رواية
خوف
أسامة المسلم
لماذا تأخرت..؟
تذكر قبل أن تدخل..
أنك لن تخرج..
مقدمة
هذه الرواية أو السيرة الذاتية أو كما سنتفق لاحقا على تصنيفها ليست لتصنيف فئة من المجتمع أو عزل فئة دون غيرها بالرغم من أن التصنيف مهم في مجتمعي وإحدى أهم أوراق الاعتماد المبدئية قبل قبول رأيك أو حتى قبول سماعه، فلابد أن يكون لك تصنيف أو رتبة يتم على أساها تقويم عقلك أو فكرك أو تجاربك.
ولدت في المملكة العربية السعودية في منتصف السبعينيات بعد زواج أمي وأبي بسبع سنوات، كنت مصدر فرح وبهجة لهما ولجميع العائلة وكما أخبرتني أمي أنني ولدت مبتسما ولم أبك عند ولادتي.
قبل أن أكمل سنتي الأولى سافرت معهما للولايات المتحدة الأمريكية عندما قرر أبي إكمال دراسته للحصول على درجة الماجستير، فنشأت في بيئة تختلف كليا عن البيئة التي سوف أعود إليها لاحقا بعد انتهاء أبي من الدراسة.
نشأت في بيئة غربية وتعلمت اللغة الإنجليزية قبل العربية وأصبحت لغتي الأولى وعشت مثل أي طفل عربي يمارس حياته اليومية تحت ظل أكبر دولة رأسمالية في العالم وبدأت بمرحلة الحضانة مروراً برياض الأطفال وكنت أتناول الوجبات السريعة من ماكدونالدز وغيره من المطاعم الأمريكية الشهيرة وحظيت بزيارة لعالم ديزني الساحر وأنا ما زلت طفلا في الرابعة من عمري ولم أدرك إلا فيما بعد أنني كنت أتسلح بأدوات فكرية ستكون لي لاحقا في حياتي أكبر نافذة أطل بها على عالم لا يزال البعض حتى يومنا هذا يسميه عالم الكفر والفسق البغيض.
بعد مرور ما يقرب الخمسة الأعوام عدنا مع أبي إلى مسقط رأسه بعد ما أنه هي دراسته وحصل على درجة الماجستير، وتوافق ذلك مع ولادة أخي الوحيد والذي حمل الجنسية الأمريكية لأنه ولد هناك.
عدت لعالم وثقافة لا أعرف عنهما شيئاً، عدت وأنا لا أجيد حتى كلمة واحة من اللغة التي يتحدث بها من حولي، كنت كالغريب الذي أتى من كوكب آخر. كان يزج بي في المجالس للتحدث مع الناس بتلك اللغة الغريبة التي لم يسمعوها إلا من التلفاز في الأفلام والمسلسلات الغربية والتي لا يجيدها الكثير من الكبار فكان من الغريب أن يشاهدوا طفلا في الخامسة يتحدث بها بطلاقة وكنت أتذكر بوضوح أنه كلما تحدثت كان الضحك يعم المكان ولم أكن أعرف السبب، لا أذكر ذلك تكبراً أو غروراً لكنه كان إحساسا ملاصقا لي بعدم الانتماء خاصة في الأيام الأولى من عودتي للبلاد.
كان أكثر سؤال يوجه إلى هو:
What is your name?
وكانت هناك نظرات استياء من بعض مرتادي تلك المجالس لأني كنت أتحدث بلغة الكفار حسب وجهة نظرهم ولم يكونوا يخفون ذلك الاستياء بتنبيه أبي وكأني على وشك الانحراف والخروج عن الطريق المستقيم، لكن ولله الحمد أبي لم يكن من الناس الذين يحاربون ما يجهلون أو في مبادئهم يجاملون، وقد رباني على ذلك لذلك تجاهل تلك التعليقات ولم يلق لها بالا.
في غضون أشهر تعلمت العربية من خلال الممارسة والاستماع لكني لم أنس لغتي الأولى وكنت مشتاقا جداً لسماع وممارسة تلك اللغة التي عشت معها ومن خلالها أيام طفولتي الجميلة. كانت أولى وسائل عودتي لذلك العالم الذي اشتقت إليه هي من خلال مشاهدة قناة أرامكو والتي كانت مخصصة لموظفي شركة الزيت العربية الأمريكية والتي سميت فيما بعد بشركة الزيت السعودية ARAMCO فقد كانت تبث من الظهران في المنطقة الشرقية وموجهة للأمريكان والأجانب كنوع من العلاج لحنينهم للوطن. كنت من ضمن من حنوا وتابعوا تلك القناة.
كانت تلك القناة نافذة أطل منها كل يوم على عالمي الذي خرجت منه دون سابق إنذار، كنت أتابعها ح تى تغلق في الليل. وكأن بعودتي من الخارج لـ "وطني" توقفت عملية تثبيت تلك الثقافة في عقلي وتم استئناف التثبيت بعد متابعتي للقناة وبرامجها المتمحورة حول ثقافتي الأولى.
لم أنجذب يوما للثقافة المحلية ليس كرها لها أو تكبراً عليها لكن كان الأمر أشبه بالغريزة الملحة تجاه الثقافة الأخرى، تماما مثل الطفل الذي اكتشف بعد ما عاش وتربى عند أمه حتى وصل للخامسة من عمره أنه متبني وأن أمه الحقيقية التي أنجبته قادمة لأخذه من أحضان أمه الأولى فبدأ بالبكاء لفراق من رأيته في الصغر ليس كرها لأمه الحقيقية أو البيولوجية بل ارتباطا بأمه التي ربته واحتضنته وكانت معه في خطواته الأولى في هذه الدنيا.
كانت برامج قناة أرامكو مثل ألبوم الصور لتلك الأم التي ربتني والتي انتزعت من صدرها بعد ما ألفتها وارتبطت بها عاطفيا وعقليا. كنت أتصفح ذلك الألبوم كل يوم وأنا أشتاق لرؤياها حتى وإن كانت تلك الأم غير مسلمة وترتدي الصليب، لذلك لا يفهمني الكثير من الناس اليوم عندما أدافع عن أمي الأولى أو ثقافتي الأولى إن صح التعبير والتي يصفونها دائما بالفسق والفجور في كل مناسبة. فمن منا يرضى أن تسب أمه أمامه ويقف ساكتا وساكنا وهو يسمع من يتهما بأبشع التهم والأوصاف وإن كان بعضها صحيحا؟ لذلك كنت أدافع عنها في الكثير من النقاشات بالرغم من الأوصاف التي ألصقت بي لقيامي بذلك.
اليوم الذي اكتشفت فيه القراءة
تعطل التلفاز.. كنت في العاشرة من عمري تقريباً وفي تلك اللحظة الحاسمة من حياتي أحسست بالضياع وشعرت أنه بصري قد سلب مني لأني لم أكن مثل بقية الأطفال الذين يلعبون الكرة بشغف في الشارع أو يركبون دراجاتهم متنقلين من زقاق لآخر يجمعون من الحياة خبراتهم عن طريق الممارسة والاحتكاك المباشر مع أقرانهم فقد كان لي عالمي الخاص الذي تشوش وتعكر صفوه بتعطل ذلك التلفاز.
ذهبت لأبي أرجوه أن يصلح التلفاز لإعادة نافذتي الوحيدة على العالم لسابق عهده لأني كنت في أول يومي وقد كان التلفاز بعد نهاية يومي الدراسي بمثابة الصندوق السحري الذي يقدم لي جرعات من التشويق والإثارة، والتي كنت أتوق لها دائما لأني لم أكن في ذلك الوقت أملك هواية أتسلى بها أو أقتل فيها وقت فراغي الذي كان ومازال إناء يفرغ بسرعة وهاجسي على الدوام ملؤه.
على الرغم من سرعة استجابته، إلا أن ظني خاب عندما علمت بعد عودة أبي في المساء أن الجهاز سيبقى ثلاثة أيام حتى يتم إصلاحه.
نما عندي فضول قوي ذلك اليوم لأشغل وقتي بشيء بديل حتى تعود نافذتي لسابق عهدها. بدأت أبحث في أرجاء المنز لعلي أجد شيئاً يسليني خلال تلك الثلاثة الأيام الموحشة فقادني البحث للطابق العلوي من منزلنا ومن هناك توجهت إلى غرفة لم أفكر بدخولها يوما من الأيام.. مكتبة أبي.
لا أستطيع أن أصف شعوري ذلك اليوم عندما فتحت باب المكتبة لكنه كان أقرب لمن اكتشف كنزاً مدفونا في فناء منزله. لقد كان الكنز مجموعة من الكتب والمجلات والأشرطة والوثائق التي جمعها أبي خلال سنوات دراسة في أمريكا وكانت كلها مصفوفة في دولاب زجاجي ضخم ومرتبة بعناية شديدة وكانت طاولة القراءة مثل التي تجدها في غرفة الاجتماعات يتربع فوقها مجسم للكرة الأرضية وفي مركزها كرسي متحرك من الجلد الطبيعي.
أحسست أن العالم بين يدي وبالرغم من أن الكتب والمجلات والأشرطة كانت كلها باللغة الإنجليزية إلا أني نهلت منها بشغف وعشقت من خلالها القراءة والاستماع لأغاني مغني الستينيات والسبعينيات مثل Boney M, The bee Gees, The Beatler وأنا أتصفح أول نسخة من مجلة Time كنت هناك وأنا هنا.
وجدت في تلك المكتبة البساط السحري الذي لف بي العالم بواسطة صفحات من الورق ومن خلال بعض الألحان الموسيقية التي كانت تأخذني لثقافتي الأولى في ثوان. كنت أشعر بأني محظوظ لأن معظم الأطفال في سني لم يكونوا ليستفيدوا من هذا الكنز العظيم دون اللغة التي كنت أملها والتهيئة الثقافية والفكرية التي غرست بي والحرية التي منحت لي في تصفح تلك المكتبة.
أنهيت قراءة أول موسوعة لي في أيام وقد كنت طفل في العاشرة وأبحرت في علوم لم أكن أفهمها في ذلك الوقت لأن أبي كان يجب اقتناء الكتب في كل المجالات وكانت لديه مجموعة خاصة مقفل عليها في حقيبة دبلوماسية سوداء تمكنت من فتحها لاحقا بعد عدة أشهر.
عاد التلفاز للمنزل بعد مضي الأيام الثلاثة ولم أعره أي انتباه كالسابق فقد وجدت ما هو أثرى وأغنى لذا أبحرت في محيطات تلك المكتبة دون توقف حتى تخرجت من المرحلة الابتدائية وفي ذلك الوقت لم أكن أجد في المناهج الدراسية جاذبية مما كان له أثر عكسي على مستوى تحصيلي العلمي لم أكن غبيا لكني لم أكن مهتماً.
لم تكن لي صداقات كثيرة في تلك المرحلة من حياتي ليس لأني منطو لكني لم أنجذب للأطفال في عمري فموضوعاتهم كانت بعيدة بمراحل عن الموضوعات التي قد تحرك أدنى اهتمامي وكنت أرى في اهتماماتهم سطحية شديدة بالرغم من محاولاتي المتكررة للاندماج معهم، في تلك المرحلة بدأت بقراءة المؤلفات المحلية لكنها أيضاً لم تجذبني لفارق الأسلوب والقوة في الطرح عن مثيلاتها في الطرف الغربي لكن شدني الأدب وقرأت لشوقي كثيراً لا أعرف لماذا لكنه أكثر شاعر لفت انتباهي وجذبني لما يكتب.
مضت الأيام وعشت بعقل مختلف عن من هم حولي ليس بالضرورة أذى لكن بالتأكيد مختلف. كانت قراءتي اليومية والمستمرة لتلك الكتب في مكتبة أبي عاملا رئيسا في تبلور شخصيتي وحدوث ما يشبه البلوغ المبكر لعقلي. كنت أحب تحليل الشخصيات لأن العينات كانت كثيرة ومتنوعة من حولي. أذكر عندما كنت في الثانية عشرة من عمري تقريبا كنت أعاني مشكلة في المعدة وكان هذا الألم متكرراً ولم يجد معه علاج كل الأطباء والاستشاريين الذين أخذني إليهم أبي وبسبب قلق أمي علي وعدم تقديم الطلب الحديث حلا لحالتي المزمنة قررت أمي الذهاب إلى "شيخ" متخصص في القراءة على الناس وبالرغم من أن أمي لم تكن لتطرق هذا الباب المجهول أو تفكر به ليس جحداً بالقرآن وقدرته بإذن الله على شفاء الناس لكن شكا وعدم ثقة في ممارسي القراءة. لكنها في النهاية خضعت لضغوط أقاربها وإصرارهم وتوصياتهم العالية بحق هذا الشيخ "الفاضل".
خرجنا مع أبي بعد إلحاح أمي وتوجهنا لشخص كان يلقب بـ "الشيخ العماني" لبدء جلسات العلاج معه. كان أبي يوصلنا إلى منطقة بيوتها من طين لنقطع أنا وأمي بقية المسافة على الأقدام عبر بيوت قديمة متهالكة وقد كانت بيئة جديدة علي في ذلك الوقت. كانت شوارعها ذات رائحة مميزة. لم أكن أعي في الزيارة الأولى وجهتنا لكن مع تكرر الزيارات كنت أتحمس للذهاب لأن تلك المنازل الطينية كانت تعجبني لسبب ما. كنا ننتظر الشيخ في غرفة صغيرة ممتلئة بالنساء والأطفال ونادراً ما نرى رجلا بينهم وكان هذا الانتظار يمتد لفترات طويلة في زيارتنا الأولى قبل أن تدرك أمي الآلية التي يعمل بها هذا المكان وهي "المال" فحصلنا على تصاريح مرور VIP في كل زيارة بعد إدراك أمي لهذه الآلية. كانت الأموال تتدفق في يد كل من يوصلنا إلى "الشيخ" بسرعة وفي نهاية المطاف وبعد عدة نقاط جمركية لا أجلس أمامه إلا خمس دقائق تحاول فيها أمي شرح حالتي بسرعة والقلق على وجهها وهو مغمض العينين واضح يده على رأسي ويتمتم ببعض الكلمات غير المسموعة بوضوح وأنا أنظر إليه بخليط من الخوف والاستغراب وينتهي اللقاء في العادة بالبصق في وجهي وفي قارورة من الزيت أو الماء وخروجنا بسرعة وعلى عجالة وكأننا نهرب من مسرح جريمة.
استمرت زيارات أمي لـ "الشيخ" واستمرت جلسات البصق في وجهي حتى توقفت أمي فجأة عن الذهاب إليه. بصراحة لقد اعتدت على تلك الزيارات التي كانت تخرجني من المنزل. لم أكن من الأولاد الذين يسمح لهم بالخروج كثيراً لذلك كانت تلك المواعيد "العلاجية" تغيراً جميلا.
بعد عدة أسابيع انقطعت زياراتنا لـ "الشيخ" فسألت أمي قائلا:
"لماذا لم نعد نذهب للشيخ يا أمي؟"
فردت أمي برد لم أضحك عليه إلا بعد سنوات عندما كبرت واستوعبت كلامها فقد قالت بحسرة:
"قبضت عليه الشرطة".
لم أتصور يوما أن أمي التي كانت متعلمة وزارت أكثر من عشرين دولة حول العالم سينتهي بها المطاف إلى أخذ ابنها لرجل كي يبصق في وجهه وتدفع له مبلغا مجزيا مقابل ذلك.
دفعني هذا الموقف عندما استرجعنه بذاكرتي يوما للتفكير وأثار ذلك في عقلي المتحرك سؤالا:
لماذا..؟
لماذا فعلت أمي ذلك؟
لماذا ذهبت لذلك الدجال الذي أغرقني بزيوته وبصاقه...؟
لم أجد إلا جوابا واحدا.. "الخوف".
نعم إنه الخوف.. الخوف جردها من عقلها ومنطقها وجردها من كل وسائل الدفاع عن النفس. الخوف الذي كان سلاح ذلك الرجل كي يبتز الناس في أموالهم وأحياناً أعراضهم ولم يقدر أحد على مناقشته لأنه كان يلبس عباءة أعطته كل الصلاحيات والحصانة التي يحتاجها.. الدين.
بقى هذا الموضوع في ذهني حتى بلغت العشرين من العمر وأصبح مركزاً لاهتمامي وشاغلا لبالي وأصبحت أراقب أفراد المجتمع حولي ووضعت نظرية "الخوف" للقياس والتجربة أكثر من مرة ولم تخيب هذه النظرية ظني قط. حاولت أن أوضح للناس بالنقاش المنطقي أن الثقة العمياء التي يهبونها لبعض المتنكرين بعباءة الدين تخالف غريزة الحذر والخوف التي هي من أساسيات البقاء عندهم لكن تأثير اللحية والثوب القصير ورائحة دهن العود كان أقوى مني ومن منطقي. مع ذلك كان لدى أمل أن أحقق تغييراً في نمط التفكير السائد تجاه "المتمشيخين" لكن عند وصولي للمرحلة الجامعية اكتشفت أن مجتمعي يعاني من سوء فهم لمعنى الفهم.
بمعنى آخر أن هناك تقويما سابقا لعقل الشخص قبل أن يفتح فمه، وتقويما لأخلاقه قبل أن يتعامل معك. لم أفهم هذا النظام ولم أقرأ عنه من قبل في أي كتاب.
تكيفت مع مجتمعي بالتمسك بمفاهيمي ومبادئ وأتقنت تجاهل من اختار أن يكون جاهلا.
كان البعض ينتقد استشهادي بأينشتاين لأنه يهودي ويتهمني بالغباء لأني معجب بعقلية هتلر النازي وكان العرف المفروض هنا هو أن كل شيء خارج حدود جغرافية وطني لا يجوز التعامل معه إلا بازدراء وحسرة، فهم الضالون ونحن الناجون.
حتى صداقاتي مع معتنقي بعض الديانات الأخرى وأصحاب المذاهب المختلفة كان ينظر لها البعض على أنها خيانة عظمى للمنظمة التي ستدخل الجنة من أوسع أبوابها.
لا أنكر أني حاولت تبني هذا الفكر في فترة من فترات حياتي من باب التكيف وتجربة الجديد لكن لم أستطع لأن متطلبات عقلي كانت أكبر، اتهمت بالزندقة وازدراء الدين أكثر من مرة من قبل عدد من المتألمين لأسباب ليست دينية من الأساس.
بدأت بعدها أفكر حتى توصلت لقناعة خاصة بي وهي أن الأحمق مثل العاري أمام الناس وسوف يغطي ويستر نفسه بأي شيء وبأي طريقة حتى يداري حماقته فهناك من يختار الصمت وأنا أحترم هذا النوع وهناك من يختار الهجوم على شخصك كي يلتفت الناس إليك ويديروا أنظارهم عن عورته المكشوفة وهذا للأسف حال الكثير من أبناء مجتمعي الأغبياء.
البعض يخلط بين الجهل والغباء فيعتقد أن الجهل مذمة مثل الغباء ولا يدرك أننا كلنا جاهلون بشيء ما بطريقة أو بأخرى ولا يعلم العلم كله إلا الله، فكلمة جاهل صفة لنقص المعرفة لكن الغباء صفة لنقص القدرة على استيعاب المعرفة وهذا أخطر.
في تلك المرحلة من عمري وفي أوج عطش عقلي للمعرفة تغير مجرى حياتي وإلى الأبد. لم أحك ما حدث معي لأحد لأني لم أجد تفسيراً لتلك الأحداث يقبله أي عقل في هذا الزمن.
ولكي أكون واضحاً منذ البداية فأنا لا أنتظر القبول أو الرفض من أحد، وسوف أسرد ما مررت به لمجرد التوثيق الزمني لعل يوما من الأيام بعد ما أموت بنظر لما كتبته مثل ما نظر لمؤلفات من قال أول مرة إن الأرض كروية فأحرق هو ومؤلفاته ولم تظهر حقيقة ما كتب إلا بعد قرون طويلة.
ما سأذكره في الصفحات التالية من أحداث وقصص وروايات لن أطلب من أحد تصديقها ولن أدعي أنها حقيقة حفاظا على نفسي من سوط النقد الجاهل وكذلك لن أقول إنها رواية من نسج خيالي كي لا أظلم جزءاً مهما من حياتي غيرها إلى الأبد لكن سأكتفي بالقول إنها مجرد.. إسرائيليات.
اليوم الذي غير حياتي
كنا في زيارة لأحد الأقارب وكان المجلس مكتظا بالرجال من جميع الأعمار وكعادتي كنت أناقش الموضوعات الجدلية بحرارة وأصطدم مع أي رأي لا يعجبني أو يدخل عقلي وكنت أحب أن أسمع عبارات الثناء من هم حولي عندما أقحم أحد المتغطرسين الذين يدعون العلم والمعرفة أمام أفراد المجلس فقط لكونهم يحظون بمكانة اجتماعية أو اقتصادية توهمهم بأنهم مخولون بالحديث في أي مجال أو موضوع.
كنت أرتوي بنظرات الفخر والإعجاب من أبى خاصة وبعض أقاربي ورواد المجلس عامة وكانت عبارات مثل "أنت سابق سنك" أو ما شاء الله عليك أفحمتهم" هي التتويج المحبب لقلبي في كل معركة نقاشية أنتصر فيها.
لا شك أن هناك بعض العقول المتحجرة التي كانت تعشش في تلك المجالس كالغربان السنة التي ترفض وتحرم على الطيور الصغيرة الجلوس على غصن هزيل على تلك الشجرة وتنعق في كل من يحاول الاقتراب منها والتي مهما طرقتها بسندان المنطق ومطرقة الدليل القاطع لن تنفلق أبداً وتعترف بجملها لكنها تكتفي بردود وعبارات استفزازية مضحكة مثل "الحمد لله على نعمة الإسلام" أو "إحنا ما نعرف غير القرآن والسنة" وكأن الذي يتحدث معهم قد جاء للتو من حائط المبكي.
كنت متعوداً على هذا الأسلوب البائد للهروب من الحوار والنقاش العقلاني لكنني كنت أستاء من نظرات التأييد والقبول من بعض الذين كنت أحسبهم ضمن العقلاء في المجلس وكأنهم بهذا التأييد يشترون راحتهم وينجون بأنفسهم من تصنيف حتمي سوف يعزلهم عن تلك الفئة المسيطرة على مجلسنا الموقرة ويجعلهم في قائمة تعرف في يومنا الحاضر "بالليبرالية" وهذا المسمى وللأسف تم استخدامه مع من ينطبق عليه ومع من لا ينطبق ناهيك عن عبارات مثل "هل ترضاها لأختك" وغيرها من الوسائل المعتادة للهروب من أي نقاش منطقي.
أكاد أجزم أن بعضكم سيتوقف عن القراءة الآن لأنه قد أصدر علي حكما بأني أحتقر من حولي وأنظر لهم بدونية وأحمل شعلة التحرر والانفتاح لأقود بها الناس أو على أقل تقدير فاسق أو مزدر للأديان من مجرد بعض السطور مع أنني لم أتطرق للدين نهائياً لكن تطرقت لأشخاص وهنا تكمن المشكلة الحقيقية التي أوجهها بعقلي الذي لا يريد التوقف عن التفكير فليس من طبعي تقديس الأشخاص أو وضعهم في فئة المعصومين المنزهين عن الخطأ، فأقصى ما يمكن أن يحظوا به مني هو الاحترام التبادل والنقاش الراقي وهذا بحد ذاته حلم بعيد المنال مع بعض المحسوبين علينا بالمفكرين والعقلاء والذين لم يتنزهوا أو يترفعوا إلا عن أبسط أبجديات أدب الحوار. ما تسمعه مني هو ليس صوت "الأنا" بل صوت "من أنتم" لتحددوا كيف أكون؟
لنعد للمجلس الذي امتلأ بدخان البخور معلنا نهاية الجلسة ونظرة غضب من عمى عندما قلت إن إشعال البخور هو من أهم المكونات التي يستخدمها الهندوس في الكثير من مراسمهم وطقوسهم. يجب أن أتعلم ألا أتكلم في الثوابت في المستقبل.
هممنا بالخروج وقبل وصولي لباب المجلس نادى على أحد أقربائي والذي كان كبيراً في السن وقد ناهز السبعين صيفا من عمره. أشار لي بيده فذهب له لأني بصراحة أفضل الحديث مع كبار السن لأن فيهم من الحكمة المعتقة التي أحب أن أحتسيها منهم قبل فراقهم لهذه الدنيا.
قال لي قريبي المسن: هل ترغب في الحديث؟
السؤال كان غريبا لكن الإجابة كانت: نعم بالتأكيد!
فقال: ابق معي قليلا حتى يخرج الناس.
جلست معه حتى رحل الناس بمن فيهم أبي الذي اصطحبه أخي بسيارته التي بدأ للتو تعلم قيادتها، لأن المنزل كان منزل ابن الرجل الذي طلب الحديث معي وهو مقيم معه منذ فترة.
خلا المكان من الناس واستأذن ابن الرجل للصعود للطابق العلوي وقال لي:
المكان مكانك خذ راحتك.
نظرت لقريبي الكهل بنظرة "هات ما عندك" فباغتني بسؤال وقال: هل تؤمن بالعالم الآخر...؟
تفاجأت من سؤاله وسألته عن سبب السؤال من الأساس.
فقال سمعتك في المجلس وأنت تناقش عبد الرحمن وتقول:
"تعلقكم بالخرافات هو الذي جعلكم تفكرون بهذه الطريقة"
فقلت: نعم خرافات.. فقد كنا نناقش قصة ذلك الساحر الذي أتى للقراءة على تلك المرأة المسكينة بعد ما أقنعها بأنها ممسوسة وفي النهاية تحرش بها.
سألني وقال: وما هي الخرافة في الموضوع؟ السحر أم القراءة أم ماذا؟
فسكت.. ومن النادر أن أسكت وينعقد لساني لعجزي عن الرد..
فقلت له: كنت أقصد أموراً أخرى.
فقال: مثل ماذا؟
فسكت مرة أخرى وأنا أحدق في عينيه اللتين تنتظران إجابتي ولم أحب الحصار الذي كنت فيه فقلت بلا تفكير:
عالم الجن والشياطين والمس فهذا الكلام تحديداً لم يدخل عقلي...!
فقال: هل تعرف الآية المذكورة في سورة النمل والتي تقول:
(قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: 39-40).
فقلت: نعم أعرفها.. ما بها؟
فقال: من هما الشخصان اللذان يتنافسان على إحضار عرش بلقيس لنبي الله سليمان في الآية؟
فقلت: اثنان من الجن بالطبع.
فقال: هل أنت متفقه في الدين أو علم التفسير؟
فقلت له: بصراحة لا ولا رغبة لي في ذلك.
فقال: ولماذا؟
فقلت: ليس كرها في الدين والعياذ بالله لكن نادراً ما أرى أو أجد من يناقشني في الموضوعات العادية بهدوء فما بالك بالدين؟
وضربت له مثالا على ذلك وقلت:
كنت مرة أصلي العشاء في شهر رمضان المبارك وخرجت دون أن أصلي التراويح وعدت للمنزل لإحساسي بالتعب وبعد انتهاء الناس من الصلاة اجتمعت مع بعض الأصدقاء وكان أحدهم قد رآني وأنا أخرج من المسجد قبل التراويح، وأثار ذلك الشخص الموضوع أمام الجميع بقوله:
"هداك الله على ما فلته الليلة
فقلت له: وما الذي فعلته؟
فقال: ارتكبت إثما عظيما!
فقلت مصدقا لطرحه الواثق: خيراً إن شاء الله؟
فقال: تركت صلاة الجماعة.
فقلت له: لقد صليت العشاء مع الجماعة.
فقال: أنا لا أقصد صلاة العشاء بل أقصد صلاة التراويح
فضحكت بلا شعور.
فصرخ في قائلا: أتضحك على شرع الله؟!
فقلت: لا بل أضحك على غبائك.
فغضب وقال كلاما لا أجرؤ على إعادته وعندما حاولت إفهامه أن التراويح سنة ولا يأثم تاركها ارتفع صوته وقال:
هذا ليس بعذر!
وبدأ بالهجوم علي والحديث معي وكأني قد خرجت من الإسلام للتو ولا أريد العودة. بصراحة لا أخفي عليك أن النقاش معه كان مرهقا جداً لأنه كالحديث مع أعمى أصم. حتى عندما قلت له إن صلاة التراويح في المنزل لا تقل أجراً عن صلاتها في المسجد عند بعض الفقهاء، اتهمني بالزندقة ولم يبق على تكفيري إلا كلمة أرها قادمة في نهاية الحديث.
والمضحك المبكي في الأمر هي تلك المجموعة التي تجمهرت حوله والتي كانت تحاول تهدئته بقولها:
"اهدأ يا شيخ!"
كنت أرى نفسي في صراع فكري مع شخص لا يملك فكراً من الأساس ومع تكرار مثل هذه الأمثلة والمصادمات العقيمة عندما يكون النقاش متعلقا بالدين اخترت ألا أتفقه أو أتعمق فيه أكثر من حاجتي كمسلم عادي لأن حريتي في قول رأي مسلوبة منذ البداية ولن أستطيع الكلام دون أن أمر في حقل من الألغام ما أنزل الله به من سلطان.
فسكت الرجل لثوان وهو يحدق في ثم قال:
هل أفهم من ذلك أنك تنكر وجود الجن؟
فقلت له: لا تتذاك علي فلو أنكرت الجن ستقول إني أنكرت القرآن وسينتهي النقاش بتكفيري.
فقال: لا لن أفعل ذلك.
فقلت: ثم إني ذكرت لك أن من كانا يتنافسان على إحضار عرش بلقيس لنبي الله سليمان هما من الجن فكيف أنكرهم؟
فرد على بكلام حول محور الحديث معه وغير حياتي للأبد.
قال: لكن الشخص الذي قال لنبي الله سليمان: "أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك" لم يكن من الجن.
فسكت باستغراب.. ثم قلت:
كيف لا يكون من الجن؟ ماذا يكون إذن؟
قال: رجل مثلي ومثلك لكنه أوتي علم الكتاب.
فقلت له: وما هو علم الكتاب هذا الذي أعطى بشرا القدرة على التفوق على الجن وإحضار عرش بلقيس قبل أن يرتد طرف نبي الله سليمان إليه؟
قال: اختلف المفسرون في تفسير المعنى لكنهم اتفقوا أنه رجل ذو قدرة وعلم يفوق الجن والبشر ومصدر قدرته كان علم الكتاب. والبعض الآخر فسرها على أن الرجل هو نفسه نبي الله سليمان وكان الحوار بينه وبين ذلك الجن.
نظرت له وقلت: هل هذا التفسير من عندك أم متفق عليه؟
فقال: أغلب المفسرين فسرها بذلك.
فقلت: ماذا تحاول أن تقول؟
فقال وهو يبتسم: هناك عالم آخر.. عالم لا يعرف عنه الكثير من الناس عالم غامض من الجن والشياطين والسحرة وأبعاد أخرى تعيش حولنا وبيننا وأمور ينكرها الناس إما خوفا منها أو جهلا بها أو كليهما.
فقلت له: لكني لا أصدقك وأنا نادراً ما أنفي شيئاً قبل التقصي عنه لكن ما تقوله جنون.
فقال: هل تريد إثباتا؟
فقلت وأنا أبتسم: وماذا ستفعل؟
قال: سأجعلك تراهم بعينك وتسمعهم بأذنك.
فضحكت وقلت: وأخيراً شخص يعرض علي دليلا ملموسا تفضل هات ما عندك.
فقال: هل أنت واثق من كلامك؟ هل تريد فعلا أن تدخل إلى هذا العالم؟
فقلت باستهزاء: بل أتوق لذلك! فنهض وقال: حسنا.. انتظرني هنا.
ذهب قريبي الكهل لغرفته ثم عاد وفي يده كتاب ووضعه في يدي وقال:
تذكر أن هذا كان قرارك.
أخذت الكتاب وودعت قريبي وشكرته على حسن ضيافته وخلال مصافحتي له وقبل أن أترك يده شد على يدي بقوة وقال:
تذكر أنك أنت من اختار.
فتبسمت في وجه ابتسامة خالطها القلق لأن وجهه كان مقلقا وكأنه نادم على إعطائي الكتاب. ركبت سيارتي متوجها للمنزل وأنا أفكر في كلام قريبي العجوز وفي كلمة (علم الكتاب) تحديداً وكنت أقول في نفسي:
"هل يمكن لقراءة كتاب أو كتابين أو حتى بضعة كتب أن تجعل أحد البشر متفوقا على أحد أبناء الجن؟
وخلال هذا التفكير والعصف الذهني بدأت أسترجع بعض ذكرياتي المحدودة عن قريبي العجوز، تذكرت أنه كان رجلا منطويا وغير اجتماعي وقليل الكلام ونادراً ما يناقش ويشارك في الحوارات التي ترمي في المجلس من وقت لآخر لكنه إذا تكلم وقرر المشاركة أفحم وأسكت الحضور وتذكرت أيضاً أنه فقد أحد أبنائه في حادث مروري وأنه أيضاً كان يتعالج لفترة طويلة في الداخل والخارج، لم أتذكر المرض الذي كان يعاني منه وقتها لكنه انتقل بعدها للعيش مع ابنه الأكبر بعد ما توفيت زوجته قبل سنوات قليلة ماضية.
دخلت المنزل وتوجهت لغرفتي مباشرة وكنت مرهقا جداً من يومي الطويل فرميت الكتاب على الطاولة وجسدي على السرير وغصت في نوم عميق، استيقظت في الصباح ودخلت في الروتين اليومي من استعداد للذهاب للجامعة وممارسة كل ما اعتدت القيام به من الزيارات مسائية لأصحابي وبعض المناسبات العارضة ونسيت أمر الكتاب الذي أعطاني إياه قريبي العجوز لمدة تجاوزت الشهر.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا