(23)
تجهيزات كثيرة
كانت أمي متبرمة بقرار جدتي لكنها لم تجد بدًا من الرضوخ، فلا رأي بعد رأيها، هكذا تعودنا طوال عمرنا، واحترام أمي الكبير لجدتي وحبها العميق أيضًا لها لم يسمحا لها بالتمرد عليها من أجل مجرد حفلة!
قسمت أمي المسؤوليات عليّ وعلى أختي أيضًا وتقرر أن يكون الحفل في منزلنا على أن يكون عدد المدعوين لا يزيد عن المائتين، مائة من طرفنا ومائة من طرف أهل حمد.
تكفلت أم حمد بموضوع السكن وقررت أن تجهز لنا جناحًا صغيرًا في بيتهم يتكون من غرفتين. إحداهما غرفة حمد أساسًا والغرفة المقابلة له كانت لفواز- الذي يحتل الطابق العلوي بأكمله مع زوجته- وبين الغرفتين حمام كبير، كان هذا السكن مؤقتًا كما وعدني حمد، إلى أن نعود من شهر العسل ونبحث عن مكان مناسب،
لم يعجب الأمر أمي واقترحت أن ينتقل حمد للسكن في بيتنا مؤقتًا لحين عثورنا على سكن مناسب،
رفض حمد اقتراحها ووعدني أن يبدأ البحث على الفور عن شقة مناسبة وإن لم نجد ننتقل إلى منزل أهله كما اتفقنا سابقًا.
رحلتي في البحث عن ثوب هذه المرة لم تكن سهلة وأصرت أمي على الذهاب معي رغم انشغالها.
أتت شريفة معنا إلى أحد المحال لكن ذوقها المختلف تمامًا عن ذوق أمي جعلها تنسحب من هذه المهمة المستحيلة،
تريد أمي لي ثوبًا كبيرًا وضخمًا في حين أميل أنا وصديقتي لاختيار ثوب بسيط وأنيق، تغضب عندما تختار إحدانا شيئًا لا يعجبها وتصرخ بي: ستبدين وكأنك إحدى المدعوات ولست العروس!
أحاول مسايرتها لأنني أعرف حجم الضغط الذي تمر به، بصراحة كنت أشعر بالذنب نحوها، فأنا لم أحقق لها أيًا من رغباتها فيما يخص موضوع زواجي.
دخل شهر يونيو وبقي على زفافي ثلاثة أسابيع بالضبط ولم أجد الفستان المنشود، فكرت أمي أن نسافر إلى لبنان لعدة أيام لنشتري ثوب عرسي. لكنني كنت مشغولة والامتحانات على الأبواب. كان الوقت ضيقًا حقًا مما أصابني بالتوتر، في مكالمتي مع حمد تلك الليلة شكوت له أمر ذلك الفستان الذي لم أجده، فأخذ يضحك.
ثم قال لي: غدًا سأذهب إلى طبيب الأسنان بعد الدوام مباشرة لذا لا تقلقي إن اتصلتِ ولم أرد عليكِ.
قلت له بلا مبالاة فقد كان تفكيري محصورًا بمشكلة فستان زفافي: حقًا. لماذا؟ أتؤلمك أسنانك؟
قال ضاحكًا: أريد تنظيفها للعرس ولدي ضرس يحتاج إلى علاج فقد بدأ يؤلمني مؤخرًا.
قلت مداعبة: ضرس واحد فقط؟
فقال مشاكسًا: أممم. بما أنه الضرس الوحيد الحقيقي في فمي فالبقية كلها تركيب. فعلي الاهتمام به ومعالجته.
ضحكت على كلامه فقال: ابتهجي واضحكي. وإن لم تجدي الفستان ارتدي أي شيء تملكينه، لن يهمني أي شيء سوى أن نكون معًا.
تمنيت لو كان الأمر بهذه البساطة فأهم شيء في العرس هو فستان العروس.
اتصلت بي أمي في اليوم التالي وكنت في الجامعة مع شريفة وطلبت مني الحضور على الفور إلى أحد المحلات المعروفة في الكويت،
قالت وهي سعيدة: أظن أنني وجدت لك الثوب المناسب أخيرًا.
خرجنا إليها أنا وشريفة ودخلنا المحل حيث كانت أمي تنتظرها هناك وهي تشرب فنجًانا من القهوة،
قالت البائعة مرحبة: أهلًا بكِ يا عروس.
ابتسمت لها وذهبت لتحضر الثوب وشعور بالتوتر يقتحمني، كان الثوب معضلة حقيقية هذه المرة،
أتت البائعة وهي تحمل ثوبًا طويلًا بلون الفانيلا الداكنة. ثوب بلا أكمام. منقوش برسومات دائرية متداخلة. قماشه جميل جدًا، ومعه تاج يناسبه.
قالت البائعة: يمكنني تصميم طرحة قصيرة نثبتها على التاج، سيكون ثوبًا فريدًا جدًا، ومختلفًا عن المألوف.
نظرت إلى الثوب بحيرة، فقالت شريفة مشجعة: جربيه يا بسمة، اعتقد أنه سيكون جميلًا جدًا ومميًزا.
ذهبت إلى غرفة القياس وارتديت الثوب، ساعدتني البائعة بإغلاقه وأعطتني حذاء ذا كعب عال لأرتديه،
خرجت إلى أمي التي دمعت عيناها بمجرد رؤيتي وقالت: ألف مبروك يا ابنتي. أظنه سيكون ثوب زفافك.
وفعلًا كان الثوب هو المطلوب، صحيح أنه ليس أبيض وأنه مختلف عن المألوف في فساتين الزفاف، لكنني أحببته،
نظرت إلى شريفة لأسمع رأيها فوجدتها تكاد تبكي، لا أعرف لم تأثرت أمي وشريفة أيضًا لرؤيتي في ثوب عرسي،
تقدمت وقبلت أمي وقلت: ما أجمل ذوقكِ يا أمي.
ثم احتضنت شريفة بكل الحب الذي أحمله لها بقلبي وقلت: عقبالك.
بدأت البائعة بتثبيت بعض الدبابيس فالثوب يحتاج هذه المرة لبعض التعديلات ووعدتنا بعمل الطرحة المناسبة، دفعت أمي نصف ثمن الثوب ووعدت بدفع الباقي عندما نأتي لاستلامه بعد أسبوع،
في السيارة اتصلت بحمد ولم يرد فتذكرت أنه عند طبيب الأسنان، كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة وقتها فقد أخذنا الوقت في المحل ثم تناولنا الغداء خارجًا احتفالًا بالثوب وأوصلت شريفة إلى منزلها وعادت أمي معي أيضًا بعد أن صرفت السائق،
تحادثت مع أمي أثناء الطريق وكانت سعيدة جدًا لأنها من اختار ثوب عرسي، وحكت لي مرارًا عن دخولها للمحل وشعورها عندما رأت الثوب. و.
وصلنا إلى البيت وذهبت إلى غرفتي لأبدل ثيابي ثم نمت قليلًا، صحوت من نومي قرابة السادسة واتصلت بحمد فلم يرد، قلت لنفسي إنه قد يكون نائمًا بعد موعد الطبيب فلم أقلق عليه، نزلت إلى أهلي ثم صعدت لأدرس،
في السابعة والنصف اتصلت بحمد أيضًا ولم يرد، هنا بدأ القلق الكريه يتسرب إلى نفسي فأرسلت له رسالة هاتفية،
لم يرد حمد على رسالتي وعند الثامنة والنصف استولى علي القلق تمامًا، فاتصلت عليه بشكل ملح ومتواصل فأجابتني أخته هبة. سألت هبة عن حمد.
فقالت: لا تقلقي حبيبتي. تعرض حمد لنزيف حاد أثناء علاج أسنانه، ولا يستطيع الكلام الآن.
شهقت خائفة: أهو بخير؟
قالت هبة: هو أمامي ويشير لك أن لا تقلقي. لقد خف النزيف قليلًا لكنه لم يتوقف، سيحادثك غدًا إن شاء الله، يجب أن يرتاح.
أنهيت المكالمة وأنا قلقة. اتصلت شريفة وأخبرتها ما حصل، هونت الأمر علي وقالت إن الأمر عادي وربما هو متعب فعلًا.
نمت نومًا قلقًا واشتقت لحمد الذي تعودت على أن أحادثه كل ليلة،
في الثامنة صباحًا اتصلت بحمد ولم يرد. فنهشتني الوساوس، اتصلت على هبة وأنا مترددة فلم ترد، يا إلهي ما به حبيبي!
بقيت في فراشي والهاتف أمام عيني. بعثت رسالتين الأولى لحمد وأنا أطلب منه الاتصال بي والثانية لهبة وأنا أطلب منها أن تطمئنني عليه.
اتصلت بي هبة قرابة التاسعة فأجبت عليها بلهفة: ألو.
كان الصوت حولها يوحي أنها في مكان مزدحم.
قالت هبة: صباح الخير حبيبتي بسمة.
قلت بسرعة: صباح النور. كيف حال حمد؟ هل توقف النزيف؟
قالت هبة: لا. لا تزال لثته تنزف. وظهرت بقع حمراء في كل جسده، نحن الآن في المستشفى لعمل الفحوصات اللازمة. لا تقلقي إن شاء الله الأمر بسيط لقد طمأننا الطبيب.
قلت وقد تملكني الخوف: ماذا قال الطبيب؟
قالت: لا تقلقي حبيبتي. هو بخير. ربما كان الأمر مجرد حساسية المهم أنه في أيدِ أمينة. عندما تنتهي الفحوصات سيتصل حمد بك بنفسه.
انتهت المكالمة بيني وبين هبة وغاص قلبي من الخوف،
اتصلت بشريفة التي صرخت بي: لا تقولي أنك لم تخرجي من البيت حتى الآن؟
وفجأة انفجرت باكية. جزعت شريفة وأخبرتها بدوري عن ما حصل مع حمد،
طمأنتني هي بدورها وداعبتني قائلة: لم أكن أعرف أنك تحبينه وتخافين عليه لهذه الدرجة. انهضي وغيري ثيابك لنذهب إلى الجامعة، الامتحانات على الأبواب، وتفاءلي بالخير بجديه حبيبتي.
وأحسست أنها على حق، لقد كبرت الموضوع، سيكون حمد بخير، إنه مجرد عارض صحي، لابد أنني بالغت بخوفي لأنني لم أنم جيدًا كما أنني متعبة، تجهيزات العرس أتعبتني، الحمد لله أن حفلتي بالبيت وليس بالفندق، لكانت التحضيرات مضاعفة. هكذا كنت أفكر وأنا أبدل ملابسي.
ذهبت إلى شريفة وتوجهنا للجامعة، حاولت أن أكون طبيعية على قدر استطاعتي لكن تفكيري كان مع حمد، بعثت رسالة لهبة فلم ترد ثم اتصلت بها،
فردت على عجل وقالت: كل شيء على ما يرام، سنعود للبيت بعد قليل.
وارتحت. طلبت أن تعطيني حمد فقالت إنه لا يزال يحادث الطبيب وسيكلمني لاحقًا.
استبشرت خيرًا وتغيرت ملامحي، قالت شريفة: أخبرتك أنه مجرد عارض. رباه كم أقلقتِ نفسكِ دون داع.
عدت إلى المنزل كعادتي بعد أن أوصلت شريفة،
وعند الخامسة اتصل بي حمد أخيرًا،
عندما سمعت صوته أحسست أنني كنت كالأرض الجافة اليابسة التي ارتوت بالماء العذب.
قال بصوته الحبيب: خفتِ علي؟
قلت جادة: كثيرًا. أكثر مما تتصور.
شيء ما كان مختلفًا في نبرته. شيء ما كان يجعله متألمًا. شيء لم أدرك كنهه بعد،
قال فجأة: بسمة أريد أن أراكِ الآن.
قلت متفاجئة: الآن؟
قال مؤكدًا: الآن. ما رأيك في المقهى الهادئ الذي على البحر؟
نبرته أشعرتني أن الأمر مهم، لم أخرج مع حمد أبدًا وحدنا أمام الناس في مكان عام من قبل،
لكنني لم أجادله، فهو خطيبي وخلال أسابيع قليلة سيصبح زوجي ولابد أن ما يريده مهم لدرجة أنه طلب لقائي في الحال. فوافقت.
ارتديت ملابسي على عجل وخرجت من البيت متسللة دون أن أخبر أحدًا. انتبهت أثناء قيادتي للسيارة أنني لم أتزين كما يجب، أوقفت سيارتي على جانب الطريق، ووضعت بعض الطلاء على شفتي وبعض الكحل حول عيني.
ابتسمت لوجهي المنعكس بمرآة السيارة وقلت لنفسي: مهما يكن يجب أن يراني جميلة، ومن يدري قد يكون حضر لي مفاجأة سارة. قد يمسك يدي ليضع فيها دبلة العرس التي وعدني بشرائها، إن حمد مليء بالمفاجآت.
ووصلت إلى المقهى. وجدت حمد هناك قبلي وقد جلس إلى طاولة منعزلة في طرف المكان وتطل على البحر.
ذهبت إليه وأنا أشعر بقلبي يهفو نحوه، وجلست بعد أن سلمت عليه. كان وجهه الحبيب قريبًا مني، نظرت في عينيه فلمحت في عينيه عذابًا.
كان حمد يتعذب بلا شك. سألته: ما الأمر؟ ما الذي حصل؟
نظر في عيني طويلًا دون أن يتكلم.
خفق قلبي بعنف فعدت أسأله: حمد. ما الموضوع؟ ما الذي حصل؟ أخبرني أرجوك.
فجر حمد قنبلته التي حولت حياتي إلى أشلاء: بسمة. أنا مصاب بمرض اللوكيميا.
وانهار عالمي.
***
(24)
معلومات
يعرف اللوكيميا بسرطان الدم وهو مرض خبيث يصيب الخلايا المكونة للدم والموجودة في النخاع العظمي بحيث يجعل الخلايا الطبيعية لا تجد مساحة كافية للتكاثر لإنتاج مكونات الدم من كريات الدم الحمراء أو البيضاء أو الصفائح الدموية،
والغالبية العظمى من الحالات المصابة بهذا المرض لا يمكن التكهن بسبب إصابتها به وقد يكون سببه بعض الفيروسات التي يصاب بها الإنسان في طفولته أو لوجود خلل في الكروموسومات.
العلاج الأساسي لهذا المرض هو العلاج الكيماوي وزراعة النخاع في حال وجود متبرع مطابق أما العلاج الإشاعي فقد يأخذه بعض المرضى قبل عملية الزراعة بعدة أيام.
***
(25)
صدمة عمري
انهرت باكية فور سماعي الخبر، بكيت غير مبالية بالناس حولنا في المقهى والذين التفتوا إلينا وهم يتفرجون على دموعي التي قلت من خلالها: كيف يا حمد؟ كيف أصبت بالمرض. ما هذه المصيبة يا ربي.
حاول حمد تهدئتي دون جدوى، شعرت بأنني على وشك الاختناق وصورة حمد الجالس أمامي تهتز أمامي عيني. رباه. حبيبي مريض. ومرضه خطير جدًا، وقد يموت. بكيت أكثر. قام حمد وشدني من ذراعي بعد أن ترك حساب طلبنا الذي لم نلمسه بعد، سرت معه كالمغيبة وأنا لا أكاد أرى طريقي، أخذني إلى سيارته، اركبني بجواره وأغلق الباب ثم جلس بجواري دون أن يحرك السيارة،
قال حمد: أرجوك اهدئي يا بسمة. وفجأة بدأ أحمد يبكي معي، نظرت إليه ذاهلة. كانت المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها رجلًا يبكي. ففي مجتمعنا البكاء ممنوع على الرجال، وكأن الدموع تنتقص من الرجولة، رغم أن الرجل إنسان لديه مشاعر وأحاسيس، لكنه مطالب بكتمان انفعالاته، حتى أخي مجبل عندما كان طفلًا اعتاد والدي على أن ينهره بشده كلما بكى وهو يقول: إياك أن تبكي. فالرجل لا يبكي!
لكن حبيبي كان يبكي. وبكاؤه حطمني. تمنيت في تلك اللحظة لو كنت أنا المريضة لا هو، المهم أن لا يبكي حبيبي. أمسكت يد حمد. وقبلتها.
مددت يدي الأخرى ومسحت دموعه فقبل هو يدي.
ساد صمت حزين بيننا بعد أن فرغنا كل دموعنا،
تحدثت كثيرًا: ماذا سنفعل الآن؟
قال حمد: يقول الطبيب أن عليّ السفر في اقرب وقت لأخضع لعملية زراعة النخاع يجب عمل اختبار لإخوتي لمعرفة من منهم يستطيع التبرع لي.
قلت ذاهلة: متى ستسافر؟
قال حمد: سيتم عرض حالتي بشكل عاجل على لجنة العلاج في الخارج، يقول الطبيب إنني سأسافر بعد شهر ربما.
سكت. تذكرت تحضيرات عرسي. ثوبي الجديد. أحلامي الضائعة. كم أنا مسكينة.
قال حمد: بسمة. أريد أن نتمم زواجنا.
شهقت: كيف نتزوج في هذه الظروف؟
نظر في عيني وقال: لا يعلم سوى الله كم سأعيش. وهل سأتعافى أم لا.
قلت بسرعة: ستشفى بإذن الله.
قال بحنان: بسمة. لو بقي في عمري لحظة واحدة فأنا أريد أن أقضيها معك. حتى المحكوم عليه بالإعدام يسمحون له بأمنية أخيرة وأنت أمنيتي يا بسمة. أريد أن أتزوج بك، قد يكون هذا القرار أنانيًا. لكنني أريد المجازفة. قد أشفى وقد أموت، وفي كلتا الحالتين سأكون راضيًا، إن كنتِ بجواري. صدقيني.
انهمرت دموعي مرة أخرى، فربت حمد على شعري وقال: لِمَ تبكين الآن؟
قلت بألم: لا أتخيل كيف سأعيش بعدك إن لم تشفى يا حمد.
أغمض حمد عينيه بألم يضاهي ألمي وأكثر.
***
(26)
قرار صعب
عدت ليلتها إلى البيت وأنا استرجع كلمات حمد الأخيرة لي: القرار لك. وسأحترم قرارك. فكري جيدًا بالموضوع، إن أردتِ الانسحاب من حياتي فلن ألومك. وإن وافقت على البقاء معي سأكون أسعد رجل في الدنيا.
انهمرت دموعي عشرات المرات قبل أن أصل أخيرًا إلى بيتنا، كان حمد يقود سيارته خلفي فوصلنا معًا. التفت نحوه والبؤس يتجسد في ملامحي، ابتسم لي ابتسامة الحبيبة التي أعشقها، وأرسل لي قبلة في الهواء فبكيت من جديد.
دخلت إلى المنزل فلمحت الصالة مضاءة في منزل جدتي فعرفت أن أمي عندها. كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء.
توجهت إلى منزل جدتي. ودخلت. كانت ماما نشمية تجلس وبجوارها أمي وبيدها قائمة المدعوين لعرسي وهي تراجعها معها، ودلال ومجبل يجلسان في الجهة المقابلة لهما.
كانت دلال تقول وقت دخولي: هذا ليس عدًلا. أريد دعوة كل صديقاتي و.
وسكت الجميع بمجرد دخولي، كنت منهارة، وعيناي متورمتان من كثرة البكاء، ضربت أمي على صدرها وقامت واقفة: بسمة؟ ما الذي حدث؟
انهرت باكية على أقرب مقعد حملتني إليه قدماي المرتعشتان. وقلت: حمد. حمد.
صرخت دلال: تشاجرت معه؟ تركتما بعضكما؟
هززت رأسي نافية: لا.
قالت جدتي وقد شلها الخوف: ما الذي حدث يا ابنتي تكلمي؟
قلت: حمد مريض. حمد مصاب باللوكيميا.
صمت الجميع للحظة. ثم استوعبوا الخبر، بكت دلال وهي تضمني إلى صدرها.
قال مجبل: ماذا يعني هذا المرض؟
همست أمي بألم: سرطان الدم.
شهق مجبل وسكت على الفور. ظلت جدتي صامتة من هول الصدمة ثم انهمرت دمعة على خدها، بكت أمي أيضًا وقامت لتربت على شعري بيدها وقائمة المدعوين في يدها الأخرى.
مر بعض الوقت قبل أن نتمالك أنفسنا،
وأخيرًا قالت أمي: قدر الله وما شاء فعل، الحمد لله أنه اكتشف الأمر قبل أن تعقدا قرانكما يا ابنتي.
قالت دلال: صحيح يا أختي. كان الله في عونك وعونه أتمنى أن يشفى. مسكين حمد.
وفجرت مفاجأتي عندها: لا أريد أن أتخلى عن حمد. أريد أن يتم عقد القرآن في موعده.
صرخت أمي وقد فقدت أعصابها: ما هذا الجنون؟ الرجل مريض بمرض خطير ويعلم الله ماذا سيكون مصيره، وأنتِ تريدين الزواج منه؟ انتظري على الأقل حتى يتعافى وبعدها قرري.
قلت بجدية: لو كنت أنا المريضة. ما الذي كنتم ستشعرون به لو أنه تخلى عني؟
قالت أمي غاضبة: بسمة، الموضوع جدي، ولو كنتِ أنتِ المريضة لما كنا زوجناك له قطعًا، ولو كان يريدك لطلبنا منه الانتظار إلى أن يتم شفاؤك. هذه الأمور لا مجاملة فيها. أنتِ ابنتي وأنا لن أوفق على هذا الزواج حتى لو انطبقت السماء على الأرض.
نظرت إلى جدتي مستنجدة. فقالت: نحن الآن مصدومون، نحتاج لبعض الوقت لنستوعب الخبر، دلال خذي أختك لترتاح قليلًا. وسنتكلم في هذا الموضوع لاحقًا.
هنا وقفت أمي وقد جنت: اسمحي لي يا ماما نشمية، هذه المرة سيكون القرار لي أنا. بسمة ابنتي والموضوع مصيري جدًا وجدي، لن أسمح بهذا الزواج مهما حصل، أتفهمون؟
وخرجت أمي وصفقت الباب وراءها بعنف وسط ذهولنا.
***
(27)
مواجهة
كانت الستائر مسدلة في غرفتي قد بقيت في سريري رغم أن الوقت قد تأخر للظهيرة، أقفلت هاتفي النقال ولم أذهب إلى الجامعة، لا بد أن شريفة اتصلت عليّ عشرات المرات، كنت في حالة لا تسمح لي بمحادثة أحد، لم أذق للنوم طعمًا في الليلة الماضية وكلما غفوت من شدة التعب هاجمتني كوابيس مخيفة فأصحو مرتعدة لأبكي، شعرت أن دموعي قد جفت مع حلول صباح لا نور له في قلبي فنمت كالقتيلة.
فُتح باب غرفتي ودخلت عليّ تهاني. اقتربت من ستائري وأزاحتها قليلًا ليدخل بعض الضوء لغرفتي. ثم جلست على سريري ونظرت إليّ بحزن. كنت متكومة في سريري واللحاف يغطي كل جسدي ووجهي المنهك يعكس مدى عذابي.
قلت أختي: بسمة. قومي يا حبيبتي. اغسلي وجهك وستحضر لك الخادمة إفطارك الآن، يجب أن تأكلي شيئًا.
قلت وقد انقبضت معدني بمجرد أن فكرت بالأكل: لا أستطيع أن آكل شيئًا.
شدتني أختي برفق بعد أن أزاحت اللحاف عني نحو الحمام وهي تقول: يجب أن تكوني قوية. هناك الكثير من الأمور التي يجب عليكِ موجهتها وعلى الفور هيا حبيبتي لا تكوني عنيدة.
دخلت إلى الحمام وغسلت وجهي وأسناني. هالني انعكاس وجهي على المرآة. كنت محطمة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى،
هربت من صورتي المخيفة التي لم أعتد عليها وخرجت إلى تهاني التي فتحت كل الستائر وكانت الخادمة تضع صينية الإفطار على طاولتي. خرجت الخادمة وشدتني تهاني لأجلس ثم أجبرتني على شرب بعض العصير وعلى قضم لقمتين من الخبز،
تحسنت فعليًا بمجرد أن دخل الزاد إلى أحشائي، فأكملت أكلي. قالت أختي: بسمة. تعرفين أننا جميعًا نهتم لأمرك. ونعرف كم كانت صدمتك كبيرة. حبيبتي. أعرف أن القرار صعب جدًا وأتفهم كل ما تحسين به، لكن في ظروف كهذه يجب أن يكون قرار العقل فيصلًا. لا يجب عليك الانسياق وراء قبل. حمد مريض. وهذه الحقيقة يجب عليك استيعاب أبعادها وعواقبها، لا زلتِ صغيرة. عليكِ تركه أو على الأقل انتظار شفائه.
قلت: لا أريد أن أتخلى عنه، لا أستطيع أن أفعل ذلك به.
قالت بحكمة: لا تتخلى عنه. لكن لا تتزوجيه إلا بعد أن يشفى تمامًا، هذا كل ما نريده منك. نريدكِ أن تتصرفي بعقلانية، وتذكري أن قرارك هذه المرة سيؤثر على الجميع.
نظرت إليها متسائلة فقالت موضحة: أمي غاضبة جدًا، وتعرف أن ماما نشمية ضعيفة أمامك، ويصعب عليها أن ترد لكِ طلبًا، وإن وافقت ماما نشمية على زواجك من حمد، فقد تتفاقم الأمور بينهما وتسوء علاقتهما الطيبة والتي امتدت لعشرات السنين بسبب هذا الموضوع، لا تضعيهما في مواجهة يعلم الله وحده عواقبها يا بسمة.
تأثرت لكلام تهاني. لكنني كنت مشوشة جدًا. كنت أعلم في قرارة نفسي أن أمي على حق. وأن عليّ إلغاء زواجي برمته، لكن قلبي المعلق بحمد كان يعاندني. حبيبي الذي لا يريد شيئًا أكثر من أن أكون بجواره في محنته.
خاصمتني أمي ذلك اليوم كوسيلة للضغط عليّ، وحادثتني دلال في الموضوع أيضًا وكان رأيها موافقًا لرأي أمي،
عند العصر أتت شريفة لزيارتي بعد أن اتصلت بدلال وعرفت منها ما حدث، بكت شريفة بمجرد دخولها لغرفتي وبكيت معها.
تفهمت شريفة دوافعي أكثر مما فعل أهلي لكنها تفهمت موقفهم أيضًا. ولم تستطع نصحي بشيء. كانت مثلي. تقدس الحب، وتعتبر الإخلاص فيه أمرًا مفروغًا منه، في نظرنا كان الحب هو أن يكون الطرفان معًا في السراء والضراء، أي حب هذا الذي يلغيه المرض. لم لا أتفاءل وأتيقن من شفاء حبيبي؟ ماذا لو كنت أنا مكانه، لكان تخليه عني عذابًا يفوق عذاب المرض وآلامه، ستكون معنوياته مرتفعة لو كنت إلى جواره، وللنفسية أثر مهم في الشفاء والكل يعرف ذلك.
كنت أريد حمد، وأحبه بصدق، لا يهمني إن كان مريضًا، فقد أتزوج من شخص معافى ويمرض فهل يعني ذلك أن تخلى عنه؟ كان رباط الحب في نظري لا يتجزأ، أن أحب شخصًا يعني أن أكون معه في كل حالاته،
قضيت يومي في غرفتي، عرفت من دلال أن أمي اجتمعت بجدتي، لا بد أنها اعتذرت منها وناقشتها في موضوع زواجي، أعرف كيف تفكر أمي، إنها تحب جدتي كثيرًا ولن تطيق فكرة إغضابها وبنفس الوقت ستحاول أن تضمن وقوفها في صفها ومنعها لزواجي من حمد.
عرفت أن عليّ خوض حرب ضارية لأقترن بحمد في هذه الظروف وكنت جاهزة لخوضها من أجله.
مر اليوم التالي دون أن أفتح هاتفي النقال أيضًا. ولم أذهب إلى الجامعة، تحسنت حالتي قليلًا لكنني لا أزال مشوشة،
بدأ قراري بالزواج من حمد يتبلور في ذهني وعرفت أنني اتخذت قراري أخيرًا.
في عصر ذلك اليوم ذهبت إلى أمي وكانت في غرفتها، فوجئت بدخولي إليها، وزمت شفتيها بحزم لا يناسبها وهي تقول: بسمة. اعتقد أن علينا البدء بإلغاء ترتيبات الزواج.
قلت موافقة: يمكنك إلغاء كل شيء فيما يخص الترتيبات فقط.
قالت بحدة: ماذا تقصدين؟
قلت بإصرار: لا داعي لعمل حفل. حتى لو كان صغيرًا، لكن عقد القران سيتم على أية حال في موعده، أريد منكم احترام رغبتي وعدم مناقشتي في قراري.
صرخت أمي: ما هذا الجنون؟ وكم عمرك لتعرفي القرار الصحيح؟؟ لا زلتِ صغيرة ومثلك لم تختبر الحياة بعد.
قلت بعناد: أرجوكِ يا أمي لا تصعبي الأمور أكثر. أريد أن أقف بجوار الرجل الوحيد الذي أحبته، لن أسافر معه للعلاج، اتركوني فقط على ذمته، دعوه يشعر بالسعادة والأمان وبأنني له.
صرخت أمي: ما هذا الذي أسمعه؟ هل فقدت عقلكِ؟ لم تربطين نفسك برجل قد يموت في أي لحظة؟
قلت وأنا أعض شفتي ألمًا، ومن منا يضمن عمره؟ قد أموت أنا قبله الأعمار بيد الله.
وتشاجرت مع أمي. وجريت إلى جدتي. وكانت في غرفتها، طرقت الباب عليها ودخلت، ورأت كل ما أريد قوله في وجهي، وقلته لها.
لم تعلق جدتي بشيء اكتفت بسماع كلامي دون أن تنطق. لم أكن أعرف بم تفكر لكنني كنت أعرف أنها أكثر من يفهمني في هذا العالم، كان بيننا رابط روحي وثيق. إنه أمر لا أستطيع تفسيره. ذلك الارتباط بيني وبين جدتي كان كمعجزة حقيقية يمكنني الاعتماد عليها؟
وأخيرًا وقبل أن أخرج من غرفتها قلت لها: أتذكرين حديثنا تلك الليلة قبل عودتنا من فرنسا؟ أتذكرين عندما قلت لي إن عمر الإنسان لا يقاس بالسنوات؟ بل يقاس باللحظات الجميلة التي عاشها؟. وإن بعض اللحظات تعادل عمرًا بأكمله، أنا متأكدة أن أيامي الأجمل ستكون مع حمد، وأنها ستعادل عمري كله. أرجوكِ يا جدتي، لا تحرميني من أن أعيش أجمل لحظاتي.
***
(28)
قرار ووعد
في اليوم التالي اجتمعت بنا جدتي باكرًا، أنا وأمي ودلال ومجبل. وأيضا تهاني التي اتصلت بها لتحضر،
جلسنا حولها بوجوه مترقبة. أمي بوجهها الخائف، أنا بوجهي الراجي، دلال بوجهها الحائر، تهاني بوجهها الخائف، ومجبل بوجهه المتعجب.
وأخيرًا أصدرت جدتي قرارها قائلة: أعرف أن ما سأقوله صعب. وأريد منكم عدم مقاطعتي إلى أن أنتهي من حديثي كله. لقد فكرت طويلًا بموضوع زواج بسمة من حمد، ولأنني أحس بمشاعر الآخرين وأقدرها، فأنا موافقة على أن يتم عقد القران فقط، على أن يؤجل الزفاف إلى ما بعد رحلة علاج حمد وشفائه التام بإذن الله، وعليك يا بسمة أن تعديني وأمام الجميع بأن تنفيذي ما قلته، وأن لا تتزوجي حمد إلا بعد شفائه وأن تخبريه وبوضوح أنك لن تسافري معه. وبذلك تكونين أرضيت قلبك وضميرك وأرضيت أمك وعائلتكِ أيضًا. مفهوم؟
قلت فرحة: أعدكِ يا جدتي.
وعدتها. وقد كانت تلك المرة الأولى التي أكذب فيها عليها وأخلف فيها وعدًا أقطعه لها.
***
(29)
يا حبيب الروح
واتصلت بحمد بعد غياب دام يومين كاملين.
جاءني صوته حزينًا. مهمومًا. بائسًا، قال بمجرد أن سمع صوتي: أهلًا. حبيبتي. اشتقت إليك.
وسكت. عرفت أن في نبرته عتابًا لغيابي عنه، وخوفًا لقرار يترقبه،
سألته: كيف حالك؟ هل صحتك على ما يرام؟
قال وقد فقد صبره: بسمة. ما هو قرارك؟ أريد أن أعرفه الآن.
سكت قليلًا ثم قلت: يا حبيب الروح. قررت أن أكون معك بالحلوة والمرة. لن أتخلى عنك، وافق أهلي على عقد قراننا بشرط أن لا أسافر معك، ووعدتهم بذلك إرضاءً لهم، لكنني سأكون معك خلال رحلة العلاج. لن أتخلى عنك أبدًا وستشفى إن شاء الله وسنعود معًا ونعيش دائمًا معًا.
سمعت صوت بكائه فقلت له: إن كان لي خاطر عندك لا تبكي.
ناداني بحب: بسمة.
أجبت نداءه: يا بعده.
فقال: لن أنسى موقفك هذا طوال عمري.
وبدأت المواجهات الأخرى، مواجهة حمد مع أهله الذين رأوا أيضًا أن رغبتنا بالزواج جنونًا تامًا، خاض معهم حروبًا لا أعرف عنها الكثير،
وبدأت أمي بإلغاء ترتيبات الحفل الذي لن يتم، سنكتفي بعقد قران ضيق يضم العائلتين فقط دون المقربين حتى، كانت أمي حزينة جدًا، لكنها رضيت بالأمر الواقع، لم يكن للفرح مكانًا في قلوبنا، لقد سرق المرض منا فرحتنا وبات مصير مستقبلنا مجهولًا، فرضينا بحاضر يجمعنا مهما كان عمره. المهم أن نكون معًا.
الوحيدة التي أردت حضورها خلال عقد قراني كانت عمتي حصة، أخبرتها بالهاتف أننا قررنا عمل عقد قران محدود بسبب ظروف سأخبرها عنها عندما تصل مع ابنتها قبل الموعد بيوم واحد. سارت الأمور بهدوء حزين إلى أن عرف عمي ماجد بحقيقة مرض حمد بعد أن أبلغته جدتي بالأمر، جاء ثائرًا لمنزل جدتي وصرخ فينا جميعًا: ما هذا الذي أسمعه؟؟ تريدونني أن أزوج ابنة أخي لرجل مريض؟؟ هل فقدتكم عقولكم؟ أمي تكلمي أرجوكِ، قولي شيئًا!
قالت جدتي: قلت لك ما عندي. هذا الزواج سيتم.
صرخ عمي فينا وقد ارتعدت أمام غضبته الهادر: لماذا؟ أريد أن أفهم. لا تقولوا إنها تحبه، لتحبه. لا أحد يمنعها. لكن أن ترتبط به قبل أن يشفى من مرضه لا وألف لا. إلا إذا كانت.
نظر إليّ والشرر يتطاير من عينيه. لقد ظن أن خطيئة ما حدثت بيني وبين حمد وهي التي تبرر ارتباطنا في هذه الظروف،
ذُهل الجميع لظنه، وقبل أن يتكلم أي منهم،
صرخت أنا دفاعًا عن نفسي: أبدًا يا عمي، ما تفكر به عار عن الصحة، أنا أحب حمد حبًا شريفًا عفيفًا، ومن المستحيل أن أقوم بأمر مشين كما تلمح. أريد فقط أن أقف معه في محنته وأن أعطيه الأمل في الحياة.
قال عمي قبل أن يخرج غاضبًا ويصفق الباب خلفه بعنف حتى كاد أن يحطمه: أنا غير موافق على هذا الجنون، لو كان أخي محمد على قيد الحياة لما وافق أبدًا وابنته أمانة في عنقي. كم أنتم مجانين، سترمون ببسمة إلى التهلكة. وستندمون. وخرج.
حدجتها جدتي بنظرة غاضبة، قالت أمي وهي لا تزال تولول: سامحيني يا ماما نشمية، لكن قرارك هذه المرة غير سليم، وسنندم كلنا على هذا القرار. وستدفع بسمة ثمنه من عمرها وشبابها. كم أرثي لحالك يا ابنتي.
كنت أعرف أن عمي سيضطر لحضور عقد قراني رغم رفضه، لن يجرؤ على مخالفة أوامر جدتي بكل تأكيد.
في منزل حمد كان الحال مماثلا للحال عندنا، استغربت أمه موافقة أهلي على زواجنا وعرفت أنني مصرة على موقفي وأن هذه الموافقة جاءت بعد ضغطي الشديد عليهم،
حاولت إقناع حمد بتأجيل ارتباطنا إلى أن يعود من رحلة العلاج، لكنه طبعًا لم يوافق، وأخيرًا اتصلت أمه بأمي لتزورنا وتحضر لي المهر والشبكة،
حددت لها أمي موعدًا سريعًا وجاءت أم حمد دون أن يبدو الفرح على وجهها، كانت رسمية جدًا وجافة أيضًا وكذلك كانت أمي مثلها، فكلتاهما لا تريدان أن يتم هذا الزواج،
لم تأت أمه في تلك الزيارة على ذكر سيرة الزواج ولم تتحدث أبدًا عن أي ترتيبات تخص التاريخ المحدد والذي بقي عليه أسبوع واحد فقط،
تحدثت بالكاد عن أمور عامة ثم ناولت أمي ظرفًا كبيرًا وهي تقول: هذا مهر بسمة، وأضفت إليه مبلغًا كي تشتري لها شبكة على ذوقها، بصراحة لم نجد الوقت للذهاب إلى محلات المجوهرات، اعذرونا على ذلك، وأنتم أعلم بظروفنا.
أومأت أمي برأسها متفهمة ولم تنطق بأي كلمة، وأخيرًا خرجت أم حمد من بيتنا وكأنها تهرب!
لم أهتم بكل ما قالته أمي بعد تلك الزيارة ولم أهتم لنصائح تهاني ولا بكلام دلال. ولا بأي شيء آخر، كل ما فكرت فيه أنني سأتصدق بجزء من مهري للمحتاجين عسى أن يدفع الله عنا البلاء برحمته وفضله.
وقررت أن لا أشتري شبكة في الوقت الحالي، فكرت أنني سأقيم حفلة استقبال ضخمة كالعرس عندما يمن الله على حمد بالشفاء ووقتها سأشتري معه شبكة على ذوقه، لن أستعجل أبدًا. وسيكون أمامنا كل الوقت لنفعل إن شاء الله.
وانتهت الامتحانات التي بالكاد استطعت التركيز فيها، وجاء اليوم الموعود، يوم عيد ميلاد حمد الخامس والعشرين ويوم عقد قراننا.
صحوت ذلك الصباح على رسالة هاتفية من حمد وهو يقول: اليوم يتحقق أجمل أحلامي.
ابتسمت وأنا أكتب له: وأجمل أحلامي أنا أيضًا.
نزلت إلى الطابق السفلي في المنزل لأجد أمي بوجهها الممتقع، اقتربت منها وقبلت رأسها،
وقلت: أرجوكِ افرحي لأجلي. فاليوم أجمل يوم في حياتي. ابتسمي من أجلي أنا.
حاولت أمي أن تبتسم، فجاءت ابتسامتها شاحبة كوجهها،
ذهبت إلى منزل جدتي وقبلت رأسها ولسبب ما أحسست أنها حزينة أيضًا.
كان عليّ تجاهل حزن الجميع في يوم زفافي. وأن أصر على التشبث بالحب والأمل لأمضي إلى مصير مجهول يعلم الله نهايته، لكنني قررت المضي بخطوات مرتعدة رغم كل المخاوف والهموم، خطوة وراء خطوة.
لطمت عمتي حصة على خديها يوم وصلت الكويت وعرفت بمرض حمد، لم تستطع مناقشتي بقراري، فامرأة تقدس الحب مثلها لم تكن تستطيع أن تتخيل أنني قد أترك حبيبي لأنه مريض، كانت تتفهم مشاعري، لكنها حزينة أيضًا من أجلي وأجله.
وجاء اليوم الموعود نظرت إلى مرآتي ذلك المساء وابتسمت لصورتي، تركت شعري منسدلًا ناعمًا وقد شبكت فيه دبوسًا من الماس وتزينت بزينة خفيفة بألوان فاتحة جدًا وأصرت خبيرة التجميل على أن تركب لي رموشًا صناعية طويلة رغم أنني لست بحاجة إليها. لكنها أضفت المزيد من الاتساع لعينيّ الجميلتين،
تأملت نفسي وثوب الفانيلا ملتف حول جسدي كأنه يحضنه، وقد استغنيت عن ارتداء طرحتي المسكينة التي بقيت على السرير.
كان هناك شيء مفقود في جمالي ذلك المساء، شيء ناقص، كصورة تحتاج لبعض الرتوش أو كلوحة تنقصها بعض الألوان لتغدو زاهية متألقة،
كان الفرح ينقصني. الفرح الذي أردت أن أراه في عيون أهلي وأحبائي.
دخلت إليّ عمتي حصة وقالت: بسمة عمك ماجد يريد أن يراكِ قبل عقد القران.
قلت بدهشة: ماذا يريد؟
لم ترد على دهشتي لكنها أفسحت المجال لعمي ماجد بأن يدخل، وبتلك اللحظة رق قلبي عليه أيضًا، لطالما تمردنا عليه، واعتبرناه متطفلًا على أمورنا وحياتنا. لكنه عمنا في النهاية، ورجلنا من بعد أبي رحمه الله.
اقترب مني ونظر عيني مباشرة وسألني: هل أنتِ واثقة مما تفعلينه؟
خفق قلبي وقلت: واثقة.
نظر إلي ّ برهة، ودون أن أعي وجدت نفسي بين ذراعيه. فوجئت بعاطفته نحوي وهو الذي عُرف بصلابته وجفائه، وفجأة ذاب ذلك الجليد بيننا فطوقته بين ذراعي بشدة، قبّل رأسي وقال: بسمة. يعلم الله أنني غير راضٍ عن هذا الزواج، لكنك لم تهوني عليّ. وها أنت أتيت لأكون وكيلك اليوم. أتمنى أن تكوني مدركة لخطورة الارتباط بهذا الرجل. وأن يكون قرارك صائبًا.
تنهدت بحرقة وأنا ابتعد عنه قليلًا: شكرًا لك يا عمي، لن أنسى صنيعك هذا ما حييت.
وعُقد قراني على حمد.
***
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا