فيلم ذو القناع الحديدي 4

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-12-21

قصة "لافونتين"

كانت ضاحية (سانت مانديه) هي المكان المختار الذي اعتاد المسيو فوكيه وزير المالية أن يستقبل فيه صفوة أصحابه من الأدباء الأبيقوريين وكان رب الدار قد مر خلال الفترة الأخيرة بتجارب قاسية يعلمها كل من في الدار. خاصة بعد أن قلت فيها حفلات البذخ والترف، وصار معروفاً أن صاحبها يعاني أزمة مالية قاسية!

وقد بذل المسيو فانيل جهده حتى يحفظ للدار شهرتها في الكرم والضيافة، ولكن أصحاب البساتين الذين يوردون حاجات المطبخ كانوا يشكون من التأخر في دفع حقوقهم، وكذلك التجار الذين يوردون كانوا يشكون من التأخر في دفع حقوقهم، وكذلك التجار الذين يوردون النبيذ الإسباني كانوا يطالبون بما لهم، والصيادون الذين يعملون في البحر عند الشاطئ النورماندى. وقد امتنع أكثر هؤلاء عن توريد أي شيء إلى الدار ما لم تؤد إليهم حقوقهم المتأخرة!

على أن أصدقاء فوكيه استمروا برغم ذلك في التوجه إلى داره يوم الاستقبال المعتاد، وكان (جورفيل) والأب فوكيه – شقيق الوزير – يتحدثان معا في شأن قرض لم يؤده الثاني للأول. بينما جلس (بليسون) يكتب الخطبة التي يعتزم فوكيه أن يلقيها في افتتاح البرلمان، وقد حرص بليسون على أن يجعلها قطعة رائعة من الأدب، وضمنها كثيراً مما كان المسيو فوكيه خليقا بأن ينساه!

وجاء (لوريه) و(لافونتين) من باب الحديقة وقد استغرقا في جدل شديد حول سهولة قرض الشعر. في حين جلس الرسامون والموسيقيون وبقية الضيوف يثرثرون بالقرب من غرفة الطعام، في انتظار انقضاء نصف الساعة الباقي على موعد إعداد المائدة في الساعة الثامنة كالمعتاد

ولما اكتمل عقد الضيوف جميعاً، ذهب جورفيل إلى بليسون فأيقظه من أحلامه وقاده إلى وسط الغرفة، ثم أغلق الأبواب وسأله: "هل من جديد؟" فقال له بليسون: "لقد اقترضت خمسة وعشرين ألف فرنك من عمتي وهي معي الآن"

فقال جورفيل: "حسناً!. لا ينقصنا الآن إلا مائة وخمسة وتسعون ألف فرنك لسداد أول قسط!"

فسأله لافونتين: "سداد ماذا؟"

فأجاب بقوله: "أهكذا أنت دائماً شارد الذهن؟! .. إنك أنت الذي أخبرتنا بأن المزرعة الصغيرة التي للمسيو فوكيه في (كوربى) سيبيعها أحد دائنيه!. وأنت أيضاً الذي اقترحت أن يكتتب جميع أصدقائه لسداد ما عليه من ديون، بل لقد عرضت أن تبيع جانبا من مزرعتك التي في (شاتو – تييرى) لكي تساهم بنصيبك في ذلك الاكتتاب. فما بالك الآن قد نسيت كل هذا، وجئت تسألنا: سداد ماذا؟!"

فأثارت هذه الملاحظة ضحك الجميع حتى أحمر وجه لافونتين خجلا. ثم قال: "معذرة!. إني لم أنس ولكن ..."

فسارع لوريه إلى إتمام عبارته قائلاً: "ولكن لم تتذكر شيئاً عن الموضوع!. هذه هي الحقيقة، وهناك فرق كبير بين النسيان وعدم التذكر!"

وقال بليسون للافونتين: "حسنا!. هل جئت بنصيبك من ثمن الجانب الذي بعته من المزرعة؟"

فقال لافونتين: "إني لم أبع شيئا .. هذه هي الحقيقة"

فسأله جورفيل في دهشة ظاهرة: "ألم تبع جانبا من مزرعة شاتو تييرى؟". فقال: "كلا!. إن زوجتي لم تدعني أفعل ذلك!"

وهنا قهقه الجميع ساخرين وقال أحدهم: "ولكنك سافرت لهذا الغرض؟"

فقال له: "أجل يا سيدي، وقد سافرت على ظهر جواد! بل الواقع أنها ثمانية جياد لا جواد واحد تنقلت بين ظهورها خلال الطريق، وكدت ألقى حتفي غير مرة هاويا من فوقها!"

فقال له ساخراً: "إنك لبارع حقاً! .. ولعلك ارتحت بعد أن عدت إلى باريس؟"

فقال لافونتين: "نعم، فقد كان أمامي عمل كثير أؤديه!"

والتف حوله الحاضرون يسألونه عن ذلك العمل الكثير، فقال لهم:

- كانت زوجتي تغازل الرجل الذي كنت سأبيعه الأرض، ولكنه رجع عن عقد الصفقة فدعوته إلى المبارزة

وهنا سأله أحدهم: "وهل تبارزتما؟"

فأجاب قائلاً: "يبدو أننا لم نفعل ذلك!"

وقال له آخر: "كيف هذا؟. ألا تدري أتبارزتما أما لا؟!"

فقال: "إن زوجتي وأقاربها تدخلوا في الموضوع، وقد بقيت أنا ربع ساعة أنتظر وسيفي في يدي، ولم أجرح على كل حال!"

فعاد الرجل يسأله: "وخصمك؟. أجرح أم لم يجرح؟"

فقال: "لم يجرح، لأنه لم يأت إلى مكان المبارزة!"

فصاح آخرون: "هذت بديع! .. لا شك في أنك غضبت من ذلك!"

فقال: "أجل!. وقد أصابني برد. وعدت إلى بيتي فشرعت زوجتي تتشاجر معي!"

وسأله لوريه: "أكان شجاركما جديا؟"

فأجاب قائلا: "طبعاً!. وقد قذفتني برغيف كبير أصاب رأسي!"

- وماذا فعلت أنت؟

- قبلت المائدة عليها وعلى ضيوفها، ثم امتطيت ظهر جوادي قاصدا إلى هنا، وها أنذا قد وصلت!

وكان عسيرا على الحاضرين أن يكتموا الضحك وهم يسمعون تفصيل هذه المهزلة. ولما خف الضحك سأله أحدهم: "أهذا كل ما جئتنا به؟"

فقال: "كلا!. بل جئت وفي ذهني فكرة رائعة!. ألم تلاحظوا أن الشعراء في فرنسا يكتبون كثيراً من الأشعار الهزلية الإباحية؟"

فأجاب الجميع: "أجل!. لاحظنا جميعا ذلك"

فاستطرد لافونتين قائلاً: "إن القليل من تلك الأشعار هو الذي يطبع ويذاع، لأن القانون صارم إلى حد كبير في هذا الشأن كما تعلمون، ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن مثل هذه المادة الأدبية مادة نفسية. ولهذا كتبت قصيدة صغيرة من الأدب المكشوف، وتحوى سخرية لاذعة!"

وعاد الجميع يضحكون بينما الشاعر مستمر في وصف بضاعته يقول:

- لقد اجتهدت لأجعلها تفوق كل ما كتبه (بوكاشيو) و(أرتين) وغيرهما من أساتذة هذا الفن!

فقال بليسون: "أن مصير قصيدتك معروف، فلا شك في أنها ستصادر!"

فالتفت إليه وقال: "أتظن ذلك؟. إنني أؤكد لكم إني لم أكتبها من أجل نفسي، ولكن من أجل المسيو فوكيه!"

ولم يتمالك الحاضرون أنفسهم من الضحك مرة أخرى، بينما استمر لافونتين في حديثه قائلاً:

- لقد بعت الطبعة الأولى من الكتيب الصغير الذي تضمن هذه القصيدة بثمانمائة جنيه وإنكم لتعلمون أن الكتب الجدية والدينية تباع بنصف هذه القيمة أو أقل!

فقال له جورفيل: "كان خيرا لك أن تؤلف كتابين دينيين بدلا من قصيدتك!"

فقال جادا: كلا!. إنهما كانا يجيئان مملين جداً!. وعلى كل حال .. الثمانمائة جنيه معي هنا في هذا الكيس، وسأقدمها لتكون نصيبي في الاكتتاب المقترح!"

ثم مد لافونتين يده بالكيس إلى أمين صندوق الجماعة فتناوله هذا منه، وأعقبه الآخرون فأخذ كل منهم يقدم ما اكتتب به، حتى إذا جاء دور لوريه وأخذ الحاضرون يعدون المائة وخمسين جنيها التي قدمها، دخل الوزير دون أن يشعر به أحد، وكان قد سمع كل ما دار من حديث. فوقف ذلك الرجل الذي امتلك ملايين الجنيهات، ونعم بكل ما في الحياة من مجد ومتعة، وأخذ ينظر إلى أصحابه وإلى النقود بعينين اغرورقنا بالدموع، ثم دنا من كومة النقود الذهبية والفضية الموضوعة على المنضدة، وراح يعبث بها قائلاً:

- إن هذه الهبة الضئيلة ستختفي في أصغر ركن من خزانتي الخاوية، ولكنها ملأت قلبي حتى فاض بها!. شكراً لكم يا أصدقائي. شكراً جزيلاً!

ولما لم يستطع أن يعانق جميع الحاضرين – وكانوا برغم فلسفتهم لم يتمالكوا أنفسهم من البكاء – عانق لافونتين وقال له:

- يا صديقي المسكين!. إذن لقد ضربتك زوجتك بسببي.

فقال الشاعر: "هذا شيء يسير!. لو أن دائنيك يصبرون سنتين اثنتين، لكتبت مائة قصيدة، ولكان ثمن طبعتين منها يفي بكل الدين!"

وعلى أثر ذلك مد المسيو فوكيه يده إلى المسيو لافونتين وصافحه قائلاً:

- يا عزيزي الشاعر .. فلتكتب مائة قصيدة أو أكثر، لا من أجل المال الذي نفيده منها، بل لتزيد في ثروتنا الأدبية بروائعك التي لا تقوم بمال!

فقال لافونتين موجها كلامه إلى الجميع: "لعلكم تحسبون يا سادة إني لم آت إلا بتلك الفكرة البسيطة ذات الثمن الزهيد؟"

فتضاحك الحاضرون وصاح بعضهم قائلين:

- حقاً! إن المسيو لافونتين لفي أوجه اليوم!

وقال المسيو فوكيه بلهجة ملؤها السرور:

- ليبارك الله أفكارك يا عزيزي لافونتين! لعلها جاءت بمليون فرنك أو مليونين.

فقال لافونتين جاداً: "هذا ما أعنيه تماماً!"

وصاح به الجميع قائلين: "قل لنا، قل لنا!"

وهمس بليسون في أذنه قائلاً:

- إنك حتى الآن قد أصبت نجاحاً كبيراً، فلا تغال حتى لا تفشل!

فأجابه بصوت سمعه الجميع: "كلا يا مسيو بليسون! .. إن الأمر ليس فيه أية مغالاة، وأنا على يقين من أنك، وأنت المشهود لك بدقة الحس وسلامة الذوق، ستقر كل ما صنعت!"

وقال له حورفيل: "لا تنس قبل كل شيء إننا نتكلم عن ملايين من الفرنكات!"

فأشار لافونتين إلى صدره قائلاً: "معي هنا يا مسيو جورفيل مليون ونصف مليون فرنك!"

وهنا صاح لوريه قائلاً: "أي هراء هذا! .. بل أي جنون! .. فليذهب الشيطان بهذا الجاسكوني الذي جاءنا من شاتو – تييري!"

وضحك الحاضرون بينما قال فوكيه للافونتين: "كان ينبغي لك يا عزيزي أن تشير إلى العقل الكبير الذي في رأسك بدلاً من الإشارة إلى جيبك!"

فقال له لافونتين: "انتظر هنيهة يا جناب الوزير. لا تنس أنك شاعر أكثر منك نائباً عاماً!"

فانطلقت صيحات الموافقة من كوريه وكونراد وكل الأدباء من الحاضرين. وواصل لافونتين كلامه فقال:

- أجل يا جناب الوزير .. إنك شاعر ورسام ومثال وصديق للأدب والفنون. ولم تخلق لتكون محامياً!

فقال المسيو فوكيه وهو يبتسم: "إنني أعترف بذلك"

واستطرد لافونتين قائلاً: "وإذا عينت عضوا بالأكاديمية فأحسبك ترفض!"

فقال الوزير: "نعم أحسبني أرفض ذلك مع احترامي لرجال الأكاديمية!"

ومضى لافونتين فقال: "حسنا .. إذا كنت لا تحب أن تكون عضوا في الأكاديمية فكيف تسمح لنفسك بأن تكون عضواً في البرلمان!"

وهنا قال بليسون: "أوه!. إنه يتكلم في السياسة!"

ولكن لافونتين استمر في حديثه قائلاً: "أريد أن أعرف: هل رداء المحامي يوائم المسيو فوكيه أم لا؟"

فقال المسيو بليسون وقد ضايقه ضحك الحاضرين: "المسألة ليست مسألة رداء"

وقال المسيو لوريه: "ولم لا؟ .. بل الحق أنها ليست إلا مسألة رداء!"

وقال كونراد: "فلندع الرداء جانبا، وبذلك لا يبقى إلا المسيو فوكيه الذي لا نجد سبباً للشكوى منه .. ولكنكم توافقونني طبعاً على أنه لا يوجد نائب عام بغير ردائه. ولهذا أرى مع المسيو لافونتين أن ذلك الرداء ليس إلا شيئاً وهمياً مخيفاً!"

فقال بليسون: "على أي حال، نحن جميعاً نعلم أن الأرانب لا يسعها إلا الفرار حين ترى المسيو فوكيه!"

فضحك الجميع وقال له كونراد: "ولماذا خصصت الأرانب بالذكر؟"

فقال بليسون: "لأن الأرانب هي التي لا يسرها أن ترى المسيو فوكيه تحيط به كل المزايا المستمدة من مركزه في البرلمان!"

ثم قال جورفيل: "أحسب أن الرداء الذي تتحدثون عنه ليس سوى شيء حسن، ولكني أحسب أيضاً أن مليونا ونصف مليون من الفرنكات هي شيء أحسن!

فقال المسيو فوكيه: "أنا أوافق المسيو جورفيل على ذلك!"

فتمتم بليسون قائلاً: "مليون ونصف!. إن هناك قصة هندية قديمة أحسبكم تعرفونها. كانت هناك سلحفاة لها غطاء تحتمي به كلما هددها عدو .. وفي ذات صيف قال لها صديق: (أن هذا الغشاء يزيدك شعوراً بشدة الحر، ويحول دون أبداء محاسنك. وهنا ثعبان على استعداد لأن يشتري غطاءك بمليون ونصف مليون). وهكذا باعت السلحفاة غطاءها وبقيت متجردة بلا شيء يقيها، ثم اتفق أن رآها نسر جارح جائع فالتهمها لقمة سائغة .. ومن هنا ترون أن الميسو فوكيه لا ينبغي له أن يبيع رداءه!"

فقال المسيو فوكيه: "لو أن السلحفاة لم تبع غطاءها، لاستطاع النسر الجارح أن يلتهمها أيضاً! .. وعلى هذا أحسبها كانت موفقة إذ حصلت على مليون ونصف مليون فرنك ثمنا لذلك الغطاء، فمن لي بمن يشتري غطائي بمثل ذلك الثمن؟!"

فقل لافونتين: "لقد وجدت الثعبان الذي يشتريه!"

فسأله المسيو فوكيه باهتمام: "أتعني أنك وجدت مشترياً لمنصب النائب العام الذي أشغله؟"

فأومأ برأسه موافقاً وقال: "أجل يا سيدي!"

فقال بليسون: "ولكن الوزير لم يقل قط أنه يريد البيع".

فقال كونراد: "عفواً يا عزيزى!. إنك أنت الذي تحدثت بذلك!"

وقال جورفيل: "وأنا شاهد عليه!"

فقال فوكيه ضاحكاً: "يلوح لي أنه مصر على فكرته الرائعة، حسناً يا لافونتين. من ذلك المشتري الذي وجدته؟"

فقال لافونتين: "إنه ثعبان أسود كبير، يعمل مستشاراً بالبرلمان، واسمه .. فانيل!"

فقال فوكيه: "فانيل، زوج ..."

فقطع كلامه قائلاً: "أجل يا سيدي! زوجها!"

وقال جورفيل: "أن فانيل يريد أن يقتفي كل خطواتك يا مسيو فوكيه، وأن يفعل كل ما فعلته!"

فقال الوزير: "هذا مما يساعد في إتمام الصفقة .. لكن كيف عرفت ذلك يا عزيزي لافونتين؟"

قال: "الأمر بسيط، منذ وقت وجيز لقيته عرضا وأنا أسير في ميدان الباستيل إذ كنت أهم بركوب العربة الصغيرة الموصلة إلى سانت – مانديه"

فقطع لوريه كلامه قائلاً: "لابد أنه كان يراقب زوجته!"

فال فوكيه: "كلا .. كلا!. إنه أبعد الناس عن الغيرة"

واستطرد لافونتين فقال: "وجاء إلى وصافحني، ثم أخذني إلى حانة تسمى (ليماج سان – فياكر) وأخذ يبثني همومه. وهكذا ترون أن الرجل له هموم! .. ثم علمت منه أن زوجته تريد منه أن يكون طموحاً! .. وأن حديثا نمى إليه عن منصب في البرلمان يمكنه أن يشتريه، وذكر له اسم المسيو فوكيه لهذه المناسبة، ومنذ ذلك الحين لا تحلم زوجته بشيء سوى أن تسمى (قرينة النائب العام). بل أن التفكير في ذلك يؤرقها!"

فصاح لوريه: "يا للشيطان!"

وقال المسيو فوكيه: "يا للمرأة المسكينة!"

ثم واصل لافونتين حديثه فقال: "إن كونراد لا يفتأ يتهمني بأني لا أدري شيئاً في عالم الأعمال. وسترون كيف عالجت هذه المسألة! .. لقد قلت لفانيل: (أنت تعلم ولا شك أن المنصب الذي يشغله المسيو فوكيه في البرلمان ذو قيمة طائلة، وقد علمت أنا أنه رفض مليونا وسبعمائة ألف فرنك ثمنا له). فقال: (لقد قدرته زوجتي بمليون وأربعمائة ألف فرنك). فسألته: "(وهل يكون الدفع فوراً؟). فأجاب: (نعم إن زوجتي باعت بعض أملاك لها في جيين وتسلمت ثمنها) .."

وهنا تكلم الأب فوكيه فقال: "هذا ثمن لا بأس به إذا دفع فوراً.!"

وتمتم المسيو فوكيه قائلاً: "مسكينة مدام فانيل!"

وهز بليسون كتفيه وهمس في أذن المسيو فوكيه قائلاً: "إنها شيطانة!"

فرد المسيو فوكيه قائلاً: "فليكن!. ومما يدعو إلى الغبطة أن أنفق مال هذه الشيطانة في إصلاح ما أفسده ملك من الملائكة!"

فنظر بليسون بدهشة إلى فوكيه وقد بدا عليه أنه اتجه بفكره إلى موضوع جديد، ثم قال جورفيل: "إن بعض الناس يطمعون في الجواد على حين أنهم لا يملكون حتى ثمن البرذعة!"

فقال الأب فوكيه: "نعم!. وأحسب أن فانيل سينسحب من الصفقة إذا وجدها جدية!"

فقال لافونتين: "كلا!. لست أعتد ذلك .. أنكم لا تسمعوا ختام الحكاية: لقد طلب إلى فانيل حين علم أني قادم إلى سنان – مانديه، أن آخذه معي، لأقدمه إلى المسيو فوكيه. وعلى ذلك تركته في (بل – اير) على مقربة من هنا. فما رأيك يا مسيو فوكيه؟"

فأجاب المسيو فوكيه قائلاً: "ليس من الاحترام الواجب نحو مدام فانيل أن نعرض زوجها للإصابة بالبرد في خارج بيتي. ابعث إليه يا لافونتين ما دمت تعرف أين هو!"

فقال: "سأذهب بنفسي لآتي به"

وقال له الأب فوكيه: "سأصحبك فإني أقدر أن أحمل أكياس المال!"

فقال المسيو فوكيه بلهجة جادة: "لا تمزحوا! .. ما دام الأمر جدا فدعوه هكذا حتى يتم. ولنكن أولاً كرماء نحو ضيفنا القادم. اعتذر عني يا لافونتين إليه وعبر له عن أسفي إذ تركته ينتظر دون أن أعلم!"

وبعد ربع ساعة قدم المسيو فانيل إلى غرفة مكتب المسيو فوكيه. فما كاد هذا يراه حتى نادى بليسون، وهمس في أذنه قائلاً: "أصغ جيداً لما أقوله .. دع كل الآنية الذهبية والفضية والجواهر من كل نوع تعبأ وتحمل إلى العربة، وخذ الجياد. السوداء، وسيصحبك تاجر الجواهر، وأرجئ العشاء حتى تأتي مدام بليير!"

فسأله بليسون: "أأخبر مدام بليير بذلك؟"

فقال له: "كلا!. هيا أذهب يا صديقي العزيز"

وخرج بليسون دون أن يتبين غرض صديقه وإن كان واثقاً من سلامة تصرفه. بينما انحنى فانيل للوزير وهم بأن يلقي خطابا ولكن المسيو فوكيه قال له بلطف:

- لا تتعب نفسك يا سيدي. لقد قيل لي إنك تريد شراء المنصب الذي أشغله، كم من المال تدفع في مقابله؟

- إنك أنت يا صاحب الفخامة الذي تحدد المبلغ الذي تريده. إني أعلم أنه عرض عليك شراؤه.

- علمت أن مدام فانيل تقدره بمليون وأربعمائة ألف، أليس كذلك؟

- نعم، وهذا كل ما نملك!

- أيمكنك أن تدفع لي المبلغ فوراً؟

فعجب فانيل من بساطة هذا الرجل التي بلغت حد العظمة، وقد كان يتوقع خلافاً وعقبات واعتراضا من كل نوع. وقال: "لم أحضر المبلغ معي!"

فقال له فوكيه: "متى تستطيع إحضاره؟"

قال: "في أي وقت تشاء يا صاحب الفخامة!"

- لولا أن يشق عليك الرجوع إلى باريس لقلت لك أني أريد المبلغ فوراً. ولكن لا بأس .. فليكن الدفع والتوقيع على العقد صباح غد!

وشعر فانيل بالدم يصعد إلى رأسه إذ أربكه نجاحه السهل في هذه المهمة وأحس رعدة تسري في أوصاله، ثم مد يده إليه فصافحه فوكيه قائلاً: "إلى اللقاء!"

واندفع فانيل بعدئذ مسرعاً إلى الباب، وانصرف لا يلوى على شيء!

* * *

 

جواهر مدام دي بيليير

لم يكد فوكيه يصرف فانيل حتى أخذ يفكر في الأمر، ويحدث نفسه قائلاً: "إنه لقليل حقاً كل ما يفعله الإنسان في سبيل امرأة نعم زمانا بحبها!. وما دامت مرجريت يسرها أن تكون زوجة نائب عام، فلماذا لا أمنحها هذه المسرة؟ .. ولكن أين هي الآن تلك المرأة الأخرى التي أبدت لي غاية الإخلاص والوفاء؟. لقد كان يجب أن تكون مدام دي بليير هنا في هذه الساعة!"

ثم التفت إلى الباب السري في الغرفة الخاصة التي خلا فيها إلى نفسه، في بيته، وفتح ذلك الباب فبدا خلفه ممر تحت الأرض يؤدي إلى الدار التي تسكنها مدام دي بليير في شارع فنسين. وكانت في يده رسالة مطوية فوضعها تحت الباب الآخر في أقصى الممر، ثم عاد إلى غرفة مكتبه ينتظر ما يكون.

ولم تمض إلا دقائق معدودات حتى تسلمت مدام دي بليير تلك الرسالة فإذا هو يقول لها فيها: "تعالى يا مركيزة، إننا أرجأنا العشاء حتى تحضري!". وما هي إلا دقائق أخر حتى وقفت بها عربتها عند مدخل داره حيث كان جورفيل هناك في انتظار وصولها واستقبالها. ولم تلحظ أن عربة فوكيه بجيادها السوداء وصلت في الوقت نفسه عائدة إلى هناك وبها بليسون وتاجر الجواهر نفسه الذي باعته جواهرها وتحفها من قبل.

وأدخل بليسون تاجر الجواهر غرفة مكتب فوكيه، فاستقبله هذا مرحبا، شاكراً له أنه أبقى تلك الجواهر والتحف وديعة عنده، على حين كان له كل الحق في بيعها لو شاء. ثم ألقى نظرة على الحساب الذي قدمه له التاجر فإذا به مليون وثلاثمائة ألف فرنك، وسرعان ما جلس إلى مكتبه وكتب أمراً بصرف مليون وأربعمائة ألف فرنك للتاجر، على أن تدفع له في خزانته قبل الساعة الثانية عشرة ظهر غد، وما كاد يتسلم الأمر من الوزير ويطلع على ما تضمنه حتى صاح متعجبا!

- معنى هذا أني أربح مائة ألف فرنك، حقاً يا سيدي ما أكرمك!

فربت فوكيه كتف التاجر متلطفا وقال:

- إن من المروءة أيها السيد ما لا يمكن أن يجزى حق الجزاء. ولا شك في أن هذا الربح الذي تنوه به، كان في استطاعتك أن تحصل عليه لو إنك بعت تلك الجواهر والتحف. وعلى هذا يجب أن تحصل على مكافأة خاصة.

ثم فك من كمه زرا من الماس وقدمه للتاجر قائلاً:

- هذا تذكار مني!

وغلب التأثر على التاجر إذ قدر قيمة هذا الزر بما لا يقل عن ألفي فرنك، ثم قال لفوكيه وهو يصافحه مودعاً:

- أنت يا سيدي أنبل رجل عاش على ظهر الأرض!

وما كاد تاجر الجواهر ينصرف، حتى سارع فوكيه إلى استقبال مدام دي بليير، وكانت قد أحاط بها المدعوون، ووقفت بينهم باهرة الجمال والفتنة كعادتها، بل كانت في تلك الساعة أجمل وأروع في عيني فوكيه منها في أي يوم مضى. ولهذا لم يسعه إلا أن يهتف بجماعة الضيوف وهو يشير إليها قائلاً:

- ألا ترون يا سادة إن المركيزة تبدو في هذه الليلة وقد ازدادت جمالاً على جمال؟

فقال أحد الحاضرين: "إن المركيزة ولا شك أجمل النساء قاطبة!"

فقال فوكيه: "وهي كذلك خيرهن بلا استثناء!.. ومع هذا..".

فقطعت المركيزة كلامه وقالت له وهي تبتسم: "أهناك استثناء تذكرته الآن؟!"

فقال: "كلا!. بل أردت أن أقول .. إن جميع الحلي والجواهر التي تحملها المركيزة الجميلة الرائعة الليلة ليست إلا من النوع الزائف!"

فأحمر وجهها خجلاً، وصاح بعض الضيوف قائلين:

- أوه. أوه!. لا يمكن أن يقال هذا عن السيدة التي تملك أنفس الجواهر والحلي في باريس!

وهنا قال فوكيه لبليسون بصوت منخفض: "أرأيت؟"

فقال له بليسون: "لقد فهمت قصدك أخيراً، وقد أحسنت التصرف!"

ثم جاء رئيس الخدم وقال لفوكيه: "لقد تم إعداد المائدة يا صاحب الفخامة"

وسارع الضيوف إلى قاعة الطعام حيث واجههم منظر باهر، ففوق البوفيهات، وفوق المناضد الجانبية، بل فوق مائدة الطعام نفسها بين آنية الأزهار، كانت تسطع مجموعة من التحف الذهبية والفضية النفيسة، كلها من صنع فناني فلورنسا المشاهير لأسرة دي مديتشي العريقة. وكانت هذه التحف الغالية قد أخفيت خلال الحرب الداخلية ثم أظهرت بعدها. وقد حفر على كل قطعة منها الحرفان الأولان من اسم المركيزة!

على أنه كان هناك على المائدة أيضاً ما هو أروع وأبدع من هذه التحف التاريخية الثمينة، فقد أمر فوكيه بأن توضع أمام المركيزة مباشرة، مجموعة أخرى من الجواهر النادرة كلها من الماس والزمرد والعقيق، وقد أبدعت تنسيقها أيدي الفنانين في آسيا الصغرى، كما كانت هناك حلي من الذهب بين أساور وخواتم وغيرها.

وشحب وجه المركيزة حين فوجئت بهذا المنظر، فقد عرفت جواهرها وحليها وتحفها من أول نظرة، وأدهشها أن تجدها أمامها بعد أن باعتها منذ حين!

وساد الصمت فترة بدا الجميع خلالها وقد تملكهم التأثر ثم قال فوكيه:

- أيها السادة: إن كل هذه الجواهر والحلي والتحف كانت ملكا مدام دي بليير، ولكنها لما وجدت صديقاً لها في ضائقة باعتها كلها إلى تاجر الجواهر، إن هذا العمل النبيل من صديقة وفيه مخلصة لجدير بأن يقدره رجال أوفياء مثلكم. وما أسعد الرجل الذي تحبه هذه السيدة مثل هذا الحب، هيا بنا نشرب نخب ندام دي بليير!

فهتف الجميع تحية لها، على حين قبعت هي في كرسيها وقد ألجمها التأثر. ثم قال المسيو بليسون:

- لنشرب أيضاً نخب الرجل الذي ألهم مدام دي بليير هذا المسلك النبيل، لأن هذا الرجل يستحق أن يحب مثل هذا الحب!

وجاء دور المركيزة فوقفت شاحبة الوجه وقد ارتسمت على ثغرها ابتسامة باهتة. ثم أمسكت كأسها رفعتها، فلمست أصابعها أصابع فوكيه وتلاقت نظرتها المفعمة حباً بنظرة عاشقها الولهان!

واستمر العشاء الذي بدأ هكذا وكأنه وليمة عرس أو عيد، وكان الجميع في أوج سرورهم، يقولون النكات عفوا ودون إجهاد فكر. ونسى لافونتين نبيذ جوزى الذي يؤثره، وترك فانيل يسقيه من نبيذ الرون. وبلغ من رقة الأب فوكيه ووداعته أن قال له جورفيل: "حذار أيها الأب لا تكن كثير الرقة هكذا حتى لا تؤكل!"

ومضت الساعات في حبور حتى إن الوزير، على غير عادته، لم يغادر المائدة قبل تناول الحلوى. وكان يبتسم لأصدقائه وقد انتشى قلبه بفرط سروره قبل أن ينتشي رأسه بما شرب من خمر!. وفجأة سمع الحاضرون صوت عربة في فناء الدار، ومن عجب أن صوتها كان واضحاً برغم الضجة السائدة. فأصغى فوكيه بانتباه، ثم أخذ ينظؤ إلى الردهة. وخيل إليه أنه يسمع وقع خطى، وأن هذه الخطى كأنما تقع على قلبه. وسرعان ما جاء الحاجب يقول: "السيد دربلاي أسقف فان". ثم لدا أراميس بالباب يوجهه الجاد ونظرته الصارمة، فكاد فوكيه يهتف مهللا برؤية هذا الصديق الآخر الذي وصل إلى بيته، ولكن أراميس لم يتح له فرصة لذلك، إذ بقي واقفاً بالباب، وفي نظراته إليه ما يوحي بأن لديه ما يحب أن يتحدث فيه معه على حدة!

وقال له فوكيه: "ماذا وقوفك يا أراميس؟. ألا تتناول معنا الحلوى؟. أم أنت لا يروقك مثل هذا الصخب الذي نحن فيه؟"

فقال له أراميس باحترام: "يا صاحب الفخامة. إني أعتذر إذ كدرت صفو اجتماعكم السار، وأرجو أن تمنحني دقائق نتحدث خلالها على حدة في شأن بعض الأعمال!"

استرعت كلمة (الأعمال) انتباه (الأبيقوريين) الحاضرين، ثم نهض فوكيه وهو يقول للأسقف:

- الأعمال قبل كل شيء يا مسيو دربلاي. إن مما يسعدنا ألا تأتي الأعمال في ختام الوليمة!

ثم أمسك يد مدام بليير وقادها إلى غرفة مجاورة لغرفة المائدة وهي تنظر إليه بقلق، وتركها هناك مع أعقل أصحابه .. ثم تأبط ذراع أراميس وقاده إلى غرفة المكتب. وما كاد أراميس يدخل هذه الغرفة حتى ترك سمت الاحترام وجلس على كرسي وقال له:

- أتدري من الذي قابلته هذا المساء؟

فقال: "يا فارسي العزيز: إنك كلما بدأت الحديث على هذا النحو أيقنت أنا بأني سأسمع أنباء لا تسر!"

فقال أراميس: "لكنك على خطأ في هذه المرة يا صديقي العزيز!"

فقال فوكيه: "هذا ما أرجوه، والآن دع عنك التشويق والمقدمات ولندخل في الموضوع!"

فقال أراميس: "حسناً!. لقد قابلت مدام دي شيفريز!"

- أتعني الدوقة العجوز؟. ربما تكون قد قابلت شبحها؟!

- كلا!. بل التي قابلتها هي تلك الذئبة بعينها وأنيابها ومخالبها!

- حسناً! أي أذى لي وجدتها تفكر فيه؟

- أنها تريد أن تحصل منك على بعض المال!

- وبأية حجة يا ترى؟

- إنها لا تعوزها الحجج قط!. ويبدو أن لديها خطابات من المسيو دي مازارين!

- لا يدهشني ذلك فإن ذلك القس كان ذا مغامرات!

- أجل ولكن هذه الخطابات لا علاقة لها مطلقاً بغرامياته. بل هي خاصة بمسائل مالية!

فقال فوكيه: "هذا يجعلها أقل تسلية!"

وهنا سأله أراميس: "ألم تدرك بعد ما أرمي إليه؟". فلما أجاب بالنفي، عاد صديقه الأسقف فسأله:

- ألم تسمع قط برفع دعوى لاختلاس أموال من خزانة الدولة؟

فأجاب فوكيه: "أجل!. سمعت بمثل ذلك مئات المرات بل آلافها. بل أنا منذ شغلت بالأمور العامة لا أكاد أسمع غير ذلك. إن المسألة غاية في البساطة، فكما يتهمك الناس بالفجور وأنت أسقف، أو كما يتهمونك بالجبين وأنت فارس، كذلك هم يتهمون بالاختلاس كل وزراء المالية"

فقال أراميس: "إنك لم تعلم بعد أن الدوقة تؤكد أن المسيو مازارين أشار في خطاباته إلى مسائل معينة، فهو مثلاً قد ذكر مبلغ ثلاثة عشر مليون فرنك ربما يصعب تحديد الوجه الذي أنفقت فيه!"

فردد فوكيه: "ثلاثة عشر مليوناً؟!"، ثم استلقى في كرسيه وأخذ يفكر لعله يتذكر قصة هذا المبلغ، ثم عاد يقول:

- ثلاثة عشر مليوناً؟!. إني أحاول أن أتذكر هذا المبلغ ضمن المبالغ التي اتهمت باختلاسها!

فقال أراميس: "لا تسخر يا سيدي العزيز، فإن الأمر جد .. إن الدوقة تمتلك بضعة خطابات لها خطرها ولاشك. فقد أرادت أن تبيعني إياها لقاء خمسمائة ألف فرنك!"

وهنا أخذ فوكيه يضحك من كل قلبه، ثم قال: "إنها تغالي كثيراً في تقدير قيمة فريتها!. والآن فقط أدركت ماذا تعنيه تلك الذئبة. فهذه الثلاثة عشر مليون فرنك كان المرحوم الكاردينال مازارين قد ربحها من بيع أراض في (الفالتلين) لكنه حذفها من سجل الإيرادات وأرسلها إلى لأودعها باسمي، ثم جعلني أقدمها له لنفقات الحرب، وأعطاني إيصالاً بذلك!"

فاطمأن أراميس وقال: "حسنا!. إذن لم يبق شك في وجه إنفاقها، وحبذا لو كان لديك ذلك الإيصال" ونهض فوكيه في هدوء، ثم مشى خطوات حتى بلغ مكتبا من الآبنوس مرصعاً باللؤلؤ والذهب. ثم قال لأراميس:

- إنني أحب النظام في كل شيء، ولهذا لا أتعب في البحث عن شيء. وفي استطاعتي مثلاً أن أؤكد لك أن إيصال مازارين محفوظ بالدرج الثالث من هذا المكتب تحت حرف (م). وما على إلا أن أفتح الدرج فأضع يدي على الورقة التي أريدها!

ومد يده مطمئناً وتحسس رزمة من الورق مكدسة في الدرج الذي فتحه ثم استطرد يقول: "أكثر من ذلك إني أتذكر تلك الورقة كما لو كنت أراها الآن. إنها سميكة ذات أطراف ذهبية وقد سقطت من قلم مازارين بقعة حبر على رقم التاريخ!"

ومضى الوزير يبحث في الدرج، ثم قال فجأة: "هذا أمر عجيب!. يخيل لي أن تلك الورقة تعرف أننا نتحدث عنها ونريدها، ولهذا تتدلل علينا!"

فقال أراميس: "ربما تكون ذاكرتك قد خانتك هذه المرة، انظر في درج آخر!"

وتناول فوكيه رزمة من الورق وأخذ يقلبها ثم شحب وجهه، فقال له أراميس: "لا تقصر بحثك على هذا الدرج بل انظر في الأدراج الأخرى"

فقال: "لا فائدة من ذلك!. إنني على يقين من أنها كانت هنا. ولا أحد سواي يرتب المستندات التي من هذا القبيل. ولا أحد غيري يفتح هذا الدرج وأنا وحدي الذي أعرف هذا السر"

فقال أراميس وهو بادي القلق: "ماذا تستنتج إذن؟"

قال: "إن إيصال مازارين قد سرق مني. وهكذا تبدو مدام دي شيفريز على حق يا عزيزي!. فما دام ذلك الإيصال غير موجود، فكيف أدفع عن نفسي تهمة اختلاس الثلاثة عشر مليون فرنك من خزانة الدولة؟ .. أنني الآن لص محتال يا عزيري!"

فقال له أراميس: "كلا .. كلا!. لا تثير أعصابك هكذا، فليس ثمة ما يبرر ذلك"

قال: "بل هناك كل مبرر!. ومن السهل أن تتخذ الإجراءات القانونية معي، ثم يصدر الحكم بإدانتي، وهكذا يزج بصديقك الوزير في السجن كما حدث لسمبلانساي وماريني!"

فابتسم أراميس وقال: "ليس بهذه السرعة!"

فسأله فوكيه: "ولم لا؟. لم لا يجري الأمر أسرع من ذلك؟ .. وماذا تحسب مدام شيفريز قد فعلت بتلك الخطابات بعد أن رفضت أنت شراءها؟!"

فقال: "أحسبها ذهبت إلى المسيو كولبير، بل أنا متأكد من ذلك، لأني تبعتها فرأيتها بعد أن دخلت بيتها سرعان ما غادرته من باب خلفي وذهبت مباشرة إلى منزل وكيل المالية!"

فتمتم الوزير قائلاً: "إذن ستتخذ الإجراءات القانونية ضدي، وستتبعها الفضيحة والعار .. وستنزل بي الصاعقة دون رحمة!"

وكان يقول ذلك وهو قابع في مقعده يرتعد، على مقربة من الأدراج المفتوحة. فدنا منه أراميس ووضع يده على كتفه وقال له بلهجة عطف:

- لا تنس أن مركز المسيو فوكيه لا يمكن أن يقارن بمركز سمبلانساي أو ماريني. أعني أن جميع الإجراءات القانونية في مثل هذه الحالة لابد أن تبدأ في البرلمان، من جانب النائب العام، وأنت النائب العام!

فصاح فوكيه صيحة ألم وضرب المنضدة بقبضة يده ثم قال: "إني لم أعد النائب العام!"

ثم قص على أراميس موجزاً لما حدث من مدام بليير إذ باعت جواهرها وتحفها وكيف رأى أن يرجع إليها هذه الجواهر والتحف. فكاد أراميس يصعق بهذه المفاجأة لكنه تمالك نفسه وقال له:

- حقاً. هذا مسلك نبيل. ولكن كم كلفك ذلك؟

- كلفني المليون والأربعمائة ألف فرنك، ثمن المنصب!

فقال أراميس: "لا تزال أمامنا وسيلة واحدة آمل ألا ترفض استخدمها"

- لن أرفضها إذا كانت وسيلة شريفة!

- إني أعني رجوع المشتري في صفقته. من هو ذلك الرجل؟

- إنه مستشار في البرلمان، اسمه فانيل!

فتغير لون وجهه إذ سمع ذلك الاسم وقال: "فانيل زوج مرجريت .. خليلتك السابقة؟"

فقال فوكيه: "أجل يا عزيزي!. إنها تتوق لأن تصبح زوجة النائب العام، وهكذا ترى أني مدين لفانيل المسكين بهذه الفرصة التي أتاحها لي كي أحقق هذا الأمل لزوجته!"

فدنا أراميس من فوكيه وقال له: "أتعرف من هو عشيق مدام فانيل الجديد؟"

فقال متعجباً: "ألها عشيق جديد؟. لم أكن أعلم ذلك!"

قال: "إن اسمه (جان بابست كولبير) .. وهو وكيل المالية. وقد زارته اليوم مدام دي شيفريز في منزله بشارع كرواديه بني شان، لتساومه على شراء خطابات مازارين منها!"

ومر فوكيه بيده على جبينه وقال: "رباه!"

فسأله أراميس: "ها أنت ذا بدأت تدرك الأمر .. فهل لا تزال مصرا على التوقيع على العقد؟!"

فأجابه فوكيه قائلاً: "نعم، بدأت أدرك أنني ضائع لا محالة!. ولكني مع هذا لا أجد بدا من المحافظة على كلمتي!"

فتمتم أراميس قائلاً: "إن الناس الذين جبلوا على العناد يعالجون الأمور بشكل لا يسعنا معه إلا أن نعجب بهم!"

وفي هذه اللحظة دقت ساعة الحائط الموشاة بالصدف والمحمولة على عمد من الذهب، ست دقات، وسمع في اللحظة نفسها صوت باب يفتح في الردهة، وجاء جورفيل يستأذن للمسيو فانيل في الدخول، فأدار فوكيه وجهه كيلا يلتقي نظره مع نظر أراميس، ثم أذن في دخول فانيل.

* * *

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا