الأبعاد المجهولة الجزء الأول 1 للكاتب عبدالوهاب السيد الرفاعي

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-03-25

 

 

 

 

الأبعاد المجهولة

 

(من مذكرات مراهق كويتي)

 

 

 

بقلم:

عبدالوهاب السيد

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة شكر 

 

* إلى سعادة الشيخأ صباح جابر المبارك

الذي تفضل بتبني إصدارهذا الكتاب وتحويل فكرته إلى حقيقة واقعة شهدت النور.

 

 

* إلى أستاذي الكاتب  د. أحمد خالد توفيق

على تشجيعه ودعمه المعنوي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بداية لا بد منها

كتابة مذكراتي .. خطوة صعبة ترددت كثيرا قبل أن أقدم عليها.. فأنا أعلم جيدا أن مذكراتي لن تكون شيئا راقيا كمذكرات (مالكولم إكس) المناضل الأمريكي المسلم .. أو (نابليون) .. أوغيرهما من العظماء حيث تشكل الحوادث الصغيرة في حياتهم تاريخا حقيقيا تسترشد به البشرية .. إذا ما الذي يجعلني أقدم على هذه الخطوة ؟! .. يقال أنه لا أحد يولد أديبا .. ومن يصبح أديبا يكون إما قد قرأ أطنانا من الكتب حتى أصبح لديه فكرا مستقلا يشعر بأمس الحاجة أن يشاطر به الناس .. أو قد عاش تجارب قاسية جدا ورأى من الأهوال ما رأى حتى أصبح من الضروري أن يكتب عنها وإلا أحرقت محركات روحه !!.. وأعتقد أنني أتبع النوع الثاني من الأدباء ..  فقد مررت بتجارب وأهوال لا يصدقها عقل ستسبب لك عزيزي القاريء صدمات متلاحقة .. وستحبس أنفاسك كما حبست أنفاسي .. وستجعلك في نهاية الأمر في حالة ذهول شديد أن كل هذا قد حدث في (الكويت) ولي أنا على وجه التحديد من بين مليارات البشر .. والواقع أن الأهوال التي رأيتها لم تكن من طراز زوجة أب قاسية أسرفت في تعذيبي .. أو تعاطي المخدرات أو .. إلخ من القصص التي قتلتها الأفلام والمسلسلات العربية قتلا .. بل هي شيء آخر يفوق الوصف .. ولا يصدقه عقل !! .. والغريب أنني عشت طوال سنوات عمري أيام هادئة جدا لم يكن فيها ما يستحق الذكر وحتى بلوغي سن السادسة عشر .. ولكن بعد ذلك بدأت حياتي تتخذ منحنى آخرا بسرعة رهيبة .. حتى رأيت ما لم يره شيخ تجاوز عمره المائة !! .. 

ولكن في البداية يجب أن أعرفكم بنفسي .. اسمي (خالد) .. مراهق أبلغ التاسعة عشر من العمر لحظة كتابة تلك السطور .. ويقال أنه عندما يعترف المراهق بأنه كذلك فإن هذه  تعتبر أولى خطوات النضج .. وأنا على كل حال لا أدعي النضج .. لكني أحاول أن أكون ناضجا ..

 

أعيش مع أحب وأطيب امرأة عرفتها في حياتي والتي بذلت الغالي والنفيس من أجلي .. جدتي الحبيبة (فاطمة) .. وأعتقد أن كل الجدات الطيبات يحملن هذا الإسم .. وهي        - بالمناسبة - امرأة مسالمة وديعة طيبة القلب ترتدي غطاء الرأس الأبيض المزركش الشهير الذي تشتهر به الجدات في (الكويت) .. ولها ضحكة فاتنة حتى لتتمنى أن تريح رأسك على ركبتها وتقول لها (يمّا) .. وعلى الرغم من سنوات عمرها التي تجاوزت الستين .. وتجاعيد وجهها التي تدل على أنها رأت وعرفت كل شيء في هذه الدنيا كشأن العجائز في مثل سنها.. إلا أنها - ولله الحمد - بصحة جيدة للغاية .. 

والواقع أن جدتي هي كل عائلتي .. فقد توفي والدي قبل أن أولد لسبب ستعرفونه لاحقا .. وتوفيت بعده والدتي في حادث سير بعد ولادتي بشهرين تقريبا !!  .. لتتولى بعدها جدتي الحبيبة رعايتي وتربيتي .. لذا فأنا أدين لها بكل شئ .. 

أما عن حالتنا المادية فلا بأس بها على الإطلاق .. إذ نملك عمارة سكنية اشتراها أبي لجدتي قبل وفاته لحسن الحظ .. ونعيش حاليا من دخلها الشهري .. ولأنني كل ما تبقى في هذه الدنيا لجدتي الحبيبة .. فهي لم تقصر معي أبدا .. وألحقتني بأحد أفضل وأرقى المدارس الخاصة في (الكويت) كي أحصل على أفضل مستوى تعليمي .. ولم أكن لأخيب أملها بعد كل هذا .. فكنت أفعل كل ما بوسعي كي أكون طالبا متفوقا لامعا جديرا بأن أوضع في لوحة الشرف وبشكل دائم .. وكثيرا ما سمعت أساتذتي يقولون بأنني نابغة .. وعبقري .. و .. إلخ .. ليس هذا غرورا بل هو رأي أساتذتي بي .. وبالطبع فإن هذا قد أدى إلى تخرجي من الثانوية بمعدل مرتفع للغاية أهلني للالتحاق بكلية الطب في جامعة (الكويت)  مع بداية العام الدراسي القادم بإذن الله.  

أما عن صفاتي الشخصية .. فلك أن تعرف عزيزي  القاريء أنني قصير القامة نسبيا .. هزيل البنية .. ملامحي عادية جدا لا يوجد ما يميزها أو يجعلك تنفر منها .. ولولا بعض التحفظ لقلت أنني أقرب إلى القبح من الجمال .. 

هذه هي - باختصار شديد - سماتي .. والواقع أنني لست مستاء لأني لست وسيما ولا تلهث ورائي الفتيات .. فهدفي هو أن أكون جميل العقل - إن صح التعبير - فأنا قاريء

 

* هكذا تنطق كلمة (ماما) باللهجة الكويتية (بضم الياء وتشديد الميم)

 

من الطراز الأول .. أقرأ كل شيء تقريبا .. ومثقف إلى درجة تثير إعجاب كل من يتحدث معي .. 

أما عن شخصيتي فإنني إنسان هاديء الطباع أملك عالما ذاتيا ثريا .. ومرهف الحس إلى أقصى درجة .. وقد علمتني القراءة المستمرة حب الهدوء والتواضع .. وجعلتني أعيش صراعا رهيبا بين ما يريده المجتمع للشباب من ثرثرة فارغة وسوقية وضحالة فكر .. وبين ما أرسمه لنفسي كإنسان مثقف متزن أحلم بالحصول على شهادة علمية عليا .. هذا الصراع والإحساس بالغربة جعلاني شخصا انطوائيا مكتئبا متجهما متشائما .. فمن خلال اختلاطي بالشباب في المراحل الدراسية شعرت بحالة إحباط بالغة من تفاهة المجتمع وبلاهة من ألقاهم وافتقارهم إلى الثقافة .. فمجتمعنا العربي بشكل عام أمي مع الأسف .. نصفه جاهل وإن كان متعلما .. لأنهم كفوا عن القراءة والاطلاع منذ زمن بعيد .. وهذا ما يجعل السوقية تحقق نصرا ساحقا يوما بعد يوم .. بينما الثقافة والرقي والتهذيب لهم صوت هامس قلما يلفت الانتباه!!..  كالفراشات التي تنقل حبوب اللقاح من زهرة لأخرى ليس لها صوت .. على الرغم من أنها تمد الحياة في صمت وجمال وروعة .. 

لست إنسانا تعيسا إلى الحد الذي قد تظنونه .. لكنني قطعا لست إنسانا سعيدا .. 

أشعر أنني في هذا العالم لي وجود جغرافي فحسب .. وليس لي وجود نفسي أو معنوي .. تماما كما يحدث عندما تذهب إلى المطعم وحيدا .. الناس معك لكنك لست واحدا منهم .. فالبرد يطل من كل ركن من حياتي .. لأنها حياة بلا أهل سوى جدتي وبلا صديق حميم أثق به وأسلم له رقبتي دون تردد ..

وقد تعلمت من التجارب الرهيبة التي عشتها أن أعماق الإنسان مظلمة .. وأنه كائن متوحش لا رحمة عنده .. وأن التعليم والثقافة والحضارة ليست سوى تهذيبا لأضافره ومخالبه .. وفرامل على مشاعر الطمع والجشع التي تسيطر عليه.

نسيت أن أخبركم أنني أسكن منطقة (الرميثية) .. أول حب في حياتي .. فهي المنطقة التي عشت فيها منذ ولادتي وأعرفها عن ظهر قلب وكل جزء منها له عبق الماضي الجميل - وإن لم أعشه - قبل أن يصبح العالم قاس مرعب كما هو عليه الآن من انتشار الجرائم وارتفاع معدل البطالة وانتشار المخدرات.. حيث أعيش حاليا في حي هاديء جدا كحال معظم أحياء (الرميثية) وعلاقاتنا مع جيراننا لا تتعدى إلقاء التحية في الصباح مع زحمة الحياة وضغوط العمل والدراسة حتى أصبح من الصعب جدا أن يعود الإنسان إلى الماضي عندما كانت علاقة الجار بجاره كعلاقة الأخ بأخيه ..     

تسألوني عن أقاربنا ؟! .. أقول: إنهم قليلين جدا .. وعلاقتنا معهم مقطوعة تماما لأسباب سأذكرها لاحقا .. في حين يوجد لجدتي أقارب في دولة الإمارات تزورهم بين فترة وأخرى وتقضي معهم فترة لا تتجاوز في أغلب الأحيان الأسبوعين. 

 

أما بالنسبة لطموحاتي وأحلامي فهي كثيرة .. أحلم أن أكون مليونيرا .. وأن أتزوج فتاة أسطورية .. وأن أرى العالم وأجيد عدة لغات وأكون طبيبا .. كما أتمنى أن تعطيني الحياة أمنية ذهبية .. وهي الهروب .. الهروب من الحياة الروتينية المملة .. الهروب من الأيام التي تكرر نفسها .. الهروب من المحبطات التي تلتف حولي وتكاد أن تخنقني .. الهروب إلى عالم جديد ومجتمع جديد وأرض جديدة .. والأهم من هذا وذاك حياة جديدة!! .. فأنا لم أجد ذاتي في هذا العالم القاسي .. وأريد البحث عنه في عالم آخر ..

لا أدري جدوى التعبير عن مشاعري بهذه الدقة بالنسبة لكم .. لكني أشعر أن هذا سيرسم الجو المحيط بي كاملا .. وتجعلكم تروني بدلا من أن تسمعوني فحسب ..

وفي النهاية أرجو ألا تكونوا قد مللتم من هذه المقدمة الطويلة .. فالقصص على كل حال لا تبدأ من ذروتها .. وهناك فترة في البداية لا بد وأن يتحملها أسرع القراء مللا .. وهي الفترة الوحيدة التي يسمح فيها للراوي أن يسرد ما يضع القاريء في جو القصة.

سأبدأ الآن بكتابة مذكراتي وكلي أمل أن تستمتع عزيزي القاريء بقراءتها بأحداثها الغريبة المثيرة ومواقفها المدهشة الرهيبة حتى أنني أتساءل وأنا أخطها إليكم إن كانت قابلة للتصديق أم لا .. ولكني سأرويها .. ويبقى التصديق أو عدمه خياركم أنتم .. كما أن استمتاع القاريء وتشويقه ودفعه إلى التأمل والتفكير وحثه على القراءة .. هي أحد أهدافي وراء سرد مذكراتي التي أتمنى أن تنال إعجابكم. 

وشكرا ..

(خالد سليمان ال...)

2004

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قشعريرة!!

سأحكي لكم قصتي الأولى .. وهي رهيبة غريبة مقبضة كابوسية بكل المقاييس .. وستحبس أنفاسكم حتى آخر كلمة فيها -على الأقل هذا ما أتمناه- وليس لي أي فضل في ذلك .. بل هو حظي الذي أوقعني بتجربة شنيعة غيرت تضاريس روحي .. 

أنصحكم بقراءة هذه القصة ليلا .. فهي تحتاج إلى سعة صدر وهدوء .. كما أن لها طابعا باردا قاتما يجعل من قراءتها ليلا أفضل بكثير .. حيث تتجسد الخيالات .. وتزداد لذة القراءة ومتعة الإثارة.

قد يكون رأيي غريب بعض الشيء لكنه منطقي تماما.. فالأمر شبيه بالموسيقى الكلاسيكية التي لا تسمع إلا ليلا .. وإلا فلن تحقق الوصول إلى هدفها .. ولا أدعي بهذا طبعا أن قصتي راقية كالموسيقى الكلاسيكية.

بدأ كل شيء في عطلة الربيع - كما نطلق عليها في (الكويت)- عام 2001 بعد نهاية اختبارات الفصل الدراسي الأول للصف الثالث الثانوي وحصولي -ولله الحمد- على درجات نهائية تقريبا.. 

قابلته في جمعية (الرميثية) .. شخصا ممتلئ الجسم له ملامح طفولية يرتدي قميصا واسعا وبنطلون جينز .. سد أمامي الطريق ورسم على وجهه ابتسامة ود .. فرفعت عيني نحوه متسائلا عما يريد .. 

ثم تأملته للحظة .. وبدأت أتذكر ..

س.. (سعد) ؟ .. ألست (سعد) .. زميلي في الصف الثاني متوسط ؟..

(خالد) .. أخيرا تذكرتني يا رجل ..

كانت واحدة من تلك اللحظات الخالدة .. لحظة لقاء زملاء دراسة قديمين .. حين يتهاوى سد الأعوام  .. ويبدأ كل منهما سؤال الآخر عما حدث له في حياته  و .. و ..  وتعانقنا .. لقد كان هذا الفتى في المرحلة المتوسطﯿ أقرب زملائي إلى قلبي .. فقد 

كان يجلس بجانبي في الفصل لسنتين متتاليتين .. وهو إنسان طيب القلب وساذج إلى حد لا يوصف، حتى لو أنك وصفت له صراعك مع ديناصور وقتله لصدّق كل حرف من كلامك دون تفكير .. 

وبدأ كل منا يروي ما حدث له في السنوات الخمس التي تلت .. فقد انتقل (سعد) منذ الصف الثالث متوسط إلى إحدى المدارس الحكومية .. وكان سبب انتقاله هو عدم قدرة والده على دفع مصاريف الدراسة الباهظة في المدارس الخاصة .. ولم يفتني بالطبع أن أسأله عن الفارق الشاسع بكل تأكيد الذي وجده بين التعليم في القطاع الخاص والقطاع الحكومي .. 

فرد بحسرة:

إنك تثير شجوني يا (خالد) .. المدارس الحكومية مخجلة .. مخجلة بشكل لا تتصوره .. بدءا من عدد الطلبة الكبير في الفصل الواحد وانتهاء بالمستوى العلمي لشريحة كبيرة من المدرسين مع الأسف .. 

ثم سكت قليلا وقال مازحا محاولا تغيير دفة الحديث:

لا شك في أننا المخبولان الوحيدان اللذان سيقضيان العطلة في (الكويت) .. بدلا من السفر أو الذهاب إلى البر (أي التخييم في الصحراء) في أسوأ الأحوال.

قلت مبتسما:

في الواقع أن الجو في هذا الوقت من السنة جيد لا يشجع على السفر .. كما أنني لا أحب التخييم في البر .. وأجد الذهاب إلى السينما أو البقاء في البيت للقراءة ومشاهدة التلفاز أكثر متعة ..

قال بلهفة:

إذن لماذا لا نلتقي ؟ .. هناك الكثير من الأمور التي من الممكن أن نفعلها لقتل وقت الفراغ .. إليك رقم هاتفي ..

* يطلق عليها في بعض الدول العربية اسم: المرحلة الإعدادية.

 

قلت وقد شعرت أنني قد وقعت في مأزق:

ي .. يشرفني هذا .. 

فالواقع أنني لم أكن أرغب في هذا إطلاقا .. نعم .. أنا أرتاح لهذا الفتى نوعا ما ولكن ليس إلى درجة أن ألتقي به وأقضي معه بعض أوقات الفراغ .. لكني - ومع حماسه ولهفته - لم أكن أملك الرفض !!..

كتب لي رقم هاتفه المحمول وكتبت له بالمقابل رقم المنزل لأنني لا أملك هاتفا محمولا ولا أحتاج واحدا أصلا .. وهذه هي الحقيقة على الرغم أنه من النادر جدا أن تجد شخصا في مثل عمري في (الكويت) ليس له هاتفا محمولا .. 

تبادلنا أرقام هواتفنا على أن يتصل أحدنا بالآخر لنلتقي ونقضي بعض الوقت معا قتلا للملل .. ووعدني هو بالاتصال بي قريبا جدا لزيارتي في منزلي أو للخروج معا. 

 

زارني 0سعد؟ أكثر من مرة، وقضينا معا أوقاتا لا بأس بها عندي في المنزل .. وكنا في بعض الأحيان نسهر معا في غرفتي لغاية منتصف الليل خاصة وأن جدتي كانت قد سافرت لمدة أسبوعين لزيارة بعض الأقارب في دولة (الأمارات). 

الحقيقة أن (سعد) فتى سعيد لا توجد لديه مشاكل .. وهو إنسان عادي جدا لا يوجد ما يقال بشأنه .. ينام ويأكل ويشرب جيدا .. ويشاهد السينما ويستمع إلى الأغاني العاطفية كما يفعل أي مراهق .. إلا أنه شديد السذاجة والبساطة كما أخبرتكم .. كما أنه ثرثار لدرجة تثير غيظي أحيانا.. فهو لا يسمح لي بأن أفتح فمي لأقول شيئا واحدا .. وأفكاره سطحية جدا .. لماذا أتحمله ؟ .. لأنني بين نارين .. نار الوحدة .. ونار ثرثرته .. وأحيانا قليلة أفضل إحدى النارين على الأخرى .. نعم أحب الوحدة واخترتها لنفسي كما أخبرتكم في البدايﯿ .. لكنني أولا وأخيرا بشر وأحتاج في بعض الأوقات أن أكون برفقة أحد .. 

كنت دائما أقول لنفسي بأننا في عالم لا يحوي أنصاف الحلول .. إما أن تكون ظالما أو مظلوما .. خادعا أو مخدوعا .. لهذا وجدت نفسي أميل إلى (سعد) نوعا ما .. فهذا الفتى مظلوم مخدوع مسروق طوال الوقت .. أعرف أن الشخصية السوية لا تظلم ولا تُظلم .. لا تخدع ولا تُخدع .. ولكن أين هذه الشخصية في زماننا الحالي ؟ .. لذا فلم أر أي ضير من قضاء بعض الوقت معه .. خاصة وأنه كان يعاملني كصديق عزيز .. كما أنني كنت أشعر بالشفقة تجاهه أيام دراستنا معا في المرحلة المتوسطة حيث كان مادة للسخرية من قبل بعض التلاميذ بسبب سذاجته.

كان في كل مرة يحضر شيئا من منزله لأشاركه فيه .. أحضر في إحدى المرات واحدة من ألعاب الفيديو .. وفي يوم آخر أحضر شريطا لأحد الأفلام الأجنبية لنشاهده معا.. وهكذا. 

وقد كنت متحفظا جدا في حديثي معه  -كعادتي مع الناس - ولم أكشف له أي جانب عن حياتي الخاصة .. فلم يكن يعرف عني شيئا سوى أنني يتيم الأبوين .. وكانت تمر الأيام بهدوء دون أن نشعر بها .. حتى مرت أربع أيام وأنا أراه كل يوم تقريبا لدرجة أنني بدأت أشعر بالسأم منه .. وفي أكثر الأحيان كنا نتناول العشاء سويا وكان طعامنا دائما جاهزا من المطاعم .. فجدتي كما أخبرتكم لم تكن موجودة في المنزل .. خادمة ؟ لدينا واحدة لكنها عادت إلى بلادها بعد أن سببت لنا مشاكل كثيرة لا مجال لذكرها هنا .. وقضية الخدم كما تعرفون هي مشكلة أزلية في (الكويت) وربما في كل دول الخليج العربي .. فنحن قوم نشتري أثمن الثياب ونركب أفخم السيارات وفي 

راجع مقدمة الكتاب (بداية لابد منها) حيث تم الحديث بإسهاب عن شخصية (خالد).

 

 

نفس الوقت نجلب أرخص الخدم لتربية أبناءنا وطبخ طعامنا !! أعتذر عن الخروج عن الموضوع .. لكن

 من الصعب أن نتحدث عن الخدم دون أن نذكر بعض مساوئهم .. ومساوئنا أيضا ..

نعود إلى قصتي العجيبة التي لم تبدأ أحداثها بعد ..  

ذكرت لكم أنه لا يوجد خدم في منزلنا في الوقت الحالي .. فلا يعيش فيه سوى اثنين .. أنا وجدتي .. وعلى كل حال .. لقد تعلمت منذ صغري ألا أعتمد على الخدم في كل شيء .. لذا كنت أقوم أحيانا كثيرة بتنظيف حجرتي وكي ملابسي .. وكان هذا جزءا من تربية جدتي الحبيبة التي علمتني الإحساس بالمسئولية منذ الصغر ..

ألم أقل لكم منذ البداية أنني إنسان مختلف عن كل من تعرفونهم في (الكويت) .. خاصة لمن هم في مثل عمري ؟! .. 

لم يتغير شيء ولم يحدث أي جديد إلا بعد خمسة أيام من زيارات (سعد) المتكررة لي .. وكان ذلك عندما زارني وهو يحمل علبة كبيرة الحجم لم أعرف كنهها.. تبادلنا التحية ودعوته للدخول .. و ..  

ما هذا الذي تحمله بيدك ؟ 

قال بابتسامة عريضة مليئة بفخر لم أجد له سببا:

إنها مجرد لعبة اشتريتها من (اسكتلندا) منذ قرابة العامين وأردت أن نلعبها معا .. فأنا لم ألمسها قط .. 

وما هي تلك اللعبة ؟.

_nha lwûâ /wija (Ouija Board) .. 

و لوحة أويجا هذه - إن كنت لا تعلم عزيزي القاريء- هي واحدة من الألعاب التي يقال أنها تستخدم للاتصال بالأرواح لسؤالها أسئلة مستقبلية أو أي أسئلة أخرى تتعلق بالموتى .. والواقع أنني لم أرى هذه اللعبة من قبل لكني قرأت عنها في بعض الكتب .. تلك اللعبة التي تحتوي على لوحة مسطرة عليها جميع الأحرف الأبجدية والأرقام (0-9) .. وثمة كوب مقلوب نضع أصابعنا عليه لتقوم الروح التي طلبناها- بواسطة تعاويذ معينة - بالإجابة على أسئلتنا من خلال تحريك الكوب ناحية الأحرف المكتوبة لتكوين كلمات تكون هي الإجابة على السؤال* !!..

ولكن ما كان يميز هذه اللعبة بالذات هو أنها فاخرة الصنع بشكل ملحوظ .. حيث كانت مصنوعة من الخشب الفاخر ثقيل الوزن بما يشي بقيمتها المادية العالية !!.

قلت له بانبهار:

ولكن اللعبة تبدو فاخرة جدا !! كم دفعت ثمنا لها ؟!

قال ببساطة:

لقد دفعت فيها ما يعادل ثلاثمائة دينار هي كل مدخراتي. 

صحت قائلا بدهشة:

ولماذا ؟؟!

لقد أغرتني كثيرا وأحببت أن أقتنيها .. لقد قلت بنفسك للتو أنها تبدو فاخرة الصنع بشكل واضح .. كما أنها تبدو لي قديمة الصنع .. وتذكرني نوعا ما بتلك allàbâ alxialiâ "jwmanji" (Jumanji) في الفيلم الأجنبي الشهير الذي حمل اسمها .. لقد ابتعتها من أحد الباعة المتجولين في (اسكتلندا). 

سألته ودهشتي لم تزول بعد:

ألم تجد أي شيء غريب في هذا ؟!.

قال في غباء وهو يمط شفتيه:

وما الغريب في الأمر ؟!.

أغاظني غباؤه نوعا ما .. فقلت بحدة لم يلحظها:

من أين تظن لبائع متجول كما تقول بلعبة ثمينة كهذه ؟!.

* هذه اللعبة حقيقية وقد أثارت الكثير من الجدل .. وتم الحديث عنها بصورة تفصيلية في كتاب (خلف أسوار العلم) لنفس المؤلف.

 

الحقيقة أنني لم أفكر بذلك .. لقد أعجبني شكل اللعبة كثيرا .. فهي تحفة فنية تستحق ما أنفقته من أجلها..

لو أردت رأيي فهذه اللعبة أثمن بكثير من المبلغ الذي دفعته للحصول عليها .. ويظهر أن هذا البائع المتجول قد سرقها من مكان مجهول وباعها إليك ظنا منه أنه قد خدعك .. في حين أنك أنت الذي خدعته دون أن تقصد .. واشتريتها بثمن بخس كون اللعبة تحفة أثرية ثمنها من المؤكد أكبر بكثير من مجرد ثلاثمائة دينار.

سكت قليلا .. ولم يرد على كلامي ..

ثم قال بحماس مفاجئ محاولا تغيير دفة الحديث:

المهم أنني قد اشتريتها الآن .. هه ؟ .. هل تريد أن نجربها ؟ ..

وهل تصدق هذا الهراء ؟ ..

قلتها له بنبرة ساخرة.

ضحك (سعد) ضحكة قصيرة .. وقال:

فلنجرب اللعبة .. ولنر إن كان ما يقال حولها صحيحا .. فأنا اشتريتها وأخفيتها في غرفتي خوفا من أن يكتشف والدي أنني أنفقت مدخراتي كلها على لعبة كهذه .. فهذا كفيل بإصابته بسكتة قلبية .. 

ثم أكمل قائلا:

- لقد نسيت مع مرور الوقت كل ما يتعلق بشأن هذه اللعبة .. ولا أدري لماذا خطرت ببالي في الأمس فقط !! وهذا ما أغراني كي أحضرها إليك ونلعبها سويا .. هه .. ماذا تقول ؟؟

رفضت في البداية .. إلا أنني وبعد إلحاحه وافقت .. وافقت فقط كي أسكته !! كما أنني لم أجد سببا لرفضي .. لأنني لا أصدق تلك التفاهات أصلا ..

وقد كنت أحمقا !!.. إذ لم أكن لأتوقع أن أبواب الجحيم ستنفتح على مصراعيها .. ولن أستطيع غلقها. 

المهم .. قمت بإطفاء النور وإضاءة مصباح أحمر صغير - لحسن الحظ وجدت لدينا واحدا - بناء على طلب (سعد) لأن الضوء الأحمر يعطي جوا للعبة على حد قوله .. إلا أن الجو الذي أعطاه هذا المصباح كان جوا كريها خانقا وكأننا متنا وذهبنا إلى الجحيم حيث تمرح الشياطين حولنا ..

 جلسنا بجانب بعضنا البعض .. وبدأ (سعد) بقراءة بعض التعاويذ الغريبة المكتوبة على جانب اللعبة باللغة الإنجليزية بصوت حاول أن يجعله مخيفا .. ثم قال:

(خالد) .. سيضع كل منا إصبعا على قاعدة الكوب .. ومن المفترض أن نشعر بالكوب وهو يتحرك .. لا تقاومه .. إتركه يذهب مشيرا إلى الحروف التي ستشكل كلمات ما .. والتي ستكون الإجابة عن أسألتنا للأرواح .. وهكذا .. 

هنا تذكرت شيئا:

روح من نطلب ؟ .. 

آه  فعلا .. لقد نسيت .. من هي الروح التي تود استحضارها ؟ ..  

قلت له بلا مبالاة:

من هي الشخصية التي تشعر أنها ماتت تاركة ورائها الكثير من الألغاز والتساؤلات ؟! إذ ليس هناك أي حكمة من طلب روح شخصية عادية .. 

وبدأ بحماس يذكر قائمة بأسماء أشهر الموتى والقتلى عبر التاريخ الذين يعتبر المؤرخون وفاتهم لغزا حتى اليوم .. إلا أن استقر بنا الرأي أخيرا على تحضير روح 

 (الحاكم بأمر الله) الحاكم الفاطمي الذي أثار موته جدلا واسعا ويعتبر لغزا من ألغاز التاريخ*.

* (الحاكم بأمر الله الفاطمي),َ شخصية تاريخية أثارت جدلا واسعا .. وكان حاكما ذو آراء متناقضة عجيبة .. وقد قتل في ظروف غامضة .. ولمزيد من المعلومات .. يمكنك الرجوع مرة أخرى لكتاب (خلف أسوار العلم) لنفس المؤلف.

حسنا .. فلنبدأ .. 

قرأ (سعد) التعاويذ مرة أخرى وطلبنا روح (الحاكم بأمر الله) .. وجلسنا بعدها ننتظر .. ولكن الكوب لم يتحرك إطلاقا .. وانتظرنا مزيدا من الوقت .. لكن دون جدوى .. وطلبنا أرواح موتى آخرين وآخرين .. ولا نتيجة على الإطلاق !!.. حتى أصابني الملل .. كانت التجربة فاشلة تماما كما هو واضح .. وقلت له وأنا في طريقي لإضاءة الصالة بدلا من المصباح الأحمر المقيت: 

يظهر أن ثمن لوحة (أويجا) الباهظ كان في جودة صناعتها ولا شيء غير ذلك.

قال متظاهرا بالامبالاة -وإن كانت خيبة الأمل واضحة على ملامحه- :

ومن قال أنني كنت أتوقع أن يحدث شيئا أصلا .. لقد اشتريت اللعبة للسبب الذي ذكرته لك ولاشيء غير ذلك.  

كان العشاء كبابا ساخنا طلبته جاهزا من أحد المطاعم .. وكان هذا كافيا لتكون هذه اللعبة في غياهب النسيان.

جلسنا نتناول العشاء في غرفتي .. وتحدثنا بعدها في أمور أخرى وأخرى .. 

لقد تأخر الوقت .. علي الاستيقاظ مبكرا غدا للذهاب مع والدتي إلى سوق الخضاااااار.

قالها وهو يتثاءب كفرس النهر .. ونهض بتكاسل .. 

فصحبته إلى الباب مودعا بفتور: 

 أراك لاحقا ..

لقد بدأت أمل صحبة هذا الفتى حقا .. فهو لا يكف عن الاتصال بي .. حتى حرمني تماما من الوحدة التي أحبها كثيرا .. نعم - وكما ذكرت لكم - أحتاج إلى الصحبة الآدمية أحيانا.. ولكن ليس إلى هذه الدرجة .. سأبدأ شيئا فشيئا بالتنصل منه وتقليل اتصالاتي معه .. 

كنت غارقا في هذه الخواطر وأنا أقوم بتنظيف غرفة نومي من بقايا العشاء .. نظرة سريعة إلى صالة المنزل من خلال باب غرفتي المفتوح .. مهلا .. رأيت شيئا غير عادي قطع علي حبل أفكاري!! لقد نسي (سعد) لعبته عندي حيث تركناها في صالة المنزل .. وليس هذا هو الغريب في الأمر .. 

هل أنا واهم ؟! .. لا .. أنا لا أتخيل شيئا .. عندما تركنا اللعبة كان الكوب الذي استخدمناه في وضع مقلوب .. ولم يحركه أحد بعدها .. بل ولم نقترب من اللعبة إطلاقا منذ تركناها .. أنا واثق من ذلك ..

هرعت إلى الهاتف لأطلب رقم (سعد),َ

آلو .. (سعد) ؟!

همم ؟

هل كان كوب لعبة (أويجا) في وضع مقلوب حين تركناها ؟!.

قال بحيرة:

بالطبع لا أذكر .. لماذا تسأل ؟؟ 

قلت له بشيء من التوتر وقد بدأ الفأر يلعب في عبّي كما يقولون:

لقد نسيت لعبتك عندي في صالة المنزل .. والغريب أنني قد ووجدت الكوب في وضع معتدل وفوهته إلى أعلى !!

تساءل بغباء أثار أعصابي:

وماذا في هذا ؟!

قلت له بعصبية:

ألا تفهم ؟؟ .. لقد تركنا اللعبة والكوب مقلوب .. أنا لم ألمسه وأنت لم تلمسه أيضا .. وهذا يعني أن هناك من قلبه!!. 

ألا يمكن أن يكون أحدنا قد قلبه وهو شارد الذهن ؟؟.

قلت بصوت مرتجف: 

لم يفعل أحدا منا ذلك .. أؤكد لك .. إنني خ ..!!

لم أكمل الكلمة .. كنت أريد أن أقول له بأنني خائف .. ولكن ما الذي سيفيدني في ذلك .. فهذا الأحمق لن يفعل سوى أنه سيخاف أكثر مني .. لذا فضلت أن أنهي المكالمة .. قلت له بأنني سأكون على ما يرام وأن عليه أن يأتي غدا ليأخذ لعبته التي نسيها عندي ..

 حاولت أن أقنع نفسي بأن أحدنا قد قام بقلب الكوب وهو شارد الذهن .. مع أنني رأيت الكوب قبل أن نتناول العشاء في وضعه المقلوب كما تركناه .. ولم يقترب أي منا تجاه اللعبة بعدها .. ولم أفارق (سعد) على الإطلاق أثناء زيارته لي .. مللت من تعقيد الأمر حتى أنني صحت في نفسي بحنق:

كف عن هذا الجبن يا (خالد) .. الأمر لا يستحق كل هذا .. لقد رأيت الكوب مقلوبا .. فلنقل أنني اصطدمت به دون قصد .. فلنقل أنني أحمق .. فلنقل أي شيء .. 

ولكن هذا لم يكن كافيا لاطمئناني .. فجلست في حجرتي قلقا متوترا بعض الوقت بفعل تأثير اللعبة .. التقطت إحدى الكتب وقمت بتشغيل جهاز التلفاز .. أحتاج إلى صوت بشري في غرفة النوم .. فدفء الصوت البشري - حتى لو كان صادرا من التلفاز - يلعب دورا كبيرا في إخماد بركان الخوف والشعور بالوحدة .. وبالفعل بدأ القلق والخوف يزولان شيئا فشيئا ونسيت كل ما يتعلق بتلك اللعبة السخيفة .. فلست أنا أول من يلعبها .. ولا أعتقد أن الأرواح والأشباح وكل هذه السخافات ستترك العالم وتزورني أنا وحدي.

اندمجت تماما في القراءة كما أفعل دائما قبل النوم .. إلى أن شعرت بأن جفوني قد ثقلت شيئا فشيئا وشعرت بنعاس شديد .. فقمت بإطفاء النور وجهاز التلفاز وأضأت مصباح النوم الصغير لأنام بعدها ملء جفوني. 

 

بررووووووم !!.. صوت هزيم الرعد القوي أيقظني مرتين تقريبا لأسمع بعدها

صوت الأمطار الغزيرة في الخارج .. إلا أنني كنت أعود إلى النوم شاعرا بالأمان والدفء تحت أغطيتي الثقيلة بعيدا عن البرد والأمطار وكل هذا الزمهرير .. وفي المرة الثالثة لسماعي صوت الرعد المدوي .. صحوت مفزوعا .. لأرى الظلام .. الظلام فقط !!.. وأدركت أن التيار الكهربائي قد انقطع .. فحتى إضاءة الصالة التي كنت أراها من تحت فتحة الباب كانت مطفئة .. لا أحب الظلام.

كنت في السادسة من عمري حين أصاب الحي مس كهربائي إنطفأ على إثره النور .. 

صرخت .. وصرخت .. لأجد فجأة نور الشمعة الخافت وبجدتي الحبيبة تربت على رأسي:

لا تخف يا (خالد) .. لقد تعطل التيار الكهربائي وأنت نائم يا بني ..ة= ة=لا تشخ شيئا .. سأكون بجوارك.

ولم تتركني إلا بعد أن نمت في فراشي مطمئنا .. كم أعشق حنانها .. كم أعشق حبها .. وكم أفتقد أيام الطفولة السعيدة .. حين كنت أنهض صارخا في الظلام فأجد جدتي تعانقني  وتهدئ من روعي بكلمات حانية هامسة .. وتلثم جبيني بشفتين دافئتين .. ثم تحملني لأنام في فراشها أو تكون إلى جواري إلى أن أنام .. ما أجمل الطفولة.

بعيدا عن هذه الخواطر .. حاولت أن أنام مرة أخرى وأنا مندس تماما تحت الأغطية الثقيلة .. وبالفعل أصبحت قريبا جدا من النوم .. أو كما يقولون .. بين النوم واليقظة .. الأرض غافية ملتفة في الظلام .. وصوت محرك الساعة الرتيب .. أشعر وكأنني الوحيد المتيقظ في هذا العالم .. أنا والنجوم .. و .. هل أنا أحلم ؟ .. لا  .. هذا ليس حلما .. لقد أيقظني شيء ما .. لم تكن الأمطار أو هزيم الرعد هذه المرة .. بل هو ذلك الصوت الغريب .. في البداية استغرق الأمر دقيقة كي أفهم أين أنا .. ومن أنا .. وماذا أفعل في الفراش .. لا أدري كم من الوقت قضيته راقدا في الفراش مذهولا بسبب ذلك الصوت .. كان هناك شئ يصطدم في الباب بإصرار مريب !! .. ليس بقوة ولكن بإصرار كأنك حبست قطة خارج غرفتك .. هرعت حافي القدمين إلى باب الغرفة لأرهف السمع .. نعم .. هناك من يمشي في الردهة .. لص ؟ .. لا شك أنه لص .. شعرت بتوتر ورعب لا حدود لهما .. هرعت بهدوء شديد - خلّفه الخوف - إلى الهاتف الموجود في حجرتي للاتصال بالشرطة .. وضغط على الرقم 7 ثلاث مرات .. ولكن بالطبع - وكما هو معتاد مع النجدة - لم يجب أحد .. أطلقت سبة وأقفلت السماعة وتوتري قد بلغ مبلغا .. وحمدت الله ألف مرة بأنني اعتدت منذ فترة طويلة أن أقفل باب حجرتي عندما أكون داخلها .. إلا أن هذا لم يطمئنني تماما .. فالشخص الذي في الخارج لم يحاول فتح باب الغرفة .. بل هو ذلك الاصطدام المخيف بالباب وكأنه لا يريد شيئا سوى إيقاظي فحسب !! .. ولكن .. بعد حوالي دقيقتين توقف ذلك الصوت تماما .. ولم أعد أسمع سوى صوت الأمطار وهزيم الرعد .. حاولت الاتصال بالشرطة بعدها أكثر من مرة .. ولكن لا رد هناك .. طبعا لكم أن تتخيلوا كيف قضيت هذه الليلة .. كانت خيوط الفجر تتسرب عبر الستائر وكان النوم قد خاصمني تماما .. وفجأة.. وبعد ساعات قليلة من انقطاع التيار الكهربائي .. عاد نور مصباح النوم مرة أخرى .. وأصبحت أرى الخط الضوئي الرفيع يمر من تحت باب غرفتي .. عندها عرفت أن التيار الكهربائي قد عاد .. وقد أزال هذا الكثير من خوفي .. إلى أن هذا لم يمنعني من معاودة الاتصال بالشرطة مرة أخرى وأخرى .. وأخيرا ..

آلو ..

مرحبا .. اسمي (خالد ال....) وعنواني هو ؟......) أعتقد أن أحدهم اقتحم منزلنا قبل ساعات قليلة  ..

سألني الشرطي باقتضاب:

وهل هو موجود الآن ؟! 

لا يبدو لي أنه موجود في هذه اللحظة. 

وذكرت له ما كان يحدث عند باب حجرتي وصوت الاحتكاك المريب في الباب وكأن أحدهم يحاول فتحه .. وذكرت له أن هذا قد أخافني كثيرا خاصة وأن التيار الكهربائي كان مقطوعا و ..

لحظة يا أخ .. ولكن التيار الكهربائي لم ينقطع إطلاقا في الساعات الماضية في أي مكان في المنطقة ولا حتى في حيكم وإلا لعلمنا بذلك .. يظهر أنك كنت تحلم !!.

هذا غريب .. تخاذل صوتي حتى أنني لم أجد ما أقوله .. فأقفلت السماعة وأنا أفكر .. خرجت إلى الصالة متوجسا .. كل شيء في مكانه .. والكهرباء ؟؟ قد يكون عطلا كهربائيا بالمنزل فحسب .. نزلت إلى الدور الأرضي لأرى صندوق الكهرباء .. فأنا أفهم قليلا في تلك الأمور .. لا تنسوا أنني الرجل الوحيد في هذا البيت ومن الطبيعي أن أعرف شيئا ما عن مشاكل التيار الكهربائي .. .. ولكن كل شيء كان يبدو طبيعيا .. 

ما الذي يحدث هنا ؟! 

قلتها بصوت مسموع .. فقد بدا لي انقطاع التيار بهذه الصورة أمرا غريبا بالفعل !!.  

كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة والنصف فجرا بقليل .. حاولت أن أنام لكني لم أستطع إطلاقا !!.. 

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا