إختفاء صاروخ 1 للكاتب نبيل فاروق

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-04-03

روايات مصرية للجيب

سلسلة روايات ملف المستقبل

(2)

اختفاء صاروخ

 

1. الصاروخ..

اندفعت السيارة الصاروخية الصغيرة التي يقودها النقيب (نور)، فوق الطريق الممهد الذي يمتد عبر الصحراء المترامية الأطراف على الجانب الغربي من النيل، المواجه لمدينة الأقصر، واجتازت معبد حتشبسوت، بسرعتها البالغة خمسمائة كيلومتر. في الساعة الواحدة.. كان قائدها يقودها بمهارة وحنكة بالغتين، برغم أن أفكاره كانت تدور حول لقائه في الليلة الماضية مع القائد الأعلى للإدارة العامة للمخابرات العلمية.. ألقى النقيب (نور) نظرة عابرة على وادي الملوك، وهو يسترجع الحوار الذي دار بينه وبين القائد الأعلى، عندما سأله هذا الأخير:

- هل تؤمن بلعنة الفراعنة أيها النقيب؟

اندهش (نور) من غرابة السؤال، ولكنه أجاب:

- لا أؤمن بها بالطبع يا سيدي.. وهل هناك من لا يزال يؤمن بهذه الخرافة في القرن الحادي والعشرين؟

ابتسم القائد الأعلى، وقال:

- كثيرون أيها النقيب، أكثر مما يمكن أن تتصور..

ثم توقف القائد الأعلى قليلا ليضغط على بعض أزرار أمامه، وقال وهو يشير إلى الشاشة التليفزيونية المعلقة على الحائط:

- انظر إلى هذه الصورة أيها النقيب.. إنها صورة أول صاروخ عربي معد للانطلاق من خارج حدود هذه الحجرة التي نعيش فيها.. ولأول مرة يستخدم علماؤنا الوقود الأمينى، الذي يصل بسرعة الصاروخ إلى تسعة أعشار سرعة الضوء، وهي أعلى سرعة يمكن الوصول إليها..

وتبدلت الصورة على الشاشة، إثر ضغطه صغيرة من القائد الأعلى على زر أخضر أمامه، وقال:

- أما هذه الصورة فهي تمثل القاعدة الفضائية السرية التي أنشئت في الصحراء الغربية، على بعد خمسمائة كيلو متر غرب مدينة الأقصر.. وقد تم اختيار العاملين بها بدقة بالغة، كما أن إجراءات الأمن من الدقة بحيث أن الرمال نفسها لا يمكنها دخول هذه القاعدة بدون علم رجال الأمن بها..

أطفأ القائد الأعلى الشاشة، والتفت إلى (نور) وقال باسما:

- أعتقد أنك مشوق جدا لمعرفة السبب الذي دعوتك من أجله، وعلاقة ذلك بلعنة الفراعنة؟

أجاب (نور) باحترام:

- تمام يا سيدي.

اعتدل القائد الأعلى في مقعده، وقال ﻟ (نور):

- منذ نجاحك الباهر في قضية (أشعة الموت)، علمت أنك الرجل الذي نحتاج إليه تماما في القضايا البالغة الغموض.

مال القائد الأعلى إلى الأمام، ثم قال:

- لقد كان موعد إطلاق الصاروخ العربي (الفاتح رقم 1) هو أمس الأول.. ولسبب غامض أصاب الارتباك جميع الأجهزة في القاعدة الفضائية، مما أخرج الصاروخ عن مساره، فسقط قبل أن يعبر الغلاف الجوي لكوكب الأرض، على بعد مائتين من الكيلومترات جنوب القاعدة.. وبرغم أن فرقة المراقبة قد حددت موقعة بالضبط، إلا أنهم عند وصولهم إلى الموقع لم يجدوا أي أثر للصاروخ..

اتسعت حدقتا (نور) دهشة، ولكنه لم ينبس بكلمة واحدة، واستمر القائد الأعلى يقول:

- كان الوقود الأمينى هو العنصر الوحيد السري في الصاروخ، ولكن البحث عن الصاروخ الضائع لم يمنع من صنع صاروخ آخر.. أنت تعلم أن التكنولوجيا المتقدمة في هذا العصر جعلت بناء الصاروخ عملا لا يحتاج لأكثر من عشرين ساعة، ثم إن إطلاق الصاروخ كان يجب أن يتم بسرعة؛ لأن هذا الأمر يرتبط بحركة كوكب الأرض حول الشمس.. المهم أن إطلاق الصاروخ الجديد (الفاتح رقم 2) سيتم بعد غد، ولقد اتخذت إجراءات أمن مشددة في القاعدة، وسأكلفك مهمة مزدوجة: أولا: عليك بمراقبة إطلاق الصاروخ (الفاتح رقم 2)، خشية حدوث ارتباك مماثل. ثانيا: البحث عن الصاروخ (الفاتح رقم 1) وتدميره.. هل تعتقد أنك تستطيع القيام بهذه المهمة؟

أجاب (نور) بثقة:

- تمام الاعتقاد يا سيدي.. ولكن؟

اعتدل القائد الأعلى، وقال:

- ولكن ماذا أيها النقيب؟

تردد (نور) برهة، ثم سأل القائد الأعلى:

- ولكن ما علاقة ذلك بلعنة الفراعنة يا سيدي؟

ابتسم القائد الأعلى، وقال:

- لقد أوحى ذلك الخلل الغامض في أجهزة القاعدة، والاختفاء العجيب للصاروخ لبعض العاملين.

بإطلاق شائعة تقول: إن ذلك كله قد يحدث بسبب لعنة الفراعنة.. ساعد على هذا الاعتقاد وجود القاعدة بالقرب من المعابد الفرعونية غرب الأقصر.

ابتسم (نور) ولم يعلق...

ضغط النقيب (نور) على فرامل السيارة الصاروخية، فهبطت سرعتها على الفور عندما أفاق من ذكرياته، حال رؤيته للافتة تحذر القادمين من الاستمرار أو السرعة، لوجود منطقة عسكرية.. وسرعان ما اقترب من بوابة ضخمة يقف أمامها خمسة جنود، يحمل كل منهم بندقية الليزر الفتاكة.. توقف (نور) أمام البوابة، ثم هبط من السيارة، وتقدم نحو أكبرهم رتبة، وقدم نفسه إليه قائلا:

- النقيب (نور الدين محمود) من المخابرات العلمية.

أدى الرجل التحية العسكرية، ثم قال:

- عندنا أوامر بإدخالك يا سيدي، ولكن هل تسمح لنا بالتأكد من شخصيتك؟

أومأ (نور) إليه علامة الإيجاب، واصطحبه الرجل إلى غرفة صغيرة بجوار البوابة.. كانت الغرفة عارية إلا من قطعة من البلور النقي، مثبتة في وضع أفقي على الحائط، وشاشة صغيرة زرقاء اللون، مثبتة في وضع رأسي فوقها.. كان (نور) يعرف الإجراءات المتبعة، فوضع راحتيه على لوح البلور، وانتظر مدة ثلاثين ثانية، ثم انبعث أزيز في الغرفة وأضاءت الشاشة الزرقاء بكلمات محددة: اسم (نور) بالكامل، ورتبته وصورتين، إحداهما لوجهه والأخرى لجانبه.. رفع (نور) كفيه، وقال الحارس وهو يؤدي التحية العسكرية:

- يكنك الدخول الآن يا سيدي.. شكرا لتعاونك.

انطلق (نور) بسيارته الصاروخية عبر البوابة، وهو يفكر فيما عساه أن يجد القاعدة الفضائية الضخمة.

***

 

2. الاختفاء الغامض..

كان الصاروخ الضخم يقف شامخا وسط قاعدة الإطلاق، وقد انهمك عدد كبير من العمال في إعداد اللمسات الأخيرة قبل إطلاقه.. وفي شرفة بعيدة وقف النقيب (نور) بجوار العالم المصري الدكتور (سامي سالم) مدير القاعدة الفضائية يتابعان العمل، وكان الدكتور (سامي) هو أول من تحدث فقال:

- بعد أقل من نصف ساعة سينطلق هذا الصاروخ أيها النقيب.. ولقد راجعت بنفسي كل الخطوات والأجهزة..

ثم التفت إلى (نور) وقال بضيق:

- لست أدرى ما الذي دفعهم إلى إرسال رجل شرطة مثلك، ليتابع إطلاق الصاروخ؟. إن الدنيا أعظم العلماء في مصر، بل في الشرق الأوسط بأكمله.

تنحنح (نور) مرتبكا، ثم أجاب:

- أسف إذا كنت سببت لك بعض الضيق يا سيدي، ولكن الأمر لا يقتصر على المعرفة العلمية فقط، ربما كان يحتاج إلى بعض الخبرة البوليسية.

ظهرت ابتسامة ساخرة على وجه الدكتور (سامي)، وقال:

- هكذا.. هل تعتقد أيها النقيب أنك ستتوصل إلى سبب ارتباك الأجهزة واختفاء الصاروخ (الفاتح رقم 1)؟.. هل تعتقد أنك أكثر كفاءة من علماءنا؟

بادله (نور) الابتسامة الساخرة، وأجاب متعمدا إغاظته:

- ربما .. ما المانع؟

قطب الدكتور (سامي) حاجبيه، ثم أدار رأسه ليواجه الحاجز الزجاجي، وصمت تماما وهو يتابع ابتعاد العمال عن قاعدة إطلاق الصاروخ الضخم.. وابتسم (نور) في قراره نفسه، ثم تنبه إلى بدء العد التنازلي للإطلاق.. توترت أعصاب (نور) وهو يتابع العد.. كان يسأل نفسه:

- هل سيتم إطلاق الصاروخ بنجاح هذه المرة؟..

لو تكرر هذا الأمر ستكون أمامه مغامرة شاقة..

وشاهد دخانا كثيفا يملأ قاعدة الإطلاق.. كان الصاروخ الضخم يستعد للانطلاق في أغوار الفضاء..

وقد اقترب العد التنازلي من الصفر.. وازداد توتر (نور) مع اقتراب الإطلاق، حتى وصل إلى مسامعه الرقم صفر، وانبعثت نيران قوية من أسفل الصاروخ، الذي ارتعد للحظات، ثم أخذ يرتفع ببطء أولا، ثم زادت سرعته شيئا فشيئا.. ظهر شبح ابتسامة نصر على وجه الدكتور (سامي)، وقبل أن يطلق (نور) زفرة ارتياح امتلأ المكان كله بأزيز قوى يصم الآذان.. واتسعت عينا الدكتور (سامي) بدهشة، ثم اندفع إلى الشاشات العديدة التي تملأ الردهة الواسعة خلفهما.. أسرع (نور) خلفه، وسرعان ما توقف مذهولا.. الآلات كلها تصرخ والشاشات كلها بيضاء، وكأن مسا من الجنون أصابها..

أسرع (نور) بالنظر إلى ساعة يده الذرية، ولاحظ أنها أيضا بيضاء.. إذن فهناك شيء ما.. قوة ما تصيب كل الآلات في هذه المنطقة بالشلل..

كان الدكتور (سامي) يجري هنا وهناك، محاولا إنقاذ الموقف، عندما توقف الأزيز فجأة، وعادت جميع الأجهزة للعمل بصورة طبيعية.. أسرع الفنيون للعمل، وشاهد (نور) علامات الدهشة على الوجوه، واستنتج الأمر قبل أن يقول له الدكتور (سامي) بأسى:

- لقد اختفى الصاروخ.. تبخر.. لم نستطع العثور على أي أثر له.

وقبل أن ينطق (نور) بكلمة صاح أحد الفنيين:

- رسالة من فريق المراقبة.. لقد سقط الصاروخ.. تماما كما حدث في المرة الأولى، ولكن هذه المرة على بعد مائتين من الكيلومترات غرب القاعدة.. معنا الإحداثيات بدقة.

وما هي إلا دقائق حتى كان فريق البحث بقيادة النقيب (نور)، يشق الصحراء بالسيارات الصاروخية، نحو موقع سقوط الصاروخ (الفاتح رقم 2).. ولكن عند وصول الفريق إلى الإحداثيات، لم يكن هناك أثر للصاروخ.. وبرغم قيام الفريق بمسح شامل للمنطقة، شعر (نور) بالاختناق.. كيف يمكن أن يختفي صاروخ بهذه الضخامة دون أثر؟

وفي طريق العودة، كانت المرارة تملأ قلبه عندما قال له أحد الرجال:

- أصدقك القول يا سيدي.. لقد بدأت أومن بلعنة الفراعنة.. أعتقد أن هذه اللغز يحتاج إلى عالم بالآثار.

صمت (نور) مفكرا، ثم قال بصوت خافت:

- بل يحتاج إلى فريق للبحث..

التفت إليه الرجل متعجبا عندما استطرد (نور):

فريق من نوع خاص

***

 

3. اجتماع الفريق..

مرقت السيارة الصاروخية الفاخرة بجوار معبد الملكة الفرعونية حتشبسوت، وخفف قائدها من سرعتها، وقال محدثا الراكب إلى جواره:

- كم أسعدني الخطاب الذي تلقيته من النقيب (نور)، يدعونا فيه لمشاركته مرة ثانية.

التفت إليه الراكب- الذي لم يكن سوى (محمود) المهندس الشاب خبير الأشعة- وقال مبتسما:

- أرى أن الأعمال البوليسية الغامضة قد جذبتك بعيدا عن عملك أيها الطبيب النفسي.

ضحك (رمزي) الطبيب النفسي الشاب، وقال:

- أما أنا فأرى أنها قد جذبت ثلاثتنا يا عزيزي..

ثم قال دون أن يلتفت:

- أليس كذلك أيتها الأميرة؟

ابتسمت (سلوى)- خبيرة الاتصالات والتتبع- معجبة بهذا اللقب، الذي أضفاه عليها (رمزي) ولم تجب.. وسرعان ما عبرت السيارة وادي الملوك، واقتربت من البوابة الضخمة للقاعدة الفضائية، واجتاز الثلاثة اختبارات التحقق من الشخصية، ثم عبروا البوابة إلى داخل القاعدة.. استقبلهم النقيب (نور) بالترحاب، وجلس الجميع يستعيدون ذكريات لقائهم القريب الماضي، في قضية (أشعة الموت).. ثم بدأ (نور) يفسر لهم سبب استدعائهم.. وما أن انتهى حتى خيم الصمت على الجميع، وقطعته (سلوى) بقولها:

- إن هذا يشبه في مجموعة قصص السحر.. ليس من السهل أن أصدق أن يختفي صاروخ ضخم هكذا، بدون أن يترك أثرا ينم عن سابقة وجوده.

قال (نور) مبتسما:

- كذلك أنا.. ولكن أمامنا أمر واقع.. ما رأيك يا (محمود)؟

ساد الصمت فترة، اتجهت الأنظار كلها إلى (محمود) الذي قال بعد فترة من التفكير:

- حسنا.. لو أنني فكرت في إحداث ارتباك لكل هذا العدد من الأجهزة دفعة واحدة، لاقتصر تفكيري على طريقتين فقط: أولهما: أن أحيط المنطقة كلها بمجال مغناطيسي قوى، وثانيهما: أن استخدم الموجات الصوتية عالية التردد..

رفع (رمزي) حاجبيه مندهشا وردد:

- الموجات الصوتية؟ ..

أجاب (محمود) محاولا تبسيط نظريته:

- نعم.. أنتم تعلمون أن العلاقة بين الموجات الصوتية والضوئية علاقة قوية.. ومنذ سنوات عدة أفاد العلماء من هذه الطاقة في ابتكار أجهزة الفيديو، التي تعتمد على تسجيل الصورة على هيئة شرائط ممغنطة.. تماما كما كان يحدث بالنسبة للشرائط الصوتية المسجلة.. ومنذ ذلك الوقت تطورت الأجهزة التي تعتمد على هذه العلاقة تطورا رائعا.. ولقد توصل أحد العلماء منذ حوالي خمس سنوات إلى ما كنا نسميه بالحلم، وهو ابتكار صور ضوئية عن طريق الموجات الصوتية عالية التردد..

سأله (نور) باهتمام:

- وما علاقة ذلك بارتباك الأجهزة؟

ضحك (محمود)، وقال:

- دائما تمنعني من استعراض معلوماتي أيها القائد.. حسنا.. لو أنني أرسلت موجات صوتية عالية التردد، بحيث تقترب من تردد الموجات الضوئية، فإن جميع الأجهزة التي تعتمد على إرسال أو استقبال كل من الموجات الصوتية أو الضوئية ستصاب بارتباك تام.

ساد الصمت عدة ثوان، ثم قال (نور):

- هل تعتقد أن هذا ينطبق على الساعات الذرية أيضا؟

أجاب (محمود) في الحال:

- بالطبع.. فالساعات الذرية تعتمد على التردد الإشعاعي المنتظم.

وقبل أن يتكلم أحدهم، أضاء مصباح صغير فوق باب الحجرة مطلقا أزيزا خافتا.. ابتسم (نور) والتفت إلى رفاقه قائلا:

- لدينا زائر أيها الرفاق..

ثم اتجه إلى الباب، وضغط زرا صغيرا بجواره، فانفتح الباب بهدوء، ودلف إلى الحجرة الدكتور (سامي)، الذي وقف صامتا يتأمل أفراد الفريق الصغير، ثم ابتسم ساخرا، وقال:

- إذن فهذا هو الفريق الرهيب!..

ثم التفت إلى (نور)، وقال:

- هؤلاء إذن هم العباقرة الذين أرسلت في طلبهم!! هل تعتقد أننا نقيم مركزا لتدريب الصغار.؟

تبادل الجميع النظرات، ثم قال (نور):

- لم أقدم لسيادتك بعد أفراد فريقي الصغير.. أقدم لكم أولا الدكتور (سامي)، خبير الصواريخ المصري العالمي، وقائد القاعدة الفضائية التي تتشرفون بالإقامة فيها الآن.

ساد الصمت الغرفة، وتركزت النظرات على وجه الدكتور (سامي)، الذي بدا خجلا من هذا الأسلوب المهذب الذي بادره به (نور).. وبهدوء تم تعارف الجميع، ثم قال (نور) موجها حديثه إلى الدكتور (سامي):

- معذرة يا سيدي.. ولكن صديقنا المهندس (محمود) لديه نظرية تفسر ارتباك الأجهزة.

عادت الابتسامة الساخرة إلى وجه الدكتور (سامي) وهو يقول:

- نظرية؟.. وضعها هذا الشاب؟ ..

ثم التفت إلى (محمود)، وقال بلهجة ساخرة:

- حسنا أيها العبقري الصغير.. هات ما عندك.

صمت (محمود) برهة، وقد بدأت علامات الغضب ترتسم على وجهه، ولكن (نور) أشار إليه إشارة خفية أن يشرح نظريته.. تنحنح (محمود) ثم بدأ يشرح النظرية بأسلوب هادئ منظم، وقد تركزت عينا (رمزي) على وجه الدكتور (سامي).. وسرعان ما اختفت الابتسامة الساخرة من على شفتيه وهو يتابع (محمود).. وما أن انتهي (محمود) من شرح فكرته حتى ساد صمت تام.. كان الدكتور (سامي) جامد الملامح شارد النظرات، ثم قال فجأة، وكأنه قد أفاق من حلم طويل:

- رائح!! هلا أخبرتني بعمرك أيها الشاب؟

كانت لهجته قد تبدلت تماما.. فلم يعد يداخلها أي نبرة ساخرة.. وقبل أن يجيبه (محمود) أشاح هو بيديه، وقال:

- لا.. لا.. ليس لهذا أية أهمية..

ثم اتجه بخطوات سريعة نحو باب الغرفة، والتفت قبل أن يغادرها إلى (محمود)، وابتسم ابتسامة مملوءة بالإعجاب، ثم أغلق الباب وراءه.. هتف (رمزي) في الحال:

- يا له من رجل رائع!!

التفت إليه الجميع في دهشة فتابع:

- إنه عالم.. عالم بحق.. إنه لم يشعر بالضيق؛ لأن شابا في عمر ابنه قد توصل إلى حل لغز عجز هو عن تفسيره، وإنما شعر بالإعجاب.. إنه عالم حقيقي.. لو أن رد فعله كان مختلفا لشعرت بالضيق منه..

ضحك (نور) وقال مداعبا (رمزي):

- يقولون في الأمثال القديمة: "يموت الزمار ويداه تعزفان".. أنت أيضا عالم يا عزيزي (رمزي)، من قمة رأسك حتى أخمص قدميك.

ثم التفت إلى (محمود) وقال:

- لقد جعلتنا نربح هذه الجولة يا (محمود).. أعتقد أن معاملة الدكتور (سامي) ستتغير تماما منذ هذه اللحظة.

ضحك الجميع، ثم عاد (محمود) يقول:

- ولكنني لن أشعر بالراحة حتى يتم التأكد من صحة نظريتي.. وإن كنت لا أعرف كيف؟

التفت (نور) إلى (سلوى) وقال:

- ما رأيك يا خبيرة الاتصالات؟

تمهلت (سلوى) قليلا، ثم قالت:

- لست أدرى في الواقع.. فكل أجهزة الرصد والتتبع ستصاب بنفس الشلل والارتباك، مع وجود هذه الترددات العالية.

صمت الجميع مفكرين، ثم اندفعت (سلوى) تقول:

- قل لي أيها القائد..

التفت إليها (نور) فتابعت:

- ألم يقم فريق المراقبة بتحديد موقع سقوط الصاروخ بدقة في المرتين؟.

أجاب (نور):

- نعم.. فالفريق يقيم في منطقة تبعد حوالي مائة كيلومتر شمال القاعدة، ومهمته متابعة انطلاق الصاروخ حتى يجتاز الغلاف الجوي لكوكب الأرض.

سألت (سلوى):

- إذن.. فأجهزة فريق المراقبة لم يصبها الشلل أو الارتباك، في الوقت الذي حدث هذا لكل أجهزة القاعدة.

صمت (نور) برهة، ثم قال:

- ملاحظة ذكية يا (سلوى)..

ثم قال بعد فترى أخرى من الصمت:

- سنقوم سويا بزيارة لفريق المراقبة غدا.

***

 

3. مركز المراقبة..

استقلت (سلوى) السيارة الصاروخية بجوار النقيب (نور)، الذي ضغط على عدة أزرار أمامه، ثم أمسك بعجلة القيادة استعدادا للانطلاق.. أحكمت (سلوى) ربط حزام الأمان حول وسطها، وانطلقت السيارة.. قال (نور) وهو يقود السيارة بمهارة:

- أعتقد أن الفضول الأنثوي بداخلك، يحتاج إلى بعض المعلومات عن المكان الذي نتجه إليه يا عزيزتي (سلوى).

ابتسمت (سلوى) وهي تومئ برأسها علامة الإيجاب، واستطرد (نور):

- المكان الذي سنتجه إليه يسمى مركز المراقبة الأرضي، وهو مبنى صغير يحتوى على عقل إليكتروني محدود، يعمل عل مراقبة انطلاق الصاروخ منذ مغادرته القاعدة، وحتى عبوره الغلاف الجوي لكوكب الأرض، ويقوم بتشغيل هذا العقل الإلكتروني رجلان فقط.. قاطعته (سلوى) بقولها:

- وتسمونهما فريق المراقبة!

ضحك (نور) وقال:

- هذه التسمية قديمة، حين كان الأمر يحتاج إلى عدد من الرجال، أما الآن ومع تطور العقول الإليكترونية، فلم يعد الأمر يحتاج إلى أكثر منهما.. المهم.. أحد هذين الرجلين وهو الأكبر رتبة ويدعى (مراد)، شاب أعسر، عملت معه إبان تخرجي من كلية الشرطة، ويمتاز بالجدية والالتزام.. والآخر رقيب حديث العمل ويدعى (خيري).. والمبنى محاط بدائرة أمن إليكترونية، سنجتازها بعد ثلاث دقائق من الآن.

قالت (سلوى) متسائلة:

قل لي أيها القائد.. لماذا لا تمم مراقبة الصاروخ بالأقمار الصناعية، وخاصة بعد التقدم الهائل في هذا المجال في العشر سنوات الأخيرة؟

قال (نور) وهو يراقب الطريق بانتباه:

- هذا التقدم بالذات هو ما يمنع استخدامها يا (سلوى).. فالقاعدة الفضائية يجب أن تحاط أعمالها بسرية بالغة؛ لأن العديد من الدول الأجنبية تعمل دائما على التجسس لمتابعة تطورنا.. ويتم ذلك بالطبع عن طريق الأقمار الصناعية المتطورة.. ولذلك كان من الضروري إحاطة القاعدة بمجال للتشويش على الأقمار الصناعية، لمنعها من التقاط الصور والمعلومات، ولو توقف هذا التشويش لجزء من الثانية لنجحت هذه الأقمار في كشف أسرار القاعدة.. ولذلك كان من الضروري عدم الاعتماد على أقمارنا الصناعية في مراقبة ومتابعة انطلاق الصاروخ، إلا بعد عبوره الغرف الجوي للأرض..

مطت (سلوى) شفتيها، وقالت:

- ولماذا لا يتم وضع تردد معين، سرى جدا بالطبع، يتيح لأقمارنا الإفلات من هذه الشوشرة..

ابتسم (نور) وقال:

- اقتراح طريف، سأقدمه باسمك للمسئولين..

استعدي، فلقد وصلنا إلى حزام الأمن الإليكتروني، وسنتوقف قليلا لتسمح لنا أجهزته بالمرور..

ضغط النقيب (نور) بقدمه على فرامل السيارة، التي انخفضت سرعتها بسرعة، وتوقفت أمام عمود من الحديد يقف وحيدا وبأعلاه ضوء باهت متحرك..

هبط (نور) من العربة، واتجه إلى العمود وهو يخرج شيئا من حزامه.. سألته (سلوى) وهو يسير:

- أين حزام الأمن هذا؟ .. لست أرى سوى عمود حديدي منفرد.

ضحك (نور) وهو يخرج كارتا صغيرا ويدسه في ثقب صغير في العمود.. اشتد الضوء بأعلى العمود، ثم عاد يخفت، وتوقف عن الحركة.. عاد (نور) إلى السيارة، ثم انطلق بها مجتازا حزام الأمن بجوار العمود..

قالت (سلوى) وهي تتأمل (نور):

- دعني أخمن.. هذا العمود جزء من سلسلة من الأعمدة، ترسل فيما بينها موجات منتظمة، تشكل حاجزا غير قابل للاختراق.. هل استنتاجي صحيح؟.

ضحك (نور) وهو يتوقف أمام المبني الصغير بمهارة، وقال باختصار

- تمام..

هبط الاثنان من السيارة، واستقبلهما الملازم ثان (مراد عبد الحق)، الذي صافحهما قائلا:

- النقيب (نور الدين محمود) والمهندسة (سلوى منصور).. عندي أوامر باستقبالكما هنا..

ابتسم النقيب (نور) وربت على كتف الملازم ثان (مراد) وهو يقول:

- مرحبا يا صديقي.. لم نلتق منذ أكثر من عام كامل.

تأمل (مراد) النقيب (نور)، ثم قال باقتضاب:

- تماما.. منذ أكثر من عام كامل.

ثم استدار إلى داخل المبنى، وهو يقول:

- المبني تحت تصرفكما.

شعر (نور) بالخجل من هذا الاستقبال الفاتر، ولكنه أفسح الطريق ﻟ (سلوى)، التي دخلت إلى المبنى، ثم تبعها واتجها إلى غرفة العقل الإليكتروني، حيث قابلا الرقيب (خيري)، الذي صافحهما بحرارة ثم وقف صامتا.. تأمل (نور) العقل الضخم، ثم قال بلهجة رسمية، موجها حديثة إلى الملازم ثان (مراد):

- كيف يتم العمل على هذا الجهاز أيها الملازم؟

اقترب (مراد) من الجهاز، ومد يمناه إلى دائرة صغيرة ولمسها، فأضاء العقل الإليكتروني.. وعاد (مراد) إلى الوراء خطوتين، وقال بلهجة مقتضية:

- إنه يعمل الآن يا سيدي.

ضغط (نور) على أسنانه ضيقا، ولكنه عاد يقول بنفس اللهجة الرسمية:

- كيف تتابع الصاروخ؟.. وكيف تستطيع تحديد موقع سقوطه بدقة؟

قال (مراد) بلهجة لا مبالية، وكأنه يشرح الأمر لأحد السياح الأثرياء:

- إننا نتابعه على هذه الشاشة الرادارية، التي تحدد زاوية انطلاق الصاروخ، وعند سقوطه تضيء هذه الشاشة الصغيرة على يمين الجهاز، وتحدد زاوية السقوط، وحين يصل إلى حالة الثبات- وهذا يعنى بالضبط استقراره على رمال الصحراء- فإن الإحداثيات يتم تحديدها بدقة من خلال عدة عمليات حسابية معقدة.

قال (نور) وقد أغاظته تلك اللهجة اللامبالية:

- وهل تعتقد أن تلك الإحداثيات يمكن أن تكون خاطئة؟

ابتسم (مراد) ابتسامة ساخرة وقال:

- ليس عندما يعمل عليه من يفهمه يا سيدي.

التفت (نور) إلى الرقيب (خيري) وسأله:

- هل حدث أي نوع من الخلل في أثناء متابعة إطلاق الصاروخ (الفاتح رقم 1) أو (الفاتح رقم 2)؟.

نظر إليه الرقيب (خيري) مندهشا وقال:

- بالطبع يا سيدي.. لقد سقط كل منهما.

قال (نور) بضيق:

- أقصد هل حدث أي خلل هنا.. في هذا الجهاز؟

تردد الرقيب (خيري) ثم قال:

- في الواقع لا أستطيع الجزم بذلك يا سيدي..

فمعرفتي بهذا الجهاز قليلة.

صاح (نور) فيه بغضب:

- قل لي أيها الرقيب.. ما عملك هنا؟

ارتبك الرجل وتلعثم، فأنقذه الملازم ثان (مراد) بأن قال:

- الأعمال الإدارية فقط..

التفت (نور) إلى (مراد) ببرود وسأله:

- حسنا.. السؤال نفسه موجه إليك.. هل من إجابة؟

ابتسم (مراد) وقال بنفس البرود:

- لا.. لم يحدث أي نوع من الخلل.

في طريق العودة كان (نور) صامتا طول الوقت.. واحترمت (سلوى) صمته، فلم تتحدث إلا حينما اقتربا من القاعدة الفضائية، فقالت بصوت خافت:

- معذرة أيها القائد.. ولكن أرجو ألا يضايقك ذلك الاستقبال الفاتر من الملازم ثان (مراد) إلى هذا الحد.

ولم يزد (نور) على قوله:

- لا يا عزيزتي.. ليس هذا في الواقع ما يشغل فكري.

ثم عاد إلى الصمت التام حتى وصلا إلى داخل القاعدة.. كان (رمزي) ينتظرهما في الحجرة المعدة للفريق، وهو يجلس أمام جهاز كمبيوتر صغير.. وحياة (نور) عند دخولهما وقال:

- مرحبا يا طبيبنا النفسي.. هل انتهيت من مراجعة التقارير النفسية لجميع العاملين بالقاعدة؟

أجاب (رمزي) وهو يتمطى:

- نعم أيها القائد.. وإنه لعمل شاق بالفعل.

سأله (نور) باهتمام.

- هل راجعت ملف الملازم ثان (مراد عبد الحق)؟

قال (رمزي):

- بالطبع.

ثم مال إلى الجهاز وضغط مجموعة أزرار متتالية، ثم أخذ يقرأ المعلومات التي ظهرت على شاشة الجهاز بصوت مسموع:

- مراد أحمد عبد الحق.. ملازم ثان، جاد في عمله، ملتزم، تقريراته كلها ممتازة، مهذب.

ضحكت (سلوى) بصوت عال، ثم قالت:

- أعتقد أن الكمبيوتر قد أخطأ في هذه العبارة الأخيرة يا (رمزي).

قاطعها (نور) وهو يحدث (رمزي) بجدية:

- والتحليل النفسي الخاص به.. ماذا يقول؟

قال (رمزي) بثقة:

- التحليل النفسي الخاص به يجزم أنه فوق الشبهات.

قطع حوارهم دخول (محمود) إلى الغرفة، سأله (نور):

- أين كنت؟

أجاب (محمود) مبتسما:

- لقد دعاني الدكتور (سامي) إلى لقاء مع علماء القاعدة، للتباحث حول النظرية التي أخبرته بها.

سأله الجميع باهتمام:

- وما هي النتائج؟

قال (محمود) بلهجة لا تخلو من التفاخر:

- وافق عليها الجميع بالطبع

***

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا