الصدمة
لقد قرأتم أحداث قصتي الأول .. وأعتقد أن أغلبكم يرى أنها محض هراء وإكذوبة كبرى .. وعلى كل حال .. فقد نقلت لكم ما حدث في تلك التجربة الكابوسية بكل أمانة .. تستطيعون تصديقها .. ويمكنكم تكذيبها .. لكن من الصعب تجاهلها .. احتراما لجهدي الذي بذلته في كتابتها لكم على الأقل !!.
إن قصتي السابقة تعتبر بالفعل ظاهرة غير قابلة للتفسير من الممكن أن نقرأ عنها يوما في إحدى الكتب التي تتحدث عن أسرار الكون .. مئات الأسئلة كانت تصطرع في ذهني بعد تلك التجربة .. إلا أن كثرتها وتزاحمها جعلها تذوب وتتلاشى حتى لم أعد أذكر منها شيئا مع زحمة الحياة وهدية الأيام التي لا تقدر بثمن والتي أخبرتكم عنها من قبل: النسيان.
أيام كثيرة مرت وتساقطت أرقامها من على روزنامة المنزل المعلقة على الحائط .. ولم أكن أعلم أن ما حدث لي في قصتي السابقة هو بمثابة إجازة كان من المفترض أن أستمتع بها مقارنة بما سيحدث لي لاحقا !! ..
ولا شك في أنكم قد لاحظتم أنني كنت – وبلا فخر- البطل الرئيسي والأوحد تقريبا في قصتي الأولى (قشعريرة) .. حين كانت كل الشخصيات الأخرى بمثابة (كومبارس) .. وقد كانت القصة عبارة عن دراما منزلية أو (قصة بيتية) كما يقال عن تلك النوعية من القصص .. أي أنها جرت في مكان مغلق أكثر الوقت .. ولهذه القصص عدد هائل من العشاق .. كما أنها – بالمناسبة – النوعية المفضلة للمخرج السينمائي العالمي والكاتب المبدع هندي الأصل (نايت شياملان) .. حيث لوحظ هذا في أفلامه الثلاث الشهيرة التي أبدع فيها أيما إبداع وحققت إيرادات خيالية وهي: (الحاسة السادسة) .. (غير قابل للكسر) .. (علامات) .. أما بالنسبة لقصتي التالية فهي لن تكون بيتية بمعني الكلمة .. فقد انطلقت شرارتها في المدرسة .. وكانت نهايتها مفاجأة مذهلة غير متوقعة !!.. ولعل هذا ما أراهن عليه في مذكراتي أملا أن تنال إعجاب القاريء .. نهاياتها المفاجأة التي لا يتوقعها أحد.
والتجربة التالية هي واحدة من التجارب التي عشتها وتركت في نفسي أثرا بالغا.. فقد واجهت فيها لغزا شديد التعقيد شتت كياني ووضعني في دهاليز نفسية معقدة .. كيف؟! .. اقرؤوا السطور التالية وستعرفون ..
كان كل شيء يسير بصورة اعتيادية في المنزل الجديد .. أو الشقة الجديدة – لو أردنا الدقة - وكنت أعاون جدتي في ترجمة ما تريد إخباره للخادمة الجديدة آسيوية الجنسية .. فقد كانت وسيلة التفاهم بيننا هي اللغة الإنجليزية .. وجدتي بالطبع لا تجيدها .. أما أنا فأتحدثها بطلاقة .. لأنها اللغة الرسمية في المدرسة.
وبالمقابل .. كان كل شيء يسير بصورة اعتيادية في المدرسة أيضا .. فالنظام مفروض على الجميع .. وأشكر الله – سبحانه وتعالى- ألف مرة ثم أشكر جدتي التي ألحقتني في مدرسة خاصة* .. فلو كانت مدرستي حكومية لتغير حالي ومستواي العلمي كثيرا .. ووقتها لن يكون هناك سوى الفضائح .. لماذا؟! .. إقرؤا الصحف اليومية عن المصائب التي تحدث في المدارس الحكومية وستعرفون السبب .. واسألوا الأسر الكويتية التي تدفع الأموال لإلحاق أبنائها بمدارس خاصة فضلا عن المدارس الحكومية المجانية وستعروفن السبب.
ولكن مشاكل المدرسة لا تتعلق بالنظام والمستوى العلمي فحسب .. فهناك الكثير من المشاكل والتحديات الحقيقية التي تواجه كل طالب يريد الابتعاد عن المشاكل .. والمدرسة هي مكان جيد للأسف لممارسة شريعة الغاب بين الطلبة .. حيث يأكل القوي الضعيف من خلال شجارات ومعارك تمتد كثيرا لخارج أسوار المدرسة ولأسباب تافهة جدا .. وغالبا ما تكون تلك الشجارات دون أي هدف .. ولو سألت المتشاجرين عن سبب الشجار لأجابك نصفهم بأنهم لا يعرفون .. وإنما فقط أتوا لمساندة رفاقهم !!. يحدث هذا كثيرا في المدارس الحكومية .. وبالطبع يحدث بصورة أقل في المدارس الخاصة .. لكنه يحدث في القطاعين .. وليس هناك مفر للضعفاء - أمثالي- من التعرض لوحشية بعض المراهقين عديمي الإحساس.
* إن كنتم لم تقرأوا المقدمة .. أو كما أطلقت عليها: (بداية لا بد منها) فإنني أنصحكم بقرائتها .. لأن جميع قصصي وتجاربي تقوم على أكتاف المقدمة حيث شرحت فيها كل ما يتعلق تقريبا بحياتي الخاصة والجو المحيط بي.
لقد كنت – بسبب تفوقي ونبوغي الواضح- أحظى بحب واحترام كل أساتذتي .. ولكني مع هذا لم أكن من الشباب المرموقين في المدرسة أو كما يصفهم المجتمع الأمريكي بـ (ذوات الشعبية) .. فقد كنت ضعيف الجسد لا أمارس أي رياضة .. ولا أملك أي وسامة .. دعك من أن الطلبة كانوا لا يرتاحون لوجودي .. فالناس يفهمون أن تكون وقحا أو صاخبا أو عصبيا .. أما أن تكون منطويا مهذبا غامضا فسيظنونك خبيثا ولن يرتاحوا إليك مطلقا ..
بالفعل .. لقد كانوا يظنونني خبيثا !! .. تصوروا هذا !! .. والسبب هو أفكارهم المتخلفة .. فالناس دائما تصور الشخص المنطوي الهاديء على أنه ساذج وطيب القلب .. فإذا أبدى لمحة ذكاء تراهم يملأون الدنيا صراخا بأن هذا الشخص خبيث وماكر وكان يتظاهر بالطيبة والسذاجة !! .. وهذا فكر متخلف بالطبع .. فلا يجب أن يكون المرء غبيا ساذجا حتى يراه الناس طيب القلب.
لقد كان عددا كبيرا من زملائي الطلبة والطالبات يطلبون مساعدتي أحيانا كثيرة لحل بعض الفروض المنزلية .. وكنت أقدم لهم كل مساعدة يحتاجونها مني .. وبعدها يتركني الجميع !!.. حتى ساهم هذا أكثر في تقوقعي وانعزالي .. فكنت أدفن هموم وحدتي بين الكتب وأنا أقسم بيني وبين نفسي: ستندمون .. أعدكم بأنكم ستندمون .. سأصبح طبيبا من أفضل الأطباء وأكثرهم ثراء وأفضلهم سمعة .. ولنر بعدها كيف ستسخرون مني.
هذا ما كان يجعلني أصمد .. أحلام المستقبل.
تخيلوا هذا .. وحيدا في المنزل بلا أخوة .. ووحيدا في المدرسة .. وليس لي أي أصدقاء .. حياة قاسية كالجحيم !!.. صحيح أنني اخترتها لنفسي .. لكني لن أصبح واحدا من الشباب التافه الذي لا هم له سوى الفتيات ومعرفة أحدث أنواع الهواتف النقالة ولا هدف لحياته سوى امتلاك سيارة فارهة !!.. ولن أرتبط بهؤلاء فقط كي أكسب الصداقات .. أعلم أن هناك قلة قليلة جدا من الشباب الجاد المكافح .. ولكن أين أجدهم ؟! .. دعكم من أن الصداقة لها ارتباطاتها والتزاماتها.. وأنا أكره كثيرا تحمل أي مسؤولية تجاه الغير .. فالصديق تتبعه زيارات والخروج معا إلى المطعم الفلاني لتناول العشاء أو الذهاب إلى السينما .. وتعرفون أنني أعشق الذهاب إلى السينما* ولكني أحب القيام بذلك وحدي دون أن أكون بصحبة أحد حتى أندمج تماما مع أحداث الفيلم .. وليت هذا يحدث !! .. فغالبا ما يكون هناك من يفسد عليك متابعة الفيلم ويتحدث بصوت مرتفع بكل وقاحة ويسخر من كل شيء غير مبال بمشاعر المشاهدين الذين يتمنون أن يبتلعه الكرسي حتى يخرس ويريحهم من تعليقاته البغيظة.
معذرة .. أستطرد كثيرا .. وأثرثر كثيرا .. إذ تعلمون أنه لا أصدقاء لدي .. وهذا ما يشعرني أحيانا كثيرة بالحاجة إلى الكلام .. حتى لو كان هذا على الورق.
لن أطيل أكثر من ذلك ولنعد إلى أحداث قصتنا .. وإلى الحياة في المدرسة ..
طلبة يرغبون في كسب ود الطالبات .. وبعض الطالبات يحاولن البحث عمن هم جديرين بقلوبهن .. وبالطبع هذه الأمور تحدث خلف الكواليس .. فنحن لسنا في (لاس فيغاس) .. وكل الأمور في مدرستنا تسير بجدية دون أن يجرؤ أي طالب أو طالبة على القيام بأي سلوك مشين وإلا فإن الفصل سيكون مصيرهم دون أي تهاون .. إنهم لا يمزحون في مثل هذه الأمور في المدارس الخاصة التي تتباهى بسمعتها وانضباط طلبتها قبل كل شيء.
كان احتكاكي شبه معدوم بزملائي الطلبة وإن لم يمنعني هذا على الإطلاق أن أكون مهذبا معهم .. وعلى الرغم من وحدتي الإجبارية .. إلا أن هذا لم يكن كافيا لبقائي بعيدا عن المشاكل .. فإن لم أبحث عن المتاعب فستبحث هي عني لا ريب !! .. كيف ؟ .. مرة أخرى أقول: إقرؤا السطور التالية .. وستعرفون.
المراهقين .. ملوك التعذيب في هذا العالم .. حقيقة أؤمن بها تماما .. فنسبة كبيرة جدا منهم يسخرون من كل شيء وأي شيء .. وغالبا ما تجدهم لا مبالين ولا يأبهون لآلام الآخرين .. فعاداتهم معروفة .. المزاح بصوت عال .. إحالة الفصل في فترات الاستراحة إلى حظيرة ثيران .. إنها سن وساوس الرجولة .. والرغبة في القوة والتمرد على القوانين .. والشجارات عند أبواب المدرسة.
* راجع: (بداية لا بد منها)
أخبرتكم بأنني كنت أساعد كل من يلجأ إلي لحل فروضه المنزلية أو لشرح نقطة معينة غير مفهومة في أحد الدروس .. وكان أكثر من قدمت لهم المساعدة في المدرسة هما صبي وشقيقته .. وكي أضعكم في جو القصة .. سأبتعد عن الصورة قليلا وأفسح المجال لهما حتى تتعرفوا عليهما .. فهما بطلي قصتي.
(رهام) في الصف الثالث ثانوي وفي السادسة عشرة من العمر .. أي بمثل عمري .. وشقيقها (بدر) الذي يصغرها بعام واحد وهو في الصف الثاني ثانوي.
لقد كان (بدر) فتى رقيق إلى حد الأنوثة بنحوله الشديد وتراخيه وعينيه المذعورتين .. ووجهه خال تقريبا من الخشونة الرجولية .. فكان يبدو للجميع بالفعل وكأنه فتاة رقيقة ذات حياء تلبس ثياب الأولاد .. كما كانت لديه مشكلة واضحة في النطق .. إذ تراه يتلعثم بشكل واضح عندما يتحدث مما زاد من هدوئه وانطوائه كي يتجنب سخرية الطلبة .. وهو - بالمناسبة- أعسر .. أي يستخدم يده اليسرى بدلا من اليمنى في كل شيء تقريبا كحال نسبة لا بأس بها من الناس ..
ويمكن بسهولة أن نعرف أن (بدر) هو (ولد أمه) - كما نقول في (الكويت) - أي أنه نتاج تربية امرأة تخاف عليه كثيرا وتفرط في تدليله وحمايته من كل شيء .. وتزيده خوفا من العالم الخارجي الذي بدا له وكأنه غابة يجب عليه الابتعاد عنها قدر الإمكان.
باختصار .. كنت أعرف أن تربية هدا الفتى ليست قويمة .. وأن مستقبله مظلم ملئ بالعقد النفسية بسبب اهتمام أمه المرضي به .. إلا أنه والحق يقال كان ولدا طيب القلب إلى حد لا يصدق .. كريم جدا يعطيك كل ما يملك إن رأى أنك تستحق ذلك.
أما شقيقته (رهام) وهي أقرب إنسان لـ(بدر) على الإطلاق .. فقد كانت فتاة عادية الملامح لا يوجد ما يميزها .. لكن رقتها الشديدة كانت تجذب إليها الأنظار .. كما أنها كانت مهذبة وحساسة جدا من الممكن أن تدمع عيناها لو رأت طفلا .. حتى وإن كان هذا الطفل بصحة جيدة وينال الرعاية والاهتمام اللازمين !!.
لم أكن أنا من يرغب في الاحتكاك بهذا الثنائي الغريب .. بل كانا هما من يصران على أنني صديق لهما .. وصديق عزيز أيضا .. وكانا يفرضان نفسيهما علي فرضا في فترات الفسح أو الفرص – كما نطلق عليها في (الكويت)- على الرغم من أننا لسنا زملاء في نفس الفصل .. فأنا أسبق (بدر) بعام دراسي كما علمتم .. في حين أن (رهام) في نفس مرحلتي الدراسية ولكنها لم تكن زميلتي في الفصل.
لا أذكر بالضبط كيف تعارفنا .. ولكن أعتقد أن الأمر كان متعلقا بمساعدة في أحد الفروض المنزلية عندما أخبرتني (رهام) بأنها تشعر أنني شخص أوحي بالثقة .. وإن عيناي الصادقتين فيهما شئ من الطيبة والذكاء .. وأخبرتني أنها تثق بي وترتاح لي كثيرا وأنني سأكون (صديقا) مخلصا لن أضرها يوما.. وأنها بحاجة إلى من يصغي إليها .. تعلمون جيدا أن آخر شيء يمكن لشخص في مثل عمري أن يرفضه هو تقديم العون لفتاة رقيقة تستغيث به .. ساعتها يمكنه أن يحرك الجبال ويسافر مشيا إلى (تنزانيا) .. وهكذا كانت بداية علاقتنا التي لم تتجاوز أبدا أسوار المدرسة .. لأصبح مع مرور الوقت كاتم أسرار (رهام) وشقيقها .. كل أسرارهما !!.
لقد كانت مشكلة هذين الشقيقين الرئيسية تكمن في أسرتهما .. خاصة الأب .. وهو رجل ميسور الحال يعشق شرب الخمر حتى أنك –كما تقول (رهام)- نادرا ما تراه في وعيه الكامل .. وقد قام هذا الرجل بحسنة قد تكون هي الوحيدة في حياته عندما ألحق ولديه بتلك المدرسة .. وقام بتسديد الرسوم الدراسية لأبنائه لسنتين قادمتين .. ربما فعل هذا تحسبا للمستقبل .. وكأنه كان عالما بما سيحدث .. فقد انجرف أكثر مع أصحاب السوء.. وقام بممارسة العادة التي انتشرت في (الكويت) - مع الأسف - بصورة مخيفة منذ منتصف التسعينات: تعاطي المخدرات .. فقد بدأ الأب ينهار شيئا فشيئا وأصبح يعود إلى المنزل في منتصف الفجر وهو يترنح بسبب المخدر .. أو الخمر .. وكان – كحال كل المدمنين- ضائع .. مزعزع الشخصية .. ضعيف الإرادة .. فتراه يصب جام غضبه على أولاده وزوجته .. وكأنهم هم سبب تعاطيه للنخدرات وحاله المزعزع ..
فكان يوسع امرأته وولديه ضربا ليحدث بهم كدمات لا بأس بها حول العيون وفي الشفاه .. ثم يهدأ فيبدأ الحديث عن المخدرات التي دمرته ودمرت حياته .. فتعود له الثورة .. لينهض ويوسع أفراد أسرته ضربا .. هكذا دون أي ذنب أو جريرة منهم .. فتصرخ زوجته وتولول وتهرع جريا تجر ورائها أبناؤها إلى الجيران أو أقاربه .. فالأم من جنسية عربية وليس لها أقارب في (الكويت) .. يقول له الجميع أن يترفق .. يبعثون إليه برجل دين كي يتحدث إليه ويحاول إرشاده إلى الطريق الصحيح .. ولكنه كان يرد على الجميع في فظاظة أن هذا ليس من شأنهم .. فتزداد حالته سوءا .. ويزداد عنفا مع أفراد أسرته.
وبالطبع حدث ما هو متوقع .. لم تستطع زوجته تحمل كل ما تلقاه على يده القذرة .. حتى فعلت ما كان يجب فعله منذ البداية .. فأبلغت عنه الشرطة .. وقاموا بالفعل بالقبض عليه .. وأحيل إلى النيابة حيث تبين أنه لا يتعاطى المخدرات فحسب .. بل ويتاجر بها أيضا !! .. وقد حكم عليه بالسجن لعدة سنوات لم يقض منها سوى أشهر قليلة قبل أن يموت بجرعة زائدة من المخدر !!.. كيف وصلت المخدرات إلى السجن؟! .. لا أدري .. لقد حدث هذا كثيرا مع الأسف في سجون (الكويت)* .. وما زال يحدث !! .. كيف ؟! .. أترك الإجابة للمسؤولين !!.
المشلكة أن الأب كان مصدر دخل الأسرة الوحيد .. أما زوجته التي لم تكن تملك حتى الشهادة الثانوية .. فكانت ربة بيت.. وبالطبع فإن فرصة حصولها على وظيفة محترمة بعد وفاة زوجها معدومة تقريبا لعدم امتلاكها لأي مؤهل علمي .. وهكذا تستطيعون أن تتخيلوا حال هذه الأسرة بعد وفاة معيلها الذي كان وجوده هما يثقل كاهلها أصلا.
لقد علمنا أن الأب قد دفع رسوم أبنائه الدراسية كاملة لسنتين قادميتن .. ولكن بعيدا عن الرسوم الدراسية .. فهناك الرسوم الأهم .. وهي رسوم الحياة – إن صح التعبير- فمن سيعيل هذه الأسرة بعد وفاة معيلها ؟! .. إذ لم يمد لهم أحد يده من أفراد العائلة مع الأسف .. وتخلى عنها الجميع .. فكان لا بد على الأم أن تتصرف .. وليتها لم تفعل .. فمع مرور الأيام انجرفت وراء أقدم مهنة في التاريخ .. وأبشعها على الإطلاق !! ..
لعبت هذا الدور المقيت لأنها كانت بحاجة إلى المال التي يجود به بعض الأوغاد من الرجال عليها مقابل إرضاء شهواتهم الحيوانية .. فأصبحت امرأة في الأربعين من عمرها تملأ مساحيق التجميل وجهها .. ولها ضحكة مائعة قليلا ..
* حقيقة .. مع الأسف
وقد جعلت هذه الظروف القاهرة الشقيقين يقتربان من بعضهما كثيرا .. حتى أصبحا لا يفترقان أبدا وكل منهما يعتبر الآخر أصدق أصدقائه وكاتم أسراره .. ولحسن الحظ لم يعرف أحد من الزملاء الأوغاد في المدرسة شيئا عن حال هذه الأسرة .. وإلا لأصبح الشقيقين مثار سخرية الجميع ..
لقد زادت هذه الخبرات القاسية من عزلة (رهام) و(بدر) وانطوائهما وميلهما إلى الاستماع لا الكلام –وإن كانت (رهام) أقوى بكثير من (بدر)- مع مشاعر متناقضة تجاه الأم هي مزيج من الشفقة كونها انجرفت وراء هذه المهنة البشعة من أجل لقمة العيش .. والكراهية كونها جلبت لهما العار !!.
مريع حقا هو الشقاء الذي يرتسم على وجوه المراهقين الذين رأوا وعرفوا الكثير !! ..
لقد كان هذان الشقيقان هما بطلي قصتي .. أما بالنسبة لدوري في كل هذا فستعرفونه لاحقا .. ولكن قبل كل شيء فلنتعرف على شخصية أخرى .. أو .. طالب آخر في المدرسة ..
(راشد) .. فتى شديد الوسامة كحصان عربي أصيل نبيل .. أنيقا كإحدى الموديلات المجسمة التي نراها في واجهات المحلات التجارية .. فارع القامة أبيض البشرة .. ذو نظرة قوية آسرة تعكس شخصية كاسحة.. وكان ذو بنية رياضية وبالتالي يناسبه كل شئ وكل زي .. لكن وسامته كانت تدل على قسوة ونرجسية واضحتين .. كان قاسيا كمناخ (الكويت) في فصل الصيف .. حتى صارت المفردات الجياشة التي نعرفها مثل الحب والعطف والرقة نوعا من الإهانة بالنسبة له .. كما كان الوغد يملك لسانا سليطا كالسوط فلا تملك أن تناقشه في أي موضوع .. حتى وإن كنت على حق!! .. إنه ذلك الطراز من البشر الذي لا يخشى أحدا ويثق بكل تصرفاته وأفعاله وأنه لا يفعل سوى الصواب .. ولا يقيم وزنا لأي حياة بشرية بالطبع .. بل يسره أن يرى نظرات المقت في عيون من حوله ..
لقد كنت أنا بالذات أعاني من عقدة نفسية تجاه (راشد) .. إذ تراني أنتفض بقوة وأشعر بتوتر في أعماقي كلما أراه .. حتى أنني كثيرا ما شعرت بأنني نملة تقف أمام فيل الماموث الهائل .. فأشعر بضآلة تنم عن شخصية ضعيفة مع الأسف أمام شخص يملك كل شيء تقريبا .. ومنحته الحياة كل تدليل ..
كنت أحلم أن أكون قويا مثله .. أن أملك لسانا سليطا يدافع عن الحق كلسانه الذي لا ينطق إلا بالباطل .. لماذا يكون الشر إيجابي دائما في حين يندر أن نرى الخير الإيجابي ؟!! ..
لقد كان (راشد) يملك كل ما يجذب فتاة لا تعرف شيئا عن الحياة .. وكل ما ينفر أما ويجعلها تتوجس خيفة على ابنتها..
أما والد (راشد) فهو شخصية هامة جدا في (الكويت) ويشغل مركزا حساسا .. وكان هذا الأب يظن أن تربية الأبناء تكون فقط بإنفاق المال بمبرر ومن دون مبرر .. فيصرف على ابنه ويعطيه كل ما يريد دون مناقشة .. حتى أصبح (راشد) نموذج للشخصية الأنانية (السيكوباثية) التي لا تريد من المجتمع إلا مصالحها .. ولا تعطيه شيئا على الإطلاق .. و(السيكوباثية) مرض نفسي يجعل المصاب به عدوا للمجتمع بأسره .. فيكون شخصا متحجر القلب يتلذذ بإيذاء الآخرين .. ولا ينفع معه أي عقاب ..
كنت دائما أتوقع أن ينتهي المطاف بهذا الفتى كتاجر مخدرات أو قاتل زنيم أو زعيم عصابة .. أو أي شيء آخر كهذا ..
وبالطبع فإن شخصا كهذا الحقير يكون له عادة هدف واحد في هذه الحياة: جعل الأمور سيئة بالنسبة للضعاف .. وهدم كل ما هو جميل .. كنت أعرف أنه يفعل كل المحظورات .. إذ كان يبيع المخدرات !! .. ويروج أفلاما خلاعية في السر على زبائن دائمين لديه !! .. لم يكن بحاجة إلى المال .. لكنها تلك الشهوة المجنونة في الفساد والهدم .. كم أكرهه .. كم أمقته .. إنه يجسّد كل ما أحتقره في هذه الحياة .. ليس الأمر نابعا من الغيرة على وسامته وشخصيته القوية .. بل هو نابع من كراهيتي للقسوة .. إنني أمقت القساة الذين لا يقيمون وزنا للبشر .. الذين لهم تلك النظرات الباردة التي لا تعبأ بآلام الآخرين .. كم من مشاجرات خاضها هو وأصدقائه الأوغاد الآخرين الذين قاموا فيها بإشباع من تشاجروا معهم ضربا .. وبالطبع كان والده - وبسبب ابتعاده شبه الدائم عن البيت - يجهل كل شيء عن ابنه ويظنه بريئا من كل التهم التي تنسب إليه وأنه مجرد مراهق يحمل طيش المراهقين المعتاد ولا شيء أكثر من ذلك .. أما والدته فلا أعرف عنها شيئا.
وكان (راشد) بالطبع مولعا بإيقاع الفتيات في شباكه .. فكلما أعجبته فتاة في مجمع تجاري أو حديقة عامة أو أي مكان آخر .. ظل يلاحقها ويستخدم لسانه ببراعة يحسد عليها لتهيم به الفتاة حبا .. ومتى ما فعلت وقامت بينهما علاقة .. صارحها بملل بأنها غير جديرة به وأنه يود تركها .. ولا يفعل ذلك عادة إلا بعد إشباع غريزته بالطبع !! .. مواقف قاسية عاشتها الكثيرات معه .. واللاتي لا يعلمن شيئا عن نشاطاته وأخلاقياته .. حتى أنه وصل إلى مسامعي إحدى المرات ما كان يردده لأصدقائه في المدرسة - والذين لا يقلون عنه حقارة – بأنه كان يطارد فتاة برفقة شقيقتها الصغيرة التي لا يتجاوز عمرها الأربع سنوات .. ولكنها كانت حازمة معه .. فنهرته ونعتته بلفظ مشين وذكرت شيئا عن قلة أدب بعض الشباب الذين يتركهم أهاليهم يتسكعون في الشوراع دون رقابة .. فأثار هذا جنونه .. وهو الذي لم يعتد الإهانة من أحد .. ليمسك بذراعها بقوة !! .. فحاولت التملص منه وشتمته .. هنا قام بصفعها وركلها بكل قوته أمام شقيقتها الصغيرة التي كانت ترتجف كهر مصاب بطلق ناري من شدة الخوف !! .. وبالطبع تدخل الناس وحاولوا الفتك به .. لولا تصادف وجود بعضا من رجال الأمن الذين ألقوا القبض عليه .. وتقدم والد الفتاة بشكوى إلى المخفر وأحضروا (راشد) وأجبروه على التوقيع على تعهد بعدم التعرض للفتاة .. تصورا هذا !! .. فقط تعهد !! .. إن وساطة والد هذا الوغد قوية بحق.
لقد هزت هذه الحكاية بالذات مشاعري كثيرا .. إن شخصا يضرب فتاتا أمام شقيقتها الصغيرة بهذه القسوة لهو إنسان مخيف بالفعل !!.
لقد أخبرتكم ما كان يفعله (راشد) خارج أسوار المدرسة .. أما ما يفعله داخل المدرسة فهو أقل من بيع المخدرات بالطبع .. بل كان إيقاع زميلاته الطالبات في شباكه وإقامة علاقة معهن تمتد لخارج أسوار المدرسة .. علاقة ظاهرها عاطفي .. وباطنها قذر غير قابل للنشر .. والمشكلة أن شخصيته مع الفتيات ساحرة بالفعل كما ذكرت لكم .. فعندما تراه يكلم إحداهن .. تظن أنه ملاكا عاشقا وأن الفتاة التي يحدثها هي كل شيء بالنسبة له .. كان بعضهن يبتعدن عنه لقسوته مع الضعفاء أمثالي وسخريته الدائمة مني .. في حين ترى البعض الآخر يحبون شخصيته ويشعرن بالأمان معه كعادة الأنثى حين تود أن يكون حبيبها قويا يحميها من كل شيء.
كنت أردد حين أراه:
- نحن في زمن مخيف .. زمن مخيف حقا.
ألا تصدقون بوجود إنسان كهذا ؟! .. أنتم مخطئون ولا شك .. فهناك العشرات من شاكلة (راشد) .. ألا تذكرون السفاح الألماني (بيتر كورتن) ؟! .. لا تعرفونه ؟! .. إنه السفاح الشهير الذي كان يقوم بتعذيب الطيور بوسائل بشعة وهو لا زال طفلا تعلم المشي لتوه !! .. وهو الذي ذهب مع صديقه ذات مرة لصيد السمك وهناك –ومن دون أي سبب- دفع صديقه الذي لا يعرف السباحة من على القارب .. ليغرق أمامه دون أن يأبه لتوسلاته !! .. ودون أن تهتز له شعرة !!.. مع جرائم عديدة أخرى يشيب لهولها الولدان قد يكون أشدها رحمة هو قتله لفتاة مراهقة دون سبب وطعنها خمس وثلاثون طعنة !! .. حتى أطلقوا عليه في (ألمانيا) اسم (وحش جهنم) !! .. والغريب أنه وحتى أثناء محاكمته .. لم تهتز له شعرة .. بل كان واثقا هادئا مبتسما حتى لحظة إعدامه !!.
الخلاصة أن هناك الكثيرون من هذه العينة الغريبة .. ظاهرهم بشر .. وباطنهم وحوش لا ترحم ..
لقد نسج (راشد) شباكه حول الكثيرات .. وكسر قلوبهن .. ولكن هذه المرة بدأت أشعر أنه ينسج شباكه حول (رهام) .. وهنا تبدأ قصتنا .. ولا تظنوا أنها قصة عادية .. بل هي غريبة .. غريبة إلى أبعد الحدود كما أخبرتكم سابقا !!.
كنت أقضي بعض الوقت مع (رهام) وشقيقها (بدر) الذي كان صامتا شارد الذهن يرمق أبعادا أخرى أكثر الأوقات .. ولو تحدث فإن عليك الانتظار عشرون ثانية كي يقول لك: كيف حالك ؟ .. لأنه - وكما ذكرت لكم - يعاني من صعوبة في النطق .. لذا فمن النادر أن تراه يتحدث.. وأنا في الواقع لا زلت أجهل كيف كان هذا الفتى ينجح في دراسته بمشاكله النفسية المتشابكة ومشاكل النطق التي يعاني منها ..
ونظرا لأنني إنسان صامت بطبيعتي .. فقد كانت (رهام) هي من تمسك بزمام الحديث أكثر الوقت .. والغريب أنها كانت تخبرني بكل شيء .. وحتى أدق تفاصيل حياتها العائلية دون أي تدخل من أخيها لمنعها على اعتبار أنها أسرارا عائلية يجب ألا يعرفها الغرباء .. لكنني كنت أعرف إلى أي مدى هذا الفتى مهزوز وهش نفسيا .. ولا ألومه كثيرا في الواقع بعد أن عرفت ظروف تربيته.
كان كل شيء يسير بصورة اعتيادية للغاية إذا ما تجاهلنا قصة الشقيقين .. ولم يكن ليحدث شيئا يذكر لولا الوغد (راشد) ..
بدأ كل شيء عندما رأيته ذات مرة في المدرسة واقفا يتبادل أطراف الحديث مع (رهام) !!.. وقد استوقفني هذا كثيرا .. فما الذي يريده شخصا كـ(راشد) من منها؟! .. إنها ليست من ذلك النوع من الفتيات اللاتي ينجذب لها شخصا كـ(راشد) .. فملامحها أقل من عادية .. هل هي رقتها الشديدة ؟! .. ربما كانت تبدو له جميلة للغاية .. فلا مقاييس واضحة للجمال كما تعلمون .. ولكل منا ذوقه .. المهم أنني
لم أنتظر طويلا لأعرف .. فما إن تركها (راشد) حتى هرعت إليها أسالها عما يريده منها هذا الوغد .. ليس بقصد التدخل في شؤونها .. بل هو الخوف والإشفاق عليها .. فلا أريدها أن تكون واحدة من ضحاياه.
فسألتها بحذر:
رهام
همم !!
ماذا يفعل (راشد) معك ؟!
قالت بصوت يحمل نبرة من الفرح وإن حاولت أن تخفي هذا:
يريدني بموضوع هام ..
وما هو هذا الموضوع ؟! ..
مطت شفتيها وهي تقول بنوع من الدلال:
لا أعلم ..
لا أعتقد أنه يريد بك خيرا
وما أدراك ؟!
لم تكن (رهام) تعرف الكثير عن (راشد) .. فهو أذكى من أن يكشف أسراره بصورة واضحة صريحة أمام الجميع في المدرسة .. وحتى أنا لم أكن أعرف عنه حينها سوى أنه محطم قلوب العذارى .. وأنه ولد لعوب لا يمكن أن يحب .. ولا يبدو لي أصلا من النوع الذي يحب ..
إن خطته معروفة .. وهي خطة معظم من هم في مثل سنه .. يعثر على الفتاة التي يريدها .. يبدأ معها علاقة عبر الهاتف تمتد إلى الخروج معها .. ثم الهدف الرئيسي وهو إرضاء غريزته .. ليتركها بعد ذلك بكل حقارة .. قد أتحمل أن أرى بعض الفتيات في موقف كهذا .. فهذا الأسلوب تمارسه بعضهن أيضا .. ولكن أن يحدث هذا لـ(رهام) فلا وألف لا .. إنني أشفق عليها كثيرا .. ولا أريد أن يضرها أحد .. والأمر لا علاقة له بأي حب أو إعجاب .. لذا فقد قررت التدخل.
كان واضحا أن (راشد) قد تصرف معها بخبث وخدعها .. ولكن من قال أن (رهام) تستطيع ملاحظة شيء كهذا ؟! .. ماذا تعرف هذه الطفلة عن الحياة ؟! .. كنت أشعر بغضب وتعاسة بالغين .. لماذا اختار هذا الوغد (رهام) دون كل الحسناوات الأخريات ؟! .. إن هذه الفتاة هشة .. ولن تحتمل أن يحطم أحد قلبها
.. لذا فقد قلت لها بحزم:
(رهام) .. أنت تعتبريني صديقا مخلصا لك .. وأنا أعتز بهذه الصداقة وإن كانت لم تتعدى أبدا أسوار المدرسة .. ولكن أردتك أن تحذري من (راشد) .. إنه لا يصلح لك ..
نظرت إلي باستغراب وكأنها لم تتوقع مني أبدا أن أكلمها بأمر كهذا .. ثم تداركت نفسها وقالت لي بصوت حزين:
شعرت من كلامه بأنه يحبني ويهتم لأمري .. وإذا كانت له بعض المساوئ فهو على الأقل يعرف كيف يحمي محبوبته ..
ثم زفرت بقوة وقالت:
لقد سئمت الحياة بهذه الصورة يا (خالد) .. إنني مجرد فتاة صغيرة في السن .. أعيش يتيمة من دون أب .. دعك من أن أبي كان قاسيا جيدا .. في حين أن مشاعري متضاربة ناحية أمي .. هي مزيجا من الاحتقار والاحترام .. أعلم أنها تفعل ما تفعله من أجلنا .. لكنني في نفس الوقت أشعر بالعار .. إنني أحتاج لمن يحميني من الشرور والمصائب والشياطين البشرية الموجودة في هذا العالم.
قلت صائحا:
ومن قال أن (راشد) ليس من هؤلاء الشياطين ..
سألتني بسذاجة أغاظتني كثيرا:
هل تغار ؟!
قلت لها بصدق كاتما غيظي:
إن الأمر لا يتعلق بأي غيرة .. فأنت صديقة عزيزة لا أكثر .. وأنا أخبرك بما أخبرك لأنني أخشى عليك كثيرا .. ولا أريد لهذا الوغد أن يحطم قلبك ..
(خالد) .. لا داعي لهذا الكلام .. إنني في الواقع أرى (راشد) فتى رقيقا مهذبا
هل تمزحين ؟!
بتاتا .. أنا أراه كذلك بالفعل ..
ولم يعد هناك ما أستطيع قوله .. كررت محاولاتي .. ولكنها كانت حمقاء واثقة أن أن (راشد) يحبها .. لذا فقد قررت أن أنقذها منه رغما عنها .. لن أسمح لهذه الفتاة التي رأت في حياتها ما لم يره كهل في السبعين أن يتحطم قلبها .. خاصة بعد أن أخبرتني أنه يتصل بها كثيرا بعد الانتهاء من الدوام المدرسي .. عندها بدأت كالمجنون أحاول أن أعرف عنه كل شيء .. سألت كل من تربطني بهم علاقة جيدة من الطلبة –وهم قليلون جدا- وأخبروني بما أخبرتكم به عن (راشد) في بداية القصة!! .. وصعقت بالطبع .. لم أتوقع أبدا ما سمعته عنه .. ولكن الجميع كانوا يخشون سطوته .. فهو لا يتورع عن عمل أي شيء انتقاما ممن يسيء إليه ..
شخصيته القوية .. نفوذه والده .. بنيته الرياضية .. أصدقاؤه المجرمين .. كلها أسباب تجعل الجميع يتحاشى إغضابه .. وأنا لا ألوم أحد على خوفهم منه ولا أستطيع أن أصفهم بالجبن .. فأنا نفسي كنت أخشاه كثيرا كما أخبرتكم ..
وحتى حملة جمع المعلومات التي قمت بها حوله كانت سرية كي لا يعرف (راشد) بما أخطط له .. عندها لا أعرف ما سيفعله بي.
أخبرت رهام بكل ما سمعت وعرفت عن (راشد) .. لكنها لم تصدق أبدا .. لأنه كان يعاملها برومانسية وبأسلوب محترف إلى درجة يصعب معها أن يصدق أحد أنه يحمل قلبا أسودا !! .. فاستمرت علاقتها معه قرابة الشهر .. وبالطبع كانت علاقتهما تسير في الخفاء .. ومن يراهما معا في المدرسة يظن أنهما زميلين .. زميلين فحسب .. إلا أنني كنت أراقبهما جيدا .. وأعرف ما وراء علاقة الزمالة البريئة تلك.
والغريب أن (بدر) – شقيق (رهام)- لم يعرف شيئا على الإطلاق .. وظن أن الأمر لا يعدو كونه علاقة بين زميلي دراسة .. كل ما أبداه (بدر) هو استغرابه من اهتمام (راشد) بشقيقته وبه في المدرسة .. بالطبع كان (راشد) يهتم بأمر (بدر) أيضا كي يكسب حب شقيقته .. ويبين لها أنه شخصا طيب القلب ويحبها بصدق .. وقد صدقته الحمقاء بسذاجة أغاظتني بالفعل.
لقد وجدت أنه لا دور لي على الإطلاق فيما يحدث بعد محاولاتي اليائسة لكشف (راشد) على حقيقته أمام (رهام) .. فآثرت الانسحاب من حياتها هي وشقيقها .. متوقعا في أي لحظة أنها ستفيق من الصدمة بعد أن يطرحها (راشد) جانبا ويهملها ..
ولكن من قال أن توقعاتي تسير بالشكل الصحيح ؟!! ..
فبعد حوال شهر ابتعدت فيه تماما عن الشقيقين .. فوجئت بخبر هبط علي كالصاعقة!! .. ففي طابور صباح أحد أيام العام الدراسي .. نعت إدارة المدرسة (رهام) لوفاتها في حادث مأساوي !! .. وما هو الحادث المأساوي ؟! .. لم يعلنوا عنه .. ولم يعلم به أحد !! .. شعرت بحزن شديد وصدمة بالغة غير مصدق أنني لن أرى بعد اليوم تلك الفتاة البريئة التي لاقت ربها وهي في عمر الزهور .. بحثت عن شقيقها (بدر) لأسأله عن التفاصيل .. لكنه لم يحضر إلى المدرسة إلا بعد أسبوع كدت خلالها أن أحترق فضولا لأعرف سبب مصرعها .. فأنا أجهل أرقام هواتفهم .. سواء المنزل أو الهاتف الخلوي – إن كانوا يملكون واحدا- ولم أر (بدر) إلا بعد مرور أسبوع حيث كان في أسوأ حال .. ليخبرني بصوت أثار شجني كثيرا أن وفاة شقيقته كان عبارة عن انتحار!!..
(رهام) انتحرت ؟! .. يا للهول !!
قلتها وقد اتسعت عيناي عن آخرهما ذهولا .. فأنا لم أتوقع شيئا كهذا على الإطلاق !! .. لقد ظننت أن الأمر متعلقا بحادث سير .. أو شيئا من هذا القبيل ..
سألته عن تفاصيل حادثة الانتحار فأخبرني بصوت حزين باك ينيط القلوب أنه قد عرف من مذكرات شقيقته أنها كانت على علاقة وطيدة بـ(راشد) .. لكن الوغد خدعها وسلبها أعز ما تملك أي فتاة شريفة !! .. ثم تركها وكأن شيئا لم يكن .. تركها منهارة .. وهي التي كانت ترى أنه سيحميها من شياطين العالم كما أخبرتني من قبل!! .. فلم تجد الفتاة حلا آخر سوى الانتحار .. حيث ابتلعت كمية كبيرة من الدواء –كما يحدث تماما في السينما- مع ترك رسالة قصيرة جدا لشقيقها ووالدتها تقول فيها كلمة واحدة فقط :((سامحوني)).
ولم يخبر (بدر) والدته بالسبب الحقيقي وراء انتحار (رهام) كما عرف من مذكراتها .. كان يخشى كثيرا أن تخوض والدته حربا مع أناس فوق القانون .. وربما هذه هي المرة الوحيدة التي يتصرف فيها (بدر) تصرفا مسؤولا يحمي به والدته.
إن الأمر لا يصدق بالفعل .. إنني أسمع كثيرا بحوادث الانتحار .. لكني لم أتوقع يوما أن يحدث هذا لشخص أعرفه ..
أعرف جيدا أن (رهام) لم تكن مراهقة .. بل طفلة هشة لا تصلح إطلاقا لهذا العالم .. وقد انهارت تماما دون شك بسبب فعلة (راشد) الدنيئة .. أعلم أن ما فعله كان أمرا شنيعا دمر فيه الفتاة تماما .. ولكنني أعتقد أنه كان بإمكانها أن تجد حلا آخر غير الانتحار الذي لا يرضى به الله - سبحانه وتعالى - مهما كانت الأسباب.
وشرعت أفكر بحزن في حال هذه الفتاة .. لقد أجرم والديها كثيرا في تربيتها .. فمن يستطيع أن ينال التربية السليمة في منزل مفكك كهذا ومع أب مخمور طوال الوقت ينهال ضربا على أولاده وزوجته بسبب وبدون سبب ؟! .. لقد توفي الأب وارتاح الجميع من شروره .. ولكن تلك السنوات الصعبة التي عاشتها (رهام) وأمها وشقيقها بوجود الأب قد تركت آثارا نفسية هائلة لا يمكن علاجها بسهولة.
لقد رحلت المسكينة دون أن تترك ورائها سوى تلك الرسالة القصيرة التي لم تعبر عن شيء مما شعرت به وعاشته في حياتها من احباطات وأزمات نفسية مروعة. وما جعلني أشعر بألم هائل يعتصر قلبي هو الحقير (راشد) الذي سلب (رهام) أعز ما تملك .. فهأنذا أراه في المدرسة يمازح هذا ويضحك مع ذاك دون أي شعور بالذنب .. إن هذا الوغد لجدير أن نكتب اسمه بنور ليكون مخلدا مع كل مجرمي العالم كـ(هتلر) و(صدام حسين) .. الفارق الوحيد أن (راشد) لم يحكم دولة لحسن الحظ .. ولو فعل لأحالها إلى أرضا محروقة.
وبالطبع كان خبر وفاة (رهام) له وقع الصاعقة على الجميع .. ولكن سرعان ما نسوا الأمر برمته وسط زحمة الحياة دون أن يعلم أحد أن الفتاة قد انتحرت بواقع الأمر .. ولم تلقى مصرعها بحادث كما صرحت إدارة المدرسة .. ولكن حمدالله أن أحدا لم يكترث للبحث عن أسباب وفاة (رهام) .. ربما بسبب ندرة أصدقائها وعدم ارتباطها بعلاقات من أي نوع مع أحد .. سوى (راشد) بالطبع الذي لم يكترث إطلاقا بما حدث وكأن الأمر لا يعنيه .. علما بأن (بدر) قد أخبره بأن (رهام) قد انتحرت بسبب سلبه لشرفها لعله يشعر بالذنب .. ولكن هيهات !!.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا