كان (بدر) يعض على شفتيه قهرا .. وهو عاجز تماما عن اتخاذ أي رد فعل تجاه (راشد) .. السبب الرئيسي والمجرم الحقيقي وراء انتحار شقيقته .. وقد أثار هذا جنوني .. فلم أعد أستطيع كتم غيظي أكثر من ذلك .. لأذهب إلى (راشد) عازما أن أفعل شيئا وأقوم بتحطيمه .. فوقفت أمامه بتحد على الرغم من أن رأسي يكاد أن يصل إلى صدره .. ولكن هذا لم يمنعني من أن أقول له وأنا أضغط على أسناني غيظا:
ستدفع ثمن ما فعلته مع (رهام) أيها الحقير .. وأعدك بأن الأمر لن يمر أبدا بهذه البساطة.
نظر إلي لوهلة غير مصدق هذا التهديد .. فالمنظر كان مضحكا بحق لمن يرانا .. أنا أقوم بتهديد (راشد) ؟!!..
ثم لم يلبث أن ابتسم بوحشية .. ابتسامة قاسية مخيفة وكأنه يقول لي:
هل تظن أنني سأهتم بتهديد تافه مثلك ؟!
ولكنه لم ينطق بكلمة .. الأمر الذي دفعني كي أقول له بحنق:
إنني أعرف ما فعلته بـ(رهام) .. سأبلغ الشرطة .. وأخبرهم عن نشاطاتك المشبوهة .. سأجعل رجال الشرطة يفتحون كل الملفات ويبدأون تحقيقا شاملا معك .. إنني أعرف كل شيء عنك.
نظر لي نظرة طويلة جمدت الدماء في عروقي .. ثم قال بكلمات تقطر حقدا وكراهية:
تتحداني ؟! .. أنت تتحداني ؟! ..
ثم قال بشراسة وبصوت خافت:
- اعتبر نفسك إنسانا ميتا من الآن فصاعدا.
انتهبت مع تهديده إلى حماقتي التي أقدمت عليها .. فشعرت بتوتر بالغ في أعماقي جراء هذا التهديد !! .. إنني أخشاه .. أخشاه بشدة .. حاولت أن أكون شجاعا وفشلت .. ظننت أن صوت الحق سيعلو .. لكنني أضعف من أن أحمل لواء الحق .. ليتني ذهبت مباشرة إلى الشرطة دون أن يعرف من وشى به .. لقد تصرفت بطيش وغباء شديدين !! .. إن هذا الفتى مجرم زنيم .. وقد يفعل أي شيء لينتقم مني إذا ما أبلغت عنه .. فلست بقادر على مواجهته هو وأسرته التي يكفي أن تعرف لقبها كي تفهم ما أعنيه.
ولم ينتظر (راشد) طويلا لينفذ تهديده لي .. فبعد أقل من أسبوع .. كنت على موعد مع فرصة نادرة جدا كي أشاهد أفعال إنسان لا يحمل في أعماقه ذرة إنسانية.
لم أخبركم أن باص المدرسة الذي يقلني يتوقف عند الشارع الشهير في منطقة الرميثية (........) لإيصال أحد الطلبة إلى منازلهم .. وأنا أنزل مع هذا الطالب لأمشي في زقاق ضيق يقع بين مدرستي (فلسطين) و(أم القرى) للذهاب إلى منزلي – أو شقتي لو أردنا الدقة- وأنا أفعل ذلك لأن الباص سيقوم بالوقوف سبع مرات على الأقل قبل إيصالي إلى البيت .. لذا فالنزول في ذلك المكان وإكمال الطريق سيرا على الأقدام سيكون اختصارا للوقت .. ولم أكن أعلم أن أمرا كهذا كاد أن يكلفني حياتي؟!!..
كنت عائدا من المدرسة في فترة الظهيرة .. أمشي وحيدا في ذلك الزقاق الذي لا أجرؤ إطلاقا على المشي فيه ليلا متجها إلى الشقة .. أرى على الجدارن عبارات بذيئة متناثرة .. كتبت بعلب السبراي أو الأقلام الغليظة .. وكلها تمجد بعائلة ما .. أو تشتم عائلة أخرى .. أو كلمات أخرى بذيئة لا سبب لها سوى قلة التربية التي يعاني منها عددا كبيرا من شبابنا مع الأسف .. كان الطقس دافئا في تلك الفترة من العام ..
خواطر كثيرة تنساب إلى ذهني .. مشاعر سلبية هي مزيجا من التشاؤم والحزن .. يبدو أن الحزن والتشاؤم قد أصبحا هواية عندي .. ولكن .. مهلا !! .. لقد شاهدت شيئا جعل حواسي تتحفز !! ..
فبينما كنت في بداية الزقاق .. رأيت في نهايته أربعة أشخاص يأتون من بعيد على بعد خمسون مترا تقريبا .. شيئا في هؤلاء القادمين جعلني أتوجس خوفا .. إذ كانوا يمشون في غير انتظام .. ومشيتهم توحي بالاستهتار والعدوانية والغطرسة .. وكانوا يتبادلون الضربات فيما بينهم على سبيل المزاح .. وعندما اقتربوا قليلا تبينت ملامحهم جيدا .. إنهم زملائي في المدرسة .. وأحدهم هو (راشد) !! ..
لم يكن يبادل رفاقه المزاح .. كل ما كان يفعله هو التحديق بي بنظرة جعلتني أرتعد خوفا .. وبالطبع سد علي الطريق مع أصدقائه الثلاثة الآخرون .. ووقف أمامي نافشا صدره !!.. الزقاق خاليا تماما من المارة .. فلا يوجد من استنجد به.
كان مستوى رأسي عند صدره كما تعلمون .. في حين أن كفه كان في حجم رأسي .. إن صفعة واحدة منه قد تضع أنفي في التراب .. و ..
قال (راشد) لأصدقائه وعلى وجهه ابتسامة ذئب –لو كانت الذئاب تبتسم- :
معذرة.. إن أذني ليست على ما يرام .. ولكن .. هل سمعتك في المدرسة تتكلم كالرجال منذ أسبوع ؟!..
لم أنطق بكلمة .. لقد شلني الخوف تماما .. فأردف قائلا:
ثم أنني لا أدري لماذا أشعر بالمهانة كلما قابلت عبقريا .. كأنني تلقيت صفعة على قفاي .. ولكن لحسن الحظ أنني قد تتبعت طريق عودتك إلى البيت ووجدته طريقا مثاليا كي تتلقى فيه عقابك دون أن ينقذك أحد.
عجزت مرة أخرى عن الرد .. كنت أنظر إليه بنظرات مذعورة مليئة بالخوف .. وقد بدأت أشعر بتوتر شديد .. ذلك التوتر الذي يشعر به الإنسان المسالم الذي سيتلقى علقة ساخنة – وليتها كانت (علقة) ساخنة فقط - لأول مرة في حياته و.. وبدأت أرتجف .. أحاول أن أخفي ذلك لكني لا أستطيع ..
وفجأة .. تهوي صفعة قوية على وجهي ليتوهج خدي بالدماء .. وأقع على الأرض من قوتها !! .. ألم شديد يمزق أعصابي ويبعثر كرامتي .. فأنهض مقررا الهرب .. كنت في حالة ذهول تام .. لأنني لم أجرؤ قط على تخيل أن كل هذا قد يحدث لي يوما من الأيام .. حاولت الهرب لكنه أمسكني من ثيابي بقوة ليقول بسخريته البغيظة:
هيا .. انتقم لنفسك إن استطعت..
يضحك أصدقائه دون أي إحساس بالرحمة !! ..
صفعة أخرى لم أر نذيرا لها .. وصفعة ثالثة جعلت الدماء تملأ مقلتي عيناي .. لقد تبلل وجهي تماما .. هل كان مبتلا بالدموع أم الدماء ؟! .. لا أذكر .. وفي جزع أدركت أنه لا مزاح في الأمر .. وأن علي بالفعل أن أبذل كل ما بوسعي لأهرب .. غير عالم أن ما فعله (راشد) هو أقل ما سأراه في هذا اليوم المشؤوم .. فقد انطلقت قبضته كالقذيفة بلكمات مجنونة إلى كل مكان من جسدي .. عيني .. أنفي .. رقبتي .. بطني .. وهو يستمتع بكل ثانية يقضيها في ضربي .. ولو كان من يتلقى هذه اللكمات رجلا عاديا لأردته صريعا .. لكني لست رجلا عاديا .. إن قوتي تعادل قوة سنجاب عجوز ..
ارتمى فوقي بكل ثقله وأنا مرمي على الأرض .. راح يوجه لي اللكمة تلو الأخرى .. ووقف بعدها ليشبعني ركلا وسط صيحات التشجيع من أصدقائه .. إن هذا الوغد لا يعرف الرحمة حقا !! .. ثم وجه لي ركلة قوية في بطني جعلت أذني تصفر والهواء يندفع من فمي .. لكني - لسوء الحظ - لم أغب عن الوعي !! ..
كنت مرميا على الأرض وقد فقدت تماما القدرة على النهوض .. وشعري يتهدل على جبيني معجونا بالدم .. نظرت إلى فخذي فرأيته ينزف بغزارة بعد أن طعنني بمدية حتى المنتصف !! .. غريب !! .. كنت أقرأ هذا دائما في الروايات فلا أصدقها .. كيف يجرح إنسان دون أن يتألم؟! .. لكن هذا حقيقي .. لقد طعنني بمدية وأدخلها حتى المنتصف في فخذي لكني لم أشعر بأي ألم !!.
شعرت بقشعريرة تغزو عامودي الفقري .. هل الإنسان متوحش إلى هذا الحد .. إن الذي يقترف كل هذا هو لابد أن يكون إنسان مثلنا .. فما الذي يحدث له كي يغدو سفاحا؟! .. إنها تجربة شنيعة أن ترى أمامك كائن يرتدي ثياب البشر .. ولكنه شيطان زنيم رهيب يفوقك قوة بمراحل !! .. وإنني مؤمن الآن أن هناك شيئا خارقا للطبيعة في هذا الإنسان .. إن هذا الذي فعله يفوق قدرات البشر.
لا زلت أذكر جيدا ما حدث لحظة بلحظة .. وهذا في الواقع غريب جدا !! .. فمن البديهي أن أقول لكم أن الدنيا قد اسودت أمامي ولم أر شيئا وفقدت الوعي و .. إلخ .. ولكن الوضع اختلف تماما معي .. فأنا أذكر جيدا كل ضربة هوى بها ذلك الوغد على جسدي المتهالك ..
أشم رائحة الدماء وأعرف أنها دمائي .. وأرمق أظفار يدي عالما أنني أخيرا سأفقد وعيي .. ترى كيف يكون مذاق الموت ؟! .. فأنا بالفعل أشعر بأنني لن أصحو أبدا إذا ما غبت عن الوعي .. شريط حياتي يمر علي بثوان .. والدم يغمر وجهي وقد تورمت كل عضلة فيه .. لكمات وركلات وصفعات شرسة غير آدمية مزقتني تمزيقا .. مذاق الدم الصدئ يملأ فمي .. وثيابي قد تمزقت تماما .. وقد اختلط العرق بالغبار .. صانعا مزيجا يسهل معه أن تنتحر .. كيف ستعيش جدتي بعد موتي .. سأموت ولم أحقق أي من أحلامي .. وستقيد القضية –على الأرجح- ضد مجهول ..
حمدا لله .. لقد انتهى الخطر .. وولى المرض الطويل .. والحمّى التي يسمونها (الحياة) .. الحياة التي لم تهبني سوى الهزائم .. ومع هذا كنت طوال عمري أتشبث بها .. أعرف أن قواي قد فارقتني وأنني عاجز عن تحريك عضلة واحدة .. خواطر كثيرة انتابتني وأنا مرمي على الأرض .. خواطر كثيرة سأتذكرها دوما كلما .. كلما ماذا ؟! .. لن يكون هناك غد .. ولن أتذكر شيئا بعد الآن .. لقد حطموني تماما .. إنه الموت.
- سيكون هذا درسا لك .. عينة مما أستطيع فعله لو تجرأت وهددتني مرة أخرى!!.
قالها وهو يلهث من شدة التعب .. ولم يتوقف رغم هذا إلا بعد أن تعالت أصوات أصدقاؤه يطلبون لالرحمة لي بعد أن تحولت إلى خرقة صالحة لتنظيف الأحذية .. لا تصدقون أن يحدث أمر كهذا ؟! .. تعتقدون أنني أبالغ ؟ ..
ماذا ستقولون إذا عما حدث في (يوم البحار)* منذ بضغ سنوات .. عندما تشاجر مجموعة من المراهقين مع مراهق آخر وانهالوا عليه طعنا بالسكاكين حتى لفظ أنفاسه بينهم !! .. والمصيبة أن الفتى قد توفي فعليا وهؤلاء المجرمون قد رأوا ذلك بوضوح ولكنهم استمروا في طعنه بلا توقف حتى شبعوا من إراقة الدماء* .. فإذا كانت حادثة كتلك قد وقعت على يد مجموعة مراهقين ولسبب تافه .. فأعتقد أن ما جرى لي وعلى يد شخص مثل (راشد) أمر متوقع.
نعود إلى قصتنا ..
لقد تركني المجرمون بعدما تفنن (راشد) في ضربي وهربوا بعدها جميعا .. غريبة جدا هي لحظة الشجار !! .. كل الضوضاء والمخاوف والأفكار تتوقف في ثانية واحدة .. ويتحول المشهد إلى جسد مكوم على الأرض تفور منه الدماء !! ..
بعد ذلك بلحظات لفني الظلام بردائه فلم أعد أرى شيئا .. وبدأت أشعر أخيرا بأنني
* قرية ترفيهية مصغرة عنما كانت عليه الكويت قبل ظهور النفط .. مع وجود بعض مراجيح الهواء الشعبية.
سأفقد وعيي .. لن يجدني أحد في هذا الزقاق .. ليس قبل ساعتين أو ثلاث على الأقل .. فهو كما أخبرتكم زقاق ضيق غير مرئي .. وليس ممشى لممارسة الرياضية مثلا..
لقد دنت النهاية .. فلأتل الشهادتين .. ولكن عسى ألا أكون قد تأخرت أكثر من اللازم .. عسى ألا أكون قد مت فعلا !!.
لم أمت بالطبع .. وإلا فما حكيت لكم حرفا واحدا من هذه القصة .. لقد فقدت الوعي فحسب .. لماذا لم أمت ؟! .. لا أدري إنها معجزة لا أفهم حتى الآن كيف تمت ..
ولكن أعتقد أن التفسير الوحيد هو أن أجلي لم يحن بعد .. وهذه الأشياء عموما لا يمكن تفسيرها بالورقة والقلم .. ثم لا يمكن أن تلوموني على أنني لم أمت .. لقد حاولت وفشلت !! .. وعلى كل حال أعتقد أن جزءا مني قد ظل يتشبث بالحياة دون أن أعلم .. ولا أجد لذلك تفسيرا آخر.
شعرت بعد زمن لا أستطيع تقديره بذراعين قويتين تحملاني من على الأرض وأنا في أسوأ حال ممكن .. و .. فقدت الوعي بعدها .. أخيرا !!.
حلم طويل غير مترابط .. من المعروف أنه ليس للزمن قيمة في عقلنا الباطن .. فقد تحلم حلما تبدو لك أحداثه أنها اسغرقت ساعتين على الأقل .. إلا أن الحلم لم يستغرق
فعليا سوى بضع ثوان* .. ولكني شعرت بالفعل أن الحلم طويل جدا .. جدتي .. روح أبي تطاردني مرة أخرى .. الوسيط الروحاني (حسن) الذي قام بتحضير روح أبي*.. من سيفوز بكأس العالم القادمة ؟! .. كيف سيكون حال العالم بعد عشرة أعوام من الآن ؟! .. لماذا أحب قصة (روميو وجولييت) لـ(شكسبير) ؟ .. أسئلة غير مترابطة وعقل عائم هائم لا يميز شيئا .. قبل أن أشعر أخيرا بأن حلقي جاف كالربع الخالي في فصل الصيف.
لم أكن واثقا من أن هذه هي الجنة .. فأنا أعرف أن الجنة لا مكان فيها للألم الذي يمزقني الآن .. كما أستبعد أن تكون هذه جهنم .. مستحيل أن تكون جهنم بهذا الهدوء .. وشيئا فشيئا .. أدركت أنني لم أغادر عالمنا قط.
* حقيقة.
أفتح عيناي ببطء شديد شاعرا أن النور يكاد أن يحرقهما على الرغم من ضعفه .. فأغمض جفناي مرة أخرى .. جفناي اللذان أصبحا أثقل من الهرم الأكبر .. أزدرد لعابي لكني لا أجد لعابا لأزدرده .. فتكلمت بعصوبة بالغة بسبب شفتي اللتان التصقتا بالقشور :
أ .. أين أنا ؟ .. مـ .. ماذا يحدث ؟
هنا فقط سمعت صوتا مألوفا يردد:
الحمدلله .. الحمدلله .. لقد استيقظت أخيرا .. حمدا لله .. حمدالله على سلامتك يا بني ..
استطعت أخيرا تمييز هذا الصوت .. فقد كان صوت جدتي .. صوت باك حزين متلهف .. ثم أمسكت يدي وهي تقول:
لا أدري ما كنت سأفعل لو .. لو ..
لم تستطعه إكمال عبارتها .. فقد بكت كثيرا وقبلت جبيني .. لماذا تؤلمني كل عظلة من جسدي ؟! .. إنني حي .. أدرك هذا تماما .. لكن رأسي ثقيل حتى أنني بالكاد أستطيع البقاء مستيقظا .. ففقدت الوعي مرة أخرى لأستيقظ بعدها بساعات مع شعور بأنني أفضل حالا .. لا أعرف الساعة الآن .. ولكني أعتقد أن الوقت ليلا ..
وعرفت أنني في مستشفى (مبارك) .. إذ صحوت لأجد نفسي ملفوفا في الضمادات .. ففهمت ما هناك ..
وقف شخصان يرمقانني ممدا وسط خراطيم المحاليل وخراطيم الأكسجين وخراطيم البول .. كنت شبيها بالعنكبوت بسبب كثرة الأنابيب الداخلة إلى عروقي .. ولم يقطع حبل الصمت إلا صوت ممرضة من جنسية عربية تقف بجانبي وتنظر لي بإشفاق:
أخيرا استيقظت .. لقد كنت قريبا جدا من الموت .. ولكن يبدو أن ساعة أجلك لم تحن بعد لحسن الحظ.
حاولت أن أتحرك قليلا .. فلم أستطع !! .. شعرت أن جسدي متخشب وكل خلية فيه تؤلمني .. فلم أجد سوى أن أقول:
إن ما حدث لي بالأمس كان ..
قاطعتني قائلة وهي تبتسم بعطف:
إنك هنا منذ حوالي شهر ..
أفقت كالملسوع .. آآآآه .. شعرت بألم في كل ذرّة من جسدي بسبب تلك الإفاقة .. يا إلهي .. إنني فاقد الوعي منذ شهر !! .. إنه أمر لا يصدق ..
ووجدت نفسي أسألها بصعوبة بالغة:
هل كانت إصاباتي خطيرة ..
لقد تحطمت بعض أضلاعك .. مع ارتجاج في المخ وكسر في الفك !!.. وكدمات عديدة في جسدك إلى جانب طعنة سكين في فخذك .. وطعنة أخرى في معدتك وظهرك .. وقد تطلبت بعض الإصابات إجراء عملية جراحية .. ثم أن بعض أسنانك قد تكسرت مما تطلب تركيب أسنان صناعية .. صدقني يجب أن تحمد الله وتشكره على إبقاؤك حيا.
غريب هذا .. لا أذكر أبدا أن (راشد) قد طعنني في ظهري أو بطني !! .. يبدو أنني فقدت الإحساس بالألم عندما كنت على وشك فقدان الوعي .. ووجدت نفسي أغمغم مذهولا:
حمدا لله .. حمدا لله دائما على كل شيء.
قالت الممرضة بتعاطف:
سنطلب جدتك ونخبرها بأنك قد أفقت من غيبوبتك .. ولكن سأنادي الدكتور لرؤيتك أولا .. وهناك أيضا محقق المستشفى الذي يود سؤالك عن بعض الأمور وعن هوية الذين تعرضوا لك.
يبدو أن أمامي وقتا حافلا بالتأكيد .. ولكني وجدت نفسي أقول لها في خفوت شديد وشرود:
إفعلي ما يحلو لك .. شكرا على كل حال.
ولكن بعد أن عرفت أن الوقت قد تجاوز منتصف الليل:
ولكن أرجوكم لا تطلبوا جدتي الآن .. إننا في وقت متأخر .. دعوها ترتاح واتصلوا بها صباحا.
فكرت الممرضة قليلا ثم قالت:
لا بأس ..
ذهبت وتركتني وحيدا في غرفة كبيرة تبين أنها غرفة العناية المركزة .. وجواري صيدلية كاملة من الأدوية التي ترش وتشم وتبلع و .. إلخ .. يظهر أنني اصبحت ثروة طبية حقا بسبب كل تلك الإصابات والكسور ..
أرقد في غرفة العناية المركزة أرمق السقف وأصغي لصوت أجهزة التنفس الصناعي لدي أكثر من مريض عجز عن التنفس من حولي .. ما أضعف الإنسان .. وما أشد غروره !!..
أتأمل الغرفة وأبتسم بحزن .. غرفة كبيرة بالغة القدم وكأنني في واحدا من مستشفيات دول شرق آسيا الفقيرة كـ(بوتان) أو (فيتنام) .. ولسنا في (الكويت) واحدة من أغنى دول العالم !! .. إن الحديث عن مستشفيات (الكويت) أمر محزن فعلا .. يقال أنها جيدة المستوى إذا ما قورنت بالكثير من الدول العربية .. ولكن لماذا نقارن أنفسنا بمن هم أقل منا بالإمكانات المادية ؟! .. بإمكاننا بناء أفضل المسشتفيات وجلب أفضل الأطباء .. ولكن الفساد الإداري والإهمال وأسباب أخرى كثيرة لست في مزاج رائق للحديث عنها هي وراء ما يحدث.
بعد دقائق رأيت طبيبا واقفا بالقرب مني وهو يبتسم بتعاطف:
كيف حالك اليوم أيها البطل؟!
الحمدلله .. أشعر بأنني أفضل حالا بكثير .. شكرا يا دكتور
ثم تذكرت أمرا بالغ الأهمية ..
يا إلهي .. لقد فاتتني الكثير من الدروس .. إن الاختبارات الشهرية على الأبواب .. يجب إبلاغ إدارة المدرسة بذلك .. يجب أن ....
قاطعني وهو يربت على كتفي برفق ويقول مطمئنا:
لا تخش شيئا .. لقد فعلت جدتك كل شيء وأبلغت إدارة المدرسة التي سمحت لك بتأجيل كل امتحاناتك إلى أن تخرج من المستشفى بإذن الله.
وجدت عيناي تدمعان تأثرا .. كم أنت رائعة يا أمي .. أطال الله بعمرك ..
ثم استطرد الدكتور بحزم:
ستتحدث إلى محقق المستشفى عن هوية الذين ضربوك بهذه الصورة البشعة .. يجب أن ينال المجرمون جزاؤهم .. إن فعلتهم الدنيئة تفوق الوصف.
قلت له بشرود:
إنني مستعد للحديث مع المحقق في أي وقت.
وهو كذلك .. ولكن هذا سيتم عند خروجك من غرفة العناية المركزة .. وسيكون هذا في الغد على الأرجح .. فأعتقد أن صحتك قد تحسنت كثيرا.
تركني الطبيب بعد أن سجل بعض الملاحظات على النوتة الخاصة بحالتي .. وإن بدا راضيا تمام الرضا على صحتي.
أغمضت عيناي ونمت بسرعة .. إذ كنت مرهقا بالفعل وأشعر بأنني أحتاج إلى راحة طويلة .. ولم أصح إلا في الساعة الحادية عشرة صباحا .. لأرى جدتي وهي تجفف دموعها وتحتضنني بقوة.
حمدا لله يا بني .. حمدا لله على سلامتك.
اختلطت كلماتها ببعضها حتى غدوت لا أفهم شيئا مما تقوله .. فآثرت الصمت وشرعت أقبل رأسها ويديها والدموع تملأ أعيننا تأثرا.
حقا إننا لا نملك في هذا العالم سوى بعضنا .. ولا أتصور حياتي أبدا بدون جدتي ..
من فعل بك هذا يا بني ؟!
سألتني هذا السؤال بحزن .. فنظرت إليها قليلا .. ثم أجبت:
لا أدري .. لا أدري يا أمي.
لماذا كذبت عليها ؟! .. لا أعلم !! .. هاجس قوي ألح علي أن أفعل هذا .. وقد استسلمت لهذا الهاجس .. ثم ما الذي سيحدث لو أبلغت الشرطة عن (راشد) ؟! .. تعهد خطي ؟! .. أو غرامة مالية على أسوأ تقدير ؟! .. وبالطبع سيأتي والده وربما برفقة بعضا من نواب مجلس الأمة معدومي الضمير ليقبلوا أيدي ضباط المخفر من أجل هذا المجرم الذي يعيث في الدنيا فسادا .. والأهم من ذلك أنني لا أملك دليلا ضد (راشد) .. وإني لواثق من أنه لن يتورع عن إحضار عشرات الشهود الذي لن يتورعوا بدورهم عن الشهادة زورا بأنه كان معهم عندما تعرضت للضرب.
مع مرور الأيام .. تحسنت حالتي كثيرا .. بسبب حرصي الكبير جدا على صحتي وراحتي .. ورعاية جدتي الحبيبة لي .. فقد كانت بجانبي أغلب فترات اليوم .. إذ كانت تأتي وترحل بواسطة سيارة أجرة .. حتى تطوعت إحدى الممرضات جزاها الله كل خير بإيصال جدتي من البيت إلى المستشفى والعكس .. سنة واحدة يا أمي وسأشتري سيارة لأريحك من كل هذا .. أعدك ..
بالطبع – وكما خططت تماما- أنكرت معرفة مرتكبي تلك الجريمة بحقي .. فأخبرت المحقق أنني إنسان في حالي ولا أعداء لي .. وأن عليه هو البحث عن الجناة .. وأخبرته أن كل ما أعرفه هو أنهم كانوا أكثر من شخص ..
يسألني بلهفة:
هل تستطيع التعرف عليهم إن رأيتهم ؟!
فأجيبه ببراءة مصطنعة:
لا أعرف يا حضرة المحقق .. إنني لم أرهم سوى مرة واحدة لأقع بعدها في غيبوبة لأكثر من شهر .. لست واثقا إن كنت أستطيع التعرف عليهم.
كان لا بد أن أفعل هذا .. لأن القانون لن يطول (راشد) لأسباب ذكرتها لكم .. ولأنني –وهذا الأهم- سأنتقم منه بنفسي .. سأطبق العدالة التي يعجز القانون عن تحقيقها لرد اعتباري.
كنت طوال فترة إقامتي في المستشفى – وبعد أن تحسنت حالتي الصحية- أقضي وقتي بالدراسة .. ورسم خطة الانتقام .. إن ما سأفعله هو الجريمة الكاملة .. الجريمة الكاملة التي ظن الكثيرون أنها مستحيلة والتي يطلق البعض عليها لقب: عنقاء الطب الشرعي .. سأجعل (راشد) يندم على كل ما فعله .. ربما سأقتله .. نعم .. إن قتل الصراصير المؤذية ليست بجريمة .. ولكن مهلا !! .. إن القتل قد يظهره بمظهر الشهيد .. سأفعل ما هو أشد من القتل .. سأجعل الجميع يبصقون عليه وهو خلف القضبان على الرغم من نفوذ والده .. سأخطط لكل شيء بهدوء ولن يكون هناك أي عنف في الموضوع .. ولنر من سينتصر .. العقل أم القوة.
أقول هذا وأتذكر حكاية الأديب الأمريكي (أمرسون) الذي كان يملك حظيرة للأبقار .. وكان في الحظيرة عجل صغير حاول أن يخرجه (أمرسون) فلم يستطع .. فنادى أولاده وتعاونوا جميعا على جر هذا العجل إلى خارج الحظيرة .. لكنهم فشلوا بسبب قوة العجل وعناده الشديدين .. فلجأت خادمة الأديب إلى حيلة ذكية وطريفة بنفس الوقت .. إذ وضعت إصبعها في فم العجل فراح يمص أصبعها وكأنه ثدي أمه ليتبعها إلى الخارج بكل هدوء !! .. وقد أثار هذا التصرف الذكي إعجاب (أمرسون) كثيرا .. حيث فعلت الخادمة (بالعقل) ما عجز وهو وأولاده عن فعله (بالقوة).
وما جعلني أستشيط غضبا هو رؤيتي له –(راشد) وليس الأديب (أمرسون) طبعا- في المستشفى .. تصوروا هذا !! .. لقد صعقت بزيارته لي وهو يحمل الابتسامة الشرسة المتشفية ذاتها !!..
جلب مقعدا وجلس إلى جواري .. وقد كنت في صحة جيدة للغاية حيث وعدني الطبيب بالسماح لي بالخروج بعد أسبوع على الأكثر .. و..
(خالد) كيف حالك يا صديقي .. أعتقد أنك استفدت كثيرا من الدرس الذي تلقيته على يدي .. أليس كذلك ؟!
لم أرد .. ولم أنظر إليه .. فواصل كلامه بهدوء مستفز جعلني أعض على شفتي غيظا:
لا تدس أنفك فيما لا يعنيك أبدا .. ولا أعتقد أنك غبي كي تخبر الشرطة بأمري .. وحتى إن فعلت .. فهناك العشرات من الشهود الذي سيقسمون بأنني كنت في مكان آخر .. إنس ما حدث لك وعش حياتك بصورة اعتيادية .. وإلا فسترى أسوأ مما رأيت .. أعدك بذلك.
ألم أقل لكم بأنه لن يتورع عن إحضار عشرات الشهود ليشهدوا زورا لصالحه ؟! .. كنت واثقا من هذا .. ولكني ضعفت للحظة .. ووجدت نفسي أخاطبه بلغة العقل:
هل تعي ما فعلته مع (رهام) ؟! .. لقد دمرت حياة فتاة مسكينة .. لماذا فعلت هذا ؟! .. ما الذي جنيته من فعلتك البشعة ؟!
هز كتفيه بلا مبالاة قائلا:
وماذا في هذا ؟! .. لقد أعجبتني الفتاة .. واستحسنت رقتها الشديدة .. فأردت العبث معها قليلا .. وإرضاء شهوتي .. لم أطلب منها الانتحار .. هي فعلت ذلك بإرادتها.
فعلت ذلك لأنها وثقت بك وأحبتك .. في حين أنك خدعتها وفي لحظة ضعف سلبتها أعز ما تملك أي فتاة شريفة .. ثم رميتها بإهمال ..
قال بتلك الابتسامة الباردة الصفراء:
كانت هذه مشكلتها لا مشكلتي أنا .. ثم أنها حمقاء إذا لأنها وثقت بي .. والقانون لا يحمي المغفلين.
لم أرد على فلسفته الحقيرة .. فاستطرد قائلا وهو يضحك وكأنه سيخبرني بنكتة ظريفة:
هل تعلم أنني صدمت مرة بسيارة أبي شخصا من جنسية آسيوية وفررت؟! .. لقد توفي هذا الشخص .. عرفت هذا من الصحف .. ولكنني لم أسلم نفسي إلى السلطات وأضيع مستقبلي من أجل شخص كهذا .. فهو مجرد آسيوي حقير لا تتساوى حياته مع حياتي بكل تأكيد .. وأنتم جميعا على كل حال كمستعمرة النمل بالنسبة لي .. أستمتع بركل جحرها بقدمي من حين لآخر !!.
قالها وكأنه يبصق بوجهي !! ..
لم أشعر في حياتي ببغض واحتقار لأي شخص كما شعرت مع (راشد) .. هل يوجد أناس بهذه القسوة بالفعل ؟! .. إنني أسمع عنهم فقط .. ولا أراهم .. وإنني الآن أمام فرصة نادرة فعلا .. إنسان مجرد من كل مشاعر الإنسانية .. إنسان قاس ذو قلب بارد كالقارة القطبية ..
(خالد) .. أنصحك مرة أخرى ألا تدس أنفك فيما لا يعنيك .. وإلا فإنني أعدك بأنك ستتوسل إلي في المرة القادمة كي أقتلك .. لأن ما سأفعله بك سيكون رهيبا وأشد قسوة بكثير من القتل.
قال هذا ونهض وهو يحمل تلك النظرة الوقحة ليخرج من غرفتي تاركا وراءه شخصا يستشيط غيظا .. وهو أنا بالطبع.
هل سمعتم ما قال ؟! .. لقد قتل شخصا آسيويا وولى الأدبار .. يقول أن حياته أثمن من حياة آسيوي حقير .. سنرى من هو الحقير يا (راشد) ..
ظللت في المستشفى عدة أيام أخرى لا أفعل سوى دراسة ما فاتني في المدرسة .. والتفكير في خطتي العبقرية التي ستحقق الانتقام المطلوب..خطة عبقرية بالفعل حتى أكاد ألا أصدق أنني من خطط لها .. سأطهر مجتمعنا من هذه الجرثومة القذرة.
تريدون معرفة تفاصيل الخطة ؟ .. انتظروا وسترون .. إنها خطة أبدعت في وضعها أيما إبداع ..
خرجت من المستشفى بعد أن قضيت قرابة الخمسة والأربعون يوما .. يبدو أن نفقات علاجي ستتجاوز المليون دينار .. وهو مبلغ كاف لبناء مستشفى آخر .. ولكن حمدا لله أن العلاج مجاني في (الكويت).
وبدأت أستعد لاختبارات آخر العام وقبلها الاختبارات الشهرية .. ليس هناك شيء أجهله .. مجرد عملية إنعاش بسيطة للمعلومات كي أغدو جاهزا .. فأنا –وهذا من دون أي غرور- لا أجد صعوبة في المناهج الدراسية أصلا .. ولهذا -ربما- يصفني أساتذتي بالنابغة .. وعلى كل حال .. فإن المتفوق منذ دراسته الابتدائية لا يجد أي صعوبة كي يعود بقوة إلى الساحة الدراسية متى ما ابتعد عنها لأي ظرف طاريء كما حدث لي .. وهناك بالمناسبة فكرة خاطئة تستحوذ على عقول الكثيرين .. إذ تراهم ينشدون النجاح فحسب في جميع مراحلهم الدراسية .. وعندما يصلون لمرحلة الحسم وهي الثانوية العامة تجدهم يقتلون أنفسهم قتلا للنجاح بتفوق والحصول على معدل مرتفع .. وغالبا ما يفشلون .. فمن كان ضعيفا في المراحل الأولية يندر أن تجده متفوقا في المرحلة النهائية وهي الثانوية العامة .. أتحدث عن نظام الثانوية العامة لأنه نظام مدرستي.
مرت الأيام سريعا وجاء وقت الاختبارات الشهرية .. فنجحت فيها بتفوق – بالطبع - وليس في ذهني سوى شيء واحد فقط .. الانتقام .. الانتقام الذي سيطفيء النار المتأججة داخلي .. لا زلت أرى (راشد) بنظراته الوقحة الباردة التي لم تتغير مع أصدقاؤه الذين يوجهون إلي نظرات تحتية ساخرة .. ولكني كنت أتجنبهم .. إن انتقامي سيفي بالغرض .. سأضحك كثيرا وأكون بعيدا تماما عن أصابع الاتهام .. لقد أعددت لكل شيء عدته .. سأنتظر بعض الوقت حتى أنفذ الخطة عدة مرات في خيالي لأتأكد تماما من خلوها من أي ثغرات ..
كنت أرى (بدر) أحيانا في المدرسة .. هل نسيتوه ؟! .. إنه شقيق (رهام) الناعم الرقيق .. لقد أصبح حطام إنسان يحمل نظرات مذعورة طوال الوقت ويعض على شفتيه قهرا وهو يرى (راشد) كل يوم .. لكنه آخر شخص ممكن أن يفكر بالانتقام .. إنه فتى ضعيف متخاذل ويحتاج إلى من يحميه.
كنت أتجاذب معه بعض أطراف الحديث لينفطر قلبي حزنا على حاله .. خاصة عندما قال وعيناه تحملان دمعة قهر:
خالد .. إ .. إن (راشد) مجرم ويستحق العقاب .. لقد .. لقد قتل شقيقتي
فأسأله لمجرد الفضول:
هل ستتركه هكذا يهزأ بالجميع وينجو بفعلته ؟! .. ألن تفعل شيئا ؟!.
بلى يا (خالد) ولكن .. و .. ولكنني لا أقوى على مواجهته .. فهو قوي يملك كل شيء وشخصيته في الواقع .. في الواقع .. كاسحة .. بينما شخصيتي .. شخصيتي.
شخصيتي ضعيفة ..
قلتها في سري !! .. هذا ما يريد قوله .. أعرف هذا .. والحقيقة أنني لا ألومه .. إن أسرته قد جعلت منه فريسة معدومة الحيلة مغلوبة على أمرها.
إن (راشد) إنسان سادي حتى النخاع .. مولع بالإيذاء وإحداث الأضرار .. وهو لا يرحم الضعف أو الوهن .. و(بدر) فتى ضعيف واهن لا يعرف شيئا تقريبا عن العالم الخارجي.
كان آخر اختبار في تلك المرحلة الفصلية على الأبواب.. وبعد تلك الاختبارات بحوالي شهر ستكون هناك اختبارات آخر العام .. وكنت أعاون (بدر) –من باب الشفقة - قدر المستطاع في فروضه المنزلية.
كما كنت في هذه الفترة سعيدا جدا ومتفائلا –على غير العادة- وقد انتهيت من إعداد خطتي ودرست كل تفاصيلها بدقة .. لم أخبركم بتفاصيلها حتى الآن ؟! .. كنت سأخبركم بالخطة التي ستنال إعجابكم دون شك .. ولكنكم لن تحتاجوا لمعرفة تفاصيلها بعد الآن .. لأنني لن أجد سببا يستدعي تنفيذها أصلا .. فقد حدث تطورا خطيرا لم أتوقعه على الإطلاق !!.
حدث كل شيء في اليوم الأخير للإختبارات الفصلية .. عندما كنت مستقلا باص المدرسة - كالمعتاد- ظانا أن اليوم سيكون كأي يوم آخر .. لأجد شيئا غير متوقع .. فقد وصلت إلى المدرسة وإذا بعدد هائل من الطلبة –ولا أبالغ لو قلت جميعهم- يقفون في الخارج عند مواقف السيارات .. وأكثر من ستة سيارات شرطة تلتف حول بوابة المدرسة مع سيارة إسعاف !! .. ما الذي يجري ؟! .. هرعت راكضا حيث يتجمهر الطلبة في الخارج مع عدد كبير جدا من المارة ..
سألتهم باستغراب:
ماذا حدث ؟!
تطوع أحدهم بالرد قائلا بأسف:
يقولون أنهم وجدوا طالبا مقتولا في أحد الفصول ..
سألته مذهولا:
ومن هو هذا الطالب ؟
تطوع شخص آخر بالرد وقال:
اسمه (راشد الـ....) على ما أعتقد ..
تراجعت للوراء .. حتى كدت أسقط على ظهري .. وقلت في جزع :
(راشد) قتل؟! .. كيف ؟! .. ومتى ؟! ..
لم يجب أحد .. فظللت واقفا مشدوها مصدوما أكاد لا أصدق ما يحدث .. وتشتت تفكيري تماما عندما رأيت اثنان من رجال الاسعاف يحملون جثة تم تغطيتها جيدا .. تماما كما نشاهد في السينما .. ويخرج معهم من المدرسة أكثر من عشرة من رجال الشرطة وهم يركضون كالكلاب المسعورة ويتصرفون بشكل مسرحي استعراضي لمنع الناس من الاقتراب والتجمهر.
رجفة قوية سرت في جسدي .. يا للهول .. إن (راشد) الآن تحت هذا الغطاء .. لقد قتله أحدهم .. ولكن كيف قتل في المدرسة ؟! .. ومن قتله ؟! .. ومتى قتل ؟! .. أسئلة أدفع نصف عمري للإجابة عليها.
من المكن ترجمة كلمة (الأنتيكليماكس) بـ(القمة المضادة) .. أو عكس الذروة .. والكلمة هي تعبير يستخدمه كتّاب الدراما عندما تصل الأحداث إلى ذروتها .. لتأتي بعدها ذروة أخرى غالبا ما تضعف سياق القصة .. وهذا ما حدث في قصتي مع الأسف !! .. وعلى كل حال ليس هذا خطأي .. فهكذا جرت أحداث القصة .. ولكن الأمر لم ينته بهذه الصورة المبهمة بالطبع .. بل لازالت هناك مفاجأة مدوية صدمتني تماما.
أين كنا ؟ .. آه .. جثة (راشد) وهي تمر أمامي مغطاة .. لم يكن هذا كل شيء .. فقد رأيت بعد هذا مشهدا لن أنساه أبدا .. (بدر) !! .. كان بصحبة رجال الشرطة وهو يرتجف بقوة وبشكل ملحوظ .. والدموع تملأ عينيه .. كان بالكاد يستطيع أن يمشي .. وقد بلل سرواله تماما !! .. ولو لم نكن نشهد جريمة قتل لانفجر الطلبة ضاحكين على مظهره .. كان منهارا تماما وقد أصبح بقايا إنسان .. ولا أبالغ لو قلت بأنني ظننت بأنه سيفقد عقله !! ..
سمعت بعدها أحد المتجمهرين وهو يقول:
إنه شاهد رئيسي .. بل الشاهد الأول .. فهو أول من رأى الضحية ..
أعلم جيدا أن (بدر) لا يحتمل أبدا شيئا كهذا .. فهو رقيق الإحساس .. وجبان إلى أقصى حد .. وقد أخذه رجال الشرطة إلى المخفر للإدلاء بأقواله كشاهد رئيسي. المشكلة هي أنه –كما كان واضحا- مصدوم نفسيا وعاطفيا.. وبالتالي فإن استجوابه سيكون مستحيلا.
لقد عرفت من بعض العبارات المبهمة التي تحدثوا بها بصوت مسموع أن الجريمة قد تمت ببشاعة .. وكان واضحا أن هناك من مثل بالجثة !! .. وقد كانت تبدو على ملامح (راشد) رعب هائل لا حدود له وكأنه قد رأى شبحا كما يقول رجال الشرطة الذين
منعونا من دخول المدرسة اليوم لأن هناك إجراءات شاقة سيقومون بها .. كرفع البصمات وفحص كل شبر في المدرسة لعلهم يعثرون على خيط يقودهم لكشف الغموض المحيط بهذه الجريمة العجيبة ..
شعوري ؟ .. لا أعرف .. كانت مشاعري متضاربة .. كنت أود أن أكون أنا من ينتقم من (راشد) .. ولكنه الآن قد قتل .. وهذا لم يكن كافيا ليسعدني .. كما ظننت أنني في وقت موته سأكون أسعد إنسان .. ولا أدري الآن إن كنت سعيدا أم حزينا .. إن القتل أمر بشع لا ريب .. حتى لو كان من قتل هو ألد أعداؤك.
وجدت نفسي بشكل لا شعوري أعود إلى البيت مستقلا باص المواصلات .. وبالطبع لم أعد أمشي في ذلك الزقاق للعودة إلى المنزل .. فقد أصبحت أكرهه كثيرا بعد ما كاد أن يشهد مصرعي ..
عدت إلى البيت محاولا نسيان ما جرى .. فقضيت بعض الوقت مع جدتي نتحدث ونشاهد التلفاز معا حيث كان يعرض أحد الأفلام العربية السخيفة التي أشاهدها عادة مجاملة لجدتي .. شعرت بعدها برغبة عارمة في الخروج من المنزل لنسيان ما حدث اليوم .. واخترت الذهاب إلى مكاني المفضل في (الكويت) .. السينما .. حيث شاهدت أحد الأفلا الدرامية الرائعة واندمجت تماما في أحداثه .. هذا هو ما أعشق في السينما .. حيث تذوب تماما في هذا العالم المذهل لتلقي عن كاهلك كل أعباؤك .. إذ تستولي الشاشة على كل مجال رؤيتك وأفكارك فلاتترك لك فرصة للتنفس .. ولا يصبح شغلك الشاغل سوى أن تنتهي الأحداث بالصورة التي تتمناها.
في اليوم التالي وفي الصباح الباكر جدا استيقظت على صوت جرس الهاتف .. إن رنين جرس الهاتف عندنا في هذا الوقت من اليوم هو أمر أكاد أن أجزم بأنه يحدث لأول مرة .. أرفع السماعة متسائلا عن هوية المتصل في وقت كهذا متوقعا مصيبة من نوع ما .. ولم يخب ظني كثيرا.
آلو .. هل (خالد) موجود؟
أنا (خالد)
إنني الملازم (....) من مخفر منطقة (....)
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا