(30)
أن أحبك
أن أحبك لدرجة تنسيني حزني،
أن أحبك لدرجة تلهيني عن نظرات الحسرة في عيون أهلي،
أن أحبك لدرجة تمحو فكرة الفراق من عقلي،
وتحيي مشاعر العشق في قلبي،
أن أحتضنك فأحس بكل الأمان في هذا العالم يجتمع في صدرك أنت،
أن أشعر بأنفاسك حولي كرائحة بخور معتق أصيل،
أن أكون لك. وحدك. وكأنني خلقت منك، كقطعة من قلبك، من روحك، من جسدك،
أن أكون زوجتك أخيرًا رغم كل الصعاب.
خرجت معك ليلتها للعشاء في أحد الفنادق ويدك لا تريد مفارقة يدي، حتى عندما وصل الطعام كنت لا تريد ترك يدك،
قلت لك ضاحكة: لم آكل شيئًا طوال اليوم.
ابتسمت لي وقلت: كلي بسرعة. فيدي ستشتاق للمس يديك.
تناولنا عشاءنا الأول على ضوء الشموع، كنت قد بدلت ثوب الفانيلا بثوب عادي وآخر،
أوصتني أمي قبل أن أخرج أن أعود للمنزل بعد سهرتنا الأولى، وفهمت أنا قصدها، فهي تخشى عليّ من زفاف مبكر، قبل شفاء زوجي وحبيبي.
تأملته، أيعقل أن يكون هذا الرجل الضخم مريضًا بهكذا مرض؟ هذا الطويل الوسيم الذي أحببته دونًا عن كل رجال الأرض يحمل المرض الخطير في دمه؟
أيمكن أن يكون ذلك التشخيص المخيف خاطئًا؟ لا بد أن هناك خطأ ما، فحبيبي لا يبدو مريضًا على الإطلاق. كم أنت خبيث أيها المرض. ياه ما أخبثك. كيف تسللت إلى حمد واختبأت في دمه الممتزج بحبي!
انتهى العشاء وعدت إلى بيتنا كما وعدت أمي التي كانت تنتظرني بوجه منطفئ.
صعدت إلى غرفتي ونمت كطفلة سعيدة، وفي اليوم التالي خرجت مع حمد إلى أحد المجمعات، قررنا قضاء اليوم بأكمله مع بعضنا البعض، كان يومًا رائعًا، ارتدنا السينما وبقينا متشابكي الأيدي طوال الفيلم.
وضعت رأسي هانئة على كتفه والسعادة تغمرني، وتناولنا غداءنا بعد ذلك.
اشترى لي حمد يومها سوارًا ذهبيًا وضعه في معصمي، أراده أن يذكرني باليوم الأول لزواجنا قال ضاحكًا: لا تخلعيه أبدًا. إن خلعته كأنك خلعتني.
أحببت ذلك السوار البسيط الذي حفر عليه البائع الحرف الأول من اسمينا وقد قررت عدم خلعه،
جاء الليل وكنا لا نزال معًا، دخل حمد منطقتنا وقال فجأة: ما رأيك أن نقوم بمغامرة صغيرة؟
قلت له: ما هي؟
قال ضاحكًا: سترين الآن.
أوقف حمد سيارته بجوار الحديقة العامة في منطقة سكننا، ونزل وقال: انزلي،
أمسك بيدي ودخلنا الحديقة. طلب مني حمد أن أخلع حذائي ففعلت ضاحكة. شدني من يدي وأخذ يركض معي فوق العشب الندي. ضحكت من أعماق قلبي وكان حمد يضحك هو الآخر، كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة ليلًا عندما استلقينا معا على العشب ونحن ننظر إلى السماء، لم أعبأ بثوبي الفاتح الذي سيتسخ لا محالة،
كان هدوء الليل جميلًا والنجوم تطل علينا من عليائها. قال حمد: لا تعرفين كم أشعر بالسعادة في هذه اللحظة، أشعر أنني أملك العالم. هنا. وأنت معي، بجواري. ملكي. ما أجمل هذا الشعور. منذ اللحظة التي رأيتك فيها عرفت أنك اخترقتِ مشاعري وتربعت على عرش قلبي. أنتِ وحدكِ ملكتي. معشوقتي. وحبيبتي إلى الأبد.
نظرت إليه بطرف عيني. جسده الكبير الراقد بجواري. وضعت رأسي على ذراعه. نظرت إلى السماء متضرعة. قلت بداخلي: يا رب. لا تفجعني فيه. فهو أحب خلقك إليّ. لن أتحمل خسارته، أرجوك يا إلهي. ساعده. وتغمده بلطفك وشفائك.
ورغمًا عني انزلقت دمعة حارة من عيني، وسقطت على ذراعه، أحس هو بدموعي، فشدني إليه بقوة. وتمنيت لو استطعت الدخول بين ضلوعه لأبقى آمنة إلى الأبد.
***
(31)
تعارف
في اليوم الرابع لزواجنا قررت أم حمد دعوتي على الغداء في بيتهم، كانت تلك هي المرة الأولى التي سأدخل فيها بيت حمد وتحمست لذلك، ارتديت تنورة قصيرة وحذاء جميلًا مريحًا ذا كعب متوسط وقميصًا حريريًا زاهيًا.
انتظرني حمد خارج المنزل كي يدخلني إلى أهله ابتسمت لعينيه السعيدتين لوجودي في بيتهم.
خطوت والخجل يغمرني، عرفني حمد أولًا على أبيه المسن وكانت تلك المرة الأولى التي أراه فيها، تقدمت منه وقبلت رأسه بأدب، قال وملامحه الطيبة تحفر الود نحوه في قلبي: ألف مبروك يا ابنتي، كم أحسن ولدي الاختيار.
رحبت بي أم حمد ترحيبًا عاديًا لا يليق بعروس جديدة لكن هبة احتضنتني إليها بحرارة، وكذلك رحبت بي آلاء زوجة فواز بود،
عرفني حمد من بعيد على أخيه فواز الذي اكتفى بهزة من رأسه لتحيتي، وبزوج هبة الذي وقف لي احترامًا لكن دون أن يصافحني ثم اقترب مني سعود الذي أحببته من كل قلبي وسلم عليّ وهو يتأملني بفضول فداعبت خصلات شعره الناعمة المتطايرة كالدبابيس مثل شعر حمد، جلست بين هبة وآلاء في حين جلس حمد بعيدًا عني بجوار الرجال في آخر الصالة، وفجأة لمحت فتاة صغيرة تقرب من الخامسة من عمرها وهي تنظر إليّ بحقد شديد!
استغربت تلك النظرات الغاضبة والتي تكاد تكون مضحكة لصغر سن صاحبتها،
لاحظت هبة ما يحدث فقالت ضاحكة: هذه هاجر ابنتي.
قلت متسائلة: لم هي غاضبة هكذا؟
قالت هبة: لأنها تحب خالها حمد، وتغار عليه منك، إنها متعلقة به كثيرًا، كانت تريد الزواج منه عندما تكبر.
انفجرت ضاحكة. كم هم بريئون هؤلاء الأطفال، إنهم يجهلون النفاق، ولا يعرفون المجاملة، يجاهرون بمشاعرهم بصراحة، كم نفتقد نحن الكبار مصداقيتهم. إن أردت الحقيقة، فابحث عنها في عيني طفل. وفي عيني هاجر الصغيرة رأيت غيرة كبيرة وعداءً صريحًا.
أومأت هبة: لا تصدق أنها لا تستطيع الزواج به، لكن بسمة خطفته منها على أي حال.
لمحت هاجر تختفي بعدها. وانشغلت عن التفكير بها أثناء حديثي مع هبة وآلاء التي كانت حاملًا في الشهور الأولى،
أتت أم حمد تنادينا لتناول الغداء، قمنا جميعًا وكذلك فعل الرجال إلى غرفة مجاورة، وهناك كانت المفاجأة، كان الأكل موضوعًا على الأرض.
في منزلنا اعتدنا الأكل على طاولة الطعام طوال عمرنا، لم تكن لدي مشكلة في الجلوس على الأرض قطعًا لكن المشكلة كانت في تنورتي القصيرة والضيقة والتي انحسرت عن ساقيّ بمجرد جلوسي فأصبحت أجلس بطريقة غير مريحة بالمرة خاصة مع نظرات فواز الحارقة التي كانت تعبر عن عدم رضاه على ملابسي والتي كانت أم حمد تبادله مثلها!
أحس حمد الذي كان يجلس بعيدًا عني بما أعانيه فقام فجأة وذهب وأنا أكاد أغرق في خجلي،
عاد حمد بفوطة كبيرة ثم جلس ملتصقًا بي ووضع الفوطة على ساقي وقال: ضعي هذه كي لا تتسخ ملابسكِ.
ابتسمت له شاكرة فقد أنقذني بحق،
لم يقم حمد من جواري وبدأ يضع الأكل في طبقي رغم نظرات أخيه وأمه العاتبة.
نادت هبة ابنتها الغيورة فرفضت الأكل، وبعد أن انتهينا لمحتها تلعب وحدها في الصالة، حاولت ملاطفتها فصدت عني.
وأخيرًا دعاني حمد لأرى غرفته بعد أن انسحب أباه لينام كعادته بعد الغداء، وانشغلت أمه بإعطاء بعض الأوامر للخدم.
قمت مع حمد. ودخلت غرفته للمرة الأولى. كانت مصنوعة من الخشب الداكن. واسعة، يحتل دولابه حائطًا كاملًا منها، وسريره الضخم يتوسطها أمام تلفاز حديث كبير جدًا.
شدني حمد نحو نافذته، أزاح الستار فظهرت حديقة بيتنا. طوقني بذراعيه وأنا أمام النافذة وقال: ومن هنا كنت أطل عليكِ. ومن هنا رأيتك تطفئين شموع عيد ميلادك، فتمنيت أن تقفي معي في غرفتي في يوم ما. وها هي أمنيتي قد تحققت.
ابتسمت وأنا أحدق في منزلنا الكبير. وكأن ذلك المنزل أصبح غريبًا عني فجأة. فمنزلي الآن هو حيث يكون حمد،
استدرت فأصبح وجهي قريبًا من وجهه. حدقت بعينيه طويلًا فقبل جبيني.
وضمني إلى صدره بهدوء، استمعت لدقات قلبه المنتظمة وأغمضت عينيّ، تمنيت لو يقف الزمن فأقضي عمري وأنا استمع لدقات قلب حبيبي.
بقيت مع حمد إلى أن اتصلت بي أمي قبل أن يحل المساء وتطلب مني العودة للمنزل، لم تجد أمي عذرًا لعودتي، فقد انتهت الامتحانات قبل زواجي، ولم أقم بالتسجيل للفصل الدراسي الصيفي. كنت متفرغة لحمد، لكن أمي كانت خائفة من تفرغي له!
عدت إلى المنزل دون أن أرى أحدًا من أهله أثناء خروجي، أوصلني حمد إلى باب منزلنا وذهب، دخلت لأجد أمي غارقة في توترها، لكنني تماسكت، لم أرد أن تُفسد عليّ اللحظات الجميلة التي قضيتها ذلك اليوم، كنت عروسًا جديدة، لا يشعر أي شخص من حولها أنها عروس حقيقية.
في تلك الليلة أخبرني حمد أن أخويه خضعا لفحص تطابق الأنسجة كي يقوم أحدهما بالتبرع له بالنخاع. كانت عملية زراعة النخاع هي الأمل الكبير لشفاء حمد، والمتبرع في هذه الحالة يجب أن تكون أنسجته مطابقة لأنسجة حمد. ولا بد أن يكون من أحد إخوته الأشقاء.
أخبرني حمد أيضًا أنه قد بدأ في عمل الإجراءات اللازمة لعرض حالته على لجنة العلاج في الخارج كي يسافر لتلقي العلاج على حساب الدولة، وأنه رفض الخضوع لجلسات الكيماوي في الكويت كبداية،
فرغم أن مرضه خطير، إلا أنه يرى أن الأفضل أن يتم العلاج بالكامل في الخارج.
وانقبض قلبي، كان لذلك الحديث صدى مرعبًا في نفسي. كان ذلك الحديث يؤكد لي تلك الحقيقية التي أرغب بنسيانها وتجاهل وجودها، وهي أن حمد مريض.
في حياة كل منا حقائق مؤلمة نعجز عن استيعابها لهول أثرها في أنفسنا، نكابر، نحاول، نجاهد لننسى، لنمضي، لنتخطى، لكن في بعض الأحيان تصبح المواجهة ضرورة، لا مفر منها رغمًا عنا.
مرت أيامي التالية وأنا أتأرجح بين السعادة والخوف، السعادة لقربي من حمد، ولتلك اللحظات الجميلة التي تجمعني به وتقربني منه أكثر وأكثر، والخوف من ذلك المرض في دمه. والذي يجب أن يخضع للعلاج المؤلم ليتخلص منه.
وفي ليلة صيف دعاني حمد لنشاهد فيلمًا جديدًا في السينما، كان يحب الأفلام الأجنبية كثيرًا وكنت استمتع بمشاهدته يتابعها، أحب انفعاله بالمشاهد وأحب أصابعه التي تتشابك حول أصابعي طوال العرض.
أخبرني أن الفيلم سيبدأ في العاشرة مساءً، وفي تمام التاسعة والنصف كنت جاهزة بانتظاره، أوصيتني أمي بقفل باب المنزل بالمفتاح عند عودتي حيث سيكون الكل نيامًا.
خرجت لأجد حمد في سيارته أمام منزلنا.
ركبت بجواره وأنا ابتسم، فإذا به يحرك السيارة ويقف بها بجوار منزلهم.
سألته: لم وقفت هنا؟
قال ضاحكًا: نسيت شيئًا في غرفتي، تعالي معي لنحضره.
قلت: سأنتظرك. وإلا سنتأخر على الفيلم.
قال بسرعة: تعالي معي. لن نتأخر. ولا أحد في المنزل، أبي خرج مع فواز وأمي وآلاء مدعوتان إلى عرس أحد أقربائنا.
نزلت معه. وصعدنا إلى غرفته، فتح حمد الباب، فشهقت للمفاجأة. كانت إضاءة غرفته خافتة، وقد وضع بعض المقاعد الأرضية المريحة والوسائد الكبيرة على الأرض أمام التلفاز الكبير في غرفته، وصحن كبير من الفوشار يتربع أمام المقاعد، قال ضاحكًا: قررت أن أدعوكِ لمشاهدة الفيلم في غرفتي.
فتح أحد الأدراج بجوار سريره وقال: وهذه نسخة واضحة عن الفيلم المعروض حاليًا في السينما، فكرت أن نراه معًا هنا ما رأيك بالمفاجأة؟
ابتسمت له بحب وكانت مفاجأته جميلة حقًا، خلعت حذائي وتوسدنا الوسائد الكبيرة على الأرض. وضمني إليه لنتابع الفيلم المشهور المليء بالمغامرات،
سعدت بوجودي بقربه، وحدنا تحت الإضاءة الخافتة، وشعرت أن ذلك الفيلم بالذات أجمل الأفلام التي رأيتها في حياتي، انتهى الفيلم عند منتصف الليل تقريبًا. أخبرني حمد أنه لم يخبر أحدًا أنني سآتي لزيارته اليوم، قلت ضاحكة: يا للحرج، سيكون الأمر مفاجئًا عندما يراني أهلك وأنا أخرج من غرفتك في هذا الوقت.
قال حمد بجدية: ما رأيك إذن أن لا تخرجي؟
سألته بدهشة: ماذا تقصد؟
قال حمد: ابقي معي هذه الليلة.
وارتبكت. إنه زوجي على سنة الله ورسوله، وأنا على ذمته شرعًا وقانونًا.
لكن ماذا عن أمي؟ وتوصياتها لي!
ربت حمد على خدي برقة، ثم مسح على خصلات شعري وقال هامسًا: لا تتركيني.
وفجأة اتخذت قراري. سأبقى معه هذه الليلة، واتصلت على الفور بدلال. جاءني صوتها ناعسًا فقلت بسرعة: دلال. سأقضي ليلتي عند حمد، أريدك أن تقفلي باب المنزل وغدًا صباحًا إن سألتك أمي عني أخبريها إنني خرجت إلى الصالون. ولا تنسي أن تبعثري الوسائد في سريري كي تصدق أنني نمت فيه.
قاطعتني دلال بحدة: بسمة. هل تعرفين ماذا تفعلين؟ هل أنتِ مجنونة؟ لقد وعدت أمي و.
خطف حمد الهاتف مني وقال لدلال: دلال. نفذي ما قالته بسمة، لن أنسى لك هذا المعروف، ولا تقلقي أختك بأيدٍ أمينة.
أحست دلال بالحرج، وأنهت المكالمة بسرعة، ضحك حمد منتصرًا وشدني إليه وهو لا يزال يضحك.
***
(32)
خبر صعب
فتحت عيني في اليوم التالي وابتسمت وأنا أرى حمد نائمًا بجواري، حدقت فيه وشعرت بالسلام يجتاح روحي،
لم يعد حمد حبيبي فقط، بل صار زوجي، زوجي الذي أعشقه، فتح حمد عينيه وابتسم أكبر ابتساماته لرؤيتي، فتح لي ذراعيه لأستقر بينهما هانئة،
ساد بعض الصمت بيننا. إلى أن قلت: ستقتلني أمي إن عرفت.
قال: ستقتلني أنا أيضًا لأنني أريدك أن تنتقلي للعيش في بيتنا.
سألته بجدية: صحيح؟
قال بجدية: طبعًا. أنت زوجتي، ويجب أن تعيشي معي.
قلت ضاحكة: دعني أمهد للأمر تدريجيًا. سيكون كل ذلك صدمة لأمي وجدتي. و.
وقبل أن أكمل جملتي. رن هاتفه النقال، نظر إلى الرقم وقال: هذه هبة.
رد حمد عليها وكنت أنا أتوسد صدره.
لم تكن هبة تعرف طبعًا أنني معه، لا أحد كان يعرف، سوى أختي دلال.
كنت أستطيع أن أسمع صوت هبة المنبثق من الهاتف بوضوح وهي تقول: لقد ظهرت نتائج الفحص.
سألها حمد بلهفة: ومن يستطيع أن تبرع لي؟
قالت هبة بانفعال: تصور أنه سعود، لقد جاءت نتائجه مطابقة لك، عليه أن يتبرع لك بالنخاع.
أحسست بدقات قلب حمد تتسارع وكذلك كانت دقات قلبي. فسعود قد أكمل التاسعة من عمره لتوه، لا يزال صغيرًا.
سألها حمد بقلق: ألن يتعرض للأذى بسبب ذلك؟ أيمكنه التبرع وهو في هذه السن؟
قالت هبة: الطبيب يقول إن الأمر آمن، وهناك من هم أصغر منه ويقومون بالتبرع، لا تقلق، المهم أن تُشفى، وبالخارج يملكون أحدث الأجهزة وأكفأ الأطباء. لكن.
وسكتت هبة:
فسألها حمد: لكن ماذا؟
قالت بحزن: هناك أمر مهم أخبرني به الطبيب.
زفر حمد: ماذا أيضًا؟
قالت هبة: لا أعرف كيف سأخبرك. لكن عليك أن تعرف به على كل حال، يقول الطبيب أنك لن تتمكن من الإنجاب. و.
ولم أسمع الباقي، سرت في جسدي رعشة كالكهرباء هزتني من أعلى رأسي إلى أخمص قدمي. كانت هبة لا تزال تتحدث. لكنني لم أعد قادرة على سماع ما تقول. وكلماتها تلك تطن في رأسي: لن تتمكن من الإنجاب. لن تتمكن من الإنجاب.
أحس حمد بارتعاشتي. وأقفل الخط وأخبر هبة أنه سيكلمها لاحقًا لا أذكر بم تعذر لها لينهي تلك المكالمة المشؤومة.
هربت من حمد فوقفت وأنا أقول: سأدخل إلى الحمام، جريت إلى الحمام، أقفلت الباب عليّ بالمفتاح، وفتحت الماء البارد، وقفت تحت الماء لأذرف كل دموعي. وصرخة ألم هائلة تكاد تخنقني. أنا لن أصبح أمًا. لن أصبح أمًا أبدًا. وحمد لن يستطيع الإنجاب، أنا التي أعشق الأطفال، ويعرف الجميع ذلك عني، لن أستطيع أن أحظى بطفل يخصني، لا أعرف كم بقيت تحت الماء، ولا كم بكيت، لكنني انتبهت على طرقات مترددة على الباب وصوت حمد يناديني: بسمة. هل أنتِ بخير؟
استجمعت شجاعتي ورددت عليه كاذبة: أنا بخير، انتهيت الآن.
استعملت منشفة حمد، وارتديت ثيابًا له وجدتها معلقة بحمامه،
بدوت صغيرة جدًا بملابسه الكبيرة جدًا عليّ، لم أنظر إلى وجهي في المرآة قبل أن أخرج إليه بشعري المبلل بالماء وقلبي المبلل بدموعي،
نظر هو إليّ بجمود. ثم بدأت بارتداء ثيابي، يجب أن أعود لمنزلي، وعليه أن يجد طريقة ما لإخراجي دون أن يراني أحد من أهله،
لا أذكر حقًا كيف وجدت نفسي في غرفتي بعد ذلك، لا أذكر حتى كيف أخرجني حمد من باب منزلهم الخلفي كاللصوص. ودون أن يراني أحد، فقد كنت ذاهلة تمامًا عما يجري حولي وكل تفكيري منحصر في ذلك الخبر الصعب الذي عرفته لتوي،
كل ما أذكره أن حمد قبلني قبل أن أجري نحو بيتنا وهو يهمس لي: أنا آسف.
***
(33)
مغامرات
لجأت إلى شريفة كعادتي، بكيت على صدرها وأنا أخبرها بالخبر الصعب،
وبختني وهي تحاول أن تخفض صوتها قدر استطاعتها: هل أنتِ مجنونة يا بسمة؟ لم لا تصغين لكلام أهلكِ؟ ألم تعديهم بتأجيل الزفاف. و.
سكتت شريفة وقد استوعبت أن ما تقوله الآن لن يفيد، وأخيرًا قالت: بسمة. أنتِ اخترتِ حمد ووافقت على الزواج به رغم مرضه، وعليكِ أن تتحملي مسؤولية قرارك، وبشجاعة.
كان كلامها صحيحًا تمامًا، بالإضافة إلى أنني أحب حمد كثيرًا وبصدق، وإن كان الله سبحانه قدر لي عدم الإنجاب فلا أملك إلا الرضا بقدره سبحانه، نعم. راضية أنا بقدري، وعليّ أن أكون شجاعة في تقبله والصبر عليه.
ومنحني ذلك الرضا اطمئنانًا عجيبًا، اتصلت بحمد بعدها، وكان صوته حزينًا، وتحادثنا، وبشجاعة أخبرته أنني أحبه، ولا يهمني إن لم نستطع الإنجاب، أخبرته أنه الأهم بالنسبة لي، فما فائدة أولاد لا يكون هو والدهم؟ سيكون هو ولدي. كما هو حبيبي وزوجي. المهم أن نكون معًا.
لهذه الدرجة أحببت حمد، أحببته لدرجة أنني لم أرد شيئًا في هذه الدنيا سوى أن أكون معه، وأحبني هو أكثر وأكثر،
وقادنا الحب إلى مغامرات مجنونة. أصبحت أهرب إلى بيته كل ليلة، نبتكر عشرات الحيل لنقضي وقتنا معًا. أحببنا فكرة الهرب واللقاء بالسر، كان الأمر أشبه بلعبة وأختي دلال تتستر عليّ، وكأن حمد عشيقي وليس زوجي، ومرّ شهر على زواجنا وأخيرًا تحدد موعد سفر حمد للولايات المتحدة ليبدأ العلاج.
***
(34)
إصرار
كانت معركتي هذه المرة حامية، ومختلفة عن كل ما خضته سابقاً، وقفت أمام أمي وجدتي وقلت بهدوء: أريد أن أسافر مع زوجي خلال رحلة علاجه.
تمنت أمي لو استطاعت صفعي وبالكاد منعت نفسها أن تفعل، دارت عشرات المناقشات عن هذا الموضوع وأنا مصرة على رأيي، ضربت برأي أهلي عرض الحائط، وتمسكت بموقفي، صرخت أمي من أعلى رأسها عندما أخبرتها أنني صرت زوجة لحمد ولم أعد زوجته فقط على الورق، كادت المسكينة أن تصاب بنوبة قلبية، كنت شابة متمردة، قوية، والأهم من ذلك عاشقة، وبجنون مع مرتبة الشرف! لم يعد يهمني أحد سوى حمد الذي لا أريد تركه أو بالأحرى لا أستطيع تركه ليسافر دون أن أذهب معه كانت غير واردة في قاموسي على الإطلاق.
صمتت جدتي نشمية، وكان في صمتها عتب استطعت الإحساس به، فقد أخلفت وعدي لها وتخطيت حدود الطاعة لقراراتها التي لم يجرؤ أحد منا على مخالفتها قبل أن أفعل أنا.
اتصلت أمي بعمي ماجد مستنجدة به، فرفض التدخل، وأخبرها أنه لم يكن موفقاً على زواجي من الأساس وأنه لا يستطيع منعي من مرافقة زوجي الآن.
طلبت أمي من شريفة أن تتحدث معي وأن تقنعني بالعدول عن السفر، لكن شريفة أيضاً لم تستطع تغيير رأيي.
حتى دلال حاولت، وتهاني، ومجبل الذي سلطته أمي ليستعطفني، كلهم فشلوا أمام إصراري ورغبتي بالسفر.
بدأ حمد بعمل إجراءات السفر وتحضير الأوراق اللازمة، وتم تسجيل اسمي كمرافقة له، أنا وأخوه فواز، في حين قررت أمه السفر معنا وأيضاً سعود الذي سيقوم بالتبرع بالنخاع لأخيه.
تحدد موعد السفر في الأسبوع الأول من أغسطس وتقرر سكننا في مجمع سكني ملحق بالمستشفى الذي سيتلقى فيه حمد العلاج.
في تلك الأيام شعرت أنني أعيش في دوامة لا تنتهي، أسمع نفس الكلام يومياً من أمي وأرد عليها نفس الردود.
أتلقى نظرات جدتي العاتبة وأرد عليها بنظراتي الآسفة،
أخوض نفس النقاشات مع أختي وصديقتي وننتهي إلى نفس النتيجة بإصراري على مرافقة زوجي.
اقترب موعد سفري وحصلت على التأشيرة اللازمة. أصبحت أقضي الكثير من الليالي في منزل حمد ويعلم أهلي بذلك ويصمتون رغماً عنهم. وفي تلك الليالي كنت أنسى أن حمد مريض. كنت أنفصل عن الواقع، وأضحك من أعماق قلبي كأي عروس عادية سعيدة في الأشهر الأولى لزواجها يدللني حمد، ويعرف كم أضحي من أجله راضية، دون أن أشعره أبداً بحجم ما أقدمه لأجله، وما أتنازل عنه لأكون معه،
اقترب موعد السفر، وبدأت بتحضير حقائبي. لم أكن أعرف كم ستطول رحلة العلاج. وعرفت أنه من المحتمل أن اضطر للانسحاب من الفصل الدراسي القادم.
قبل سفري بأيام قليلة خرجت مع شريفة لأشتري بعض الحاجيات،
وبالصدفة التقينا الدكتور خالد بصحبة أحد أصدقائه، اقتربنا منه لنسلم عليه، عتب على لعدم حضوري خلال الفصل الدراسي الصيفي لأتدرب مع أحد المعيدين كما وعدته سابقاً،
أخبرته أنني تزوجت وأن زوجي مريض وسأسافر معه لرحلة العلاج، بدا التأثر واضحاً على الدكتور خالد ودعا لحمد بالشفاء العاجل بحرارة، أخبرني أن لا أتردد بطلب أي شيء منه فيما يخص دراستي بعد عودتي وتمنى لي رحلة موفقة وقد عرف أنني قد لا أتمكن من العودة في الفصل القادم.
ودعت الدكتور خالد الذي تعاطف كثيراً معي،
ولاحظت الحزن الكبير في عيني شريفة صديقة عمري. في تلك الليلة عدت إلى منزلي منهكة، اتصلت بي شريفة وهي تسألني إن كنت واثقة مما أفعله!
فأخبرتها أنني أعرف تماماً ما الذي أنا مقدمة عليه.
ولأكون صادقة، لم أكن حقاً أعرف وأن رحلتي تلك ستجسد المعنى الحقيقي لكلمة عذاب.
***
(35)
معك دائماً
في اليوم السابق لسفري كنت أتحرك في بيتنا كالطيف، شعرت أن أسرتي تعاني، وبالذات أمي، أتت تهاني للغداء عندنا مع أطفالها. لعبت معهم كثيراً بعد الغداء، ونظرات أمي تخترق قلبي، كانت أمي تتعذب لسفري، ولم تكن راضية عني. وذلك الشعور كان يحرق قلبي،
أما ماما نشمية فقد بدت لي مرتبكة على غير عادتها، رعشة ما ظهرت في صوتها الذي أحفظ نبراته وأعرف تفاصيله. حتى دلال. كانت عيناها تتلألآن بدموع تحرص أن لا تتركها تنهمر أمامي.
عندما قامت تهاني لتغادر ضمتني إليها بقوة. شعرت بحب عميق لها في تلك اللحظة، فهي أختي الكبيرة الغالية التي كانت دائماً تحبني وتدللني. انهمرت دموع تهاني فجأة وقالت باكية: كم أنا قلقة عليك!
وبمجرد انتهاء جملتها تلك انهمرت دموع أمي تليها دلال،
وكأنهما كانتا تنتظران الفرصة لتطلقا مشاعرهما المكبوتة.
أطرق أخي مجبل برأسه صامتاً وكذلك فعلت جدتي.
قلت أنا بصوت مهزوز: تشعرونني وكأنني سأذهب إلى الحرب، وكأنني لن أعود.
لم ترد على أي منهن. ودون أن أعي انهمرت دموعي أيضاً.
مر ذلك اليوم حزيناً واتصلت بي شريفة أكثر من مرة وقد قررت أن تذهب معنا بالغد إلى المطار، لم تقم بزيارتي فقد أحست كم كان الوضع في منزلي متوتراً. لم تتصل بي عمتي حصة بل اكتفت برسالة هاتفية كتبت بها: الله معك. أقفلت حقائبي وحاولت النوم تلك الليلة دون جدوى، اتصل بي حمد الذي كان مشغولاً عني طوال اليوم وتحادثنا لوقت قصير، أخبرته أن أهلي سيأتون معي إلى المطار وتواعدنا على اللقاء هناك في الغد.
تقلبت على فراشي كثيراً. وفجأة أحسست بباب غرفتي يفتح، كانت أمي تقف ببابي وهي ترتدي ثياب نومها.
همست بدهشة: أمي. ألم تنامي بعد؟
قالت وهي تخطو نحوي: لا. لم يغمض لي جفن.
اندست أمي بجواري في السرير، وضمتني بين ذراعيها، استكنت بين أحضانها وأنا استمع لدقات قلبها. شعرت كم كنت قاسية عليها.
إنها أم تريد الخير لفلذة كبدها، في حين تعلقت أنا بحمد وأردت البقاء بجواره في محنته، كانت دوافعنا مختلفة لذا صارت مواقفنا مختلفة، ولم تستطع هي الوقوف في طريقي. لقد عاندتها. وها أنا الآن بين أحضانها الدافئة، أتلمس القوة لرحلة لا أعرف ما الذي سيكون وراءها.
همست أمي قائلة: اعتنى بنفسك. واتصلي بي دائماً، وإياك التردد في العودة إن شعرت أنك ترغبين بذلك.
قلت هامسة مثلها: حاضر.
سكتت أمي. فقلت بصدق: أنا آسفة. أنا حقاً آسفة. على كل شيء.
قالت بحنان: مهما حصل تظلين ابنتي، وكل ما فعلته كان من أجل أن أحميك من ألم مرتقب. أتعلمين. عندما سافر والدك للعلاج رفض أن أرافقه، كنت أقرب الناس إليه، فأنا زوجته وأم أولاده لكنه رفض ذلك تماماً، قال إن من يجالس مريضاً يصبح مثله. أراد أن يجنبني الألم، وهذا بالضبط ما حاولت فعله معك يا بسمة، أردت أن أجنبك الألم. لكنني فشلت، عديني أن تعودي إن تعبت أو عجزت عن الاحتمال. هذا كل ما أريده منك يا ابنتي.
وعدتها وقد تأثرت كثيراً لكلماتها: أعدك يا أمي.
ضمتني إليها أكثر: جيد. نامي الآن. عليك أن ترتاحي، فرحلتك إلى الولايات المتحدة ستكون طويلة جداً.
أغمضت عيني ونمت بين أحضانها وكأنني عدت طفلة من جديد، لم أكن أعرف أنني سأغدو امرأة كبيرة. بل كبيرة جداً خلال أيامي القادمة.
جاء يوم السفر بتفاصيله المألوفة، التقيت حمد في المطار وكانت أخته هبة وأباه وزوجة أخيه أيضاً هناك لوداعنا
أتت شريفة إلى المطار وكذلك أمي ودلال،
اعتكفت جدتي نشمية في غرفتها ذلك اليوم فلم أستطع وداعها،
قالت لي شريفة وهي تقبلني وتضمني: اتصلي بي كلما أردت، لا تهتمي أبدا بفارق التوقيت، سيكون هاتفي دائماً معي. حتى أثناء الليل سأتركه بجواري. تذكري أنني موجودة دائماً من أجلك.
ضمتني أمي وقد تحجرت الدموع في عينيها مراعاة لي ولأهل حمد، سلمت علي هبة وهي تقول ضاحكة لتلطف أجواء الفراق حولنا: اعتني بحمد، فهو أمانة في عنقك.
ابتسمت بصعوبة وقلت: لا تقلقي سأعتني به وسأكون دائماً معه. سلمت على آلاء زوجة فواز بحرارة أيضاً، وأخيراً اقتربت مني دلال. وبمجرد أن قبلتني بكت، كان بكاؤها غريباً. لم يكن بكاء. كان نحيباً.
أزعجني بكاء أختي. ونظرت في عينيها مستفسرة، فوجدتها تنظر نحو حمد برثاء، هززتها بشدة، فنظرت في عيني وقالت: أشعر أنني لن أرى حمد مرة أخري.
نهرتها غاضبة: أعوذ بالله، كوني متفائلة، حمد سيشفي وسيعود. وسنعيش معاً طوال العمر.
ضمتني دلال وقالت معتذرة: معك حق، الحب يصنع المعجزات أتمنى لكما رحلة موفقة. انتبهي لنفسك.
ابتعدت عن دلال وقد انقبض قلبي، ليتها كتمت حدسها المشؤوم عني ألا يكفيني ما أعانيه؟ لكنني لن استسلم. سأصنع المعجزات بحبي لحمد وسيعود معي سالماً غانماً بإذن الله.
قبلت مجبل وأوصيته بأمي. وأخيراً اجتزت بوابة الجوازات مع حمد وأمه وأخويه فواز وسعود.
كانت تلك المرة الأولى التي أسافر فيها من غير أسرتي. ولوهلة أحسست بالغربة رغم أني لا أزال في بلدي.
صعدنا إلى الطائرة ونحن صامتون جلست بجوار حمد الذي شبك أصابعه بأصابعي. نظرت إليه وغصت في بحر عينيه الحبيبتين.
قال لي: ستعتنين بي؟ كما وعدت هبة؟
قلت بحرارة: وسأكون دائماً معك.
وانطلقت الطائرة في رحلة احتار الآن في وصفها.
رحلة العذاب. الخوف. الألم. والخيانة!
***
(36)
في بلد بعيد
وفي قارة بعيدة عن بلدي وأهلي بدأت حياة جديدة علي. لم أكن أعرف كما هي بعيدة الولايات المتحدة إلا عندما سافرت إليها.
حتى فرق التوقيت فيها كان متعباً. وصلنا إلى روشستر مینیسوتا حيث يقع المستشفى الذي سيتلقى فيه حمد علاجه.
وفي مبنى ملحق بالمستشفى ويكاد يكون ملاصقاً له كان مكان سكننا في شقة من ثلاث غرف.
دخلنا إلى الشقة وقد تغيرت ملامحنا من شدة التعب ومن طول الرحلة.
اخترنا أنا وحمد الغرفة الكبيرة وتركنا لأمه وسعود غرفة مزدوجة أخرى، أما الغرفة الثالثة وهي الأصغر فكانت من نصيب فواز.
أخذت حماماً دافئاً فور وصولنا.
واستلقيت بجوار حمد الذي غط في النوم فور وصولنا.
أرسلت رسالتين من هاتفي النقال. واحدة لأمي لأخبرها بوصولنا ومثلها لشريفة.
أغمضت عيني لأنام أنا أيضاً فشعرت بطنين الطائرة في أذني ويثقل شديد في رأسي.
اختلط علي النوم بالصحو ورأيت مقتطفات متداخلة من أحداث الأيام الماضية كفيلم متسارع ومزعج، غفوت غفوة زادتني تعباً،
وقمت بعدها والصداع يكاد يفتك برأسي.
خرج فواز لشراء حاجيات المنزل وبدأ بترتيبها في المطبخ، خرجت وقتها إلى الصالة فالتقيت به، فإذا به يشيح بنظره عني بسرعة، كنت أرتدي بيجاما ذات أكمام طويلة. بالإضافة إلى كونها واسعة جداً. لكن فواز استنكر رؤيتي بها.
انسحبت من أمامه صامتة وقد تجاهلت نظرته المستنكرة لي، ودخلت إلى المطبخ لأحضر لنفسي شاياً أشربه.
استيقظ الجميع بعدها وقد اغتسلوا وبدلوا ثيابهم وجلسنا معاً في الصالة لنأكل. ساعدت أم حمد في تحضير وجبة خفيفة وحاولت أن أكون ودودة معها رغم أنها بدت منزعجة مني لسبب لا أعرفه،
كان موعد حمد مع الطبيب في اليوم التالي وأخبرنا فواز أن هناك امرأة عربية سترافقنا لتقوم بترجمة ما يقوله الطبيب لنا والعكس.
في اليوم التالي ذهبنا جميعاً وسعود الصغير معنا حيث إنه المتبرع المهم واجتمع الطبيب بنا بعد أن قرأ تقارير حمد وطلب له بعض التحاليل الإضافية.
أشفقت على سعود الذي سيتعرض لتجربة كهذه وهو في هذه السن، كان سعود ولداً شقياً محبوباً. أحببته كثيراً وأشفقت عليه كثيراً أيضاً، وكذلك كان شعور حمد نحوه، تمني حمد كثيراً لو أن المتبرع له فواز. على الأقل هو شاب كبير وسيتحمل الأمر، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
شرح الطبيب لنا أن عملية زرع النخاع ستحتاج لبعض التحضيرات وعلي حمد الخضوع لبعض جلسات العلاج الكيماوي قبلها.
في تلك اللحظات التي كان الطبيب يتحدث إلينا عن وضع حمد استوعبت أخيراً تلك الحقيقة المرة التي كان عقلي يهرب منها، إن حمد مريض حقاً ومرضه خطير وجدي وما سيقدم عليه في الأيام القادمة علاج مرير وصعب ومؤلم، نظرت في وجوه الأشخاص من حولي فشعرت بغربة لا حد لها، صحيح حمد زوجي، لكنني لست معتادة بعد على أهله. لم أعرفهم بشكل قريب قبل ذلك. وها أنا الآن بينهم فجأة وفي بلد بعيد كل البعد عن أهلي.
كرهت صوت المترجمة العربية الرنان ولم أرتح لها بتاتاً. ربما لأنها كانت تنقل لنا تفاصيل أمور تخيفني وتغتال أمني النفسي بلا رحمة لكنني كرهتها من كل قلبي.
نمت تلك الليلة متشبثة بحمد. أحسست إنني لا أريد شيئاً من هذه الدنيا أكثر من شفائه، تمنيت صادقة لو استطعت فعل أي شيء من أجله لأجنبه آلامه القادمة، لكنني لم أكن أستطيع عمل شيء أكثر من أن أكون بقربه.
***
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا