هنا يجب أن أعود بكم إلى الوراء .. إلى الماضي .. لأكشف أسرار حياتي العائلية
التي أحاول أن أتجنب الحديث عنها قدر المستطاع .. ولكن لا بد من ذلك الآن حتى تعيشون معي أجواء القصة !!.
لقد كان والدي إنسانا عاديا جدا .. إلا أنه وكما يقول إخواننا المصريون - مقطوع من شجرة- فلم يكن له في هذه الدنيا سوى والدته التي هي جدتي .. وكان موظفا عاديا في أحد الدوائر الحكومية .. ودون أن أعرف أي تفاصيل .. وقع في حب امرأة من عائلة ثرية جدا ومعروفة في (الكويت) .. هذه المرأة هي أمي .. وبادلته أمي الحب .. واستمرا في قصة حبهما هذه قرابة السنتين .. وكان هم والدي الأول هو الزواج منها .. إلا أن المشكلة التي كانت تواجههما هي المشكلة الأزلية في (الكويت) وفي دول الخليج عموما: عدم التكافؤ لأسباب طائفية أو قبلية أو مذهبية أو اجتماعية أو مالية .. إلخ .. فهناك تقسيمات كثيرة جدا بين المواطنين على الرغم من أن عدد سكان (الكويت) لم يتجاوز المليون حتى الآن .. وبالنسبة لوالدي فقد كان عدم التكافؤ واضحا جدا بينهما .. فأسرة والدتي من الأسر العريقة واسعة الثراء ومعروفة جدا في (الكويت) بل أن جدي لوالدتي –وهو ما زال حيا- يشغل مركزا هاما في البلد .. أما أسرة والدي فعلى النقيض تماما .. وكانت أسرة والدتي ترى في أبي شخصا استغلاليا يريد الوصول إلى طموحه من خلال الزواج من امرأة ثرية .. بينما كان أبي يحاول جاهدا إقناعهم بحبه لأمي وأنه لا يهتم لثروتها .. أما أمي قاتلت أهلها بشراسة واستماتة من أجل حبيبها .. حتى أنهم لم يملكوا بعدها سوى الموافقة وإن كانوا لم يبتلعوا فكرة زواجهما على الإطلاق ..
وتزوج الحبيبين .. أنتم تعرفون هذه الأمور .. يسمونه (النصيب) أحيانا .. وأنا لا أجد إسما أفضل من تخلي أسرة والدتي عن عنادها وإصرارها على الرفض ..
مرت ثماني سنوات لم يرزقهما الله بأطفال .. ومع مرور الوقت تغيرت والدتي كثيرا .. وبدأت تعامل أبي بكبرياء شديد ولسان حالها يقول: أنت لا شيء من دوني .. وفتر حبها له بصورة واضحة .. قد يكون السبب تأثير أهلها عليها .. إذ لم يتقبلوا قط زواجها من أبي ولم يكونوا ليوافقوا لولا إصرارها عليه وحبها له .. وقد رسخوا في دماغها طوال السنوات الثماني فكرة أن والدي إنسان وصولي يريد أن يصل إلى طريق الثراء من خلالها.. لذا بدأت معاملة أمي لأبي تتغير شيئا فشيئا بعد عملية غسيل المخ هذه .. وبدأت توجه لأبي إهانات كثيرة خصوصا بعد أن افتتحت له - وبناء على طلبه - شركة كبر اسمها مع مرور الوقت بجهد أبي ومساعدات أمي المالية .. وأصبحت أمي مع مرور الوقت نموذجا جيدا للزوجة التي تصنع من زوجها رجلا عظيما في عمله .. ولكن ليس بالصورة التي تتوقعونها .. فقد كانت تصنع منه ذلك عن طريق تعذيبه وإرغامه على أن يغرق همومه في العمل .. ومزيدا من العمل .. ولم تكف عن إشعار أبي بالفشل وبأنها منحته أكثر بكثير مما يستحق .. وكبرت المشاكل بينهما .. وأصبحت حياتهما لا تطاق .. فإذا تحدث والدي تثائبت والدتي .. وإذا لم يتحدث اتهمته بأنه لا يرغب في استمرار هذا الزواج !!.
وإذا كانت الأخطاء بلا عدد والقرف بلا حدود .. فإن الصبر له حدود .. والاحتمال له حدود .. لذا فقد طفح الكيل بوالدي .. ولكنه لم يقم بأي رد فعل إيجابي ..
تقول جدتي أنها كانت تسمع أبي كثيرا وهو يبكي في دورة المياه التي تحولت عنده إلى أشبه بـ(حائط مبكى) .. فعادة ما يكون البكاء هو العلاج الحاسم للمقهورين .. ويظهر أن حالة أبي النفسية أثرت كثيرا على عمله على الرغم من إخلاصه وتفانيه .. فبدأ شيئا فشيئا بإهمال الشركة .. وبدا وكأن مشاكله الأسرية قد جعلت حاسة الكسب عنده أقل رهافة .. حتى أنه خسر مبالغ هائلة في فترة قصيرة .. وتراكمت عليه الديون .. فكان الحل الأخير هو السفر إلى (أوروبا) للملمة شتاته ومحاولة الحصول على مساعدة من بعض شركاءه هناك .. ولكن يبدو أن الأمور لم تسر بالشكل المطلوب .. فبعد أسبوع من سفره .. وجد أنه سيقضي عمره في السجن بسبب تراكم الديون التي عجز عن سدادها .. وكان واثقا أن أسرة زوجته المتغطرسة لن تقف بجانبه .. لذا فقد اختار حلا رهيبا .. الانتحار !! .. فقد وجدوا ثيابه على رمال إحدى شواطئ (هولندا) .. وقال شهود عيان أنهم شاهدوا رجلا يجتاز الأمواج العاتية في جو شديد البرودة مما أثار استغراب الناس الذين تجمعوا حول الشاطئ مناجين به العودة .. إلا أن أبي اجتاز الأمواج غير عابئ بصرخات المنذرين .. واختفى بعدها تماما .. وأعيدت ثيابه إلى (الكويت) مع خطابا مكتوبا بخط يده كان في جيب بذلته وموجها إلى والدتي يقول فيه:
((اغفري لي يا (.......) .. حياتي معك أصبحت مستحيلة .. لا أملك شيئا الآن .. ولا جدوى من الحياة بعد أن خسرت كل شيء .. خسرت حبي .. وخسرت ثروتي بعد أن فاضت بي الديون)).
إنها غريزة المنتحرين الشهيرة: كل منتحر يحاول جاهدا أن يبرر نفسه للعالم .. برغم إنه فارقه باختياره إلى عالم لا يحتاج إلى هذه المبررات !! .. طبعا كان لا بد من بعض الصراخ والبكاء .. وانهارت جدتي تماما وقتها .. فقد كان أبي هو ولدها الوحيد الذي ربته على أفضل القيم .. لكنه بفعلته الشنيعة قد خذلها كثيرا .. وقامت والدتي بتسديد ديون أبي .. فهي زوجته وليتها اختارت أن تسدد له ديونه قبل أن يقدم على الانتحار .. ولكنها لم تتوقع منه شيئا كهذا .. الأمر الذي جعلها تفيق وتعرف كم كانت قاسية معه .. وما زاد القصة تعقيدا هو أن والدتي اكتشفت بعد أيام قليلة من انتحار أبي بأنها حامل بطفلها الأول !! .. الذي هو أنا .. واكتملت بعدها المأساة .. فبعد ولادتها لي بشهرين تقريبا توفيت والدتي بحادث سيارة .. وأصرت جدتي على أن تتولى تربيتي .. وكان لها ما أرادت .. فلم تكن أسرة أمي متحمسة كثيرا لتربيتي .. ولا أستغرب هذا من والدها- جدي- المتغطرس الذي لا زلت أرى صوره في الصحف بين فترة وأخرى .. فهو شخصية مرموقة جدا في (الكويت) كما أخبرتكم .. لتنتهي الأمور بهذه الصورة .. أعيش مع جدتي في منزلها ونحصل على دخل شهري من إيراد عمارة سكنية اشتراها والدي وسجلها باسم جدتي قبل تعرضه للخسارة .. وهذه العمارة هي كل ما نملك الآن بعد بيع المنزل.
قطع حبل أفكاري شيئا هاما .. فقد وجدت أوراق ومستندات رسمية تتحدث عن أسهم يمتلكها والدي في شركة أوروبية .. وفي (هولندا) على وجه التحديد .. أسهم تبلغ قيمتها ما يعادل عشرة ملايين دولار !! .. وتاريخ الأوراق يعود إلى قبل انتحار أبي بفترة بسيطة للغاية.. وما أثار حيرتي هو عدم ذكر اسم الشركة في تلك الأوراق .. وكأن المستندات ناقصة .. إن هذه الأموال كانت كفيلة بإنقاذ أبي من ديونه .. فلماذا لم يستغلها ؟! ..
لقد استوقفني الأمر كثيرا .. فهرعت لأسأل جدتي عن الأمر:
- أمي هل هناك أي أموال أو ممتلكات تركها أبي بعد وفاته؟!
ابتسمت بحزن وكأنني أعدت لها ذكرى مريرة وسألتني:
ولماذا تسأل يا بني ؟
لا شيء .. مجرد تساؤل ..
أنت تعلم يا بني أن والدك قد توفي معدما لا يملك شيئا .. وأن والدتك تولت دفع كل ديونه .. وعند وفاتها - رحمهما الله - رفض أهلها أن يتولوا رعايتك .. وأنا بالطبع لا أجرؤ أن أقاضي جدك كي أحصل منه على أي حق لك في الميراث .. فنحن أناس بسطاء ولا نستطيع مواجهة هؤلاء الجبابرة.
أعلم تماما أنها صادقة .. ولكن شيئا ما في أعماقي جعلني أخفي عنها ما قرأته عن تلك الأوراق وعن الأسهم .. حافز خفي لا أدريه جعلني أفعل هذا!! .. لا أعلم لماذا ولكني استسلمت تماما لهذا الحافز.
أكملت قراءة كل المستندات الأخرى الموجودة علني أعثر على طرف خيط يكشف لي هذا اللغز الغريب .. ولكن دون جدوى .. أين ذهب هذا المبلغ الهائل ؟؟ ..
ولمزيد من التأكد عرضت تلك الأوراق على محام وقال لي ما توقعته:
الأوراق التي لديك تقول أن والدك كان يملك أسهما في شركة هولندية وتعادل عشرة ملايين دولار بالفعل .. لا أعلم بالطبع إن كان لا زال يملك هذه الأسهم .. فالأوراق قديمة جدا وناقصة .. ولا تدلنا على مكان تلك الأسهم!!.
أكثر من ثلاث شهور وموضوع هذه المبلغ الهائل قد استحوذ على عقلي تماما .. ذهبت إلى أكثر من محام .. وجميعهم أجابوا نفس الإجابة .. وجميعهم أكدوا على أن الأوراق الأهم والتي تبين مكان تلك الأسهم غير موجودة .. ما هو اسم هذه الشركة ؟! .. ولماذا لم يستغل أبي تلك الأموال لتسديد ديونه ؟! .. ظل السؤال يؤرقني كثيرا .. فلا يمكن أن أتجاهل مبلغا كهذا .. حالتنا المادية لا بأس بها ولله الحمد .. ولكن هناك فرقا هائلا بين أن تكون حالتك المادية لا بأس بها وأن تكون ثريا !! .. ومبلغ كهذا يسيل له لعاب أي إنسان .. وقد سال لعابي لأقصى حد ..
ظللت أفكر وأفكر بأمر تلك الأوراق والمال المفقود حتى جاءتني فكرة مجنونة .. ولكني طرحتها جانبا سريعا .. فلا يمكن أن أقدم على شيء كهذا !!.
ومع مرور الأيام فقدت الأمل تماما بمعرفة مكان الأموال .. وانغمست في حياتي المملة .. حتى جاء ذلك اليوم ..
فبينما كنت أتصفح إحدى مواقع الإنترنت وجدت بالصدفة موقعا لإحدى جمعيات الوسطاء الروحانيين .. تماما كما يوجد اتحاد للسحرة .. وغيرها من الجمعيات الأخرى الغريبة*!! وقد أعاد الموقع تلك الفكرة المجنونة إلى ذهني !! .. لقد كنت أداريها .. وفجأة خرجت إلى السطح .. وصارت تلح علي بشكل غير مسبوق!! .. تريدون معرفة ما هي الفكرة ؟! .. حسنا .. لقد تلاعبت أنا بالأرواح وكنت جاهلا بالأمر .. فأصابني ما أصابني .. ولكن .. ماذا لو طلبت استشارة وسيط روحي ؟؟ .. أي شخص يفهم بمثل هذه الأمور كي أطلب منه أن يقوم بتحضير روح والدي لسؤاله عن مكان الأموال!! راقت لي هذه الفكرة بشدة .. والذي أغراني بشكل أكبر هو أنني وجدت في هذا الموقع وسيطا روحيا من )الكويت( !! .. تصورا هذا .. أعلم أن النصابين في هذا المجال لم يتركوا مكانا للصادقين – إن وجدوا أصلا- ولكن الأمر يستحق المحاولة .. إنها عشرة ملايين دولار ..
لقد كان اسمه الأول مكتوبا مع بريده الإلكتروني مع ملاحظة تقول أنه وسيط روحي يملك خبرة طويلة ولديه أبحاث ودراسات كثيرة في هذا المجال .. وسبب ممارسته لهذا النشاط الغريب أنه يريد استكشاف المجهول .. أو للمعرفة من أجل المعرفة - كما هو مذكور في الموقع - وأنا لا استغرب ذلك .. فلكل إنسان ذوقه كما تعلمون .. وهناك عبارة لاتينية شهيرة تقول: (لا مناقشة في الأذواق) .. أي أن كل واحد حر
* حقيقة
فيما يحب ويكره في الموسيقى والأدب والطعام والشراب .. والهوايات حتى وإن كانت تحضير الأرواح ..
كنت مترددا في البداية .. ولكني تذكرت المبلغ الهائل المفقود .. فحسمت أمري وتجرأت بإرسال رسالة إلكترونية إلى هذا الوسيط طالبا منه لقاءه لسؤاله بعض الأسئلة عن تحضير الأرواح ..
وما أثار استغرابي هو رده السريع !!.. فبعد يوم واحد فقط .. وجدت في صندوق بريدي الإلكتروني ردا منه يخبرني فيه برقم هاتفه الخلوي .. هكذا بكل بساطة !! .. وبكل بساطة أيضا .. اتصلت به.
كان صوته هادئا واثقا .. رحب بي وسألني عما أريده ..
فأغرقته بسيل من الأسئلة –بعد أن عرفت أن اسمه (حسن)-:
كيف وثقت بي وأعطيتني رقم هاتفك من خلال الرسائل الإلكترونية؟ ألم تفكر للحظة بأن الأمر كمينا من رجال الشرطة؟! من أنت بالضبط؟ .. وكيف عرفت ما تعرفه .. ولماذا لم تقبض عليك الشرطة .. و ..
قاطعني وهو يضحك بثقة:
تريد أن تعرف هذا كله في الهاتف.
قلت بثبات:
أريد أن أعرف ولا يهم أين ..
قبل كل شيء .. ما الذي يجعلك تتحدث عن الشرطة ؟ ..
عادة ما يقبض رجال الشرطة على من يقوم بهذه الأنشطة بتهمة النصب والاحتيال
قال بنبرة واثقة:
أنا لا أرتكب جريمة ولا أطالب بأي مبلغ مادي جراء خدماتي .. وهذا ينفي عني تهمة النصب والاحتيال .. فأنا أقوم بهذا العمل حبا فيه ولدي أبحاث ودراسات كثيرة في الاتصال بالأرواح .. أي أنني لست نصابا إن كان هذا ما تريد معرفته .. وما أمارسه بعيد تماما عن السحر والشعوذة .. ولا توجد أصلا قوانين في (الكويت) تمنع ما أفعله.
قلت له محاولا الدخول بصلب الموضوع:
إن لي تجربة اتصال مع الأرواح ولكنها انتهت نهاية شنيعة لأنني لعبت بالنار كما يقولون .. ولهذا فأنا الآن أستعين بخبير في هذه الأمور .. إن كنت حقا خبير.
قال بتواضع:
- أنا لست خبيرا .. لست سوى أحد المتعمقين في هذا العلم الذي يطلقون عليه علم (الاتصال بالأرواح) .. وقد قمت بتحضير العديد من الأرواح بالفعل .. وعلى كل حال لن ألقي عليك اللوم إن لم تصدقني .. فتحضير الأرواح كالمنجم الواسع المليء بالماس.. وقد ألقى فيه العديد من النصابين أحجار مزيفة كثيرة حتى صار من المستحيل أن تعرف الحقيقة ما لم تتأكد من كل حجر.
سألته وقد تذكرت شيئا:
اغفر لي جهلي يا سيد (حسن) .. أريد أن أعرف ما هو المقصود بالضبط بكلمة (وسيط روحي) !!.
أستطيع تشبيه الوسيط الروحاني بمكثف جهاز الراديو .. إن الراديو يصغي إلى الفضاء الأثيري .. يفتش وسط زحام الموجات الكهرومغناطيسية .. حتى يجد موجة معينة .. ويضخمها ويجعلها واضحة .. هكذا يذوب الوسيط في عالم لا اسم له حتى الآن يبحث فيه عن روح شخص ما .. ويجده بنوع من العسر .. بل ويستطيع تجسيده أمامك*.
أخبرته بعد ذلك - بين مكذبا ومصدقا - إنني أبغي سؤال روح أبي عن شيء ما ..
*هذا بالفعل ما يدعيه الوسطاء الروحيين .. ولا ننسى هنا قوله سبحانه وتعالى:
فأعطاني موعدا لزيارته في اليوم التالي.
كان السيد (حسن) رجلا كبيرا في السن على عكس ما كان يوحي به صوته .. أما شكله فكان غريب جدا .. نحيف الجسم نامي اللحية مبعثر الثياب .. وجهه مجعدا .. شعره أبيض مشعث كضبع عجوز .. وجهه اكتسب مسحة من الجمود وفي عينيه نظرة غامضة .. باختصار .. إنه يشبه إلى حد كبير المجانين أو العلماء قليلي الاستحمام والنظافة الذين لا يغادرون معاملهم أبدا والذين نراهم في السينما ..
كان مخيفا بعض الشيء .. لهذا لا يمارس جميع الناس السحر أو تحضير الأرواح .. لأن أعمال كهذه تحتاج إلى أن تكون مجنونا تقريبا .. أو أن تكون أعصابك من حديد .. شعرت لوهلة بالرغبة في نسيان كل شيء .. ولكني قررت أن أستمر في حماقتي .. يقولون للمبتدئ في القيادة : إذا أخطأت فلا تتردد .. واصل حماقتك لأن التردد قد
يؤدي إلى كارثة .. إذن فلأواصل حماقتي .. والنتيجة تستحق من أجلها أن أمارس
هذه الحماقة بالفعل .. إنها عشرة ملايين دولار ..
كانت شقته وبعكس ما تصورت خالية من الزبائن .. لأنه وكما قال لي يعتبر نفسه باحثا وليس نصابا يتخذ من تحضير الأرواح مهنة .. وكان أثاثها راقيا ينم عن ذوق
رفيع .. كنت بصراحة أتوقع مكانا تقشعر له الأبدان وتفوح منه رائحة السحر والشعوذة والبخور الذي يستعمله المشعوذين عادة .. إلا أنني لم أجد شيئا من هذا .. ولم أجد تلك الكتب الصفراء القديمة متساقطة الأوراق والحواف التي نعرفها والتي تتحدث عن السحر القديم والاتصال بالجان .. تلك الكتب التي لها رائحة شبيهة برائحة الكبريت التي اشتهرت بها كتب القرون الوسطى ..
إن هذه الأجواء المخيفة غريبة على شخص مثلي .. أنا الذي لا يخرج من المنزل سوى نادرا .. وللذهاب للسينما فقط أو للمشاوير الضرورية .. ولكن غريزة الطمع جعلتني أفعل ما أفعله الآن .. فمع الأسف لم أستطع ترويضها..
قضيت معه بعض الوقت في الحديث عن الاتصال بالأرواح .. كان يبدو لي أن السيد (حسن) يعيش وحيدا .. ولا زلت أجهل إن كانت له عائلة .. من المرجح أنه متقاعد ويعيش على راتبه التقاعدي ..
يقول:
- هناك ثغرة في هذا العالم المادي .. هذه الثغرة هي ما يتسلل إليه الروحانيون للاتصال بالموتى .. وأعتقد أن أسلوب الوسيط الروحي هو أنسب أساليب الاتصال بالأرواح في مثل حالتك هذه !!
لم أفهم ما يعنيه فطلبت منه مزيدا من التوضيح ..
أنت قمت بتحضير الأرواح –كما أخبرتني- عن طريق لوحة (أويجا) .. أما ما سأفعله فهو أن أكون أنا نفسي وسيلة تحضير روح والدك لتسأله ما شئت دون الحاجة إلى لوحة (أويجا) أو غيرها.. فالوسيط يجعل الروح والمتلقي على اتصال مباشر .. أي ستستطيع أن ترى والدك وتكلمه !!.
قلت له بشيء من الحدة الممزوجة بالدهشة:
الموتى لا يعودون أبدا يا سيد (حسن) .. لقد لقي والدي ربه منذ ما يقارب الثمانية عشر عاما .. إن كلامك هذا يمس كل الأديان السماوية بشكل مباشر!.
قال لي بهدوء وكأنه لم يهتم لحدتي:
من قال لك بأننا سنعيد ميتا إلى الحياة ؟! .. كل ما سنفعله هو الاتصال بروحه فحسب ..
قلت له بحسم:
فلنبدأ الآن إذا ..
دخلت معه إلى غرفة صغيرة خالية تماما من الأثاث سوى منضدة مستديرة .. فجلست إلى المنضدة .. وقام هو ليطفئ النور وأضاء مصباحا أحمر صغيرا كالذي استخدمته أنا مع (سعد) في تلك الليلة السوداء .. لا زلت أجهل سبب ارتباط المصباح الأحمر بجلسات تحضير الأرواح .. وفاتني أن أسأل السيد (حسن) عن هذا الأمر بعد أن رأيته يعد شريطا لجهاز التسجيل ..
نظرت له مستفهما .. فقال:
إنها تجربة تستحق التوثيق .. فأنت أول شخص أقوم بناء على طلبه بتحضير روح شخص ..
وكيف ؟ إن بريدك الألكتروني موجود في موقع تلك الجمعية على الإنترنت..
بريدي الإلكتروني حديث عمره أقل من خمس شهور .. كما أن عدد الذي يعرفون عنوان تلك الجميعة على الإنترنت محدود جدا .. لا تنس أن هناك أكثر من جمعية للوسطاء الروحانيين .. واسمي ليس مسجلا سوى في جمعية واحدة ..
قمت بهز رأسي عموديا كناية عن الفهم ..
إن ما أفعله هو لعبا بالنار .. أدرك ذلك تماما .. لكن النار لا تحرق دائما .. أحيانا نلعب بالنار وننجو !!.
بعد هذا بدأت إعدادات الـ (Séance) كما يطلق عليها السيد (حسن) .. أو جلسة تحضير الأرواح .. أما عن سبب تفضيله للاسم الغربي لها .. فهو يرى أن هذا يعطي الأمر طابعا من العلم الجاد .. فقد قال لي بحزم بعد أن نقلت له خواطري تلك:
ليس للأمر علاقة بالتغريب .. إن الإنجليزية هي لغة العلم اليوم .. واليابانيون شديدوا الاعتداد بحضاراتهم .. ومع ذلك نجدهم يسمون مخترعاتهم بأسماء إنجليزية .. لقد انشغلنا نحن في إبادة وكراهية بعضنا البعض في الوقت الذي صنعوا فيه الآلات وكتبوا المراجع العلمية بلغتهم .. لهذا صار من حقهم أن يقولوا ما يشاءون .. وعلى من يستاء أن يعمل كل هذا بنفسه .. أو يصمت ..
غمغمت بكلمات مبهمة لم أفهم أنا معناها .. وإن كنت أوافقه بالرأي في ما قاله.
غرفة مصطبغة باللون الأحمر بفعل الإضاءة .. جو خانق كريه أعاد لي ذكرى بغيضة عندما مارست تلك اللعبة المشؤومة مع صديقي (السابق) سعد.
راح السيد (حسن) يتلو بعض الآيات القرآنية .. ثم أغمض عينيه .. وراح يردد اسم أبي باستمرار – بعد أن أخبرته به- مع كلمات غير مفهومة .. أو هي مفهومة لكني لا أرغب بذكرها لكم كي لا أنقل لكم تفاصيل تلك التجربة المروعة .. وكان صوته عميقا وكأنه يأتي من جب ساحق !!.
على الرغم من التجربة التي تعرضت لها في السابق .. وعلى الرغم من أن السيد (حسن) كان يبدو لي رجلا واثقا من نفسه يعرف بحق ما يفعل ...إلا أن عقلي أبى الاعتراف بمسألة تحضير الأرواح تلك .. فمن الصعب جدا أن أتخيل أن روح والدي مجسدة تقف أمامي أسألها ما شئت من الأسئلة .. ولكن شيئا ما حدث جعلني أنتفض بقوة .. فقد تحشرج صوت السيد (حسن) بشكل واضح .. وظهر الألم على وجهه بقوة .. العرق يحتشد على جبهته على الرغم من البرودة الشديدة بفعل جهاز التكييف.. عيناه انفتحتا .. لكني لم أر حدقتيه اللتين كانتا في مكان ما أعلى محجريه .. فكان مظهره مخيفا وهو ينظر إلى سقف الغرفة بعينين بيضاوين .. واستمر الحال بهذه الصورة لأكثر من خمس دقائق حتى كاد أن يغمى عليه .. ثم توقف عن كل هذا وهو يلهث بقوة وكأنه قد بذل جهدا جبارا !! ..
قال لي وهو يلهث:
لم أر شيئا كهذا .. إن الروح تأبى أن تستجيب لي .. إنها ذائبة بالأثير إن كنت تعني ما أقول !!
هززت رأسي بلا مبالاة .. إذا هذا الأخ نصاب كبير .. لا أدري لماذا يخدع الناس إن كان لا يطلب مالا.
نهضت بعدها من مكاني بهدوء .. وأضأت الأنوار وسط استغرابه:
لم يكن هناك داع لإضاعة وقتي !!
قلتها له وكأنني أبصق بوجهه ..
يبدو إن النصابين هم أكثر الناس إيحاء بالثقة .. وإلا فكيف ينجحون في عملهم ؟!
انتبه إلى طريقة كلامي إليه .. فقال وهو مازال يلهث من شدة التعب وقد استشاط غضبا:
هل تتهمني بالكذب ؟ لماذا أضيع وقتي معك برأيك ؟
قلت له بغضب بعد أن شعرت بأنه أضاع وقتي:
يظهر إنك تعاني من عقدة النقص .. الأمر الذي يجعلك تريد جذب انتباه الناس
رد بكبرياء:
أنا إنسان متعلم ولن أضيع وقتي الثمين مع طفل مثلك محاولا إبهارك .. إنني أقوم بمساعدتك فقط لأنني أحب هذا العلم وأعشقه حتى النخاع .. وأحب أن أعيش تجارب تحضير الأرواح وأدرسها بعناية .. إن هذا يساعدني كثيرا للمضي في أبحاثي .. إن كنت ترى أنني أضيع وقتك فارحل الآن لو سمحت..
عدت أساله في عناد:
ألم تقل بأنك نادرا ما تفشل في تحضير الأرواح .. فلماذا فشلت بتحضير روح والدي بالذات ؟!
رد قائلا بعصبية:
لم يكن فشلا .. أعطني فرصة أخرى .. ولكن ليس الآن فقد بذلت مجهودا جبارا ولن أستطيع تحضير أي روح في هذه اللحظة .. تستطيع أن تزورني غدا .. فربما استطعنا تحضير روح والدك.
وقد كان إصراره هذا هو ما جعلني أثق به وأعود إليه في اليوم التالي !!..
وكما حدث في زيارتي الأولى .. كنت جالسا معه في ذات الغرفة الخالية من الأثاث سوى الطاولة المستديرة .. والإضاءة الحمراء .. وكان مصمما هذه المرة أكثر مني على تحضير روح والدي .. بدا وكأن الأمر بالنسبة له اختبارا صعبا وتحديا يريد مواجهته واجتيازه .. أما بالنسبة لي فالأمر يتعلق بالحصول على معلومات هامة جدا أكاد أن أجن لمعرفتها ..
بدأ بترديد التعاويذ ذاتها .. العرق يحتشد على جبهته مرة أخرى .. باختصار شديد: نفس تفاصيل الجلسة الأولى .. عدا شيئا واحدا .. لقد بدا وكأن السيد (حسن) يواجه صراعا شديدا هذه المرة .. تغيرت ملامحه كثيرا وبدا لي وكأنه يختنق !! .. وبدأ يرتجف بقوة .. فانكمشت على نفسي وأنا أنظر إليه بذعر .. وأصدر حشرجة مؤلمة .. وجحظت عيناه على حين غرة .. وشعرت بضباب خفيف يحيط بالغرفة .. لم يلبث أن تكاثف ببطء !!.
هل أنت خائف ؟! .. لا ألومك كثيرا .. فأنا مثلك .. هل أنت مشمئز ؟! .. بالطبع .. إن هذا الجو الملوث لا يناسب الأشخاص الحساسين مثلي ومثلك ..
كنت لحظتها أحدق بخوف وذهول بالسيد (حسن) .. ولكن فجأة استكانت ملامحه .. وبدأ ينظر إلى ناحية أخرى من الغرفة بهدوء شديد وبنظرة خاوية بنفس الوقت .. وكأنه لا ينظر إلى شيء إن كنت تفهم ما أعني.
رفعت رأسي ببطيء من موضعي لأنظر إلى الناحية التي ينظر لها السيد (حسن) .. فرأيت مشهدا لن أنساه مدى الحياة !! .. مشهدا كاد قلبي أن يتوقف بسببه بالفعل !! ..
أبي !!.
قلتها وأنا أصرخ من هول المفاجأة .. بل الصدمة ..
كان تأثير رؤيتي وجهه .. أقرب إلى تأثير المشي فوق كابل من كابلات الجهد العالي .. فقد اقشعر جلدي .. وشهقت من فرط الدهشة والانفعال وأنا أرى أبي واقفا على بعد ثلاثة أمتار مني مرتديا منامة .. كان مشهدا يفوق الوصف .. جعلني أرتجف كالكلب الذي يجفف شعره من البلل ..
مرت لحظات كأنها دهرا .. وأنا أحدق بوالدي الذي كان واقفا وقفة مهيبة مخيفة وكان بدوره يحدق بي .. أعرف كيف يبدو والدي فأنا أملك الكثير من صوره .. ولدي صورة له تم التقاطها قبل انتحاره بشهر تقريبا .. وأكاد أن أقسم أن الذي يقف هو والدي فعلا .. ولكن هناك شيئا غريبا في كل هذا .. فقد كان يبدو مختلفا نوعا ما .. نعم إن الرجل يشبه والدي إلى أقصى حد .. ولكنه يبدو مختلفا قليلا .. لم أفهم سبب ذلك .. والأغرب من هذا هو أنه كان يبدو مضطربا بشدة وبشكل واضح لسبب مجهول !!.
تحدث أبي باضطراب شديد وبصوت جمد الدم في عروقي:
ما الذي يجري ؟! ..
قالها بتوتر ملحوظ ..
ثم قال لي السيد(حسن) بصوت عميق وبنظرة خاوية - وكأنه في حالة تنويم مغناطيسي كالتي نراها في السينما -:
هذا هو والدك .. اسأله ما شئت ....
قلت متلعثما من هول الموقف .. حاولت جاهدا أن أخرج الكلمات من فمي:
أ.. أ .. أبي .. لقد قمت بتحضير روحك لأسألك سؤالا هاما ..
ثم ازدردت لعابي بصعوبة بالغة:
- أ .. أ .. أريد أن أعرف .. هـ .. هـ .. هناك مستندات تخصك وجدتها في المنزل وتدل على وجود مبلغ هائل من المال .. ولكنها ناقصة .. فهل هناك أموال أو ممتلكات تركتها لنا ؟! .. وهل تعرف مكانها ؟ ..
بدا وكأن والدي لم يسمعني .. فهو مازال واقفا ينظر إلي باضطراب شديد ولا أبالغ إن قلت بأنه كان يبدو مندهشا .. إن هذا أمرا غريبا يفوق المقاييس المادية فعلا .. ولكن .. حدث شيئا آخر أثار انتباهي .. لقد تغيرت نظرة الاضطراب التي رأيتها في عين والدي .. لتحل محلها بعد لحظات نظرة حقد وكراهية شديدة لم أجد مبررا لها !!.. لماذا يرمقني أبي بهذه النظرة ؟!.
لم يقل بعدها سوى شيئا واحدا .. وبصوت عميق كأنه يتحدث من بئر:
كم أكرهك أيها الأحمق .. عليك اللعنة .. أنت ..
ولم يكمل عبارته .. فقد تلاشت صورته .. وشهق السيد (حسن) مرة أخرى بقوة .. نظرت إليه مذعورا فوجدته يتنفس بقوة وكأنه يحاول إدخال أكبر قدر من الهواء إلى رئتيه .. وظل على هذا الحال حتى راح يسترد عافيته تدريجيا ويجفف عرقه الغزير الذي جعله يبدو وكأنه خارج من إحدى حمامات البخار !!
قال بعدها بحيرة شديدة:
لم أواجه شيئا كهذا .. لقد كدت ألقى حتفي !! .. لقد قمت بتحضير أرواح العديدين .. ولكني لم أواجه موقفا كهذا .. لقد كان هناك أمر غير مفهوم يعوق أمر هذه التجربة وكأن هناك شيئا قويا يمنعني من استمرار الاتصال الروحي .. لقد كدت ألقى حتفي بالفعل .. لن أكرر هذه التجربة أبدا مع والدك .. كان هناك شيئا يحاول استرداد والدك .. شيئا مجهولا لا أستطيع وصفه لم أتعرض له من قبل !!.
لم أرد على كلامه .. فقط استأذنته بالرحيل ..
شعور كئيب منفر يسيطر علي .. يشبه تماما من مشي صرصورا على يده وقد شعر أن يده قد تلوثت إلى الأبد !! .. كنت أظن أنه في حالة وجود خبير في هذه الأمور فإنني سأستطيع تحضير روح أبي دون مشاكل .. ولكن ظهوره وحديثه معي كان شيئا يفوق قدرتي على الاحتمال ..
ولكن - ومع هذا- طلبت من السيد (حسن) أن يقوم بتحضير روح أبي بنفسه وسؤاله ذات السؤال المتعلق بمكان الأموال .. ولكنه رفض بقوة:
آسف .. لا مجال للمناقشة في هذا الأمر .. أرجوك أن ترحل وانس أمري تماما .. لا أريد الموت .. لقد كدت أن ألقى حتفي بالفعل .. لا يمكن أن تفهم ما شعرت به .. كان شعورا رهيبا لا يوصف.. أرجوك أن ترحل الآن.
نهضت متثاقلا .. وخرجت من شقة السيد (حسن) وفي ذهني ألف سؤال وسؤال!!.
(12)
ظلت علامات الاستفهام تؤرقني حول ما حدث .. وفي نفس الليلة أحضرت ورقة وقلما لأرتب أفكاري ورحت أدون النقاط المهمة في هذه القضية كما أفعل دائما حين أكون مشتت الذهن .. أحيانا يولد التفسير على الورق .. وأحيانا يزداد الأمر تعقيدا:
لماذا بدا أبي مختلفا حين تجسّد أمامي؟ .. لا يمكن أن يكون الأمر خدعة .. فـالسيد (حسن) لم ير والدي أبدا من قبل .. حتى وإن رآه وعرف ملامحه .. فكيف يستطيع تجسيد هيئته أمامي بهذه الصورة .. أعيد السؤال الهام: لماذا بدا لي أبي مختلفا عما يبدو عليه في الصور ؟!.
لماذا كان يبدو مضطربا ؟ .. لن أنسى أبدا ملامحه المضطربة في البداية .. كان متوترا بشدة .. وهذا شيئا غريبا .. حتى أن السيد (حسن) أبدى استغرابه من الأمر عندما سألته !!.
لماذا أبدى كراهيته نحوي !! .. لم أضر والدي بشيء في حياتي .. بل أنني ولدت بعد وفاته .. ولم يكن يعلم أصلا أن أمي حامل قبل انتحاره !!.
السؤال الذي فعلت لأجله ما فعلت .. أين هي الأموال ؟!
لم أجد الإجابة على هذه الأسئلة .. وشعرت بأنني لن أجدها أصلا .. ظللت أفكر في الأمر دون جدوى .. هناك شيئا هاما ينقصني لتكتمل أركان هذا اللغز العجيب .. كنت أتصرف كـ(شيرلوك هولمز) التحري الشهير في عالم الخيال .. لكني أختلف عنه في أني لا أملك أي إجابة على أسئلتي.
بعد تلك الحادثة بيومين .. جلست أتصفح جريدة اليوم قبل الذهاب إلى المدرسة .. فوجدت بها خبرا صغيرا قرأته بسرعة ونسيت كل شيء بشأنه بعدها .. لم أظنه خبرا مهما ..
مر بعدها اليوم عاديا هادئا جدا بلا تقلبات أو مشاكل .. حياة هادئة كالنهر .. ممكن لأي إنسان أن يتنبأ كيف سيكون يومي!!.. فأيامي كلها متشابهة مملة .. أنا أعيش من أجل المستقبل ... من أجل الحلم .. من أجل أن أصبح طبيبا لامعا ..
كنت لا زلت أفكر بما حدث .. فكما ذكرت .. هناك أمر غير مفهوم بهذا اللغز .. هناك فجوة في تلك القصة .. المادة اللاصقة التي ستتخلل كل هذه الأجزاء وتجعلها كتلة واحدة متماسكة .. أفكر بذلك وأنا أتأمل جهاز الكمبيوتر حيث تسبح الأسماك الملونة على شاشته في برنامج واقي الشاشة الذي أستعمله ..
كنت أبحث عن خيط يقودني إلى حل هذا اللغز العجيب .. ثمة شيء ما غامض في كل ما يجري .. بل هو يحتاج إلى تفسير خارق للطبيعة لأن كل ما حدث لي حتى الآن كان خارقا للطبيعة .. كنت شارد الذهن أعيد التفكير في الأسئلة التي لم أجد لها أجوبة شافية:
لماذا بدا أبي مختلفا حين رأيته ؟!
لماذا قال بأنه يكرهني ؟!
لماذا كان يبدو مضطربا ؟!
أين هي الأموال ؟!
ما الذي تقودنا إليه كل هذه الأسئلة ؟! ..
عند السؤال الأخير بالذات .. تذكرت شيئا .. الخبر !! .. نهضت كالملسوع لأقرأ الخبر الذي قرأته في الجريدة هذا الصباح والذي ظننت أنه لا يهمني .. وقفت أقرأ الخبر مرة أخرى وأخرى وأنا أتساءل في حيرة .. ما الذي يعنيه هذا ؟! .. أشعر أن هناك رابطا في الأمر .. لكني لا أعرف ما هو !! الخبر يتحدث عن وفاة رجل أعمال هولندي من أصل كويتي بسكتة قلبية مفاجئة .. أعلم أن هناك رابطا بين كل هذا .. لماذا بدا أبي مختلفا حين رأيته ؟! .. لماذا قال بأنه يكرهني ؟! .. لماذا كان يبدو مضطربا ؟! .. أين هي الأموال ؟! .. هبطت الحقيقة علي ببطء شديد .. شديد جدا !! .. ثم بدأت تتجسد وتتخذ شكلا ماديا .. وشعرت ببصيلات شعري تنتصب .. وتحفزت حواسي .. هذا هو أقرب الاحتمالات إلى الدقة .. إن الأمر لا يصمد لأي تفسير منطقي آخر .. بل هذه هي الحقيقة .. حقيقة مريعة .. مريعة إلى درجة لا يمكن الحياة معها ..
يا للهول !!!!!
شهقت بقوة وأنا أقولها .. لا يمكن أن أكون فعلت هذا .. هل فهمتم ؟؟ .. إنه أمر مريع .. مريع لا يصدق !! .. لقد قمت بتحضير روح شخص حي!! .. يا إلهي .. لقد قمت بتحضير روح شخص حي !!لقد كان والدي حيا طوال هذه السنوات!! .. نعم .. فهم لم يعثروا على جثته أبدا.
وقعت على الأرض من شدة الإنفعال .. ساقاي لا تستطيعان حملي .. هذا هو التفسير المنطقي الوحيد .. جميع أسألتي الأربعة تتجه إلى حقيقة واحدة .. وهي أن والدي كان حيا حين قمنا بتحضير روحه ..
يكاد أن يغمى علي من هول الصدمة .. أحاول أن ألتقط أنفاسي اللاهثة .. ولم أنجح في هذا إلا بعد ساعة تقريبا ..
وبعد أن أفقت من الصدمة بدأت الأمور تنكشف لي شيئا فشيئا .. وبدأت أربط بين الأحداث والمعطيات التي لدي .. لقد فر أبي بعيدا عن مسؤولياته وعن دائنيه .. لقد أعد عدته منذ البداية وتزوج والدتي من أجل طموحه بالقعل .. وأخفى مبلغا من المال في (هولندا) على شكل أسهم في إحدى الشركات لينتقل بعدها إلى هناك على أمل البدء بحياة جديدة واسم جديد .. ويظهر أنه نسي بعض هذه الأوراق حيث وجدتها في الخزنة الحديدة الصغيرة ..
لقد بدأت الحقائق تظهر واحدة تلو الأخرى !! .. بدأت أفهم الأمر .. وليتني لم أفهم !! لهذا وجد السيد (حسن) -الوسيط الروحي- صعوبة بالغة في تحضير روح أبي .. لأنه كان مازال حيا .. وحين جاءت روحه بدت مضطربة لهذا السبب .. لأن والدي كان وافدا جديدا في عالم الأرواح .. الأمر الذي جعله مرتبكا مضطربا لا يعرف ما جرى له .. لقد سلبنا منه روحه لسؤالها عن مكان الأموال !! .. وقد ظن الطبيب الشرعي أن سبب وفاته المفاجأة هو سكتة قلبية مفاجأة – كما يقول الخبر في الجريدة- ويوم وفاته هو نفس اليوم الذي قمت فيه بتحضير روحه .. وماذا أيضا .. حقده علي ؟! .. لقد انتزعت منه روحه .. أي قتلته .. لهذا كان يرمقني بكراهية وحقد شديدين لم أر لهما أي مبرر في البداية .. أما مكان المال فيمكنني أن أخمن بأنه في (هولندا) .. لقد سافر إلى هناك لعقد بعض الصفقات التجارية كي ينقذ تجارته –كما كان يدعي- ولكن هذا لم يكن السبب .. السبب هو أنه أراد الهرب من والدتي وحياته في (الكويت) لحياته الجديدة التي أعد لها العدة مسبقا .. ولم يعلم أن والدتي قد توفيت بعدها بشهرين تقريبا.. من المرجح أنه لم يعلم .. قلبي يكاد أن يتوقف عن الخفقان .. ينتصب شعر رأسي مرة أخرى من هول الفكرة .. لهذا بدا لي أبي مختلفا عن الصور التي أملكها له .. لأنه قد تغير بفعل السنين !!.. لقد عاش بعد تاريخ انتحاره المزعوم ما يقارب الثمانية عشر عاما .. وعندما قمنا بسلب روحه كانت آثار السنوات قد ظهرت على ملامحه .. من الطبيعي أن تتغير ملامح الإنسان بعد ثمانية عشر عاما !!.
كان ما حدث قد شرخ إحساسي بالأمان إلى الأبد .. كنت بحاجة إلى هدية الأيام التي لا تقدر بثمن .. النسيان .. لقد لوثت هذه الحادثة عالمي إلى الأبد كنفاية ذرية ألقيت في نهر .. أشعر بأنني فقدت أثمن ما في حياتي .. بعد أن أقدمت على فعل ما لا يمكن أن تظل حياتي كما كانت قبله .. لقد كان أبي حيا طوال تلك السنين وأنا قتلته .. وقد كان - وأقولها بكل أسى - جاحدا لوالدته (جدتي) التي خدعها ولم يسأل عنها طوال السنوات الماضية .. والأسوأ من كل شيء هو أنني عبثت كثيرا في تلك الأمور المتعلقة بتحضير الأرواح .. ورحت ألهو بجهل حول الحدود الخطرة بين الحياة والموت .. مع أنني أعلم منذ البداية أن تحضير الأرواح أمر مشكوك فيه شرعا .. وهو عبث بسر مقدس لا يعلمه إلا الله .. يجب ألا نحاول شيئا كهذا .. لقد أدمن الكثيرون تجارب تحضير الأرواح –كما عرفت لاحقا- وفي معظم الأحيان كانت النتائج إما الانتحار أو الجنون أوالمس .. إن الروح من أمر ربي فما جدوى البحث عن سر نعلم تماما أن لا أحد يستطيع فك رموزه ؟! ..
ولم يكفني كل هذا .. فقد قمت بعمل أخرق أستغرب الآن كثيرا كيف أقدمت عليه .. محاولة تحضير روح أبي !! .. يا للهول .. أصاب بقشعريرة كلما أتذكر هذا .. يقولون أن هناك حوادث تقع للإنسان هي أشبه بالخدوش التي تترك على سطح لين من الأسمنت .. سرعان ما يجف فلا تمحى الخدوش أبدا .. كانت إحدى هذه الخدوش كانت فوبيا الخوف من الظلام .. الظلام الذي يذكرني دائما بالأهوال التي رأيتها في تلك الأيام الرهيبة .. هذه الفوبيا التي لا زلت أعاني منها ولم أشف منها قط.
فيما بعد شاهدت مقابلة تلفزيونية لطبيب نفسي ذكر فيها أن مريض (الخوف من الظلام) لا يستطيع عادة تذكر مناسبة معينة بدأ فيها شكواه .. لكن في حالتي هذه كان سبب خوفي من الظلام واضحا وضوحا مدرسيا يثير الانبهار ..
إن ما حصل لن يمحى من ذهني .. سواء ما فعلته مع (سعد) في اللهو بلوحة (أويجا) المشؤومة .. أو تجربة تحضير روح والدي التي أحاول أن أنساها بأن أسدل فوقها ستارا مزيفا .. ولكن هيهات.
هأنذا راقد في غرفتي على الفراش أستمع إلى موسيقى كلاسيكية هادئة .. وأقرأ مجلات ميكي .. وماجد .. لأن أعصابي لم تعد تحتمل أي شئ صارم أو جاد .. أحاول أن أنسى .. أو أتظاهر بأنني أنسى.
لقد جعلتني هذه التجربة أؤمن بأن هناك من أسرار الكون ما يحسن بالمرء أن يدعه وشأنه .. وأن القناعة بالفعل كنز لا يفنى .. حكمة رائعة لكن كثرة تكرارها وتداولها بين الناس جعلها كالأغنية التي سمعتها ألف مرة حتى أصبحت سخيفة بعد أن كنت تحبها .. لم تعد تهمني أمر تلك الأموال وإلى من ستؤول إليه .. ربما كان أبي متزوجا في (هولندا) وسيرث أبناءه ما لديه .. نعم .. فربما لدي أخوة في (هولندا) ولكن هذا لم يعد يهمني كثيرا ..
لقد تعلمت من كل ما حدث أن المسخ الذي يثير الرعب في نفسي حقا هو أنا !!.. أنا الذي لا أعرفه .. والذي يفعل أشياء ويقول كلمات لا يمكن أن أصدق أنني أفعلها أو أقولها .. أنا من مارس لعبة (أويجا) الملعونة .. أنا من طالب بتحضير روح أبي !! .. نعم .. أكثر مسخ يجب أن نخافه هو أنفسنا.
سيكون علي أن أعالج نفسي عند إنسان متخصص.. سيكون علي أن أحاول النسيان حتى أستطيع النوم من جديد .. كل هذا ممكن .. أحتاج إلى وقت .. لكنه ممكن .. كم من ليلة سوداء قضيتها أستعيد ما حدث وأحلله .. أسئلة كثيرة بلا إجابة .. ولا أرجو لها إجابة .. كل ما أعرفه هو أنني لن أخرج من غرفتي عندما يأتي الليل .. شعرات عديدة شابت في رأسي على الرغم من صغر سني .. آيات قرآنية علقتها في كل مكان في غرفتي .. كنت بحاجة إلى هدية الأيام التي لا تقدر بثمن: النسيان .. والواقع أنني بذلت جهودا كونية لدفن هذه الذكرى المريرة في أعماق ذاكرتي كي لا تعود وتنغص حياتي.
أعتقد أنها قصة مرعبة حقا .. وإن كنتم توافقوني في هذا الرأي فأقول أنكم محظوظون حقا .. فأنتم اقشعررتم من مجرد كلمات .. أما أنا فقد عشت الموقف وجها لوجه .. وسيظل يطاردني حتى أموت .. ولا أخال القارئ يقدر على قول أن القصة خالية من الرعب .. على الأقل لن يقولها بضمير مستريح تماما .. إن هذه القصة لتترك غصة في الحلق بسبب أحداثها الكئيبة .. تجعلك غير مستريح تماما وتشعر بعدم الأمان .. هذا هو شعوري بالضبط.
لقد مرت فترة طويلة على تلك الأحداث الرهيبة .. لكني حتى هذه اللحظة أشعر بالخوف من الظلام كما أخبرتكم من قبل .. أشعر بالخوف وأنا وحدي في غرفتي على الرغم من الإضاءة التي تكشف لي كل ركن .. أؤمن أن كل هذه وساوس لكن ليس الأمر بيدي .. فلا أستطيع التحكم أبدا في تلك الرجفة التي تسيطر على جسدي .. تلك القشعريرة !!.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا