الأبعاد المجهولة الجزء الأول 2 للكاتب عبدالوهاب السيد الرفاعي

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-04-02

نهضت من الفراش محاولا أن أفعل شيئا لقتل الوقت .. فقضيت بضع ساعات أستخدم شبكة المعلومات (الإنترنت) وأشاهد محطة الأفلام الأجنبية .. أفعل كل هذا وذهني مشغول تماما .. أفكر بما حدث لي في الأمس بقلق وتوتر .. وقد زارني (سعد) بعد الظهر ليأخذ لعبته .. ولم أنس أن أكذب عليه كذبتي الصغيرة .. فقد أخبرته أنني لن أستطيع قضاء أي وقت معه في الأيام القادمة لارتباطي ببعض  الالتزامات العائلية التي ظهرت على السطح فجأة .. كنت مضطرا للكذب .. لقد اشتقت كثيرا للوحدة .. ولا أريد صديقا لحوحا يتصل بي يوميا.
سارت بعدها الأمور بشكل عادي جدا .. إلى أن بدأت أخيرا أشعر بالنعاس في العاشرة والنصف مساء .. فأنا لم أذق طعم النوم منذ استيقاظي الإجباري المبكر جدا .. حيث أصابني أرق شديد بعد الصوت الذي سمعته قرب باب غرفتي ..
ذهبت إلى فراشي وغبت عن الكون .. و .. كيف عرفتم أن هذا سيحدث ؟! .. هذا ما حدث فعلا .. اسيتقظت بعد ساعتين تقريبا لأجد التيار الكهربائي مقطوعا مرة أخرى!! .. لا يمكن أن تتكرر الصدفة بهذه الصورة .. والمصيبة أن الذي أيقظني هذه المرة ذلك الصوت نفسه الذي يوحي وكان أحد يصطدم بالباب بإصرار هاديء مريب !! .. لا أدري لماذا شعرت هذه المرة بأن الأمر يتجاوز الماديات .. العرق بدأ ينحدر على جبيني .. والصراع في روحي قد بلغ الذروة بلحظات .. قلبي يخفق كالطبل .. ودمي يفور .. 
وهنا قررت أن أفعل أحمق شيء قد تتصورونه .. نهضت من فراشي لأرى ذلك الشخص أو (الشيء) الذي يصطدم بالباب !! لم تكن هذه شجاعة مني كما قد يتصور البعض .. بل هو فضول .. فضول غبي .. وما أن اتخذت هذا القرار حتى بدأت أشعر بيدي وكأن وزنها قد ازداد كثيرا فبدت وكأنني عاجزا عن رفعها بسبب وزنها الثقيل .. تحركي يا يدي .. ولكن صوتا في أعماقي كان يصرخ بي: لا تفعل !! .. بالله لا تفعل !! حاستي السادسة تصرخ مهيبة بي أن أتراجع .. يدي تتردد ثم تتقدم .. وأخيرا أعالج قفل باب الغرفة .. الصوت في أعماقي يتعالى ويصرخ بجنون: بالله عليك !‍‍‌‍‍‍‍! .. كف عن هذا اللعب بالنار ‍.. فيجيب صوت العقل في رأسي: ولكن ماذا لو تكرر الأمر غدا وبعد غد ؟! .. يجب أن أعرف مصدر هذا الصوت !! 
وكما تتوقعون فإن الشعر على ساعدي قد انتصب من شدة الرعب .. تماما كما يحدث لفراء القطة حين تدلكه حتى تملأه الكهرباء الاستاتيكية .. 
ولكن .. عندما خرجت من الغرفة  لم أجد شيئا إطلاقا !! .. هذا غريب .. كان هناك نور بسيط في الصالة بسبب الشباك الكبير الذي تسلل إليه نور مصباح الشارع .. تشجعت قليلا وقررت النزول إلى الطابق الأرضي لأحضر بعض الشموع إلى غرفتي لإنارة المكان بدلا من هذا الظلام المخيف .. فقد نسيت أن أفعل هذا في الصباح .. كيف كان لي أن أعرف أن التيار الكهربائي سينقطع مرة ثانية ؟ .. سأتصل في الصباح بطواريء الكهرباء ليجدوا حلا لما يحدث هنا .. 
شعور غريب ينتابني بأنني مراقب .. متى يشعر الإنسان أنه مراقب ؟ .. إنه ذلك الشعور الخفي الذي نطلق عليه أحيانا اسم: الحاسة السادسة .. الحذر والتوتر يحرق أطراف أصابعي حرقا.. ولو أن عصفورا غرد لوثبت مترين في الهواء .. 
ثم حدث شيئا كاد أن يصيبني بسكتة قلبية .. ففي طريقي إلى الدرج للنزول إلى الدور الأرضي .. لمحت خيالا في صالة المنزل .. فوثبت للوراء –برد فعل غريزي- لأرى القادم .. صحيح أن الرؤية غير واضحة بفعل الظلام .. لكني استطعت أن أرى .. لقد كان هذا خيال امرأة !! .. امرأة عجوز بيضاء الشعر.. هل أنا أخرف بفعل توتري والظلام الذي يخيم على المكان ؟! .. لا .. أنا لا أخرف ولا أتخيل شيئا .. إنني أرى امرأة عجوز بيضاء الشعر طويلة مسربلة بثوب أسود طويل تجوب صالة المنزل بهدوء مثير شديد وبخفة متناهية بحركة انسيابية رشيقة لا تصدر من عجوز .. بل لا تصدر من إنسان أصلا !! .. لا يوجد أي نوع من الانبعاج تحت ثوبها يوحي بحركة القدمين .. وكأنها لا تمشي .. لكنها تمشي إن فهمتم ما أعنيه !! كانت تهيم في الصالة دون هدى وكأن عقلها في عالم آخر .. أحسست بعمودي الفقري يتجمد .. وقلبي يكاد يثب في حلقي .. لم تكن المرأة تبدو وكأنها انتبهت لوجودي .. تنحنحت لأبدأ الكلام .. فقد انحشرت الحروف في حلقي .. 
قلت بصعوبة وأنا أرتجف وأسناني تصطك: 
- مـ .. مـ.. مـ .. ماذا تـ.. تفعلين هنا أيتها المرأ....!!.
لم أكمل عبارتي .. فقد التفتت لي .. ورأيت وجهها !!.. وكدت أن أصاب بالشلل من هول ما رأيت .. إذ لم أتخيل قط وجها مريعا كهذا .. أرجو أن تعفوني من وصف وجهها الذي سيظل يؤرق أحلامي ما حييت !!.. لقد كان وجها بشعا رهيبا لو وصفته لكم لحرمتم من النوم لفترة طويلة .. يكفي أن تعلموا أنه لم يكن في وجهها ما يمت  بصلة لوجوه البشر .. وقبل أن أفهم أنا نفسي ما يحدث .. صرخت وصرخت حتى وثبت عيناي من محجريهما .. فالذعر الذي غمرني كان أعمق من أي تعقل .. ثم أطلقت ساقي للريح .. جريت كما لم أجر في حياتي .. نزلت مسرعا إلى الدور الأرضي وكأن كل شياطين العالم تطاردني .. الردهة .. الظلام الدامس جعلني أصطدم مئات المرات بأشياء مجهولة .. اصطدمت ساقي بقطعة أثاث حتى كادت أن تتحطم قصبتها .. وسقطت .. ونهضت وأنا أشهق وقلبي يتواثب كالحصان  .. أتعثر مرة أخرى بأثاث المنزل .. وأنهض .. وأتعثر .. وتفكيري كله قد تبدد .. هرعت إلى باب المنزل .. يا للهول .. إن الباب موصد والمفتاح في غرفتي .. لقد أصابني هلع أفقدني كل قدرة على التركيز المنطقي .. لكن ما جدوى التفكير المنطقي في ظروف كهذه ؟!.. رعب وحشي دفعني إلى أن أهشم قبضتي على الباب تهشيما .. أصرخ وأصرخ .. و .. فقدت الوعي !!. 
صحوت بعد فترة بدت لي قصيرة والظمأ يحرق حلقي .. ومن جديد أدرك أنني هنا بالقرب من باب الخروج وأن الرعب يقتلني .. وليته يقتلني فعليا ليريحني .. كانت واحدة من أشنع لحظات حياتي  .. ولو أن أحدكم يعرف علاجا يساعدني على نسيان الذكريات المريرة فليساعدني به !!. 
وقفت مشدوها مصدوما ملتصقا بالباب .. يالي من أحمق !! .. لماذا تركت مفتاح المنزل في غرفتي ؟؟ .. لا أدري ما أفعل .. حتى لو ركلت الباب ركلا وملأت الدنيا صراخا فلا أعتقد أن أحدا من الجيران سينتبه إلا بعد ساعات أكون خلالها قد مت ألف مرة .. إنني  أرتجف وقد فقدت تماما التحكم في ساقي التي راحت تهتز بقوة من شدة الخوف .. 
وبينما كنت غارقا في هذا الجو المرعب وملصقا ظهري بباب الخروج عاجزا عن اتخاذ أي رد فعل .. رأيت شيئا آخر جعلني أصاب بشلل لحظي !! .. خيال رجل جالس في ركن الصالة ‍‍!! .. لم أكن قادرا على رؤية الوجه الغارق في الظلال .. كان وجهه خارج دائرة الضوء لحسن الحظ .. والواقع أن هذا قد أخافني أكثر بكثير مما لو كنت أراه بوضوح .. لأن الخيال مخيف أكثر من الواقع بمراحل .. لكني - على الأقل - فهمت تلقائيا أن الأمر يتجاوز حدود الماديات بالفعل .. وأنه يتعلق بشئ ما .. شئ من وراء الطبيعة .. شئ هو أكثر غموضا من مجرد لص في المنزل .. اتخذت قراري .. فقد تذكرت بأنني لم أشاهد شيء في غرفتي .. فلأعد إليها .. لا أدري لماذا لم يظهر لي شيئا في غرفتي .. ولكن هذا لا يهم الآن .. بدت لي وكأنها أكثر أمنا من أي مكان آخر في المنزل .. هرعت راكضا إلى غرفتي وفؤادي لا يكف عن الوثب .. لا يكف عن الخفقان بقوة.. لم أنتبه إلى وجود المرأة العجوز أو أي أحد آخر .. دخلت إلى غرفتي وأقفلت الباب .. ودسست نفسي تحت الغطاء وأنا ألهث بقوة من هول الموقف.. وسمعت بعد لحظات قليلة صوتا جمد الدم في عروقي .. صراخ طويل شنيع منبعث في الدور الأرضي وكأنه قادم من أعماق الجحيم .. كاد قلبي أن يتوقف عن الخفقان .. حتى الإنسان الذي يلتهمه ذئب في تلذذ لا يجد ضرورة قوية لأن ينهك حنجرته بمثل هذه الصرخة .. لا يوجد في الكون كله حافز يدفعك لأن تصرخ بهذا الشكل .. 
بدأت بقراءة آية الكرسي .. شاعرا بخوف لا حدود له من تخيل – مجرد تخيل- شكل ذلك الشيء الذي يصرخ .. المصيبة أن هذا لم يكن كل شيء .. فهناك صوت آخر قوي متحشرج مصحوب بنحيب مخيف وكأنه لإنسان يتألم .. والمصيبة أن الصوت هذه المرة كان في غرفتي وعلى بعد مسافة قصيرة جدا من فراشي ‍‍!!..
لا يمكن أن تصدقوا مدى الرعب الذي شعرت به في هذه الليلة .. مندسا تحت اللحاف متكورا كهر رضيع .. وأنا أبكي وأرتجف بقوة .. حتى لساني عجز عن ترديد أية آية قرآنية .. لقد كان إيماني ضعيفا للأسف .. ولا أعتقد بأنكم تلوموني – أو هذا ما أتمناه على الأقل – فلا يتعرض الإنسان لمثل هذه المواقف كل يوم. 
ظللت في فراشي متكورا أحاول ترديد كل ما أعرفه من آيات قرآنية في سري .. فحتى صوتي بدا لي مخيفا .. تخيلوا أنني ظللت هكذا لأكثر من ثلاث ساعات قبل حتى شعرت بنور الشمس الحبيب يدخل غرفتي على استحياء .. عندها فقط جرؤت على الخروج من تحت اللحاف .. وبالطبع ارتديت ثيابي بأقل من دقيقة لم أرى خلالها أو أسمع أي شيء غير عادي .. ولم أنس هذه المرة مفتاح باب المنزل .. لأهرع بعدها إلى الخارج حيث الفجر والصحبة الآدمية التي بدت لي وكأنها أروع شيء في الكون.

 لا أدري أين أذهب .. فلا يوجد لي أي أصدقاء في هذا العالم .. كم شعرت بمرارة .. هل أنا وحيد بالفعل إلى هذه الدرجة ؟ .. لا يوجد لي أقارب ولا أصدقاء .. فأنا دائما ما أكون سمجا قليل الكلام معدوم الدعابة بطيئا في ردود الأفعال .. مما جعلني جديرا بهذا السجن الانفرادي .. ولم أجد في المدرسة قط من يشاركني بهذا السجن 
الذي اخترته لنفسي .. سأطلب من جدتي حين تعود ألا تتركني أبدا مرة أخرى ..
لكن المصيبة أنها لن تعود من السفر قبل أسبوع من الآن ..
رحت أجوب الطرقات دون هدى .. لا أعرف أين أذهب .. إلا أنني في النهاية اعتزمت الذهاب إلى أحد المقاهي لتناول الغداء على الأقل ومن ثم الجلوس والتفكير لما حدث لي في الأمس .. قمت بإيقاف سيارة أجرة – لحسن الحظ وجدت واحدة فسيارات الأجرة في (الكويت) قليلة- وذهبت إلى أحد المقاهي التي تزخر بها منطقة (السالمية) .. وجلست .. هذا هو كل ما أصبو إليه .. دفء الصحبة الآدمية وأنفاس شخص أعرف يقينا بأنه ليس جنيا ولا شيطانا ولا مسخا .. صحيح أن كثير من الشباب يبدون كهذا كله .. لكنهم بالتأكيد أهون بكثير من الأهوال التي رأيتها .. وهناك جلست لتناول وجبة الغداء وذهني مشغول تماما .. 
كان المقهى عامرا بالزبائن وأغلبهم من الشباب .. ولم يفتني بالطبع أن أنظر إلى حالهم المزري .. يجلسون ويشربون النارجيلة أو ما نطلق عليها في (الكويت): الشيشة .. ويتبادلون السباب والبصاق والصراخ .. إن أغلبهم ضائع تماما .. كيف تتناسى الدولة أمر هؤلاء الشباب .. وتكتفي فقط بذكر الاسطوانة المشروخة التي مللنا سماعها: الشباب هم رجال المستقبل ؟!.. هذا المستقبل الذي لا يأتي أبدا .. بل - وعلى العكس - أصبحنا نخشاه ولا نتمنى قدومه .. أذكر أنني قرأت مرة أن جهاز الإحصاء في (مصر) قد أعلن منذ سنوات قليلة أن متوسط ساعات العمل اليومي للموظف المصري ربع ساعة يوميا !! .. تصور أن تعمل ربع ساعة وترتاح ثلاث وعشرون ساعة .. حسنا .. لا أعتقد أن الوضع عندنا في 
(الكويت) يختلف كثيرا عنهم.
طردت تلك الأفكار من ذهني لأفكر بمصيبتي .. وطلبت من أحد عمال المقهى ورقة وقلما لأرتب أفكاري .. يجب أن أقوم بترتيب أفكاري كما أفعل دائما عندما أكون مشوش الذهن .. ورحت أسطر النقاط التالية:
لقد بدأ كل شيء بسبب لوحة (أويجا) اللعينة هذه .. يصعب هنا ألا أربط بينها وبين تلك الأشياء الشنيعة التي ظهرت .. فالأمر يبدو واضحا. 
مصدر هذه اللعبة مجهول تماما .. ويظهر أن الشخص الذي باع اللعبة لـ(سعد) كان قد سرقها من مكان ما ولم يعرف قيمتها الحقيقية .. فهي تبدو لي  قديمة جدا وصناعتها فاخرة جدا ومن المفترض أن تكون أثمن بكثير من المبلغ الذي دفعه (سعد) .. خلاصة الكلام أن تاريخ هذه اللعبة مجهول تماما .. قد يكون أحدهم استخدمها قديما - بواسطة السحر- للاتصال بالأرواح أو ماشابه ذلك .. فأنا أعلم جيدا أن السحر ليس له مقاييس وينتمي لعالم مرعب يتجاوز حدود الماديات.. كما أعرف حق المعرفة أن (اسكتلندا) – وهي المكان الذي اشترى منه (سعد) اللعبة - تعج بالقلاع التاريخية التي نسجت حولها قصص الأشباح .. حتى أن بعض الساخرين اعتبروا الأشباح اسكتلندية الجنسية ‍!‍‍‍! .. إن ربط السحر بالموضوع أمر وارد جدا .. لكني لن أعرف الإجابة على هذه النقطة أبدا .. 
الأشياء المريعة التي ظهرت لي قد تكون أشباح .. أو جن .. أو شياطين لا أعلم بالضبط .. ولن أعرف الإجابة على هذا السؤال أيضا .. ولكن ما هو مؤكد أن ما ظهر لي لم تكن أشباحا ضبابية ككل الأشباح التي تحترم نفسها .. بل كان تجسدها ماديا كاملا
 .. وقد ذكرني هنا بما قاله الكثيرون ممن ادعوا مشاهدتهم لأشباح .. فقد كانوا يقولون أن الأشباح قد بدت لهم حقيقية أكثر من اللازم .. وليس لها هذا الحضور الطيفي كما صورته السينما .. الفارق الوحيد هو أن شكل (الأشياء) التي ظهرت لي كان مخيفا للغاية. 
انتابتني قشعريرة غزت عمودي الفقري وأنا أتذكر ملامح تلك العجوز التي رأيتها في المنزل .. فقمت بالاستعاذة من الشيطان الرجيم .. وحاولت أن أكمل ما كتبت محاولا وضع النقاط على الحروف .. 
ما سبب انقطاع التيار الكهربائي ؟؟ .. أيضا لا أدري .. إلا أنني عرفت فيما بعد أن الأمر قد يكون مرتبطا بالأشباح الضاجة*. 
بدأت أكره (سعد) كثيرا وسأنهي علاقتي معه منذ هذه اللحظة .. من المؤكد أنه سيتصل إن عاجلا أم آجلا ليزورني أو لنخرج معا .. ولكني سأظل أعتذر حتى يمل ويتركني في حالي .. وليذهب إلى الجحيم !!.
الأهم من كل ذلك: يجب أن أجد مكانا أبيت فيه اليوم !! .. هل تظنون أنني أستطيع المبيت في المنزل كل ما حدث فيه ؟! .. لو كانت جدتي ستعود غدا 
* الأشباح الضاجة هي نوع من الأشباح الغير مرئية والتي تثير أصوات أو صرخات أو تقوم بتحريك قطع من الأثاث .. إلخ، ويعتقد أن نشاط هذه الأشباح يظهر بقوة في البيوت التي يقطنها مراهقين تتراوح أعمارهم بين الإثنى عشر والستة عشر عاما، وتعتبر أشباح منطقة (باتيرسيا) في (لندن) من أشهر الأشباح الضاجة، حيث كانت تثير أصواتا مزعجة مخيفة سمعها الكثيرون على فترات مختلفة من عام 1927، والأمر لا زال يثير جدلا واسعا حتى يومنا هذا.

مثلا لقضيت اليوم كله في الشارع على أن أعود للمنزل غدا بوجودها وهناك سأقول لها ما حدث .. أشعر بأن العبء سينزاح عن كاهلي لو شاركني أقرب الناس لي هذه المصيبة ..  أما وعودتها لن تكون قبل أسبوع .. فما الذي سأفعله طوال تلك الفترة ؟!.
عند النقطة السادسة بالذات كنت أحاول أن أطمئن نفسي بأنني سأجد مخرجا .. فالشوارع ترحب بمن هم في مثل سني بعد منتصف الليل .. لكنها تقسو على النساء أيما قسوة.
وجدت أن أكثر الحلول منطقية هو أن أبيت في أحد الفنادق طوال فترة غياب جدتي .. وارتحت كثيرا لهذه الفكرة .. فهي بالفعل حلا مناسبا .. إنني أمتلك المال الكافي للمبيت في الفندق إسبوعا كاملا .. كما أنني على وشك أن يغمى علي من شدة الإرهاق .. فأنا لم أنم سوى ما يعادل الثلاث ساعات تقريبا في اليومين الماضيين ‍‍‍‍!! .. كما أن القلق والتوتر والرعب الذي شهدته قد أنهك كل قواي.
هرعت مسرعا إلى هاتف المقهى .. وطلبت البدالة للحصول على رقم أحد الفنادق .. فأعطاني موظف البدالة رقم الهاتف بعد أن جعلني أنتظر أكثر من ربع ساعة كما هي العادة .. فاتصلت ملهوفا بالفندق .. و ..
مرحبا .. أود استئجار غرفة ..
قال لي موظف الاستقبال بلهجة مهذبة:
نتشرف بذلك يا سيدي .. كل ما عليك إحضاره هو عقد زواج وحضور الزوجة وتوقيعها .. و .. إلخ.
صعقت لهذا القول .. وقلت له بضراعة:
ولكن .. أنا غير متزوج وأريد المبيت وحدي .. وسأدفع أي مبلغ تطلبونه .. أرجوك !!.
 ولكن رده كان واضحا .. بل واكتسى صوته ببعض الصرامة: 
عفوا سيدي .. ممنوع منعا باتا استضافة الشباب العزب .. وهذا يسري على جميع فنادق (الكويت).
أقفلت السماعة بوجهه .. فقد اغرورقت عيني بالدموع من شدة القهر .. إن الشباب في هذا البلد مظلوم .. مظلوم إلى أقصى حد .. يتركوننا في الشوارع دون توفير أي رعايةأو اهتمام .. والأسوأ أنهم يتهمونا بعد هذا باللامبالاة والاستهتار ويعزلوننا عن العائلات وكأننا جراثيم معدية !! ..
عالم قاس .. عالم قاس بحق .. يفعلون كل شيء كي يجعلونا نجن .. فإذا ما جننا اتهمونا بالجنون وتخلصوا منا .. رباه .. أشعر وكأنني فأر وقع في مصيدة !!.. 
ليتني لم ألتق بـ(سعد) .. لقد كانت حياتي هادئة بعيدة عن كل هذه الأهوال قبل أن ألتقي بهذا الأبله .. ووجدت نفسي فجأة استشيط غضبا وأطلب رقم (سعد) دون أن أجد سببا لذلك .. وإذا به يجيب ببساطة وبصوت يوحي وكأنه كان نائما أو مسترخيا حيث رفع السماعة وهو يتثائب:
آآآلوووووه
ولم أحتمل أن أجده بهذا الاسترخاء بينما أنا في هذا الجحيم .. فانفجر البركان من فمي قاذفا حمما كلامية لو كانت تحرق لتحول (سعد) إلى جثة متفحمة في ثوان:
يا أحمق .. يا أغبى مخلوقات الله .. لقد كان يوم عرفتك يوما أسود لم تشرق له شمس .. والأسوأ منه يوم جعلتك تدخل منزلي .. أنت ولعبت اللعينة هذه .. هل تعلم ما فعلت .. هل ... ؟ .. 
وكلام كثير هو مزيج من الشتائم البذيئة مع الأسف والتي لم أنطق بها من قبل
لكنه التوتر والخوف وكل المشاعر السلبية الأخرى التي تجعل الإنسان أحيانا
يفعل أشياء تخالف طبيعته ..
فتلعثم بالكلام وتحدث بارتباك شديد وبكلمات غير مفهومة .. ثم شرع يسألني عما يجري لأنه لا يعرف سبب عصبيتي .. وينصحني بأن أهدأ كي لا أصاب بسكتة قلبية .. 
لم أرد عليه .. فقد وجدت أنني أقوم بعمل أخرق لا طائل منه .. لذا فقد أقفلت السماعة في وجهه دون أن أخبره بشيء .. كما أن بعض الزبائن قد انتبهوا لصراخي .. وأنا أكره كثيرا أن أجذب أنظار الناس بهذه الصورة.
دخلت إلى الحمام كي أغسل وجهي .. أتأمل وجهي في المرآة لأجد عينين حمراوين بلون الدم .. أسفل كل منهما انتفاخ يشي بإرهاق لا حدود له .. متى ينتهي هذا الكابوس ؟! .. خرت من الحمام غارقا في همومي ..  إنني في مأزق حقيقي .. لا أستطيع أن أعود إلى المنزل .. لا أستطيع .. إن هذا فوق طاقتي ..
كل شئ غريب كريه منفر .. كأنني في كابوس .. وبدت لي حياتي اليومية في المدرسة وجدتي شيئا بعيدا جدا وكأنه قادم من عالم الأحلام .. وأن هذا الكابوس لن ينتهي أبدا !!.
عدت لأجلس مرة أخرى في المقهى محاولا أن أظل مستيقظا وعالما أن هذا يكاد أن يكون مستحيلا .. لذا فقد كنت أشعر بإرهاق ما بعده إرهاق .. شربت أقداح لا حصر لها من القهوة حتى التهبت معدتي .. ولكن دون جدوى .. من يستطيع أن يظل مستيقظا طوال هذه المدة ؟! .. أعتقد أنه لا يفعلها سوى هواة تحطيم الأرقام القياسية وفقراء الهنود الذين يقومون بعجائب لا حصر لها ..  
أحاول أن أبحث عن حلا منطقيا .. في البداية فكرت بالسهر حتى شروق الشمس لأذهب بعدها إلى المنزل لأنام .. ومن ثم أستيقظ مساء لأخرج من المنزل .. فالأهوال التي رأيتها لم تكن تظهر سوى في المساء ؟! .. ولكن المشكلة أنني لا أستطيع أن أظل مستيقظا ثلاثة أيام متواصلة .. إن هذا مستحيل تماما  .. إنني بالكاد أستطيع أن أفتح عيني الآن .. فما بالكم في الانتظار يوما آخر .. دعك من أن المنزل أصبح مخيفا للأبد وفي كل الأوقات .. ولو دخلت منزلك يوما ورأيته مليئا بالثعابين فلا أعتقد أنك ستستطيع أن تبيت فيه ليلة واحدة حتى وإن تم تطهيره من تلك الثعابين .. سيظل المنزل ملوثا بنظرك إلى الأبد .. 
جلست أفكر بحل آخر .. النوم بأحد المقاهي ؟! .. غير مسموح به بالطبع .. ولو فعلت لأيقظني أحد العمال ليخبرني بعدم جواز النوم في المقاهي وكأنها مركزا لأبحاث الفضاء .. 
وبعد ساعة من التفكير والتوتر .. اتخذت قرارا قد يبدو غريبا .. فقد قررت العودة إلى المنزل !! .. لا يوجد حل آخر لدي .. أعرف ما سيصيبني ولكن هل لديكم حلا آخر ؟! .. أدركت هنا كم أن مقولة: (النوم سلطان) صادقة ..
 صادقة إلى حد يثير الغيظ فعلا .. فالنوم بالفعل سلطان ينحني له أكثر الناس هيبة وقوة ..
تذكرت هنا رواية قرأتها منذ فترة طويلة عن رجل ارتكب جريمة قتل في القرون الوسطى .. كانت الشكوك كلها تحوم حوله ولكنه كان يرفض الاعتراف .. فخطرت للقاضي فكرة غريبة نوعا ما .. حيث أمر بمنع هذا الرجل من النوم لأربع ليال متواصلة .. وفي بداية الليلة الخامسة سمحوا له بالنوم بعد أن بلغ الإرهاق منه مبلغا وكان على وشك الجنون .. وبعد نومه بنصف ساعة فقط ألحوا عليه بالسؤال إن كان قد ارتكب جريمة القتل تلك أم لا .. وسألوه أين خبأ سلاح الجريمة .. فاعترف وأجاب على كل أسئلتهم دون أن يدري وهو بين النوم واليقظة !! فأمر القاضي بعدها بإعدام الرجل بالطبع.
هذه القصة هي مثال بسيط جدا لحالتي .. فأنا على استعداد للتضحية بنصف عمري من أجل النوم لبضع ساعات .. وكان الضغط العصبي قد بلغ ذروته لدي .. حتى إنني لم أعد أهاب الأشباح والشياطين.. أريد أن أنام ملء جفوني .. أنام في فراشي أو قبري .. لا يهم !!. 
خرجت متثاقلا مهموما من المقهى بعد أن طلبت عبر الهاتف سيارة أجرة لتوصلني إلى البيت الذي أصبحت أخشاه أكثر من أي شيء آخر في هذا العالم .. كنت طوال الطريق أتخيل نفسي كالمحكوم عليه بالإعدام الذاهب إلى حبل المشنقة .. ولكن فليذهب كل هذا إلى الجحيم .. إذ يكاد أن يغمى علي من شدة الإرهاق .. أريد أن أنام وليحدث ما يحدث !!. 
توقفت سيارة التاكسي أمام البيت .. فنزلت منها واستدرت لأشاهد بيت الأشباح !! .. اسم مبتذل سخيف تحمل اسمه العشرات من القصص والأفلام .. ولكن ما باليد حيلة .. فهو بالفعل منزل أشباح .. وأي أشباح !!. 
مشيت نحو البيت وأنا أشعر وكأنني ثابت وهو يقترب مني باستمرار .. السور الحديدي الصدئ المغطى وحديقته الصغيرة المهملة متشابكة الغصون والأوراق التي تلتف وكأنها تتلوى ألما حول بعضها البعض .. إن هذا المنزل مسرح ستؤدى عليه ليلا مسرحية شديدة البشاعة والهول .. ستكون ليلة طويلة حقا.. أعلم أن الأشباح لن تقتلني .. فهي لا تضر سوى المعنويات .. لكنهم يثيرون الرعب .. وهذا كاف جدا لجعلهم مؤذيين .. إنهم يخالفون نواميس العالم الذي نعرفه .. وهذا يكفي لجعلي أقشعر خوفا .. وهذا أسوأ بكثير من الموت يا رفاق .. الرعب !!.. إنني أفضل أن أموت ألف مرة على أن أرى ما رأيته في الأمس وما سأراه اليوم .. أشعر أن حكم الإعدام قد صدر بحقي ولا أمل لي في استئناف ولا معارضة ولا هرب .. كنت دائما أقول أن الخطر المعنوي أشد إيذاء بكثير من الخطر المادي .. أنا لا أخشى الكلاب المسعورة والذئاب .. لأنها خطر مادي معروف على الرغم من أنها أشد خطورة في الواقع على حياة الإنسان من الأشباح والجن التي يحيط بها جو رهيب من الغموض والرعب لا أستسيغه إطلاقا .. ولكن هذه هي طبيعة الإنسان .. يخشى المجهول أكثر من أي شيء آخر.
راودتني هذه الخواطر .. وأنا ما زلت واقفا أمام المنزل وقد بدا وكأنه وحش أسطوري رهيب يرمقني بكراهية .. كما لعبت الأشجار دور ستار المسرح لهذا الرعب درامي الطابع .. لقد أصبح البيت شبيها ببيوت الرعب في السينما .. وأنا لم أبق به إلا لأنني لا أجد مكانا آخر .. لا أجد خيارا آخر مع الأسف .. كنت أعرف أن الكوابيس ستزورني .. هذه من الليالي النادرة التي يحدث فيها شئ كهذا .. أن تنتظر الكابوس ولا تندهش لقدومه .. وأن يكون متجسدا أمامك !! .. وقفت لفترة خارج المنزل وساقاي لم تعودا تقويان على حملي من السهر المتواصل ..  أسمع ضوضاء وأرى نورا قادمين من (ديوانية)* الجيران .. وضحكات الشباب التي توحي بأنهم يلعبون الورق .. فكان الحنين يغمرني لرفقتهم وممارسة مرح الشباب الذي أنا جدير به .. وفكرت في أن أذهب إليهم وأقدم نفسي لهم وأطلب منهم قضاء بعض الوقت معهم .. لكني حين تخيلت الشجاعة التي سأحتاجها لأمر كهذا .. مع تفاهة وسخافة معظم الشباب .. قررت ألا أقدم على هذه الخطوة.. إنني لن أنزلق إلى هذا الطريق أبدا ولن أجلس في هذه (الدواوين) التي لا يفعل فيها الشباب سوى كل ما هو تافه .. حيث السخرية من بعضهم البعض والحديث عن الفتيات وعن آخر أخبار الهواتف الخلوية وغيرها .. وحتى إن تناسيت كل هذا وذهبت إليهم فسيغمى علي بعدها بدقائق من شدة الإرهاق. 
دخلت إلى المنزل وأنا أردد المعوذتين .. ولكن هذا لم يكن كافيا لتزول كل آثار 
* الديوانية هي كلمة محلية يقصد بها (المجلس). 


الرعب من نفسي .. أبذل جهدا خارقا للسيطرة على توتري .. إن هذه الأشياء 
الملعونة لم تظهر لي إلا ليلا .. أما الآن والساعة لم تتجاوز الرابعة عصرا فلا أعتقد أن شيئا سيحدث .. لكن هذا لم يكن كافيا للتخفيف من حدة توتري وخوفي ..  شعورا مروعا كان يداهمني أنني لست وحيدا في المنزل .. الحضور القوي الذي لا ينكر لتلك الأشياء التي شاهدتها جعلني ألتفت يمينا وشمالا وأنظر خلفي كل ثانية تقريبا .. تأكدت من أن الباب موصد بإحكام .. تفقدت خزينة الثياب .. وألقيت نظرة تحت الفراش .. فالأشياء التي لا أريدها أن تأتي قد تكون هناك .. وأخذت مصحف جدتي الصغير .. ووضعته تحت وسادتي .. 
وبرغم مئات الخواطر السوداء القلقة .. غرقت في نوم عميق جدا متوقعا ومتمنيا ألا أستيقظ منه قبل حلول النهار .. ولكن هذا لم يحدث مع الأسف .. 
فقد استيقظت ليلا .. كم من الوقت نمت ؟! .. لا أدري لكني فتحت عيني لسبب لا أعرفه .. ذلك الحافز الخفي المجهول الذي يوقظنا حين ينظر شخص بإمعان لوجوهنا ونحن نيام ‍‍!! .. ولكني لم أر شيئا حين استيقظت .. فلم يكن هناك سوى الظلام .. الكهرباء كانت مقطوعة لليلة الثالثة على التوالي !! ..
اللعنة ‍‍!!.
قلتها بصوت مرتفع بدا لي مخيفا فخرست وأنا أعض على شفتي من شدة الغيظ والخوف والتوتر و .. إلخ .. 
فانقطاع التيار يعني أنني لست وحدي .. أحد (الأشياء) المريعة التي ظهرت لي بالأمس ستظهر الليلة أيضا .. 
شعور مبهم بأن الساعة الآن الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل .. كنت أعتقد بأنني لو لم أسمع تلك الأصوات المخيفة لغدوت بحال أفضل وأنا في فراشي .. ولكني كنت واهما .. تبا لهذا الصمت الرهيب .. صمت له كيان ملموس ثقيل أكاد أن أسمع له ضجيجا يدوي في أذني ..
ظللت في فراشي فترة طويلة وقد عجزت تماما عن العودة إلى النوم .. هل أشرق الصباح ؟.. بالطبع لا !!.. إن هذه الليلة لن تنتهي أبدا .. قررت النهوض من فراشي وسط الظلام لإشعال شمعة .. فذلك الظلام سيصيبني بالجنون .. أخرجت رأسي من تحت الغطاء بهدوء وقلق شديدين لأجلب شمعة من أحد أدراج مكتبي .. فقد اتخذت احتياطي هذه المرة وجلبت عددا من الشموع ووضعتها هناك تحسبا لظرف كهذا ..
ألتفت يمينا وشمالا !! .. عيناي قد اعتادتا الظلام قليلا كوني ظللت مستيقظا في فراشي أكثر من عشر دقائق .. لكن صبرا .. ثمة شيء ما غير مريح .. هناك جسم بجوار المرآة لم يكن هناك في السابق .. جسم له أبعاد وحدود و .. كاد قلبي أن يتوقف عن الخفقان !!.. فعندما دققت النظر وجدت قطة سوداء واقفة على قدميها الخلفيتين في زاوية غرفتي وكأنها تمثال فرعوني مقدس .. وفي عينيها ذلك البريق المخيف .. نظرة صامتة لعدة ثوان .. وبعدها ضحكت القطة ضحكة بشرية واضحة !! .. واختفت تماما .. ولم أرها ثانية لحسن الحظ .. رحت أتواثب قفزا كحيوان الكنغر إلى فراشي وأنا أرتجف رعبا .. لن أستطيع أن أعيش هكذا .. سأموت من شدة الرعب .. لن يتحمل قلبي كل هذا .. رحت أردد المعوذتين وأرتجف .. أسناني تصطك هلعا .. ودموعي تنهمر بغزارة دون أن أبكي بصوت مسموع .. فحتى صوتي بدا لي مخيفا .. أنا لا أفهم شيئا .. لا أفهم حرفا مما يحدث .. هذا كثير علي .. تسألونني عن المصحف الموجود تحت وسادتي ؟؟ .. كنت ممسكا به بقوة .. ولكن لا أعتقد أن الجميع سيتحمسون لقضاء الليل في بيت مسكون بالأشباح حتى لو أعطيناهم مصحفا .. فهناك قوي الإيمان وهناك ضعيف الإيمان .. ويبدو أنني مع الأسف ذو إيمان ضعيف .. 
أغمض عيناي بقوة وأنا مندس تحت اللحاف لأنني أعرف أن ما سأراه سيثري كوابيسي .. 
يتهددني خطر لا يجدي معه إبلاغ الشرطة ولا امتلاك سلاح .. ولا تربية كلب .. ولا تحصين النوافذ .. أليس هذا مريعا ؟! .. لقد سمعت أصواتا عديدة في تلك الليلة الملعونة وأنا جالس متكور على نفسي في فراشي .. لكني لن أخبركم ما هية هذه الأصوات !! لأنكم لن تصدقوني أولا .. ولأن جزءا من هذه الأهوال اختلط بالكوابيس التي كنت أراها حين أغيب عن الوجود .. فلم أعد أميز بين الكابوس والواقع !! .. وفي لحظة فقدت قدرتي على الصمود أكثر من ذلك .. سأبيت في الشارع .. أو سأرتكب جريمة حتى أبيت في المخفر .. ولكني لن أبقى لحظة واحدة في ذلك المنزل الملعون .. 
سمعت بعدها أصواتا مخيفة في غرفتي هي مزيج من النحيب والهمس المبهم الذي تسمعه ولا تفهم منه شيئا !! .. اتخذت قراري .. لقد انتهى العقل .. وجاء وقت الجنون !! .. نهضت من فراشي كالملسوع واندفعت نحو الطابق الأسفل للخروج من المنزل .. وتكرر مشهد الصراخ .. النهوض .. فالركض والاصطدام بالأثاث .. والصراخ مرة أخرى .. الصراخ الذي يمكنه إيقاظ الديناصورات المنقرضة التي شبعت موتا منذ ملايين السنين .. ففتحت الباب وأنا ألهث وأبكي .. خارج باب المنزل اصطدمت بشئ ما .. فأجفلت وشرعت أوجه لكمات خرقاء وأنا أصرخ في هستيريا .. فسمعت صوتا مألوفا يبسمل ويهتف بي بجزع:
(خالد) .. هذا أنا .. جدتك.
عندها .. أرتميت بأحضانها وأنا أبكي .. انفجرت ببكاء هستيري جدير بالفتيات .. 
لحظات لم تنطق بها جدتي بحرف واحد وهي مذهولة من منظري وأنا خارج من البيت وكل علامات الخوف على وجهي .. لكن .. يبدو أنها استجمعت أفكارها .. حيث سألتني بتوتر شديد بعد لحظات قليلة من الصمت الذي سببته المفاجأة:
(خالد) .. ما الذي يجرى يا بني ؟!.
لم أستطع أن أرد .. لا أدري لماذا عادت قبل موعدها بأسبوع لكني سعيد جدا لذلك .. قبلت يدها المعروقة الحبيبة وأنا أبكي بحرارة.. هذه يد كانت ناعمة عطرة لكنها من أجلي صارت هكذا .. وبرغم هذا أجدها أجمل من يد الليدي (ديانا).
تكلم يا (خالد) .. إنك تخيفني يا بني .. 
قالتها بانفعال وهي على وشك البكاء .. فهي لم ترني بهذا الحال من قبل !! .. ولكني لم أقدر على النطق إلا بعد فترة من البكاء والنحيب والصمت .. وقد انتبهت جدتي بالطبع إلى أن التيار الكهربائي مقطوع .. فقامت بجلب بعض الشموع لتنير المنزل .. عندها فقط استطعت أن أتحدث .. قلت لها كل شيء .. لكني تجاوزت الحديث عن لوحة أويجا .. فلا أعتقد أن جدتي تفقه شيئا في هذه الأمور .. ويكفيها أن تعلم أن البيت مسكون بالجن أو بالشياطين.
انتهيت من سرد الأحداث لها .. وقبل أن تقوم جدتي بأي رد فعل رحت أتوسل إليها أن نبيع البيت:
ما الذي يدعونا أن نعيش في بيت كهذا يا أمي .. إنه كبير جدا وقديم .. أعلم أنك تحبينه كثيرا .. ولكن لا بد من التغيير .. خاصة بعد ما شاهدت.
أنا لا أمانع بيع المنزل يا ولدي .. ولكن .. لا أدري .. لقد كنا نعيش في البيت فحسب ولم أفكر في بيعه ..
إنها لا تقول الحقيقة .. أعلم ذلك علم اليقين .. أنتم تعرفون تمسك العجائز ببيوتهن .. إنها تتصرف وكأن الأمر لا يعنيها كثيرا من أجلي .. من أجلي فقط .. كم أحبك يا جدتي .. 
استجمعت أنفاسي وقلت لها بلهفة:
هناك الكثير من مكاتب العقار التي ستعرض البيت للبيع .. وأنا واثق أن هذا المنزل سيجد من يشتريه .. 
صمتت قليلا وكأنها تفكر:
سأترك الأمر لك يا بني .. لتفعل ما تريد .. 
وكان هذا الرد يكفيني .. يكفيني تماما ..
لقد عرفت بعدها من جدتي أنها عادت قبل موعدها المحدد لأنها اتصلت أكثر من مرة لتطمئن علي .. وكنت لا أرد على الهاتف بسبب المصائب التي واجهتها بالطبع والتي جعلتني أمضي أكثر أوقاتي خارج المنزل .. الأمر الذي أشعرها بقلق شديد وجعلها تعود في أسرع وقت إلى (الكويت) لتطمئن علي .. وقد استلت سيارة أجرة من المطار وحدها لتعود إلى المنزل .. ألم أخبركم أنها امرأة باسلة رائعة ؟! .. 
ولم يفتها بالطبع سماع تلك الأصوات الغريبة في المنزل في الأيام القليلة التي تلت عودتها من السفر .. ولكنها أثارت إعجابي بشدة .. كانت تذكر الله وتقرأ بعض الآيات القرآنية بثبات وشجاعة تحسد عليهما .. أطال الله في عمرها.
لقد حدث كل شيء بسرعة لا تصدق .. ففي أقل من أسبوعين كانت صفقة بيع البيت قد تمت !!.. قمنا ببيعه بمبلغ لا بأس به إطلاقا .. ففي الكويت تباع المنازل -حتى وإن كانت قديمة- بمبالغ هائلة* .. إن التغيير جميل وأنا بحاجة إليه .. لكن هذا ليس تغييرا .. أنا وأنتم نعلم أنه هروب !! .. كنت أهرب من هذا المنزل .. فكيف تتخلص من الشعور بأنك مراقب وأن حياتك لن تعود أبدا كما كانت طالما أنك تعيش في هذا الجو الموبوء المشؤوم؟! .. الخلاصة أنني سأكون على وشك دخول المصحة العقلية ما لم نترك هذا البيت بسرعة وللأبد .. وقد كانت سعادتي لا توصف لأننا سنبتعد عن تلك الأهوال التي شاهدتها وكادت أن تصيبني بسكتة قلبية أكثر من مرة .. ولا أنسى أن أذكر لكم بأنني قضيت الأسبوعين الأخيرين في غرفة جدتي .. ولكن شيئا لم يحدث .. سوى بعض الأصوات المخيفة الغامضة التي كانت تجيبها أصوات أخرى أكثر غموضا .. لا .. لم تكن أصوات صراصير .. بل هي أشياء مجهولة لم يدركها الإنسان حتى الآن .. وهناك 
* حقيقة مع الأسف

أيضا الستائر التي كانت تتموج ليلا دون أن تكون هناك أنسام وكأن هناك من يختفي ورائها .. ولا حاجة لي بالطبع أن أكشف عن الستارة لأعرف ماذا يوجد خلفها .. فقد شاهدت ما يكفي ..
 وقد كانت قراءة جدتي المستمرة للقرآن مع بعض التعاويذ تبعد عنا كل الشرور .. وتجعل كل هذه الأشياء تختفي وتعود من حيث جاءت.. الأمر الذي أقنع جدتي تماما ببيع  البيت الذي باعتقادي الشخصي قد تلوث إلى الأبد  .. 
كيف ألعب دور الرجل في هذا المنزل وجدتي الحبيبة هي من يتولى حمايتي ؟! ..
 لن أتكلم عن الشرخ النفسي الهائل الذي أصابني جراء تلك الأيام السوداء .. هناك لذة غير عادية في أن يصف المرء أوجاعه للآخرين .. لكني أعرف أن كل منكم مفعما 
بالمشاكل فلا حاجة لكم بمعرفة الأضرار النفسية التي أصابتني .. كما أعتقد بأنني وصفت أوجاعي بما فيه الكفاية أصلا. 
قمنا ببيع المنزل كما ذكرت سالفا وسكنا بعدها بشقة راقية .. المنطقة ؟ .. (الرميثية) طبعا .. فـ(الرميثية) هي جزء من روحي كما أخبرتكم في مقدمة الكتاب وذكرت لكم الأسباب .. ولا يستطيع الإنسان أن يتخلى عن جزء من روحه حتى لو أراد ذلك .. كما لا أنسى أن أخبركم أنني عرفت فيما بعد أن البيت قد نجح بطرد ثلاث أسر ظنت أنها لا تعبأ بكل هذا الهراء !! .. 
أما بالنسبة لـ(سعد) .. فقد اعتذرت له عن الطريقة السيئة والشتائم التي تلقاها مني في المقهى .. وإن لم أخبره شيئا عما حدث .. ولم أستطع تبرير موقفي .. بل أعطيته أعذارا واهية جدا .. وتحججت له بتوتر أعصابي وما شابه من الأعذار التي أدرك أنها ليست كافية .. إلا أن اعتذاري منه كان كافيا بالنسبة له –كما يقول- ومع مرور الوقت أدرك أنني أتجنبه .. إذ كنت أتنصل منه باستمرار ..
إن الصداقة لا تشترى ولا تطلب .. وقد أحس (سعد) بعدم وجود مكان له في حياتي فابتعد في كياسة .. وأسعدني كثيرا أنه تصرف بذكاء هذه المرة ..

كنت أظن أن الأزمة التي مررت بها ستنتهي .. لكني كنت واهما .. كنت واهما إلى أقصى حد .. فالقصة – وأرجو ألا يثير هذا غيظكم- لم تبدأ بعد !!.  
لقد قضينا بضعة أيام ونحن نجمع أشياءنا من المنزل محاولين الخروج في أسرع وقت ممكن .. لا أحد منا قادر على ممارسة حياة طبيعية في وجود شبح في داره .. ألا توافقوني في هذا ؟!.. فضلا على أنني –وكما أخبرتكم- سأصاب بالخبال خلال أيام إذا استمر الحال على هذا المنوال .. يكفيني ما رأيت .. علما بأنني أمقت التغيير .. أمقته بشدة .. لكنني مضطر لذلك.
كنت أذهب إلى المدرسة بعد أن انتهت العطلة لأعود منهيا فروضي بسرعة .. وبعدها أبدأ بجمع أغراضي الخاصة بحماس شديد .. كما أنني كنت أقوم بمساعدة جدتي لتوضيب كل أغراضها من غرفتها – التي لا أدخلها كثيرا - وذلك حتى نخرج من البيت بأسرع وقت .. وبينما كنت أعاون جدتي في جمع حاجياتها .. وجدت خزانة حديدية صغيرة الحجم شبيهة بالخزانات الحديدية الصغيرة التي نراها في السينما .. لم أنتبه قط إلى وجودها من قبل !! .. فقد كانت موجودة في دولاب جدتي الذي لا أفتحه أبدا بطبيعة الحال .. 
سألت جدتي بدهشة:
منذ متى وأنت تملكين هذه الخزينة الصغيرة يا أمي ؟!
إنها قديمة جدا يا ولدي .. لقد اشتراها جدك في فترة الستينيات ووضعها في الغرفة .. كان يحفظ فيها أوراقنا الرسمية وبعض المصوغات.
وما الذي تحويه الآن ؟!
قالت دون اهتمام وهي منهمكة في ترتيب ثيابها لوضعها في الحقيبة:
لا أدري ..  إنني لم أفتحها منذ عشرون عاما .. لقد كان والدك (رحمه الله) يستخدمها بعد وفاة جدك .. ولم يستعملها أحد بعده  ..
       أثار هذا الشيء استغرابي فسألت جدتي باهتمام:
ولكن .. ألم يثر هذا فضولك يا أمي  ؟!
في الواقع .. لا .. فلا أعتقد أنها تحوي شيئا هاما .. كما أنني لا أعلم أين مفاتيحها أصلا .. 
سألتها في حيرة:
هل تمانعين لو قمت بفتحها أو كسرها يا أمي ؟ 
بالطبع يا بني .. إفعل ما يحلو لك  
وهكذا قمت بكسر الخزينة بعد جهد جهيد .. ففتحتها ملهوفا لأرى ما فيها !! .. أوراقا كثيرة .. سندات وشروط جزائية وعقود و .. إلخ .. كلها قديمة جدا تعود إلى ما قبل ولادتي .. أي أن عمرها أكثر من 17 عاما .. كما وجدت قليلا من النقود الكويتية القديمة التي كانت تطبع قبل الاجتياح الصدامي الغاشم على (الكويت) .. تحتاج هذه الأوراق إلى مزاج رائق لقرائتها .. وسأفعل ذلك لاحقا بعد الانتهاء من حزم الحقائب والانتقال إلى السكن الجديد  .. 
وبعد يومين تقريبا يومين انتهينا من كل شيء .. وخرجنا إلى الأبد من المنزل المشؤوم الذي كان وداعنا له متباين المشاعر .. فجدتي الحبيبة لم تنس سنوات عمرها الطويلة التي قضتها هنا على الرغم مما رأت وسمعت بنفسها في أيامنا الأخيرة .. أما أنا .. فأنتم تستطيعون بالطبع تخمين مشاعري جيدا بعد الأهوال التي رأيتها وعشتها .. لقد كنت أحب بيتنا أكثر من أي شيء .. أما الآن فهو بالنسبة لي هم ثقيل كالكابوس .. وأنا سعيد أننا تخلصنا منه .. كما أن شقتنا الجديدة .. كانت جديدة بمعنى الكلمة .. فقد كانت في عمارة راقية حديثة البناء تبعد عنك فكرة الجن والأشباح التي ترتبط – بغض النظر عن صحة الاعتقاد - بالمباني القديمة المتهالكة .. وقد احتاج منا الأمر اسبوعا كاملا لنتأقلم مع السكن الجديد بعد أن قمنا بإيصال خط الهاتف وكابل التلفزيون مع باقي الخدمات الأخرى .. و .. فرغت تماما من كل المسؤوليات حتى جاء يوم (الخميس) .. وهو من الأيام السعيدة والمفضلة لدي ولدى الكثيرين .. ففي هذا اليوم لا أحد يطالبني بشيء .. لا أعمال .. لا دراسة .. لا فروض منزلية .. ولا أي شيء من أي نوع.
من جهاز التسجيل ينبعث صوت موسيقى هادئة جدا .. وذلك المذاق الحزين للهواء المغسول الذي يدخل عبر شرفة غرفتي ويشتهر به فصل الشتاء .. شعرت أن الوقت مناسب جدا والمزاج رائق للاطلاع على الأوراق التي وجدتها في الخزنة الحديدية .. وهذا ما حدث بالفعل.. فقد أخرجت كل الأوراق والمستندات القديمة التي يعود عمرها إلى ما قبل ولادتي كما ذكرت لكم .. أريد أن أعرف ما تحويه بالضبط وبدافع الفضول لا أكثر .. وليتني لم أفعل !! .. فقد أثارت هذه الأوراق في نفسي حزنا شديدا جدا مع مرارة وغصة في الحلق لمآس ومصائب لم أعشها لحسن الحظ .. لكنها أثرت على حياتي بشكل كبير جدا !!. 
 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا