربط بين الشخصين .. أمر غريب بحق !! .. ثم أن اسم (عدل) غريب من نوعه .. ولم أعرف أو أقرأ عن أحد حمل هذا الإسم يوما .. هل هو مجرد لقب ؟! .. ربما .. هل هو شقيق لـ (بدر) أو قريب له ؟! .. أستبعد هذا الاحتمال تماما .. فكل ما في الخطاب يوحي بعلاقة صداقة وطيدة بين الإثنين .. كما أنني أعلم أنه لا يوجد شقيق لـ(بدر) .. وأعلم جيدا أنه ليس هناك قريب لـ(بدر) يهتم لأمره إلى درجة أن يقتل لأجله .. لا أدري ما أفعل .. هل أبلغ الشرطة ؟! .. أحتاج إلى التفكير قبل الإقدام على خطوة كهذه .. فهل يستحق أحد أن يسجن أو يعدم لمقتل شخص مثل (راشد) ؟! .. وهل المدعو (عدل) إنسان شرير ؟! .. لا أعتقد .. فكل ما في الخطاب يوحي بأنه يدافع عن الضعفاء كما قال (بدر) .. ولماذا عاملني (بدر) بذلك الجمود ؟! .. لقد زرته بناء على طلبه كما تعلمون .. لقد تصرف بطريقة غريبة .. ولم أره من قبل يحمل تلك النظرات الصارمة .. وذلك الوجه الحازم البارد !! .. كل شيء مبهم غير واضح !!.
عدت إلى المنزل وأنا أفكر بما يجري .. كانت جدتي نائمة .. فأخذت حمام حار وذهبت بعدها إلى الفراش ممسكا بإحدى الكتب التي تتحدث عن الحرب العالمية الثانية .. جلست أتصفح الكتاب .. أحاول التركيز ولكن دون جدوى .. هل سيكشف الشرطة الأمر ؟! .. هل ستكون هناك أي شكوك أصلا حول (بدر) كونه الشاهد الأول ؟! .. إن الأمر مبهم وغامض بالفعل .. ثم من يكون (عدل) هذا ؟! ..
غرقت في هذه الخواطر إلى أن داهمني النوم .. ولم أصحو إلا بعد منتصف الليل .. السبب ؟! .. شعرت بأن أحدا يناديني !! .. نعم .. ظننت في البداية أنني أحلم .. ولكني فتحت عيني ووجدت الغرفة مظلمة .. الأمر الذي أثار لدي مخاوف سابقة من قصتي المشؤومة مع تحضير الأرواح* .. لحظات مضت قبل أن أنتبه إلا أن هناك أحد يناديني بالفعل ولكن بهمس !! .. فاستيقظت كالملسوع .. وإذا بشخص مخيف الهيئة يرتدي بنطالا وبول أوفر أسودين .. كان ملثما مرتديا الغطاء الذي يرتديه سارقي البنوك كما نراهم في السينما !! .. واستطعت بصعوبة بالغة – بسبب الظلام- أن أرى عينيه الواثقتين الباردتين كغابات (سيبيريا) .. كان يقف وقفة مهيبة رهيبة جعلته شبيها بتمثال في المتحف الروماني على الرغم من أنه نحيل وقصير القامة نسبيا .. لحظات ساد بها صمت رهيب إلا من عينيه القويتين !! .. شعرت بالفعل أن لعينيه صوت قوي بارد مؤثر !! ..
تحدث بثقة وهدوء شديدين وبصوت غريب قائلا:
أنا (عدل) ..
تلعثمت وكل ذرة من كياني تنتفض بقوة وقد طار بالطبع كل أثر للنوم من عيني:
(عدل) من ؟!
* راجع قصة: قشعريرة.
قال بهدوء صارم:
لا تكذب .. إنك تعرفني بعد أن قرأت رسالة (بدر) لي .. لقد كشف أمرك لأنك لم تقم بطي الرسالة كما كانت فعرف (بدر) أن أحدهم قد فتحها .. ولم يدخل أحد غرفته اليوم سواك !! ..
ثم سكت قليلا وكأنه يحاول أن يعرف تأثير كلامه علي .. فأردف بعدها قائلا:
لا تخش شيئا .. فلست هنا لإيذائك .. أريد أن أعرف شيئا واحدا .. لماذا تدخلت فيما لا يعنيك ؟! .. لماذا تجسست على (بدر) ؟! ..
لن أكذب .. إذ يظهر أنه يعرف كل شيء بالفعل:
لقد .. لقد فعلت هذا بدافع الفضول ..
قال بذات الهدوء المهيب:
حسنا .. سأسامحك هذه المرة ..
ثم قال محذرا:
ولكنني أعني تماما ما سأقول .. أنصحك ألا تخبر أحد بما قرأت وعرفت .. أنت إنسان خير وطيب القلب كما عرفت عنك .. ولا أريد إيذاؤك .. وإذا أبلغت الشرطة عما تعرف فلن يمنعني شيئا – ولا حتى رجال الشرطة أنفسهم- من الوصول إليك .. لقد وصلت هذه المرة إلى غرفتك .. ولن يمنعني شيئا من قتلك .. أرجوك لا تجبرني على هذا .. لقد قتلت (راشد) لأنه يستحق الموت .. وأنت بالذات تعرف هذا أكثر من أي شخص.
سألته بذهول وقد تذكرت شيئا هاما:
لحظة .. كيف دخلت إلى هنا ؟!
قال لي وهو يتجه ناحية الشرفة:
بنفس الطريقة التي سأخرج بها.
شعرت بالحنق لأنني لا أقفل باب الشرفة عادة .. ولكن لا أعتقد بأن أمرا كهذا سيعيقه عن الوصول إلي ..
تحرك بعدها بخفة متناهية لا تصدق ناحية الشرفة حتى شعرت لوهلة بأنه – بعد ما رأيت وبعد ما فعله بـ(راشد) الذي كان دائما يتباهى بعضلاته - يملك سرعة البرق وقوة الفيضان .. وبهدوء يحسد عليه بالفعل .. هبط من شرفة غرفتي الواقعة في الدور الثالث .. ليختفي بعدها .. قمت وأضأت الغرفة ونهضت مسرعا إلى الشرفة .. لكني لم أجده .. لقد اختفى .. تلاشى تماما !! .. ظللت أنظر إلى أسفل ببلاهة مندهشا من الوسيلة التي صعد وهبط بها دون الإستعانة بحبل مثلا .. فاستنتجت بأنه قد صعد من شرفة إلى الشرفة التي فوقها حتى وصل إلى غرفتي .. ونزل بنفس الطريقة !!.. أقسم لكم بأنه كان يتحرك كالقط .. إن هذا الشخص ذو قدرات مخيفة بالفعل ..
جلست على الفراش أضم ركبتي إلى صدري وأنا أفكر بتوتر شديد .. إنه حتى لم يتخذ أي احتياط .. ولم يجلب معه سلاحا تحسبا لأي هجوم مفاجيء مني .. لقد كان يعرف تأثيره النفسي علي .. وهو يثق بقوته كما هو واضح .. وما فعله بـ(راشد) لهو خير دليل على ذلك .. أعتقد أن المفاجأة قد شلت (راشد) تماما وهو يرى شخصا مقنعا متشحا بالسواد يهاجمه ليلا في الفصل .. والبطبع كانت أنوار الفصل مطفئة كي لا تلفت الانتباه ولا شك أن (راشد) قد أحضر معه كشاف صغير للإنارة يكون كافيا كي يكتب ما يريد على طاولته ..
سر مخيف يحيط بهذا الشخص .. لم أستطع معرفة عمره .. لكن الانطباع العام جعلني أشعر أنه لا يتجاوز العشرون من العمر .. أشعر أنه يلعب دور (باتمان) في القصص الهزلية حين يعاون رجال الشرطة ويصطاد المجرمين كالذباب.
لقد نسيت شيئا !! .. جدتي !! هل أصابها مكروه ما ؟! .. ذهبت مسرعا للاطمئنان عليها .. ولكنها كانت نائمة بسلام .. إن هؤلاء المسنين الأعزاء - الجدات والجدود- شمعة البيت مهما تدهورت أحوالهم ووهنت قواهم .. ولا يمكن أن أتخيل المكان بدونها حتى لو كنت متزوجا ولدي أربعة أطفال .. عدت بهدوء إلى غرفتي .. وجلست أفكر .. وأفكر .. هناك نقطة .. ملحوظة هامة جدا لا أستطيع أن أتذكرها في خضم الأحداث ..
- اللعنة ..
قلتها وأنا أضرب قبضتي بالحائط بحنق .. وعندما لم أجد ما أستطيع فعله .. عدت إلى الفراش .. حاولت أن أنام لكني عجزت .. والسبب هو أني شعرت أن شيئا مهما قد سرق .. الأمان .. فلا أطيق أن أتصور أن متسللا كان في غرفتي .. مهما كانت دوافعه .. ولكنني مع مرور الوقت شعرت نفسي قد هدأت شيئا فشيئا إلى أن غرقت في سبات عميق.
وفي اليوم التالي وبعد العودة من المدرسة.. خرجت في المساء لأزور (بدر) .. أخبرته عبر الهاتف أنني أريده لأمر هام للغاية .. وقد استقبلني هذه المرة بترحاب كعادته على عكس طريقته الغريبة معي في الأمس .. وتصرف معي كما أعرفه بأسلوبه الخجول المهذب الاعتيادي .. يبدو أنه لا يعرف ما فعله صديقه في الأمس .. وقد قررت أن أكشف كل شيء لـ(بدر) .. فأعتقد أن الوقت قد حان للمواجهة .. و..
(بدر) .. لقد زارني بالأمس صديقك (عدل) .. أو الأجدر أن أقول ملاكك الحارس ..
نظر إلي بارتباك شديد .. وتلعثم بقوة وهو يحاول أن يجد شيئا ليقوله .. وقبل أن ينطق بحرف .. أكملت قائلا بغضب:
أعترف أنني قد قرأت رسالتك له .. وإنني أعتذر عن تدخلي في شؤونك .. وقد عرفت أنت بذلك وأخبرت صديقك المخيف هذا أليس كذلك ؟! .. لقد اقتحم غرفتي ليلا وهددني بالقتل ..
قال لي مذهولا:
صدقني .. إنني .. إنني لم أتوقع منه أن يفعل ذلك .. لقد أخبرته بأنك قد قرأت رسالتي له وعلمت بأمره .. ولكن لم أتوقع منه أن يزورك ويهددك .. هل آذاك ؟!.
زفرت بقوة مفرغا توتري لأقول:
لا .. يظهر أنه إنسان خير .. ويريد تطبيق العدالة بطريقته الخاصة .. ولا أدري في الواقع إن كان هذا عملا خيرا أم لا .. إن الصراع في نفسي على أشده .. أحيانا أؤيد مبدأ صديقك (عدل) .. وأحيانا أعارضه .. أؤيده لأنه لا بد من أحد أن يفعل شيئا ويوقف أناس كـ(راشد) عند حدهم .. وأعارضه لأنه لا يجوز لإنسان أن يطبق القانون بطريقته الخاصة .. وإلا لتحول مجتمعنا إلى غابة ..
قال بهلع بعد أن علم أنني كشفت سر مقتل (راشد):
خالد .. أرجوك لا تدمرني .. أرجوك .. لا أحد يعرف أن لي صلة بالأمر ..
قلت له بشيء من الحدة:
ما فعله صديقك أمر بشع للغاية .. لماذا مثل بجثة (راشد) بهذه الصورة البشعة ؟!.
إنه لم يمثل بجثته .. بل فعل كل شيء قبل أن يقتل (راشد) !! .. سوى تدوير عنقه طبعا .. كان يريد من (راشد) أن يتعذب ليذيقه بعضا مما أذاق الكثيرين.
رفعت حاجبي ذهولا .. يا للوهل .. هل قام بتعذيب (راشد) بالفعل بتلك الوسائل البشعة من تهشيم أطرافه وطعنه في أماكن متفرقة من جسده ؟! .. يبدو أنه قويا بالفعل كي يسحق شخصا قويا بدوره كـ(راشد) ..
سألت (بدر) بحدة:
إذا فقد كان صراخك وكل ما فعلت عندما رأيت جثة (راشد) مجرد تمثيلية قمت بها كي توهم الجميع بأنك مصدوم لمقتله ؟! ..
صاح قائلا بصدق:
لا .. إطلاقا .. لقد تعمدت في البداية أن أذهب إلى الفصل مبكرا لأنني كنت أعرف أنني سأجد هناك جثة (راشد) .. لا أدري لماذا فعلت ذلك .. قد يكون الإحساس بالذنب .. أنت تعلم أننا لسنا بقتله .. وحتى قتل شخص كـ(راشد) ليس بالأمر السهل.
سألته السؤال الأهم:
وكيف عرفت (عدل) .. ومن هو أصلا ؟!
صمت فجأة مطرقا برأسه للأرض .. ثم قال بهدوء:
آسف .. لا أستطيع أن أجيبك .. إنني أؤمن برسالته تماما .. فهو محارب للجريمة .. ويتحرك حين يعجز القانون عن إحقاق الحق .. وإخبارك بالأمر سيكون مجازفة كبيرة في كشف هويته .. وإذا ما أبلغت عني فلن أنطق بحرف حتى وإن كلفني هذا حياتي .. وسينتهي الأمر بعقابي ..
ثم قال لي بلهجة العليم ببواطن الأمور:
إن (عدل) مطلوب في سبع قضايا على الأقل .. فقد قتل تجار مخدرات .. وسارقين .. وطهر مجتمعنا من قاذوراتهم .. ومصدر قوته هو شجاعته وهدوئه الشديدين في التعامل مع الأمور .. مع إجادته التامة لفنون القتال .. كما أنه يتحرك بسرعة وخفة متناهيتيين .. فيضرب ضربته ويختفي .. وثقته بي هي وسام على صدري .. فلا تتوقع مني إخبارك بشيء .. أنا آسف.
صعقت تماما لهذا الكلام !! .. هل من الممكن أن يوجد شخصا كهذا في (الكويت) .. إن وجود محارب مقنع من عينة (باتمان) أمر خيالي لا يمت للواقع بصلة .. إن هذا موجودا في القصص الهزلية فحسب !! .. أكاد لا أصدق !!.
خرجت من منزله عاجزا عن اتخاذ أي رد فعل من غرابة ما يحدث .. ثم قررت الذهاب إلى أحد المطاعم لتناول العشاء .. واتصلت بجدتي من هاتف المطعم* لأخبرها بأنني سأتأخر قليلا .. أريد أن أفكر بما يحدث .. إن هذا التطور لهو خطير بالفعل .. لا زلت مترددا في إبلاغ الشرطة بالأمر .. أو أن أنسى الأمر برمته طالما
أن انتقامي قد تحقق على يد شخص لا أعرفه وبتوجيه من شخص أعرفه !! .. هل أترك المدعو (عدل) يواصل (رسالته) في القضاء على المجرمين في بلدنا الآمن بأساليبه؟! .. يظهر أنه ماهر بحق كي يفعل شيئا كهذا ؟! .. يقول (بدر) أن محارب الجريمة هذا قد قتل حتى الآن سبعة مجرمين تتراوح جرائمهم بين تجارة المخدرات والسرقة .. ويظهر أنه فعل هذا بأساليب بدت وكأنها حوادث عارضة كي لا يشك أحد بوجود جريمة قتل .. وإلا لكنت قد قرأت عن بعضا من تلك الجرائم في الصحف ..
* أرجو ألا تنسوا أنني لا أملك هاتفا خلويا .. وقد ذكرت الأسباب في قصة: قشعريرة
ولكن لو كان الأمر كذلك فلماذا حرص المدعو (عدل) أشد الحرص على قتل (راشد) بصورة واضحة يعرف من خلالها الجميع أنه قد قتل ؟! .. إن الأمر محير بالفعل.
ظللت أفكر وأفكر دون جدوى .. ولم أكن أعلم أنني بعد فترة بسيطة جدا سأكشف الأمر برمته .. وقد جاء هذا بمحض الصدفة !! .. والمصادفات – بالمناسبة - تضعف سياق العمل الأدبي إلى حد كبير .. ولكن ما ذنبي في الأمر ؟! .. فهذا ما حدث بالفعل .. إنه الواقع .. وفي الحياة الواقعية قد تنتهي حياة المجرم بسكتة قلبية مفاجئة .. أو حادث سير .. أعرف أن هذا سيثير سخط القراء دون شك .. ولكن هذا ما حدث .. فأرجو المعذرة .. وعلى كل حال لم ينته الأمر بهذه الصورة بالطبع وإلا لما أخبرتكم بتلك القصة العجيبة.
ظللت جالسا في المطعم أفكر وأفكر حتى جاء الطعام .. فشرعت ألتهمه بهدوء وأنا مشتت الذهن .. كان يجلس في طاولة قريبة شخصين كبيرين في السن يتحدثان بصوت مرتفع .. يظهر أنهما زميلا عمل .. إذ كانا يتحدثان عن رئيسهما في العمل ويمتدحان أسلوب إدارته .. فقد قال أحدهما للآخر:
إن شخصيته مثيرة للاهتمام بالفعل .. فهو إداري ناجح يعرف كيف يتعامل مع كل المشاكل التي تواجهه ..
فيرد زميله مؤيدا ليقول:
وما يثير إعجابي أكثر هو أنه - وبرغم الوداعة الظاهرة على وجهه - يتحول إلى مقاتل شرس لا يكف لحظة عن المطالبة بحقوق موظفيه إذا ما ظلم أحدهم ..
ظلوا يتحدثون للحظات لم أكن أفعل فيها سوى الأكل والاستماع إليهما .. ليس من باب الفضول .. بل بسبب صوتهما المرتفع ..
أخاطب نفسي بهدوء وأقول:
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا