زلنا وسط دفع السرير من قبل المسعفين باتجاه غرفة العمليات.. ن
مكثت نحو ثلاث ساعات أنتظر بالخارج.. ثم أتي المحقق كي يأخذ أقوالي ويسجلها رسمياً..
كنت أخشى أن يكتشفوا أمره كإرهابي.. ومن ثم يحضر اسمي ويكتشفون أمري.. لكنني بداخلي بعض الطمأنينة لأنه سبق أن أخبرني بأنه أذكى من أن يكتشف أحد أمره.. لأنه حذر جداً.. وأصعب من أن يقع في ورطة كهذه.. وبالفعل لم ألاحظ ذلك أبداً من خلال تعاملهم معه، خصوصاً بعد تسجيلهم اسمه بالمحضر وبقائمة النزلاء بالمستشفى..
ولكن ما كان يخيفني وقتها أكثر من أي شيء.. هو ضياء!
أن استيقظ.. بالتأكيد سوف ينتقم مني بعد ضربي له بهذه الطريقة البشعة!
كنت أتساءل مع نفسي: ماذا علي أن أفعل؟
مقاطع الفيديو التي تحمل جريمته باغتصابي أصبحت معي..
ولا أستطيع أن أدينه بها عند الشرطة.. لأنني لا أريد فضائح..
وإن حصل.. سيقول إنها زوجتي وحلالي!
وإن هربت من دون بلاغ.. قد يورطني بالأدلة التي جمعتها النذلة خديجة ..
ولن يتضرر هو أبداً.. لأنني لا أملك عليه شيئاً أبداً يفيد بتورطه!
الأدلة التي تفيد بتورطي بدعم أعمال تخل الأمن بالبلاد!
لا أعلم كيف سأحصل عليها منها..
للأسف.. أعترف أنني قدمت حماية شرفي على أمن الوطن!
متناسية أن حماية الوطن هي حماية الشرف الحقيقي..
وأنه يفترض علينا التضحية بأرواحنا من أجله.. لكنني لست كاملة!
إنسانة ضعيفة جداً.. سهلة الكسر.. وسريعة الارتباك..
وأعلم جيداً أن طبيعة البشر هنا لا يغفرون للفتاة حتى وإن كانت مظلومة..
وأعترف بأنني لست من النوع الشجاع الذي يقدم على التضحية..
كنت أخاطب وطني بصوت مسموع..
آسفة يا وطني.. وأتمنى أن تتفهم أسفي.. ووعدته بأن أسعى لأنقذ ما يمكنني إنقاذه..
رأسي.. رأسي.. رأسي يكاد ينفجر من ألم التفكير..
اقترب المغرب..
وشعرت بالإرهاق.. وكنت أخاطب نفسي..
في كل مصيبة أقع بها.. أتساءل لماذا كل هذا يحدث لي وأنا بريئة؟
يفترض أن أكون في حضن زوجي الذي أحببته بصدق..
وليس في ممر المستشفى أنتظر مصير حياة قذر كهذا!
بعد ساعة من الانتظار.. خرج الطبيب من غرفة العمليات وسألني:
- من تكونين بالنسبة للمريض؟
- زوجته.
ابتسم ثم قال لي:
- لا تقلقين أختي.. زوجك حالته الآن مستقرة.. ضربة قوية أحدثت له ارتجاجاً ونزيفاً خارجياً من حسن حظه..
- ماذا جرى بالداخل؟
- قمت بعمل ست عشرة غرزة وسوف يحتاج إلى وقت معين كيٍ يلتئم الجرح قليلاً ثم يتعافى من الارتجاج تدريجياً.. كنت خائفاً على سلامة نظره ولكن الفحوصات كانت سليمة..
- شكراً دكتور.
- يحتاج إلى ساعة تقريباً كي يفيق من البنج، ومن ثم يمكنك الدخول لزيارته، كوني قوية واشكري ربك كثيراً عن نجاته.
غادر الطبيب ويداي تتمنى لو تخنقه من الخلف.. الغبي.. ليته تركه ينزف حتى الموت.. كي تموت معه أسراري التي لا أريدها أن تظهر وتنهي حياتي..
كنت مرتبكة جداً.. أخشى من ردة فعل ضياء.. ماذا سيفعل لو شاهدني؟
هل سيخبر الشرطة عني؟ هل سينتقم ويتخلص مني؟
هو يعلم تماماً بأن لا أدلة عليه تدينه عند الشرطة من الأساس..
وبالتأكيد لا توجد لدي أدلة أيضاً.. وإن أخبرتهم.. سيخرج بريئاً..
وستتحول التهمة على بالبلاغ الكاذب أو التشهير..
كلها أسئلة لا تفارق عقلي.. أكررها على نفسي وتخذلني الإجابة بالحضور..
انتظرت حتى استيقظ ضياء.. أخبروني بأنه استيقظ ويسأل عن زوجته روان..
تسارعت نبضاتي.. وفكرت بالهرب.. ولكن المحقق اقترب مني وطلب مني أن أرافقه كي يلقي بعض الأسئلة على زوجي في حضوري ..
لم أستطع وقتها أن أرفض، ارتبكت كثيراً.. شعرت من نظرات المحقق لي وكأنه يريد أن يقارن أقوالنا أمام بعضنا البعض.. بعدما شعر بارتباكي وأنا في الممر.. لم أشعر به وقتها.. لقد كان يراقبني.. أخبرني بأنه يلاحظ ارتباكي بشكل عجيب..
لم أرد عليه.. ودخلت مسرعة حتى وصلت.. ووقعت عيناي على عيني ضياء..
تحمدت بالسلامة وسط تصنعي بالرهبة والحزن أمام المحقق..
وسط تبلد نظرات ضياء..
ألقى الشرطي التحية وتحمد له بالسلامة.. ثم سأله:
- لدي بعض الأسئلة البسيطة المهمة.. هل تعرفت على اللص الذي تهجم عليكما وضربك بالمعول؟
نظر إلي ضياء مندهشاً.. لكنه لم يسمح لدهشته أن تثير الشرطي فأجاب مسرعاً وآثار البنج ما زالت عليه:
- لا.. لم تكن الرؤية واضحة.
دهشت من إجابته.. وكأن ماء باردا صب على قلبي.. يبدو أنه لا يريدني أن أتورط.. هذه أول مرة أشعر بشيء إيجابي منك أيها الحقير.. والشكر كذلك للمحقق الذي ألقى سؤاله مرفقاً بالقصة التي أخبرتهم إياها من دون أن يشعر..
وكأنها معجزة..
أنهى الأسئلة مع ضياء.. وسألني إن كانت لدي أي إضافات..
فأجبته ب"لا".. ثم غادر.
أردت أن أخرج من الغرفة.. فنادى باسمي بصعوبة:
- روان.. إلى أين؟
- هااا.. إلى الخارج قليلاً..
- أعطني الهاتف الخاص بي..
لم ينس حتى وهو بهذه الحالة المزرية.. أخرجته بإحباط وسلمته له.
وهو ينظر إلي بغضب.. ثم قال بهدوء:
- هذه المرة لم أخبرهم شيئاً.. فعلتك هذه لم يسبق وأن تجرأ أحد على فعلها معي.. لقد عفوت عنك فقط من أجل سبب واحد.. لأني أحبك..
ماذا يهرطق هذا الشيطان المجنون.. هل فعلاً ما يقوله؟ ما زال يكررها..
يحبني! كيف؟ ولماذا؟
طلب مني أن أعود إلى الشقة.. وأن أتواصل معه، وأقوم بزيارته إلى أن يخرج..
وحذرني من فعل أي شيء يغضبه.. لأن رده سيختلف كلياً عن هذه المرة!
كان جلوسي وحيدة بالشقة.. لم يغب عن مخيلتي صورة خالد..
كنت أدخل بواسطة هاتفي كل يوم على معرف أخته منيرة بتويتر..
وأتمنى لو أتشجع وأكتب له..
أو يكتب لي هو ونبدأ بالحديث عن أي شيء.. المهم أن نتحدث..
لم أستطع الصبر.. حتى تحدثت معه.. وأجابني..
كتبت له رقم هاتفي بسرعة ثم حذفته بسرعة.. خوفاً من مراقبة ضياء، ومن المحتمل أن يدخل على الحسابات من هاتفه بنفس الرقم السري الذي يعرفه وحده..
دقائق فقط.. ظهر لدي رقم على "الواتس آب".. كتب لي ..
- أهلا!
مهدت كثيراً بالكتابة.. وكان صامتاً.. شعرت بأنه مل مما أكتبه..
حتى اختصرت كل شيء.. وأخبرته.. ولا أعلم كيف فعلت ذلك :
- أنا روان.. حبيبتك السابقة يا دكتور خالد..
لم يتحدث أبداً.. ظل صامتاً لأكثر من نصف ساعة..
ثم كتب لي كلمة واحدة:
- مستحيل.
أقسمت له بأنني روان.. وكتبت الكثير من الكلمات.. لكنه خرج من المحادثة!
لم أكن أعلم ما التصرف الصحيح الذي يمكنني اتخاذه..
شعرت بأنني خسرته.. وبأنني تورطت عندما أخبرته.. وفي الوقت نفسه ..
كنت أشعر بقليل من السعادة.. لأنني استطعت أن اكتب اسمي أمامه ..
وأملك رقم هاتفه الشخصي.. لأول مرة.. خزنته بجهازي تحت اسم.. الدكتور.. .
مرت نحو خمسة أيام.. ولم يحدثني أبداً.. فقدت الأمل قليلاً عندها..
كانت تمر الأيام كما لو أنها مكررة.. ملل.. ضيق..
كنت ضائقة جداً من بعد موقفي الفاشل مع خالد.. وهذا الضيق جعلني أفكر بكل شيء.. حتى طرأت على بالي فجأة.. صديقتي القديمة في سكن الطالبات.. مريم.. آخر من ودعتني عندما تركت السكن..
هي فتاة من مدينة جازان.. التي تقع أقصى الجنوب الغربي للسعودية..
الفتاة الطيبة التي كانت تبتسم كلما تراني.. كانت تحبني وتحترمني.. وتهتم لأمري، لكنني لم أبادلها نفس الشعور يوماً.. ربما للمشاكل التي مررت بها منذ دخولي هناك.. كانت تكافح هي وأهلها من أجل النجاح والحصول على شهادتها الجامعية.
بحثت عن رقم هاتفها بين مقتنياتي في حقيبتي الصغيرة.. إلى أن عثرت عليه..
أريد أن أتحدث مع أي أحد.. أريد أن أشغل عقلي وتفكيري بأي شيء آخر..
شيء جديد.. حتى لو لبعض الوقت.. أريد لرأسي أن يرتاح من توالي المشكلات..
تخيلوا لو كانت عقولنا تمتلك ذاكرة خارجية..
بحيث نخرجها متى ما نشاء.. ونضعها بجهاز الحاسوب..
ونحذف منها ما نشاء من الضيقات.. ونضيف ما نشاء من السعادة ..
ولكن للأسف.. ليس كل ما نتمناه يحدث.. الجميل في الأمنيات أنها بالمجان..
ولها عائدها الإيجابي على النفس والمزاج.. لذلك لا مانع من استحضار بعضها..
في حدود الثانية عشرة ظهراً..
اتصلت بمريم.. ثوان معدودة حتى أجابتني..
ألقيت السلام عليها.. وكالعادة لابد من بعض الرسميات في بداية كل محادثة..
وكأنها مقبلات إجبارية يجب المرور عليها قبل البدء بالوجبة الرئيسية..
إلى أن أخبرتها بأنني روان.. فرحت كثيرة وشعرت كما لو أنها حضنت هاتفها..
قلت في نفسي وأنا أبتسم: كم أنت طيبة يا مريم ..
سألتني عن أحوالي وعن زواجي.. وأجبتها إجابات سطحية وهربت من إكمال ذلك بسؤالها عن أحوالها وعن دراستها.. أخبرتني بأنها تخصصت في الفيزياء..
وأنها ما زالت بالسكن.. وأن أخاها الصغير سعد.. قرر أن يدرس في الجامعة نفسها.. في حال قبوله بفترة التسجيل القريبة..
كانت تخبرني بذلك وهي سعيدة جداً.. لأن وجود أخيها بنفس مدينة جدة وبنفس الجامعة.. سهل عليها الكثير من الأمور.. فهو الشخص الموكل من قبل أهلها.. أي أنه ولي أمرها الذي يسمح لها بالخروج من السكن في غير ساعات الدراسة.. سعد طيب جداً كما تقول، يتواصل معها دائما، ويحضر لها كل ما تحتاج إليه من أغراض.. حتى التنزه.. لا يبخل عليها أبداً.. هو نعمة بالنسبة لها..
وهي تحدثني بسعادة عن أخيها.. سرحت بإخوتي الثلاثة..
مجرد إخوان على الورق فقط.. هل لأنني أختهم من امرأة أخرى.. ألهذا السبب يقسون علي بهذه الطريقة؟!
يتجردون من الدم.. يتركون فتاة وحيدة بهذه الطريقة الرخيصة..
تذكرت وقتها حال أخي أحمد معي.. الذي اختفى فجأة.. بعد أن باعني إلى ذلك الرخيص.. لا أنسى ذلك المشهد.. عندما أخذ المهر من ضياء خلسة..
مهر زواجي.. زواج المسيار.. رأيته وهو يأخذه منه بعد أن مد يده من خلف ضياء وتسلم ظرفاً صغيراً أبيض اللون.. أخذه منه بطريقة مهينة.. وكأنه كيس ممنوعات وضعه مسرعة بجيبه كي لا يراه أحداً.. أخذ ثمن أخته.. للأسف منذ ذلك المشهد.. أصاب قلبي الكره لأحمد.. وقررت أن أعيش كما لو لم يكن قد مر بحياتي أبدا..
سامحك الله يا والدي.. زواجك من والدتي.. ظلمها وظلمني معها..
الرحمة عليك.. ولا أستطيع قول غير ذلك..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا