4. الجولة..
في مكان ما من الصحراء.. وعلى عمق ثلاثين قدما تحت سطح الأرض، جلس رجلان كان واضحا من ملامحهما ولغتهما أنهما أجنبيان.. قال أحدهما بلهجة انتصار:
- إنك عبقري يا سيد (سيمون).. سنتمكن بالتأكيد من إرسال هذا الوقود الأمينى إلى دولتنا العظمى قريبا جدا.
أجاب (سيمون) بوقار:
- ليس قريبا جدا يا عزيزي (جون).. يجب أن ننتظر حتى تهدأ القضية تماما.
تساءل (جون) باهتمام:
- هل تعتقد أنهم سيحاولون إطلاق صاروخ ثالث في القريب؟
عاد (سيمون) بمقعده إلى الوراء، وقال بثقة:
- ليس في القريب العاجل بالطبع.. سيشتت اختفاء الصاروخين انتباههم فترة ليست بالقصيرة.
ثم مال إلى الأمام، وقال وهو يغمز بعينيه ﻟ (جون)..
- ثم إن عميلنا ماهر جدا.. وهذا ما جعل الأمر لغزا محيرا لهم.
ضحك (جون) بصوت عال، وقال وهو يربت على كتف (سيمون):
- إن هذا يدل على عبقريتك الفذة يا سيد (سيمون).. فإن عميلا في مثل هذا الموقع الحساس لذو أثر عظيم.
ابتسم (سيمون) وقال:
- المهم ألا يرتكب حماقة تكشف أمره..
في نفس هذه اللحظة كان (نور) يسير في أروقة القاعدة الفضائية بجوار الدكتور (سامي)، الذي تبدلت معاملته لأفراد الفريق بشكل ملحوظ، بعد النظرية التي وضعها (محمود) كانا يتجهان نحو غرفة توجيه الصواريخ بالقاعدة حينما قال الدكتور (سامي):
- يسعدني أن تتعرف إلى الدكتور (منير) خبير التوجيه المصري العالمي.. إن هذه القاعدة تضم عددا من أعظم علماء العالم في مجال الفضاء.. لقد كان أغلبهم يعلمون في دول أجنبية، وعندما بدأ العمل في مشروع الفضاء في جمهورية مصر العربية، وافق جميعهم على العمل هنا.
قطب (نور) حاجبيه، وسأل الدكتور (سامي):
- هل كان الدكتور (منير) يعمل في دولة أجنبية؟
أجاب الدكتور (سامي):
- بالطبع.. ولكنه لم يتردد في العمل من أجل وطنه حينما دعت الحاجة.
استقبلهما الدكتور (منير) بحفاوة، وقال ﻟ (نور):
- يقولون: إنك شاب ذكي أيها الشرطي، وأعتقد أنهم لا يخطئون في أمر كهذا.. فعلامات الذكاء واضحة في ملامحك.
احمر وجه (نور) خجلا كعادته كلما سمع أحدا يمتدحه، ثم سأل الدكتور (منير):
- كم أتوق إلى معرفة كيفية توجيه الصاروخ.. ألا أثقل عليك بطلب شرح مبسط لذلك؟
أجاب الدكتور (منير) بترحاب:
- نعم .. إنما ذلك يسعدني.. هلم.. انظر إلى هذه الشاشة تجدها مقسمة إلى محورين متعامدين:
أحدهما رأسي في جانب الشاشة، والآخر أفقي في أسفلها.. وقبل انطلاق الصاروخ يتمثل هنا على الشاشة بخط رأسي يمر بمركزها، ولابد أن يمثل الصاروخ زاوية قائمة مع المحور الأفقي قبل انطلاقه.. وقبل الإطلاق توضع خطة لتوجيه الصاروخ حتى يصل إلى هدفه..
ثم أشار إلى عدة أزرار متراصة تحت الشاشة، وقال:
- وباستخدام هذه الأزرار بصورة صحيحة تحتاج إلى خبرة بالغة.. بالطبع يتم التحكم في مسار الصاروخ، بحيث ينطلق متخذا نفس الزاوية التي نحتاج إليها.. ويتمثل في هذه الحالة على الشاشة بخط رأسي مائل، يصنع الزاوية المطلوبة مع المحور الأفقي.
سأله (نور) باهتمام:
- ألا تعتقد أن استخدام الكمبيوتر يحقق نتائج أفضل بالتأكيد عند تنفيذ الخطة الموضوعة؟
أجاب الدكتور (منير) مبتسما:
- ولكنني أفضل استخدام الوسائل القديمة.
قال (نور) وهو يتفحص الدكتور (منير) بدقة:
- بالطبع.. فهي تسمح بالتحكم في توجيه الصاروخ، حتى ولو لم تيم إتباع الخطة الموضوعة.
أريد وجه الدكتور (منير)، ثم أشاح بوجهه، وقال بلهجة خالية من الود:
- أعتقد أن عندي من العمل الكثير.. لن أستطيع قضاء وقت أطول معك أيها الشرطي.
شعر الدكتور (سامي) بالحرج، ولكن (نور) ابتسم وغادر الغرفة، وتبعه الدكتور (سامي).. سار الاثنان صامتين فترة، ثم انفجر الدكتور (سامي) قائلا بغضب:
- هل تعتقد أن وجودك هنا في مهمة حكومية، يبيح لك معاملة صفوة علمائنا بهذه الطريقة الخالية من الذوق.
أجاب (نور) بهدوء:
- للضرورة أحكام يا سيدي.
ثم أشار إلى هوائي مرتفع في وسط القاعدة، وسأل الدكتور (سامي):
- ماذا يصنع هذا الهوائي في منتصف القاعدة؟
قال الدكتور (سامي) باقتضاب:
- إنه تابع للإذاعة الداخلية للقاعدة.
تأمل (نور) الهوائي برهة، ثم قال:
أعتقد أن علينا زيارة العاملين بمحطة الإذاعة الداخلية.
وبعد قليل كان الاثنان يدلفان إلى المحطة، وقال الدكتور (سامي) وهو يقوم بمهمة التعريف:
- هذا هو العامل الوحيد بالمحطة أيها النقيب (نور)، أقدمه لك.. العريف (رضا).
أدى العريف (رضا) التحية العسكرية للنقيب (نور)، الذي قال وهو يتأمل أجهزة المحطة المحدودة:
- هل تعمل وحدك هنا أيها العريف؟
أجاب العريف:
- نعم يا سيدي..
سأله (نور) وهو يتأمل ملامحه بدقة:
- هل كنت تعمل هنا لحظة إطلاق الصاروخين:
(الفاتح رقم 1) و (الفاتح رقم 2)؟
أجاب العريف باحترام:
- بالطبع يا سيدي، فهذا أحد مهام علمي ..أبلغ أخبار الإطلاق إلى مركز المراقبة أولا فأولا.
ابتسم (نور) وهو ينصرف قائلا:
- حسنا أيها العريف، سيكون لنا لقاء آخر.
سار (نور) بجوار الدكتور (سامي) صامتين، ثم سأله (نور):
- أعتقد أن الصاروخ يحتوى على كمبيوتر بالطبع.
أجاب الدكتور (سامي):
- نعم، وأعلم أنك ستسألني عمن يعد برنامج هذا الكمبيوتر.. إنه عالم شاب عائد أيضا من إحدى الدول الأجنبية يدعى الدكتور (فؤاد).. وبالطبع ستطلب مقابلته.. حسنا سنذهب إليه سويا.
ثم توقف فجأة عن السير، والتفت إلى (نور)، وقال بغضب:
- ولكنني أحذرك، إنه شاب مهذب جدا.. ولو أنك عاملته بهذا الأسلوب اﻟ... الاستفزازي فإنني...
قاطعه (نور) مبتسما، وقال:
- اطمئن يا سيدي.
قال الدكتور (سامي) وهو ينحرف يسارا:
- حسنا، هيا بنا نقابله.
كان الدكتور (فؤاد) مهذبا بالفعل.. فقد استقبلهما بترحاب وحفاوة بالغين، وأعد لهما مشروبا خفيفا، وأخذ يتحدث عن عمله. قاطعه (نور) بقوله:
- هل قمت بإعداد برنامجي الصاروخين يا دكتور (فؤاد)؟.
أجاب الدكتور (فؤاد) متلعثما:
- نعم.. أعلم أن الإطلاق قد فشل في المرتين.. ولكن البرنامجين كانا...
قاطعة (نور) قائلا:
- هل أعددت الكثير من البرامج يا دكتور (فؤاد)؟
ابتسم الدكتور (فؤاد) وقال بفخر:
- أكثر مما أستطيع أن أتذكر.. لقد قضيت عمري كله في إعدادها.
قال (نور) وهو يتأمل وجهه:
- هل حدث أن فشل أحدهما؟
تلعثم الدكتور (فؤاد) مرة ثانية وهو يجيب:
- مرة واحدة فقط، ولقد نلت جزائي.. لقد انفجر الجهاز، وشوه وجهي تماما.
تفحص (نور) وجه الدكتور (فؤاد) بدهشة وسأله:
- تشوه؟، لست أرى خدشا واحدا في وجهك.
ضحك الدكتور (سامي)، وقال وهو ينظر إلى (نور) بتشف:
- لقد تقدمت جراحات التجميل بشكل مذهل أيها الشرطي، منذ اختراع النسيج الجلدي الصناعي عام ألف وتسعمائة وأربعة وثمانين.. هل رأيت كم أنت صغير السن؟
تجاهل (نور) لهجة الدكتور (سامي) المتشفية، وسأل الدكتور (فؤاد):
وكيف يمكن إعادة الوجه إلى شكله الطبيعي بهذه الدقة؟
أجاب الدكتور (فؤاد):
- الأمر ليس بهذه الصعوبة.. ولكن في حالتي أنا وبسبب شدة التشوه، استعان الأطباء بصورة مجسمة لوجهي قبل التشوه.
قهقه الدكتور (سامي)، وقال ﻟ (نور):
- قلت لك: أنك صغير السن أيها النقيب.
غادرا سويا غرفة البرمجة، وصافح (نور) الدكتور (سامي) وهو يغادره قائلا:
- أشكرك على الاهتمام بمتابعة الأمر معي يا دكتور (سامي)..
وما أن انصرف الدكتور (سامي) حتى حادث (نور) نفسه:
- آن الأوان لمناقشة كل ما عندي مع الرفاق
***
5. من الجاني؟.
اجتمع الفريق كله في الغرفة الخاصة بالقاعدة الفضائية.. وبعد أن شرح (نور) جولته في القاعدة مع الدكتور (سامي) قال (رمزي):
- إذن، فقد حصرت شبهاتك في أربعة رجال، وهم بالتحديد هؤلاء الذين يشغلون المراكز الأربعة الحساسة، التي تؤثر في انحراف الصاروخ، وإرسال الموجات العالية التردد، أو تحديد إحداثيات السقوط.
قال (نور):
- بالضبط.. فلنبدأ منذ لحظة إطلاق الصاروخ.. كان يمكن للدكتور (منير) تغيير زاوية انطلاق الصاروخ، بحيث ينحرف عن مساره بعد الإطلاق مباشرة.. كما كان من الممكن بالنسبة للدكتور (فؤاد) أن يضع برنامجا مغايرا عن طريق الكمبيوتر بداخل الصاروخ، بحيث يتوجه إلى زاوية مختلفة بعد انطلاقه، وخاصة أنه يعلم أن الصاروخ سيختفي، ولن يمكن العثور على البرنامج المختلف بداخله.. كما أن العريف (رضا) كان يستطيع ببساطة بث الموجات عالية التردد، من خلال هوائي الإذاعة الداخلية، بالاستعانة بجهاز خاص.. ويؤيد هذه النظرية عدم ارتباك أجهزة مركز المراقبة، نظرا لوجودها خارج القاعدة.. كما أن الملازم ثان (مراد) يمكنه إبلاغه إحداثيات خاطئة.
قال (محمود) وهو يضم حاجبيه:
- إذن، فكل من هؤلاء يمتلك الوسيلة المناسبة لإحداث الخلل بالصاروخ..
أجاب 0نور) وهو يشير إلى (محمود):
- بالضبط.. ولكن أي من هؤلاء يمتلك الدافع؟
قالت: (سلوى):
- علمنا من (رمزي) أن تقارير الأربعة ممتازة.. ألا يمكن أن يكون المسئول عن ذلك من خارج القاعدة؟
صمت (نور) برهة وقد عقد ساعديه، ثم قال:
- نعم.. ولكن المشروع محاط بسرية بالغة، وهذا ما دفعني للاعتقاد بضرورة وجود عميل بداخل المشروع، وإلا فلماذا يتم إرباك الأجهزة في اللحظة المناسبة؟
عاد (نور) إلى تفكيره الصامت، ثم قال مترددا:
- ثم.. ثم.. إن هناك شيئا ما.. أعنى حدثا ما.. لست أدرى.
سأله (رمزي) بانتباه:
- هل تقصد أن شيئا قد أثار انتباهك؟
تردد (نور) ثم قال:
- ليس بالضبط.. لست أدري كيف أوضح الأمر.. هناك شيء ما سمعته أو لاحظته، أضاء ضوءا أحمر في عقلي.. أشعر بحرارة هذا الضوء، ولكنني لست أدري ما هذا الشيء بالضبط.. ترى هل تفهمني؟
قال 0رمزي) بحرارة:
- بالطبع.. أعلم هذا الشعور جيدا.. إنه يشبه تماما ما يحدث لشخص يلقى نظرة عابرة على غرفة اعتاد رؤيتها من قرب، ثم يتملكه شعور قوى بأنه قد رأى اختلافا في هذه الغرفة، ولكنه لا يستطيع أن يحدد بالضبط ما هذا الاختلاف، ولكن عقله الباطن يرفض ترك الأمر، ويظل يلح على عينيه باستمرار.. وكثيرا ما يتنبه العقل الواعي فجأة إلى نوع الاختلاف.. وقد يحدث ذلك عند رؤية شيء مشابه، كأن يرى الشخص مثلا باقة من الزهور، فيقفز إلى عقله الواعي مشهد لوحة تمثل زهرة كانت معلقة على الجانب في الغرفة، ثم اختلف مكانها.. كما أن الطب النفسي يستعين أحيانا بالتنويم المغناطيسي، الذي يأتي بنتائج رائعة في هذا المجال.
أشاح (نور) بيده، وقال:
- حسنا.. فلنترك هذا الأمر الآن، ولنفكر سويا كيف نتمكن من إيجاد العميل.. فأنا أعتقد أن إيقاع العميل هو الخطوة الأولى في كشف لغز اختفاء الصاروخين.
قالت (سلوى):
- لو أن الشبهات قد انحصرت في هؤلاء الأربعة فقط لأمكننا مراقبتهم، على أمل أن يرتكب أحدهم خطأ يكشفه.
قال (محمود):
- لا أعتقد في نجاح هذه الخطة.. فمن الصعب أن يخطئ عميل في موقع حساس كهذا.. ثم إن ذلك قد يستغرق وقتا طويلا، مما يعطل تجارب استخدام الوقود الأمينى لغزو المجرات.
وهنا قال (نور):
- إلا إذا...
التفت إليه الثلاثة وسألته (سلوى):
- إلا إذا ماذا؟
- قال (نور) بلا تردد:
- إلا إذا أطلقنا صاروخا آخر...
***
6. الصاروخ الثالث..
صرخ الدكتور (سامي) في وجه (نور):
- صاروخ ثالث!.. مستحيل.. لا يمكن المخاطرة بهذا قبل حل اللغز.. هل تعلم أيها الشرطي كم يتكلف إطلاق صاروخ ثالث؟.
قال (نور) بهدوء:
- أعلم تماما يا سيدي.. ولكن هذا هو الأسلوب الوحيد لكشف الجاسوس بسرعة.
صرخ الدكتور (سامي) محتدا:
- جاسوس!!.. هنا في قاعدتي؟! ألا تظن أنك تمنح نفسك سلطات واسعة أيها النقيب؟. أنني أثق في كل عالم من علمائنا..
قاطعة (نور) بهدوء:
- الأمر من الخطورة، حتى أنني لا أجد وقتا لمثل هذه المجاملات يا سيدي.. لابد أن يتم إيقاع هذا العميل، وإلا ما تمكنا من إطلاق صاروخنا بنجاح، ولو استلزم الأمر..
صاح الدكتور (سامي) مقاطعا:
- لو استلزم الأمر؟.. من تظن نفسك أيها الشاب؟.. إنك هنا في قاعدة أرأسها.. هل تود تولى القيادة عوضا عنى؟..
قال (نور) وقد بدأ يفقد هدوءه:
- لم أقصد ذلك يا سيدي، ولكن...
عاد الدكتور (سامي) يقاطعه بحدة:
- ولكن ماذا؟ إنك منذ حضورك مع فريقك هذا تحاول فعل كل ما يحلو لك.. ولكنني لن أسمح...
صاح (نور) وقد ضاق بالأمر:
- ليس يعنيني أن تسمح أو لا تسمح بذلك يا سيدي.. فأنا مكلف من القائد الأعلى للمخابرات العلمية بهذا الأمر.. وسأتصدر أمرا بإعداد الصاروخ الثالث، وستقوم بتنفيذ هذا الأمر.
كاد الدكتور (سامي) يجن من هذا الحوار فصاح:
- هل تهددني أيها النقيب؟. حسنا.. لن يتم إعداد هذا الصاروخ.. ولنر.
غادر (نور) مكتب الدكتور (سامي)، وقد بلغ منه الحنق مبلغه، وحادث نفسه:
- يا له من أسلوب!! هذا الرجل سيفقدني صوابي.. لابد من محادثة القائد الأعلى.
اتجه (نور) إلى غرفة الإذاعة الداخلية، واستقبله العريف (رضا) بالتحية.. وبعد أن جلس قال له (نور):
- عندي رسالة سرية للغاية، سيتم إرسالها إلى مكان ما أيها العريف.
مد العريف يده إلى جهاز الإرسال وهو يقول:
- أنا رهن إشارتك يا سيدي.
قال (نور) بصرامة:
- أقول سرية للغاية أيها العريف.
نظر إليه العريف (رضا) بتفحص، ثم قام واقفا وحياه بصورة رسمية، وقال وهو يغادر الغرفة:
- رهن إشارتك يا سيدي.
تأمله (نور) حتى أغلق الباب خلفه، ثم اتجه إلى جهاز الإرسال الذي يعمل من خلال أشعة الليزر، وضبطه على الموجة السرية الخاصة بالقائد الأعلى.. وسرعان ما جاءه الرد..
شرح (نور) الأمر كله للقائد الأعلى حتى وصل إلى النقطة الخاصة بإطلاق صاروخ ثالث.. وهنا صمت القائد الأعلى برهة، ثم قال:
- هل تعلم كم يتكلف هذا الأمر أيها النقيب (نور)؟
أجاب (نور)، وقد ضايقه أن يسمع العبارة نفسها لثاني مرة:
- نعم يا سيدي.. ولكنها الوسيلة الوحيدة الممكنة كما شرحت.
قال القائد الأعلى بعد فترة من التفكير:
- حسنا، سأعمل ما بوسعي.. ولكن حاول ألا تضع الإدارة في صورة مخزية.
ابتلع (نور) ريقه وقال:
- أرجو ألا أفعل يا سيدي.
قال القائد الأعلى وهو يهز رأسه:
- فليكن ما يكون، وفقك الله أيها النقيب.
أغلق (نور) الجهاز وجلس بجواره، وأخذ يحدث نفسه:
- ترى ما هذا الشيء الذي يقلقني؟.. أهو شيء رأيته أم سمعته؟. آه لو أتذكر متى وأين رأيت أو سمعت هذا الشيء؟!
ثم قال إلى باب الغرفة وفتحه، فوجد العريف (رضا) واقفا أمام الباب، ومعطيا ظهره له.. شكره (نور) ثم هبط الدرجات التي أمامه.. وما أن هبط درجتين حتى أسرع عائدا إلى الغرفة، واقتحمها بصورة
مفاجئة، جعلت العريف (رضا) يقفز من مقعده، واندفع (نور) إلى جهاز الإرسال، ثم أدار مفتاح الموجات وسط ذهول العريف (رضا).. ثم عاد إلى هدوئه وزفر بارتياح، وغادر الغرفة بعد أن ألقى التحية على العريق المذهول.. وعند هبوطه عاتب نفسه على أنه ترك الجهاز على موجة القائد الأعلى برغم سريتها.. واتجه إلى غرفته بهدوء.. وما أن مر على غرفة الدكتور (سامي) حتى فتح هذا غرفته، ونظر إلى (نور) بضيق.. بادله (نور) النظر، فبادره الدكتور (سامي) قائلا:
- أين ذهبت أيها الشرطي بعد مغادرتك مكتبي؟
ابتسم (نور)، وقال:
- إلى غرفة الإذاعة.. لماذا؟
قال الدكتور (سامي) وهو يعود إلى غرفته:
- هذا ما توقعته..
أمسك (نور) بذراعه وسأله:
- لماذا تسألني يا سيدي.
أفلت الدكتور (سامي) ذراعه من يد (نور) وقال بضيق:
- يبدو أن علاقاتك قوية أيها النقيب.
عاد (نور) يسأله:
- ماذا تعنى يا سيدي؟
قال الدكتور (سامي) بغضب قبل أن يغلق على نفسه باب غرفته:
- لقد حدثني رئيس الوزراء الآن، لقد قرروا المجازفة بإطلاق الصاروخ الثالث.
***
7. صراع المخابرات..
تأمل (جون) الخزان الضخم المملوء بالوقود الأمينى، ثم التفت إلى (سيمون) وقال:
- ما زلت أتساءل: كيف سنتمكن من نقل هذه الكمية إلى دولتنا؟
أجاب (سيمون) بثقة:
- لم يحن الوقت بعد، ثم إننا لا نحتاج إلى نقل كل هذا.. يكفينا فقط ملء زجاجة صغيرة، ثم يقوم علماؤنا الأفذاذ بتحليلها، وإنتاج ملايين الأطنان في زمن قياسي.
ابتسم (جون) وقال وهو يرمق (سيمون) بإعجاب:
- إنك فخر دولتنا يا سيد (سيمون).. إن مخابراتنا قد أحسنت الاختيار.
بدا شبح ابتسامة على فم (سيمون) الذي قال:
- ليس من شك أن مخابراتنا هي أعظم جهاز في العالم كله.
ضحك (جون) وقال:
- نعم، وأنت خير مثال لذلك.. كيف واتتك تلك الخطة العبقرية؟
ظهرت رنة الفخر واضحة في نبرات (سيمون) وهو يقول:
- إنها خطة بسيطة برغم غموضها.. فهذا المخبأ مثلا كان يتبع القيادة السرية للحلفاء منذ سنوات عديدة إبان الحرب العالمية الثانية.. ولما كان المصريون يجهلون موقعه حتى الآن، فقد كان ممتاز للاختباء.. ثم إن تقطيع الصاروخ إلى أجزاء صغيرة بعد إفراغ الوقود الأمينى منه لا يستغرق سوى أربعين دقيقة فقط، باستخدام أشعة الليزر المتطورة.
قال (جون) بإعجاب:
- ولكن عبقريتك تتجلى في وضع الخطة التي تتيح لك الحصول على هذه الرقائق، بالإضافة إلى الرقائق اللازمة لنقل الوقود وإخفاء أجزاء الصاروخ.
مال (سيمون) إلى الأمام، وقال بجدية:
- لا تنس أن عملينا هناك كان له الفضل الأكبر في إنجاح هذه الخطة.
وفي هذه اللحظة دخل أحد الرجال إلى الغرفة وسلم ورقة إلى (جون)، الذي قرأها وقد قطب حاجبيه، ثم ناولها إلى (سيمون)، وهو يقول:
- رسالة واردة من عميلنا هناك، تحتوي على معلومات في غاية الخطورة..
تناول (سيمون) الورقة وقرأها ببرود، ثم أعادها إلى (جون) وهو يقول بهدوء:
- ليس بهذه الدرجة من الخطورة..
ثم ابتسم بغرور وقال:
- هل تعتقد أن شابا من المخابرات العلمية يخيف (سيمون) أو يؤثر حتى في خطته؟
أجاب (جون) وقد بدا التوتر واضحا في نبراته:
- لا بد أنه من أقوى رجالهم، وإلا ما أرسلوه في مهمة كهذه.
ابتسم (سيمون) وقال بهدوء:
- اطمئن، إنها معركة ذكاء، ولن يهزمنى مصري فيها..
لم يكن (سيمون) يتصور أنه في تلك اللحظة، كان ضابط المخابرات العلمية الشاب يجتمع بفريقه اجتماعا سريا، لإعداد خطة الكشف عن لغز اختفاء الصاروخ.. كان النقيب (نور) يقول لرفاقه:
- كما اتفقنا يا رفاق.. لقد انحصرت شبهتنا في أربعة رجال، وتعتمد الخطة على مراقبة هؤلاء الرجال الأربعة في أثناء تجربة إطلاق الصاروخ الثالث، وسيراقب كل منا الرجل الذي يناسبه.
قاطعه (رمزي) قائلا:
- إذن، فسيراقب (محمود) الدكتور (منير)، لخبرة كليهما في التعامل مع الأشعة.. ولكن (سلوى)!
سأله (نور):
- ماذا بشأن (سلوى)؟
ضحكت (سلوى)، وقالت وهي تلقى نظرة ود إلى (رمزي):
- لقد فهمت ماذا يقصد (رمزي) أيها القائد.. إنه يعنى أن المكان الوحيد الذي يناسبني هو مركز المراقبة.. ولكن ذلك يعني أن أكون وحدي مع رجلين، من المحتمل أن يكون أحدهما هو الجاسوس.
صمت (نور) مفكرا، ثم قال:
- معه كل الحق.. حسنا.. إن أحد الرجال الأربعة لا يحتاج إلى مراقبة في أثناء إطلاق الصاروخ.
نظر إليه الثلاثة بتساؤل، فقال:
- إنه الدكتور (فؤاد).. ليس بسبب استبعادي له كعميل، ولكن لأن عمله يتم قبل إطلاق الصاروخ وليس في أثناء ذلك.
قال (محمود):
- أقترح في هذه الحالة أن يقوم كل من (سلوى) و (رمزي) بمتابعة مركز المراقبة.. وما دمت سأتولى أمر الدكتور (منير)، فلن يبقى لك أيها القائد سوى العريف (رضا).
قال (نور) بهدوء:
- تماما.. وفكرة إطلاق صاروخ ثالث ناجحة إلى حد كبير.. فلو أن الإطلاق فشل كسابقيه، سنكون قد عثرنا عل العميل، الذي تتم بواسطته عملية إرباك الأجهزة أو انحراف الصاروخ.. ولم لم يفشل نكون قد نجحنا في إطلاق الصاروخ، وبعدها نستطيع إعلان سر الوقود الأمينى للعالم كله.
قال (رمزي):
- وماذا لو فشل إطلاق الصاروخ، ولم يكن أحد هؤلاء الأربعة متسببا في ذلك؟
صمت الجميع وقال (نور):
نكون قد فشلنا يا رفاق..
عاد الصمت يخيم على الجميع ثم قطع (رمزي) بقوله:
- سبق أن أخبرتنا أيها القائد بالعملية الجراحية التي أجريت للدكتور (فؤاد).
سأله (نور):
- هل تقصد جراحة التجميل.
قال (رمزي):
- نعم.. ألا يحتمل ألا يكون هذا الرجل هو الدكتور (فؤاد) الحقيقي؟
ساد الصمت التام، واتجهت الأنظار إلى (نور)، الذي قال بعد فترة وجيزة:
- احتمال خطير يا عزيزي الطبيب، فمن المعروف أن التقدم الذي حدث في جراحات التجميل أصبح يشابه السحر.. سأقوم بالتحري عن ذلك في الحال.
سألته (سلوى) قبل أن يغادر الغرفة:
- ومتى سيتم إطلاق الصاروخ الثالث أيها القائد؟
ابتسم (نور) وقال:
- غدا في السابعة صباحا، ما لم يحدث ما يعوق ذلك.
لم يكن ذلك أمرا خافيا على (سيمون)، الذي تلقى رسالة جديدة من العميل، ابتسم بعد أن قرأها وقال ﻟ (جون):
- إذن، فسيجازفون بإطلاق الصاروخ الثالث.
قال (جون) بتوتر:
- هذا ما كنت أخشاه.
ضحك (سيمون) وقال مؤنبا (جون):
- إنك تحط من قدري يا عزيزي (جون).. إنهم سيساعدوننا جدا بإطلاقهم هذا الصاروخ.
اتسعت عينا (جون) دهشة وسأله:
- كيف؟
قال (سيمون) بهدوء وغرور:
- سيقوم عميلنا بإتباع الخطة المعتادة، وسيفشل إطلاق الصاروخ الثالث أيضا.. ثم إننا سنستغل الفرصة لنقل كمية الوقود التي نحتاج إليها إلى خارج المنطقة.
سأله (جون) باهتمام:
- يساعدوننا؟. كيف ذلك؟
ضحك (سيمون) وقال:
- ألم أقل لك إنك تحط من قدري يا عزيزي (جون)؟ ألم يكن لنا هدفان من هذه الخطة؟.
الحصول على كمية معقولة من الوقود الأمينى، ومنع إطلاق الصاروخ العربي.. حسنا، سنمنع إطلاق الصاروخ.. ونظرا لاحتياطيات الأمن المتخذة في أثناء الإطلاق، سنمنع الطائرات من التحليق في المنطقة، ويكون الطريق خاليا أمامنا لاستقبال سيارتنا الصاروخية المتطورة، وبحوزتنا زجاجة ضخمة مملوءة بالوقود الأمينى.. وفي هذه الأثناء سيقوم رجالنا بقطع الصاروخ الثالث الذي سيسقط بالطبع.
ابتسم (جون) وقال بلهجة مملوءة بالإعجاب:
- ألم أقل لك إنك عبقري يا (سيمون)؟
عاد (سيمون) بمقعده إلى الوراء، وأغلق عينيه وقال ببرود:
- أعلم ذلك.. أعلم ذلك أيها الصديق.
***
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا