رعشات تحت لحاف بارد 1 بدرية مبارك

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2023-01-13

 

أتأة  ت

الملامح تشي بأعمار أصحابها، كزميلتي "أمل" في العمل، هي تقترب من سن الثلاثين، ذاك السقف الذي لا تحب النساء أن تمر من تحته لسبب واحد.. 

"أنه العمر الذي تتهاوى فيه الأحلام، فتبدأ بالتشبث بكل فرصة تطل برأسها، هو محطة لا تمر فيه القطارات إلا نادرًا، كغيمة في فصول الصيف".. 

لكن "أمل" بالذات، لا تحمل أيًا من صفات الجمال! 

لا أريد أن أكون قاسية عليها، لكن الشحوم تتراكم على جسدها. حتى أخفت تفاصيله، أسنانها مشوهة إن ابتسمت، وإن تكلمت غاب مفهوم الكلمات بين تأتأة ولجلجة، خجولة جدًا، أو ربما ثقتها في نفسها معدومة، والذات عندها منخفضة جدًا، لذلك من البديهي ألا يقترب منها أحد، في مجتمع تهمه الماديات والمظاهر. 

فآثرت الانطواء على نفسها، تنكب على أوراقها في مكتبها من الساعة الثامنة حتى الواحدة ظهرًا. 

كان هذا هو يومي الأول في الوظيفة الجديدة، راقبتها وهي على هذا الشكل لمدة أسبوع كامل. 

في الأسبوع الثاني وعلى غير عادتها، تغيبت يومين متتاليين، وسط دهشة المسئولة والموظفات، في اليوم الثالث ارتفعت الأصوات والدتها وشقيقها في مكتب المسئولة. 

فهمنا أنهم يبحثون عنها، إنها متغيبة منذ أربعة أيام. 

صارت قصتها فاكهة الموظفات، وحكيت حولها آلاف القصص، وملايين الظنون. 

في الأسبوع الرابع، كانت أمل في مكتبها تمارس عملها، بعدما خرجت من مكتب المسئولة وهي تذرف الدموع، وعلى وجهها آثار كدمات قديمة. 

لم يكن فضولًا بقدر أني شعرت بحزن هذه الفتاة، وكونت خلفية مبدئية عن شخصيتها وفقًا لقراءاتي من مكتبة والدي للكتب المتخصصة في تحليل الشخصية وعلم النفس. 

اقتربت منها لعلي أزرع زهرًا في حقولها الجافة!

تظاهرت بأني أريد الاستفسار عن ورقة ما، لكوني موظفة جديدة لا أفقه في الأمور الإدارية. 

ابتسمت لها: 

- أستاذة أمل لدى استفسار عن ورقة ما لو سمحتِ!

- ........... (لكنها التزمت الصمت)!

- أعتذر إن أزعجتكِ، لكنني أرى أنك متفانية في العمل، وبالتأكيد لن أجد أفضل منك لأستفيد منه. 

رفعت رأسها الغارق في الأوراق، حدقت في مطولًا، ثم نظرت إلى الأسفل وردت: 

اسألي ماذا اقدر أن أقدم لك؟ 

لم أبدِ اهتمامًا لتعثرها في الكلام.. وقلت: 

- هل أحضر كرسيًا لأجلس بجانبك؟ 

- أجابت موافقة بالإيماء، لاحظت ارتعاشه خفيفة على أطراف أناملها. 

جلست قربها، وتحدثنا. 

وهكذا اعتادت على، وتبادلنا أرقام الهواتف، أسأل عنها، وتسأل عني. 

وأظنها تعلقت بي كتعلق طفل بطرف ثوب أمه الغائبة عنه. 

إلى أن اطمأنت لي وأزاحت الستار عن تلك المسرحية الحزينة التي تعيش أحداثها بفصول مقفزة من الأحاسيس، ويقهقه الجمهور السادي على جراحها!

"أنا الآن بلغت التاسعة والعشرين عامًا، لم يتقدم لي أحد من أقاربي أو أبناء وطني، وأنا لا ألومهم على ذلك، صدامي مع مجتمعي ولد لدي الرهاب الاجتماعي عندما أتحدث". 

"كانت لهجتها عبارة عن تأتأة صعبة جدًا"!

"في المنزل يحبني الجميع، لكن بطريقتهم الخاصة، يحبونني لأنني أوفر عليهم استقدام خادمة، لدي ثلاثة أشقاء وشقيقتان، أنا من تغسل لهم وتطبخ وتقوم بكل متطلباتهم الشخصية، تحت لحاف صمتي، فبذلك أحقق الانتماء الذي أرغب فيه، سيضطرون للتودد إلى من أجل مصالحهم، لكن تقدم بي العمر، الكل تزوج وكون عائلة، كل من حولي تغيرت حياته، إلا أنا، كل شيء تبدل إلا همي بقي بين ضلوعي. 

وذات مساء كنت أتجول في محل للملابس لأختار لي فستانًا مناسبًا للعمل، فتغزل بي الموظف الذي يعمل هناك، وكان عربيًا من غير جنسيتي، ارتبكت، وخفت، فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يغازلني فيها رجل!

دس رقمه في حقيبتي، وأنا أقف جامدة بلا حراك. 

في الواقع شعرت حينها بأنني "أنثي"!!

وأنني لست مجرد قطعة خشب يستند عليها الجميع.. 

لأول مرة، تحركت مشاعري، وكأني صحوت بعد أن مت دهرًا. 

هاتفني وتحدثنا مطولًا، وبعد أسبوع، أبدى رغبته في الزواج بي، فوافقت، وتقدم لأسرتي لكنهم رفضوه، وأنا، ضربتني والدتي! 

بعدها أقنعني، وهربت معه، وتزوجنا، وما هي إلا بضعة أيام حتى استدل أهلي على مكاني، أعاودني إلى المنزل، وأبرحوه ضربًا. 

كانت أيامًا قليلة معه، لكنها كانت كما الحلم، بل هي حلم، وأجمل عمر احتضن مشاعر ملتهبة ما شعرت بها من قبل. 

كساعة الفجر الهادئة المليئة بالانتشاء، الروحي، وعرائس من الفرح تحيط بي، الحب الذي عشته في تلك الأيام، كان كقطرة ندى ضاجعت ورقة زهر  الفتون ثم سقطت، ومهما كانت تبريراتهم بأن هذا الرجل يطمع في مالي، فإن مشاعري لم تعترض على ذلك أبدًا، ما المانع في أن أقدم له المال، ويقدم لي هو الإحساس بأنوثتي لأحمل لقب زوجه؟!

أليس الزواج سدًا للحاجات(6، وربما لأكون أمًا، بل في أبسط لغة في  التعبير. 

لأكون "إنسانة". 

لن أنسى وجه شقيقي الصارخ بي وهو يتهمني بأنني قد جلبت العار على الأسرة والقبيلة، ولسان وجعي يئن، ماذا قدم لي كل هؤلاء؟! أمن أجلهم أموت كأرض بور؟! 

ألا يحق لي أن أستمتع بمناغاة طفل يقول لي "ماما" فأدلق فيه كل أحلامي التائهة؟!

ها أنا قد استسلمت لهم، ورضيت بسجني من جديد، عدت إلى العمل لأني المورد الأساسي لأمي، فهي من تستلم راتبي وتوزعه على من يحتاج من أخوتي، وأنا بالكاد تعطيني منه الربع.

لكن تدرين ما أجمل ما في الأمر؟!

أنني الآن أجمل لقب "مطلقة"!

على الأقل، بهذا اللقب شعرت بأنني أصبحت من صنف النساء. 

"ثمة عاصفة يا صديقة، آتية يومًا ما، لتبتلع كل العادات القبلية المهترئة، وستتبعها غيمة تسقي الأفكار البور، لتخصب بالمنطق والعدل والإنصاف".

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا