ما بين الحدود..
تماماً مثلما تحمله الألغاز بين الأسطر!
(رحلة تركيا)
تركيا! أنا سأذهب إلى هناك! شعرت حينها بأن هذا الكابوس الذي تورطت به رغماً عني لن ينتهي.. ولن أفيق منه قريباً.. وربما إلى بقية عمري! من يدري؟
حاولت كثيراً من عدم الذهاب معه إلى هناك..
إخواني.. لم يتصلوا بي.. قررت أن أتصل بأحمد كعادتي عند الحاجة..
طلبت هاتفي من ضياء كي أتصل بأخي أحمد.. متحججة بوجوب صلة الرحم..
هاتفي الذي سيطر عليه هذه الأيام.. رغم استطاعته الدخول على حسابي بتويتر من هاتفه، إلا أنه فضل أن يتواصل من هاتفي..
احتياطات أمنية كما يقول..
وافق.. ذهبت إلى غرفة النوم واتصلت به.. أجابني بأسلوب بارد بعد اتصالات متتالية:
- أهلاً أختي روان.
- أهلاً أحمد.. اشتقت لكم.. كيف حالكم ألم تشتاقوا إليّ؟
- بالطبع اشتقنا، لكنها الدنيا وأشغالها..
- أخي لن أطيل بالمكالمة.. ضياء يريدني أن أرافقه إلى تركيا وأنا لا أريد.. أرجوك أريدك أن تأخذني فق هذه المدة البسيطة للمكوث عندكم.. وأن تتحجج بأي عذر.. المهم ألا أذهب معه..
- تركيا! فرصة جميلة لك.. هو بالأخير زوجك شرعاً.. اذهبي معه، خصوصاً أن هذه الأسابيع سأكون مشغولاً مع زوجتي بزيارات عائلية لها..
حاولت معه بشتى الطرق.. إلى أن ارتفع صوتي.. وتشاجرت معه.. حتى دخل ضياء متسائلاً ما السبب.. أخذ الهاتف مني وتحدث مع أحمد وأخبره أحمد بكل شيء.. وانتهت المكالمة..
غضب ضياء كثيراً.. وسألني لماذا قمت بذلك..
وتحججت بأنني لا أحب السفر وبعض الأعذار الغبية.. رفضها جميعاً..
وحذرني من تكرار هذا التصرف..
جهز الأوراق اللازمة لذلك.. للأسف رضخت للأمر..
فأنا أريد الحصول على ما يدينني عنده.. وهذا يتطلب الصبر الكثير..
في الوقت نفسه.. كان يصرخ بداخلي أحياناً.. صوت لا أعلم مصدره!
يحرضني على الهرب.. يرسم لي الطريق نحو السماء.. محدداً بالنجوم..
طالباً مني أن أترك كل ما يحمله قلبي من آلام.. وهموم تجسدت على هيئة أثقال..
كي أكون خفيفة كالريشة.. ويسهل من بعد ذلك اندفاعي نحو الأعلى..
وفي كل مرة أسمع هذا الصراخ.. للأسف.. لا أستجيب..
سافرنا سريعاً.. وصلنا صباحاً إلى أنقرة.. كانت جميلة جداً.. مزدحمة.. الكثير من الوجوه المختلفة هناك.. وكانت السحنة العربية حاضرة كالعادة.. الخليجية خصوصاً.. السياحة هناك أصبحت ظاهرة.. هذه الظاهرة أتت من وراء تعلق المواطن الخليجي بالمسلسلات التركية العاطفية..
توجهنا برفقة سائق فلسطيني الجنسية.. إلى مدينة قرقميش التركي كي نستطيع من الدخول إلى جرابلس السورية.. الموازية لها على الحدود..
تناولنا الطعام هناك.. ثم تجاوزنا الحدود بواسطة معارفه من المهربين!
لم أصدق ذلك.. دخلنا إلى سورية!! من دون أن يطلب أحد منا جوازاً أو أي بطاقة للعبور!
صحيح أننا لم نتجاوز سوى القليل من الكيلومترات..
لكننا مشينا على الرض السورية.. هذا الشعور أرعبني قليلاً.. سهولة العبور هناك كانت بشكل غريب جداً يدعو إلى الريبة! فمن كانوا هناك.. يثقون بالسائق الفلسطيني كثيراً كما رأيت.. خصوصاً عندما علم المسيطرون هناك على معبر المرور أننا سعوديون! كان ضياء يبتسم لكل من يصادفه عند النقاط التي تواجد بها مجهولون يرتدون ملابس مدنية وملثمين بقطع قماشية.. كان ضياء يدخن سيجارته وهو سعيداً جداً، ويغضب كلما شاهدني صامتة..
ويطلب مني أن أستمتع بجمال الطبيعة والمناظر الخلابة.. لو يعلم ما بداخلي من كره وحقد تجاهه.. لقتلني فوراً بأوسخ رصاصة.. توقفت السيارة عند منزل خشبي بسيط وجميل جداً.. نزلنا وذهب السائق.. طرق ضياء الباب وأنا بجانبه مختنقة من نقابي الذي رفض أن أنزعه هو وقفازيّ.. فتح الباب شاب تركي ملتح.. وحضن ضياء حضناً قوياً فرحاً برؤيته.. طلب مني ضياء أن أصعد إلى الأعلى، حيث القسم المخصص للنساء..
وهو سيكون بالأسفل مع أصدقائه..
صعدت وسط تعالي أصوات الشباب الذين سعدوا مرحبين بحضوره كثيراً..
علمت حينها أنه شخصية مهمة فعلاً بهذه التجارة..
استقبلتني عند نهاية الدرج فتاة تونسية.. جميلة جداً..
رحبت بي متحدثة باللغة العربية الفصحى.. عرفت بنفسها.. هند.. وتكنى بأم السوداء.. وعرفتها بنفسي.. ثم أدخلتني إلى غرفة بها خمس فتيات..
فتاتان تونسيتان بالإضافة إلى هند، وفتاتان بريطانيتان، وواحدة عراقية تدعى زمردة.. قدمتني لهن وصافحتهم ثم جلست.. فرحن كثيراً عندما علمن أنني سعودية الجنسية!
سألوني مباشرة عن الحرم المكي.. وعن مدى اشتياقهن لزيارته.. الفتاتان البريطانيتان تتحدثان العربية بصعوبة..
لم أستوعب وجودهما هنا!
كيف اقتنعتا بهجر ساحات لندن.. والتوجه إلى ساحات الموت؟
الحقيقة أنني أصبت بالدوار.. لم أكن على ما يرام.. وكأنه كابوس!
هل يعقل أنني أنا روان.. أجلس بهذا المكان؟
سألتهن مباشرة لماذا نجتمع هنا؟
وأخبرتني هند بأنهن في مهمة الجهاد! وينتظرن الفرصة المناسبة للذهاب إلى مدينة الرقة والانضمام إلى المعارك دفاعاً عن دولة الخلافة!
شهقت ثم تكلمت من دون شعور:
- لكنكن جميلات! لماذا اخترتن هذا الخيار؟ ولماذا معكن فتيات من بريطانيا؟
أجابت هند وشعرت من نبرتها ببعض الحزن وهي تحاول إخفائه:
- جمالنا أحد الأسباب الرئيسية لتواجدنا هنا، وقع الخيار علينا ونحن سعيدات بذلك، سوف نعيش في أرض حرة وإسلامية، وسنتزوج من شباب مسلمين شداء على الكفار رحماء بينهم.. هذا هو سبب قناعتنا جميعاً وقناعة البريطانيتين حديثتا الدخول بالإسلام.. سنكون زوجات لهم وذلك قمة السعادة.
- جهاد نكاح.. ها؟
تدخلت الفتاة العراقية زمردة قائلة:
- ما بك تقولينها وكأنك تستهزئين؟
- ها؟ .. لا لا .. لكن هذا الواقع.. جهاد الجسد.
شعرت بنظراتهن تنهش ملامح وجهي المتورطة.. فتداركت ذلك هند وسألتني:
- هل تريدين القهوة أم الشاي؟ آسفة نسيت أن أقوم معك بواجب الضيافة..
- قهوة.
- تعالي معي كي أريك المطبخ وأتعرف عليك أكثر..
دخلت معها المطبخ ثم أخذتني بيدها إلى آخر المطبخ، ثم قالت وهي تتلفت يميناً ويساراً:
- اسمعي روان.. إياك وتكرار تلك اللهجة الساخرة مع الفتيات.. هنا كل شيء ينقل بسرعة وهذا خطر كبير على حياتك.. هنا قطع الرؤوس أسهل من قطع تذكرة السفر!
- ولماذا تحذرينني؟ ألست منهن؟
- للأسف نعم.. لكنني أعرف الوجوه المتورطة مثلي.. شعرت منك بأنك متواجدة هنا رغماً عنك.. مثلي تماماً..
- حقاً! نعم أنا متورطة يا أخت هند.. ولكن ما الذي أرغمك أنت بالحضور إلى هنا؟
أجابتني بعدما أبعدت وجهها عن وجهي ووضعت يداها على الطاولة:
- لقد وقعت في شباك أحدهم عبر "فيس بوك".. كنت متحمسة جداً لنصرة أطفال سورية.. لكنني ندمت منذ بدايات المحادثات التي حصلت بيني وبين أحد السماسرة الجهاديين.. وحتى اليوم..
في تونس ودول المغرب العربي ينتشر لديهم برنامج فيس بوك أكثر من تويتر.. بخلافنا نحن بمنطقة الخليج.. يتصدر لدينا تويتر برامج التواصل الاجتماعي.. تحدثت لي بمرارة وكأنها تعرفني منذ زمن.. وجدت بي المتنفس كي تتحدث.. ثم واصلت:
- أنا اليوم تحت ولاية أحد المقاتلين.. أصبحت زوجته رغماً عني، وأصبحت على قائمة المطلوبات في بلدي تونس.. وضعت نفسي بين نارين.. نار العودة.. ونار البقاء.. وأنت؟
- أنا زوجة ضياء.. رغماً عني لكنني أحسن منك حالاً.. لست مطلوبة في بلدي.. لم يكتشفوا أمري بعد.. ولم أستوعب بعد أنني أقف أمامك وأحدثك وأسمع منك هكذا أمور.
طلبت مني الهدوء والصبر وتقبل الواقع، وإلا فإن الموت سيكون عقوبتي المنتظرة!
طأطأت رأسي وأعددنا القهوة ثم عدنا إلى الغرفة وجلست أرتشفها ببطء وأنا مستمعة إلى أحاديث الفتيات التي لا تمت للأنوثة بصلة.. لقد سحق الزمن كل ما يربطهن بها للأسف..
انتهى اليوم ببطء، حتى أخبرتني إحداهن بأن ضياء ينتظرني بالأسفل يريد الحديث معي..
أخبرني بأننا سوف ننام هنا هذه الليلة، ومن ثم سنذهب صباحاً إلى داخل تركيا..
لننهي العديد من الأشغال، أهمها الالتقاء بالفتاة السعودية كي نساعدها على الهروب من أخيها، ومن ثم نجهزها كي تلحق بموعد عبور الحدود ليلاً..
كان يحدثني وأنا أردد بداخلي: سأسعى لإفشال مخططك أيها القذر.. اعطوني فراشاً جديداً للنوم.. ولأنني لا أريد للموعد أن يحضر.. مر الليل سريعً.. حيث نمت نحو ثلاث ساعات فقط.. شعرت بأن رأسي ثقيلاً جداً.. ثم أيقظتني زمردة.. مطالبة مني تأدية صلاة الفجر وأن أساعدهن في تحضير طعام الإفطار للشباب.
من قوة الكسل بجسدي.. شعرت بأن فراشي يجذبني وكأنه مغناطيس.. وقفت بصعوبة.. وقدماي وظهري وكلي متعبة من عناء الرحلة.. لكنني كنت مضطرة للنهوض.. أخذت حماماً سريعاً وتفاهاً بواسطة الوعاء المتسخ بالحمام المقزز.. ثم صليت الفجر ودخلت المطبخ..
من دون مبالغة.. رأيت كل ما لذ وطاب من الأطعمة التي يأخذونها من الريف التركي!
القشطة الطازجة الغارقة بالعسل، واللبنة البيضاء جداً، وزيت الزيتون الذي تفوح رائحته كالعطر، والبيض المحلي الشهير، والزعتر الواضح جداً من صفائه، والخبز الساخن، وكذلك الشاي التركي الشهير الذي تواجد على أطراف الطاولة المربعة..
تلك كانت طاولة الرجال.. وأما نحن في الدور العلوي فكان مخصصاً لنا.. فاقتصرت طاولتنا على الخبز واللبنة والزعتر والشاي وما تبقى من طعامهم بعد فراغهم من الإفطار!
سألتهم ما هذا؟ أريد البيض..
فأخبرنني بأن الرجال أولى بالطعام!
غضبت كثيراً ورفضت أن أفطر.. لولا إلحاح هند عليّ لما فطرت.. بينما كانت نظرات زمردة تمشطني من الأسفل حتى الأعلى.. يبدو أنني أستفزها.. فطرت.. وحتى اليوم لم أتذوق مثل لذة تلك اللبنة أبدأً ولا الزعتر.. سمعت ضياء يصرخ باسمي من أسفل.. تجهزت وودعت الفتيات ثم نزلت إليه..
غادرنا من جرابلس السورية إلى مدينة غازي عنتاب التركية.. جميلة ملامح البشر المختلفة هناك.. عندما وصلنا أعطاني ضياء هاتفي وبه شريحة اتصال تركية.. ثم تبادلنا حفظ الأرقام.. بيني وبين رقمه الجديد أيضاً..
جلسنا على كرشي خشبي بإحدى ممرات المشاة ورائحة الكباب المشهور بتلك المدينة.. تفوح باتجاه أنفي مخترقة النقاب.. كان مطعم صغير بالقرب منا، طلبت منه أن نأكل.. لكنه رفض بحماقة، متحججاً بأن لا وقت لدينا لنضيعه في الأكل..
طلب مني الدخول على حسابي بتويتر "الشيخة روان".. كي أتواصل مع الفتاة وأطلب منها رقمها كي تحدد لنا من خلال الواتس آب موقعها وترسله لنا..
كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحاً.. كان الوقت ثقيلاً جداً لا يتحرك..
لم أتوقع هذا التوقيت أبداً.. قد تحدث معك أحياناً!
يشعرك الوضع الذي أنت عليه بتوقيت ما.. لكن عندما تنظر إلى ساعتك تجد توقيتاً آخر ليس له علاقة بالذي توقعته..
صدر تنبيه من هاتفي يفيد بوصول رسالة.. لقد كانت الفتاة تخاطبني كتابياً من خلال تويتر على الخاص.. أخذ ضياء الهاتف مني.. وكتب لها مباشرة..
بأنه الشخص المسؤول والمرافق للشيخة روان..
أخبرته بأنها الآن تحمل حقيبة صغيرة ذات عجلات، وضعت بها أهم الأغراض التي تحتاج إليها، وتحججت لأخيها بأنها تحتاج للحقيبة من أجل وضع ما تشتريه أثناء تجولهم أفضل من حمله، وأنهت حديثها بأنهم الآن يجلسون بإحدى الجلسات الخارجية في أحد المقاهي على شارع من شوارع غازي عنتاب..
ثم أرسلت له الموقع على الواتس آب كما طلب ضياء..
استغربت من جرأتها.. كيف لفتاة أن تثق في هكذا شخص مجهول وخطير..
ما ذنب أخيها؟ وكيف سيكون موقفه عند اختفائها؟
كم هو مسكين هذا الشاب.. لدرجة أنه يصعب على العدو قبل الصديق..
انطلقنا فوراً مسرعين نحو موقعها المحدد..
حدد ضياء مكانها بسهولة.. ثم أشار بإصبعه إلى مكانها.. كانت ترتدي عباءة سوداء ونقاباً.. لم يدهشني منظرها.. ثم توجهت عيناي تجاه أخيها المسكين.
فكانت الصدمة!
وكأنني صعقت بماس كهربائي.. شهقت شهقة قوية أفجعت ضياء وجعلته يمسكني من كتفيّ متسائلاً: ما خطبك؟
لم أصدق عيني.. استحاااالة.. لقد كان.. كان..
لقد كان خالد!
نعم خالد حبيب السابق الذي فرقته سيئات الدنيا عني..
وهذه التي معه أخته الوحيدة التي أعرفها.. منيرة..
يااااه.. لم أصدق هذا المشهد أبداً..
شعرت حينها بطعنات تجتاح قلبي الذي اشتعل نبضاً.. لم أتوقع أن عيني اللتين جف الدمع منهما سوف يشاهدان خالد مرة أخرى!
حبيبي الذي حرمت منه وحرم مني.. هنا في تركيا!
هو الذي سوف يحضر المؤتمر الخاص بالطب النفسي كما أخبرتنا أخته سابقاً..
علمت حينها أنه قد حقق حلمه بأن أصبح طبيباً نفسياً كما أخبرني سابقاً..
منيرة.. أذكرها جيداً، عندما كنا نلعب سوياً مع بنات الحي، كانت مرحة وبريئة..
ما الذي جعلها تنتكس إلى هذه الدرجة؟ دااااعش!
عيناي كادت تفضحاني أمام ضياء.. جففتهما بسرعة وتحججت بأنني رأيت شرطياً قد مر بنهاية الشارع وخفت من افتضاح أمرنا..
وبخني بغضب.. بألا أكرر تلك التصرفات الغبية.. ثم طلبي مني استغلال الوقت قبل أن يحفظ المارة وجوهنا..
كنت وقتها أحدث نفسي وقد عقدت الحزم من دون تفكير، بأن ما يريد تنفيذه هذا الأحمق لن يتم مهما كلفني الأمر.. رغم صبري وتقبلي للأمر الواقع..
إلا أنه من المحال أن أسمح بضرر خالد وعائلته..
لم تفارق وقتها عينان خالد.. آآآ يا خالد.. للمرة الأولى منذ قرابة السنتين من فراقنا.. شعرت بحركة غريبة بقلبي.. شعرت بالنبض بعد أن نسيت الشعور به.. حدث ذلك على الرغم من المصيبة التي وجدت بها نفسي..
خطرت على ضياء خطة ذكية وخبيثة..
كلفني بأن أذهب بسرعة إلى المقهى، وأن أطلب العديد من المأكولات ومن ثم أتظاهر بالعجز على التحدث مع الكاشير باللعة الإنجليزية!
عندها أتظاهر بالبحث عن أحد يفهم اللغة العربية كي يساعدني..
بذلك.. سأتوجه نحو خالد وأخته وأطلب منه أن يساعدني، لأنهم عائلة سعودية..
وأنا مثلهم كما سيكون واضحاً من لباسي ولهجتي..
بالتأكيد لن يتردد بنخوته في بلد الغربة.. من مساعدة بنت بلده بالترجمة..
وبهذا سيدخل معي إلى داخل المقهى كي يتحدث مع الكاشير..
هذه اللحظة هي الإشارة لأخته منيرة بالهرب عند نهاية الشارع كما اتفق معها ضياء.. الذي بدوره سوف يستقبلها هناك.. وبعد فراغي من خالد يتوجب عليّ أن ألحق بهما وأتواصل بالهاتف كي يحددا لي موقعهما الجديد الذي هربا إليه..
خطة ذكية ومحكمة.. ولا أعلم كيف طرأت على بال هذا الحقير بهذه السرعة والدقة.. لكنني قررت من دون أن يعلم ضياء بإفسادها!
كنت قلقة من الاقتراب عند خالد والحديث معه بعد هذه الغيبة..
أكثر من تنفيذ الخطة نفسها.. لكنني تجاهلت كل هذا القلق من أجله وكذلك أخته..
وافقت على الخطة واستغرب من حماسي الذي رغم وضوحه إلا أنني لم أتغلب على توتري الطاغي الذي كان يسيطر عليّ..
طلبت منه أن يذهب إلى موقعه وأن يترك الباقي عليّ..
توجهت بتردد نحو المقهى..
وفعلاً قمت بكل م كان مخطط له.. طلبت المأكولات. تظاهرت بالغباء..
وحان الوقت كي أتوجه نحو خالد..
توجهت نحو طاولتهما ببطء شديد.. حتى وصلت.. كدت أسقط من طولي..
خصوصاً عندما جاءت عيني بعينيه اللتين أحفظهما جيداً.. لم أستطع فتح فمي وإخراج الكلام.. كنت عاجزة وكأن بلعومي قد سك بخطلة إسمنتية.. لا تسمح للهواء ولا للكلام بالمرور.. نظرت إلى أخته كي أستطيع التحدث.. وعلمت من نظراتها أنها تعرفت عليّ.. بأنني أنا الشيخة روان.. جادت عجزي حتى استطعت التكلم بارتباك وبصوت مصطنع:
- عفواً أخي.. هل أنت سعودي؟
- نعم أختي.. تفضلي!
قلبي الضعيف.. صوته الذي أحب.. لا أنسى تفاصيله.. صوته الذي عاد لملامسة طبلة أذني.. بعد أن غاب عنها طويلاً.. لم يقل لي حبيبتي.. قال لي هذه المرة.. أختي..
صعب جداً هذا الموقف.. صعب حتى الألم..
أخبرته بالمشكلة التي واجهتني.. وبالفعل.. تجاوب.. دخل معي إلى المقهى وأنا غير مصدقة ذلك.. حتى اقتربنا من الكاشير وتأكدت من ابتعادنا عن منيرة..
انفجرت بالحديث من دون مقدمات.. قلت له مسرعة:
- خالد.. كل ما سوف تسمعه مني الآن.. سر بيننا لمصلحتنا جميعاً.. أختك منيرة في خطر كبير جداً.. تريد الانضمام إلى تنظيم داعش! أنا هنا من أجل تحذيرك.. عليك أن تلحق بها حالاً، هي الآن متوجهة نحو نهاية الشارع يسار المقهى للهرب منك، والذهاب برفقة السمسار الذي ينتظرها هناك.. أتوسل إليك هذا سر بيني وبينك فقط إن كانت تهمك أختك، سر حتى أتواصل معك قريباً.
قلت هذا الكلام بسرعة خيالية.. جعلته مصدوماً.. كان يستمع إليّ فاتحاً عينيه وفاه منا لدهشة.. أعلم أن حديثي قد أرعبه وجعله محنطاً تماماً كما لو أنه تمثال شمع.. خصوصاً أن الموقف لا يصدق، ومن تحدثه امرأة مجهولة تخفي ملامحها..
ردة فعله كانت مكوكية! ركض مسرعاً نحو الطاولة التي كان يشغلها هو وأخته..
لم يجد سوى كوبيّ القهوة وقد انتهى تصاعد الدخان منهما..
صدمة.. بل فجيعة.. واصل ركضه نحو نهاية الشارع الذي أخبرته، وخرجت أما كي أراقب المشهد عن بعد..
وبالفعل حصل ما أردته بأن يحصل..
لحق بأخته وأمسكها من ذراعها بقوة.. ثم صرخ بوجهها وهو يستجمع أنفاسه..
وقتها.. هرب ضياء مذعوراً كالأرنب.. كرر خالد صرخاته بوجه منيرة وسط نظرات المارة الذين توقفوا للمشاهدة.. كان يهزها بقوة من كتفيها ويرفع يده كي يصفعها ثم يتراجع.. كرر ذلك مرات عدة وهو يسألها بصوت عال:
- أين تذهبين؟ لماذا تركضين؟ ومن هذا الرجل الملتحي الذي كان ينتظرك؟
فلم تجب أبداً.. كانت تبكي!.. فقط تبكي..
قام بسحبها هي وحقيبتها حتى اختفيا بين غزارة المارة هناك..
عندها اطمئن قلبي كثيراً.. اتصلت على ضياء مباشرة، وسالته بغباء مزيف عن موقعه وعن نجاح الخطة من عدمها، لم يجبني وطلب مني أن أظل بالقرب من المقهى وسوف يحضر بعد ربع ساعة..
وبالفعل حضر.. كان يغلي عضباً.. يصرخ بحرقة مكرراً:
- لقد فشلنا.. فشلناااا..
ثم نظر إليّ وسألني متوتراً:
- كيف علم أخوها بهروبها؟ ألم يكن معك بالداخل؟
تظاهرت بالتعجب من سؤاله، ثم أجبته:
- هي الغبية.. كان معي فعلاً.. لكنه التفت وراءه وشاهدها وهي تغادر مسرعة، فتركني وتبعها مسرعاً.. لم تختر التوقيت المناسب للهرب..
لم ينقطع لسانه من ترديد الشتائم التي كان يوجهها إلى الحظ.. كنوع من تفريغ القهر الذي انتباه.. فبالنسبة له المال هو كل شيء..
في تلك اللحظة..
لم يكن يهمني أبداً هذا الأحمق.. فأنا سعيدة جداً لإفسادي مخططه..
لكن من كان يشغلني هو خالد! كنت أخشى لو أنه تحدث مع أخته عما حصل معه داخل المقهى.. لو حدث ذلك فعلاً، فسوف يصل ذلك إلى ضياء حتماً، عندها سيكون عقابي وخيماً..
قرر ضياء أن نعود فوراً إلى جرابلس..
خوفاً كما أخبرني من أي تصرف قد يتخذه خالد.. لو وصل الأمر إلى الشرطة التركية.. فإن تحركنا سوف يكون صعباً، ومن يدري لعل منيرة تعترف بكل شيء لهم..
بعد عناء الطريق.. وصلنا إلى المنزل الخشبي..
صعدت فوراً للأعلى كي أنعم بحمم ساخن يزيل كل التوتر، ويخفف من وقع الأحداث غير المتوقعة والصادمة في هذا اليوم العجيب.. ودخل ضياء عند أصدقائه غضباً من الفشل..
من حسن الحظ..
أن الحقير ضياء ترك معي هاتفي المحمول.. يبدو أن غضبه جعله ينسى ذلك..
دخلت إلى الغرفة وسلمت على البنات.. أخبرتني هند بأن الفتاتين التونسيتين اللتين كانتا معنا قد غادرتا إلى سورية بأمر سري.. وبقيت أنا فقط..
حزنت على خالهما، رغم فرحتهما بذلك كما أخبراني..
وفرحت كثيراً ببقاء هند..
تركتها وذهبت إلى الحمام ومعي هاتفي.. أغلقت الباب جيداً، ثم جلست على الكرسي وفتحت حسابي بتويتر.. دخلت إلى الخاص كي أتواصل مع منيرة..
ألقيت عليها السلام.. وما هي إلا ثوان حتى أجابتني.. سألتها إن كان أصابها أي مكروه..
أجابتني إجابة غريبة أخافتني كثيراً:
- من أنت؟
جفت عروقي وتوقفت عن الكتابة..
ثم سألت نفسي متفاجئة.. هل يعقل؟ هل من الممكن أن كون هو؟!
من دون أن أشعر تجرأت وسألته:
- خالد؟
اندهش كثيراً وجاوبني بخمس علامات تعجب (!!!)
فهمت منه أنه تساؤل صامت عبّر به عن دهشته من معرفتي باسمه.. للحظة تبادر إلى ذهني لو أنها منيرة! وكان تساؤلها من باب التأكد أو الأمان..
كتابة اسم أخيها سيوقعني في ورطة من الصعب الخروج منها.. أجابني إجابة أنهت كل هذه الشكوك التي دارت في ذهني:
- أنتا لفتاة المنقبة التي حصل لي معها موقف هذا اليوم؟
رعشة أصابت فروة رأسي.. جعلتني أقوم بفركها بسرعة، مرافقة بذلك حركة قدمي المستمرة التي تعكس مدى توتري..
يا إلهي.. خالد حبيبي يحدثني كتابياً.. يحدثني ولا يعرف أنني روان.. آخر من يتوقعه أنا.. حبيبته الموؤدة.. صمت وظللت أنظر إلى الشاشة وعيناي تدمعان..
نزلت دموعي على خديّ المتعبين.. فجأة.. انهالت الضربات على الباب!
كادت تنقطع أنفاسي.. صوت أحدهم:
- رواااان.. أريد الحمام.. ماذا تفعلين لا أسمع صوت الماء؟
لقد كانت المستفزة زمردة.. فجة في تصرفاتها.. أجبتها كي تبتعد عني:
- عشر دقائق فقد وسأخرج.
ابتعدت وهي تتمتم ببعض الكلمات التي لم أفهم منها شيئاً سوى أنها كانت غاضبة..
كسر الصمت خالد وكتب لي:
- نعم أنا خالد.. أخبريني أرجوك ما الذي يحدث؟
هو يسأل وأنا فضولي بحرق أصابعي.. فضولي الذي سيطر عليه انتشاء قلبي بعودة خالد.. نعم في هذا الوقت.. اصبح قريباً.. قريباً جداً.. يكتب لي..
اريد أن أسأله عن أحواله.. هل تزوج؟ وإن حصل.. هل لديه أطفال.
قلبي ينفطر.. العشوائية كانت حالتي ولم أعرف ماذا أقول ومن أين أبدأ..
كرر سؤاله ثانية، ويجب عليّ أن أجيبه كي لا أتأخر أكثر بالحمام..
قررت أن أجيبه من دون تفاصيل..
سأكتب له.. وأتمنى فعلاً أن يكون خالد.. وليس اختباراً من أحد غيره.. سأخاطر بحياتي من أجلك.. حتى وإن تم اكتشاف أمري عند ضياء.. لن يفعل شيئاً.. هو متعلق بي وبجسدي.. وهذا كفيل عند من هم أمثاله، بأنه لن يضرني و يخسرني.. سيغضب فقط..
كتبت له ويداي ترتبكان:
- خالد.. ما سأقوله لك خطير جداً.. أرجو أن يظل بيننا كما أخبرتك سابقاً.. وأن تمسح المحادثة بعد فراغنا منها..
- تكلمي..
- خالد.. عليك أن تعود بسرعة بأختك إلى السعودية!
- لماذا؟ لماذااا؟
- أختك كانت على وشك الانضمام إلى تنظيم داعش.. وأنا كما تعلم من أفسدت ذلك.. وأخشى أن تهرب أختك منك مرة أخرى.
- مستحيييل.. ماذا تقولين أنت؟ تكرري نفس حديثك من دون أن أفهم!
- أرجوك.. نفذ ما أقوله لك.. هل أخبرتها بما حدث بيننا في المقهى؟
- لا.. فقد تشاجرت معها وأغلقت عليها حجرتها بالفندق..
- كل ما دار بيننا.. سر.. وإلا الموت سيحضر لي ولأختك.. ولا تعيد الهاتف إلى أختك أبداً.. ومن يحدثك تحدث معه على أنك منيرة.. قد يتواصل معك غيري من نفس الحساب.. وإن خاطبتك بخالد.. فأعلم أنه أنا الفتاة المنتقبة.. الشيخة روان..
لم يقتنع كثيراً كما بدا لي من خلال صمته.. الحقيقة لا يلام.. فتوالي الصدمات بهذا الشكل لأي شخص يحدث له مثل هذا النوع من الهزات.. استمر في صمته لدقائق إلى أن كتب:
- حسناً.. ليس أمامي سوى تصديقك.. سأكون بانتظارك.. سأعود غداً مع أختي على أول رحلة..
- أحسنت.. إلى اللقاء.. حفظكما المولى..
ظننت أن اسمي سيخلق له بعض الشكوك.. خصوصاً أنه شاهدني.. ربما حركت الذكريات هيئتي بذاكرته.. لكن المصيبة التي حلت عليه لخبطت كل ما خطط له في هذه الرحلة.. التي كان الغرض منها متعة وعلم.. أصبحت رعباً وألماً
من الغباء أن أفكر بذلك.. أن يذكر شكلي في مثل هذه الظروف.. لكن هذه طبيعة النفس.. نظن بحصول ما يقلقنا.. أو إن جاز التعبير.. ما نتمنى أن يحدث لنا..
سمعت صراخ ضياء من أسفل.. ينادي باسمي..
حذفت المحادثة بسرعة.. ثم غسلت وجهي وبللت شعري قليلاً وأجزاء من جسدي..
ووضعت الفوطة على رأسي.. ثم خرجت متظاهرة بانتهائي من الاستحمام..
نزلت إلى الأسفل فوجدت ضياء ينتظرني بمنتصف السلم ماداً يده لي، يطلب الهاتف! وكعادتي لم أنج من الارتباك.. مددت يدي له وأعطيته إياه.. أخذه ونزل من دون أن يقول لي شيء.. لقد كان مشغول البال بطريقة عجيبة..
لقد كان يوماً صعباً فعلاً..
كنت أحتاج إلى النوم.. أحتاج إليه كثيراً من دون استيقاظ..
نظرات خالد ما زالت تتمركز بمنتصف عيني.. أتخيله أمامي.. وأنظر إليه..
لم أصدق ما حصل لي أبداً.. كنت أجاهد بألا أذهب إلى تركيا برفقة ضياء..
ولم أتوقع أبداً أن هذا القدر.. سيضع لي في طريقي.. خالد.. إنه فيلم دراماتيكي بإيقاع سريع لن أفهمه أبداً..
ظللت أراجع كل ما حصل معي.. حتى اقترب الصباح..
أديت صلاة الفجر وتمددت على فراشي.. وبدأت عيناني تنسدلان نحو الأسفل كستار المسرح.. نمت نومة سريعة وغريبة وليست مريحة أبداً..
فتحت عيناني على زمردة! وهي تسرح شعرها.. كان ناعماً مائلاً إلى اللون الأشقر وطويلاً بشكل لافت..
الحقيقة.. سرحت بجمالها.. بالفعل كانت جميلة جداً.. قوامها لم أر مثله.. تعرف ذلك جيداً نحن البنات.. على الرغم من ارتدائها لروب واسع، إلا أن جسدها كان يتغلب على ذلك الوسع ويجبر الروب عاجزاً على إخفاء خصرها المنحوت..
عيناها دائريتان ويحيط بهما الكحل دائماً..
سألتها سؤالاً وصوتي كان مبحوحاً من إجهاد النوم:
- زمردة.. هل لي بسؤال؟
نظرت إليّ متعجبة من نظراتي وبيدها اليمنى تمسك المشط.. ثم قالت:
- تفضلي.. تفضلي..
- فتاة جميلة مثلك.. ماذا تفعل هنا وسط كل هذه البشاعة؟
أجابتني بعدما واصلت بتسريح شعرها الأشقر:
- مثلما تفعل فتاة جميلة مثلك هنا..
- لا لا.. أنا حالة خاصة.. جاوبيني أنت..
- أتحدث جادة.. ملامحك يا روان ليست لها علاقة بهذا المكان.. ولا أخفيك أنني تحدثت مع هند عنك بهذا الموضوع..
- ولا أنت يا زمردة.. بصراحة هل أنت هنا عن قناعة؟ أم مجبرة؟
ارتبكت كثيراً من سؤالي وشعرت بخوفها من الإجابة.. توجهت نحو السلم خارج الغرفة ثم تلفتت بكل الاتجاهات.. ثم عادت واقتربت مني بعد أن أغلقت الباب..
وحذرتني من تكرار هذه الأسئلة هنا.. وبأنها لا تريد المشاكل..
سألتها بامتعاض:
- ولماذا؟
- هنا الداخل مفقود.. والخارج مولود.. لا أريد أن أموت.. أنا راقصة.. والراقصة تحب الحياة.. كل ما أفعله هنا هو من أجل الاستمرار بالحياة فقط.. حتى لو على حساب حياة الآخرين.. أعلم أنني متورطة، لكن لم يكن أمامي حل آخر.. فأنا مجبرة من قبل زوجي الذي كان يملك المرقص الذي كنت أرقص به في سورية.. أنا هنا معه تحت مسمى مجاهدة..
علمت أنها هنا مثله مثل هند.. ليست لديها القناعة الكاملة..
لكن الظروف التي تقهرها كأنثى تجبرها على الخضوع والاستسلام..
الحاجة إلى المادة.. جبرت الزوج فاقد الرجولة.. وغيرها من الأمور.. كلها عوامل تفوق طاقتها وطاقة أي فتاة قد تتورط في هكذا حال..
أخبرتني بأن شقيقها الوحيد استشهد من قبل إحدى الجماعات المقاتلة المتشددة من الطائفة الشيعية.. لذلك لم تمانع من اقتراح زوجها الانضمام إلى تنظيم داعش، من أجل المادة والحماية وكذلك من أجل الانتقام!
الكل في كلتا الطائفتين يبحث عن الانضمام إلى الأكثر تشدداً، وذلك لضمان الحياة من خلال موت الآخرين! وكذلك من أجل الانتقام!
معادلة غريبة حقاً لا تمت للإنسانية بصلة.. أن تعيش من وراء موت الآخرين!
فهمت من حديثها أن زوجها من الجنسية السورية، وأحد أصدقاء ضياء متواجد معهم بالأسفل.. صاحب مرقص شهير بسورية.. كان يستغل جمالها لكسب المال.. فمن خلالها يجلب كبار التجار لمرقصه.. وبسببها جمع الكثير من المال.. لكن مع الحرب ضاع كل شيء.. تدمر المرقص وتكالبت الديون..
أصبح زوجها الآن كما قالت لي.. يعمل على توفير خدمات خاصة للمقاتلين!
وعندما سألتها مثل ماذا؟
تهربت من الإجابة.. وفهمت من تهربها بأنه أقل من نصف رجل..
يقوم بأعمال يندى لها الجبين.. إنه جشع المال.. يقتل كل خصلة حية بالضمير..
تساءلت بنفسي.. ماذا تنتظرين من قذر يتاجر بشرفه؟!
تجنبت إحراجها..
هي ضعيفة جداً ومجبرة وسط طواحين هذه الحياة القاسية التي لا ترحم أبداً..
لذلك، تظاهرت بعدم اهتمامي بالتفاصيل.. وأكملنا حديثنا بشكل طبيعي..
مرت نحو خمسة أيام..
تحسنت علاقتي مع زمردة كثيراً.. وأصبحت أنا وهي وهند صديقات أكثر.. لتشابه حالاتنا من حيث الإجبار بالتواجد هنا.. لقد كنا ضحايا سماسرة بشبكة تنظيم خطيرة جداً..
الفتاتان البريطانيتان تم طلبهما بالاسم..
للتوجه نحو المدن الداخلية.. الرقة بالتحديد..
ذهبتا وهما يكبران بلهجة أجنبية ركيكة.. يا للهول.. لم أستوعب ذلك أبداً..
بقينا نحنا لثلاثة..
خلال تلك الأيام.. بدأ ضياء الأحمق يضايقني بحماقاته!
كان كل ليلة يحاول إقناعي بأن أنام معه في غرفة خارجية بالقرب من المنزل الخشبي، متحججاً بشوقه لي.. وفي كل مرة أتمنى لو أن أقطع فمه بسكين حاد كي لا يكرر ذلك معي.. كان يتغزل ويتقرب ويصيبني بالغثيان.. فأتحجج بأعمال المنزل وبمساعدة البنات أو بالإجهاد.. كي لا يغضب مني.. ويعود من غير ملل مكرراً محولاته.. حتى أتى ذلك اليوم الذي أخبرني باقتراب موعد عودتنا إلى جدة..
فرحت كثيراً ولم أصدق الخبر..
في إحدى الليالي الأخيرة.. وقبل عودتنا إلى جدة بيومين تقريباً..
كنا نشرب الشاي أنا والبنات ليلاً..
حصل شجار بصوت منخفض بعد حديث مقتضب بين هند وزمردة!
تدخلت بينهما متسائلة:
- ما خطبكما؟
اجتاحهما هدوء.. ونظرات مسروقة لبعضهما..
كررت سؤالي وأجابتني هند بصوت خافت بعدما اقتربت مني:
- زمردة.. تريد الهرب!
نظرت مباشرة إلى زمردة ولا أعلم هل أفرح لأجلها أم أخشى عليها.. سألتها:
- لماذا؟ ما الدافع المفاجئ؟ ألم تخبريني بأنك تجدين الحياة هنا؟
- أي حياة؟ لولا المال والحماية هنا لما بقيت ساعة واحدة..
- وما الذي تغير فجأة؟
- زوجي.. تعرف على أحد السماسرة بالقاهرة.. طلبني بالاسم كي أعمل راقصة رئيسية في أحد مراقص الفنادق الفخمة هناك..
عديم الرجولة.. كالعادة المال همه الأول.. يريد من المسكينة أن تعود إلى الرذيلة!
لم أعقب على حديث زمردة أبداً.. فضلت السكوت حتى تدخلت هند تترجى قائلة:
- زمردة.. ستكون حياتكما على كف عفريت إن علم بأمركما أفراد التنظيم.. سيقتلونك أنت وزوجك السافل..
- الموت أفضل ألف مرة من هذه الحياة.. لقد كرهت كل شيء ونفد صبري متظاهرة بالرضا.. أن أموت في المراقص وسط أشكال نظيفة، أهون عليّ من الحياة وسط هذه الأشكال القذرة! ما يحدث لي يفوق طاقتي.
تحدثتا طويلاً من غير فائدة.. كانت زمردة مصرة.. حتى أنها أخبرتنا بأن كل شيء قد تم تجهيزه.. لدرجة أن موعد هروبهما هو هذه الليلة.. سيهربان خلسة سوياً قبل ظهور الصباح كما أخبرتنا..
لم تكمل حديثها معنا حتى سمعنا صراخاً وصوتاً عالياً ينبعث إلينا من الحديقة الخارجية.. ثم سمعنا صوت صرخة مكتومة بشكل مريب!
تعالت صيحاتنا فزعاً.. فارتدينا عباءاتنا ونزلنا بسرعة إلى الأسفل بحذر..
وجدنا باب المنزل مفتوحاً! تقدمنا ولم تكن الرؤية واضحة لتمكن الظلام من الخارج.. قليلاً من الضوء أهدنا إياه ضوء القمر..
كانت الفاجعة!
زوج زمردة ممد على الأرض وعلى ظهره بقع متفرقة من الدم!
ومن حوله يقف ضياء واثنان من أصدقائه لم تتضح ملاحهما.. وأحدهما يحمل سلاحاً وفي مقدمة الفوهة قطعة طويلة كاتمة لصوت الطلق..
علمنا أنه زوجها بعدما صرخت زمردة صرخة انهيار وارتمت بجسدها عليه وهي تبكي بقوة وبصوت يكاد يمحى.. حضنت هند من ألم الموقف.. والصدمة قد غطت وجوهنا..
واصلت مردة بكاءها بحرقة وكانت تصرخ وتلعن من قتله..
فجأة.. صمتت وشهقت.. وبدأت تكرر بارتجاف:
- إنه حي!.. إنه يتنفس.. يتنفس أرجوكم ساعدوه..
وبكل برود ومن دون أي تمهيد.. انقطع صراخ زمردة!
طلقة أخرى من نفس السلاح الكاتم للصوت، اخترقت ظهر زمردة وأسقطتها على صدر زوجها! ثم رددوا جميعاً: الله أكبر.. الله أكبر.. الموت للخونة.
برودة مفاجئة حلت عليّ ولا أذكر بعدها شيئاً.. لقد وقعت مغشية عليّ..
ولم أفق إلا في الصباح قرابة الساعة الثامنة.. وعلت على صوت بكاء هند..
وجدت نفسي في غرفتنا بالأعلى.. شعرت بضيق تنفس رهيب لم يخففه عني سوى البكاء بشكل هستيري مع هند على زمردة المسكينة..
اقتربت مني هند وحضنتني وهي تصرخ: آآآآخ يا زمردة..
للأسف، لقد كشفوا أمرهما.. أخبرتني هند بعد ذلك بأن زوج زمردة هو سبب افتضاح أمر هروبهم.. لقد سرق من خزنة الجماعة المخبأة مبلغاً كبيراً وأراد الهرب به معها..
المال الذي ركض وراءه طوال عمره.. هو نفسه من أنهى عمره!
لم يغب منظر الجميلة زمردة عن مخيلتي وهي على صدر زوجها..
وعندها يزيد قلبي أنيناً وألماً عليها..
هذا الموقف أحد المواقف التي ضاعفت بسرعة كرهي لضياء.. كان هناك صوت للانتقام يناديني.. ولا أعرف كيف أنصت إليه.. سألت هند عن موعد دفنهما.. كي نحضر.. فمن المؤكد ليس لهما أحد هنا، يعلم بمغادرتها هذه الحياة القاسية..
انهارت هند بالبكاء فجأة!
ولم تستطع الإجابة! وسط استغرابي من ردة فعلها!
كانت تضرب الأرض بقوة.. وتردد كلمات يخفيها صوت صياحها.. لم أفهم شيئاً أبداً بسبب أنفاسها المتقطعة.. اقتربت منها حتى نجحت بتهدئتها.. إلى أن تحدثت بحزن بالغ.. وبقهر.. قالت وهي مرتعدة:
- زمردة وزوجها.. لم يقتلا بطلقات نارية يا روان.
نظرت إلى وجهها والحيرة قد رسمت على وجهي.. ولم أستوعب ما قالته لي!
ثم سألتها:
- كيف؟ تحدثي مباشرة لا أقوى على التفكير..
عادت للبكاء وهي تقول:
- لقد كان سلاحاً قوياً مخدراً.. والدم الذي شاهدناه هو بسبب ضربة قوية على رأس زوج زمردة.. أتذكرين زمردة عندما صرخت بعد اكتشافها أن زوجها كان لا يزال يتنفس؟
- نعم صحيح.. لكنني لم أفهم بعد! هل هم الآن أحياء أم أموات.. ماذا تريدين أن تقولين؟.. لا تعذبيني بالتفكير أكثر!
ضربت بيداها مرة أخرى على الأرض بقوة وهي تردد بحرقة جارفة:
- كانا أحياء يا روان.. أحياء حتى صباح هذا اليوم فقط! ومن ثم قتلوا فعلاً وتم دفنهما بعد ذلك! لقد نقلوا إلى القبو!.. حيث المخبأ.. تحت هذا المنزل.. حيث غرفة العلميات السرية!
- غرفة عمليات! وماذا يفعلون بها تحت الأرض؟ وما دخل زمردة وزوجها؟
- لقد شقوا جسديهما بعملية بشعة كي يأخذوا منهما ما يحتاجون إليه من أعضائهما، ثم يحفظونها بطريقة تضمن صلاحيتها ووصولها إلى السماسرة المسوقين لهكذا تجارة! يتم تهريبها وبيعها.. إنها تجارة الأعضاء.
قشعريرة مفاجئة عاثت بجسدي، ولوعة كبد لا تطاق أبداً حلت عليّ، وغثيان من قوته شعرت به يلامس شعر رأسي من الداخل.. تحدثت ويدي على فمي:
ما الذي تقولينه يا هند.. إنه أمر لا يستطيع العقل استيعابه!
القرنية والقلب وغيرهما من الأعضاء.. يقوم بهذه العمليات المجاهد الفرنسي الذي ينتمي لهم.. هو طبيب جراحة.. فرنسي من أصل عربي.. يحضر إليهم كلما توافرت ضحايا.. فشل في بلده فقرر التطرف وتكسب المال من خلال هذه السبل غير المشروعة.. كله لأجل المال يا روان..
لم تكمل حديثها وهي تبكي.. حتى أصابتني رعشة وركضت نحو الحمام مباشرة وبدأت بالتقيأ والبكاء واللعن سوياً..
استحالة ما مررت به.. لا أصدق.. لهذا السبب إذاً كانت تبكي هند بحرقة..
ضياء.. ضياء.. ضياء.. أنت ملعون فوق اللعن.. أقسم بأنك لن تفلت من أفعالك..
أيقنت وقتها أن مصيبتي التي أتعذب بسببها ليل نهار.. أهون بكثير من هذه الكوارث التي حدثت أمامي..
آآآخ يا زمردة.. تحبين الحياة كما أخبرتيني لكنها لم تحبك أبداً..
كم هو مؤلم أن تكون نهاية فتاة جميلة بهذا الشكل البشع..
أخبرتني هند بعد ذلك بأنهما دفنا بعد ذلك وكأنهم شوالي بطاطا.. بالقرب من حديثة المنزل من دون أن يرى ذلك أحد.. وتم تصريف الأعضاء مباشرة..
حتى أنهما قبضا السعر قبل إرسالها!
هؤلاء ضباع! تجسدت على أشكال بشر.. لا رحمة يملكون ولا يعرفون شفقة..
بل على العكس.. سكان الغابة بمختلف فصائلهم.. أصبحوا أكثر رحمة من سكان المدن والقرى..
وكأنهم خلقوا من أجل المال فقط.. يجمعونه بأي طريقة كانت!
جلست وحدي سارحة بما حدث..
كنت أفكر بكل ما حدث من صور إجرامية.. غير إنسانية..
لم أستوعب تلك الأحداث من هؤلاء.. ضياء ومن هم على شاكلته!
كل هؤلاء.. ليسوا سوى مقدمة للرؤوس الكبيرة والمقاتلين هنا..
ولكم أن تتخيلوا.. هذه العينات من البشر التي مررت بها..
هي فقط البداية..
لكم أن تتخيلوا كيف ستكون العينات التي بالداخل!
وهم يقاتلون.. ويقطعون الرؤوس يومياً..
بالتأكيد أن رائحة الدم لديهم.. رائحة مألوفة وطبيعية!
حمدت ربي كثيراً على أنني لم أتعد الحدود كثيراً..
على الرغم من أن ساحة القتال لا تبعد عني سوى القليل من الكيلومترات..
قمت بعدها مع هند بصناعة عقدين من الأزهار..
ووضعناهما على قبرهما الذي دفنا فيه سوياً.. رحمكما الرب..
سأدعو لكما كلما حللتما على ذاكرتي..
بعد هذه الحادثة التي دمرت نفسيتنا بيومين..
توادعنا أنا وهند.. من أجل عودتي إلى جدة مع ضياء..
شعرنا وكأننا نعرف بعضنا منذ عشرات السنين ، لقد كان وداعاً مؤلماً..
سأشتاق حتماً لهند ولطيبة قلبها الواضحة والصادقة..
أخبرتني بأنها سوف تذهب قريباً إلى مدينة الرقة من أجل الانضمام إلى بقية الأخوات المجاهدات كما وصفتهن لي.. قرارها هذا كما قالت.. لا رجعة فيه..
فهي في كلتا الحالتين ميتة.. لكنها تفضل أن تموت بالخارج ، على أن تموت بين جدران السجن الذي ينتظرها في بلدها.. تونس..
عدنا إلى أنقرة ومن ثم إلى جدة بعد رحلة شاقة عبر الطائرة..
وعدت إلى شقة الكآبة والبؤس.. في حي الجامعة الشعبي..
كنت أحتاج إلى فترة نقاهة لا أريد فعل أي شيء فيها.. سوى الهدوء والنوم..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا