(19)
كل الوقت
انشغلت بدراستي. كانت موادي صعبة ذلك الفصل وتحتاج للكثير من الجهد. وكنت أحضر بحثًا مهمًا في أحدها تحت إشراف الدكتور خالد،
انشغالي في دراستي جعلني ابتعد قليلًا عن مشكلتي مع حمد. مر شهر مارس دون أحداث تذكر، وتلاه إبريل.
لم يعد حمد يحدثني عن موضوع زواجنا أبدًا ولم أكن أعرف شيئًا عن وضع أمه،
لا أعرف ما الذي يدور في بيتهم ولا أعرف إن كانت أمه مصرة على التمسك بموقفها الرافض لي أم لا،
كان الأمر برمته يزعجني لكنني قررت عدم الخوض فيه، كنت مجروحة جدًا. وبنفس الوقت عاجزة عن الانسحاب من هذه العلاقة التي أصبحت أدمنها،
كان حمد أهم شخص في حياتي ويومي كله مرتبط بيومه، يصحيني صوته كل صباح، حيث إنه يذهب إلى عمله قبلي،
أغير ملابسي وأكلمه طوال طريقي لمنزل شريفة التي أقلها كل يوم، خلال محاضراتي يبعث لي برسائله الحانية. وبعد أن أقل شريفة لمنزلها أتصل به، ويكون عادة في طريقه إلى المنزل، نلتقي أحيانًا عند منزلينا، نتبادل النظرات والابتسامات ويذهب كل منا في طريقه،
عندما أخرج لأي مكان يأتي حمد ليراني من بعيد، كان يلاحقني أينما ذهبت بلا كلل أو ملل،
يحب أن يراني، يقول إنه لا يشبع من تأملي،
وفي الليل أنام على صوته، أغفو أحيانًا قبله فاستيقظ لأجده يستمع لأنفاسي النائمة،
أتركه لأنام لأصحو بعدها على صوته،
في العطل أوقظه أنا من النوم، أتعمد أن أتراكه لينام فدوامه طويل ومرهق. يفرح بي عندما اتصل. يجيبني بصوته النائم وأكاد ألمح ابتسامته وهو يقول: صباح الخير حبيبتي.
لم تفارق دبلته أصبعي منذ ألبسني إياها. لاحظت أمي تعلقي بذلك الخاتم، تدخلت دلال المنقذة وقالت لترد عني: تعرفين كم تحب شريفة! رغم أن نبوءتها لم تتحقق. ولا تزال بسمة عالة علينا!
أضحك على كلام دلال التي تصب غضبها على أم حمد كلما سنحت لها الفرصة،
وأم حمد لم تعد تزور جدتي بتاتًا، لاحظت جدتي انقطاعها وعلقت عليه دون أن تجد لهذا الانقطاع سببًا واضحًا.
انتهى إبريل. ودخل شهر مايو. وتحددت مواعيد الامتحانات في الشهر القادم، سلمت بحثي المهم للدكتور خالد وتحدد موعد تقديمي لبحثي أمام الطلبة في التاسع من مايو،
وارتديت بدلة أنيقة يومها وربطت شعري وراء ظهري ووقفت أمام الطلبة لأقدم بحثي وأشرحه والدكتور خالد يسجل ملاحظاته وقد جلس آخر القاعة وترك لي مكانه،
لم أرتبك رغم أنني كنت خائفة، لكنني انطلقت أتحدث بوضوح وثقة أمام الجميع،
وكلما لمحت نظرات الدكتور خالد المشجعة لي كنت أزداد ثقة، شرحت بحثي بالكامل ثم تلقيت أسئلة بعض الطلبة، انتهيت أخيرًا وقد أحسست أنني أستاذة حقيقية، لم أكن أعرف أنني أمتلك تلك القدرة على توصيل المعلومة وأن لي أسلوبًا شيقًا في الشرح كما قال لي الدكتور خالد الذي طلبني في مكتبه بعد المحاضرة،
جلست أمامه يومها وقد فرحت لثنائه الشديد على بحثي وعلى تقديمي الرائع كما وصفه،
قال لي: بسمة. ألا تحبين أن تكوني أستاذة في الجامعة؟
فوجئت بكلامه، فأردف: فكري بالأمر جيدًا، لديك فرصة للعمل كمعيدة بعد التخرج فأنت متفوقة، ودرجاتك عالية، ولديك شخصية لطيفة، واليوم اكتشفت أنك محاضرة جيدة، بل رائعة، فكري بالموضوع وإن أحببت الانخراط في هذا المجال سوف أساعدك وأعمل على تدريبك منذ الآن. ما رأيك؟
راقت لي فكرة العمل كمعيدة في الجامعة كثيرًا، فأنا أعشق جو الجامعة، ولطالما تمنيت أن لا أتخرج منها من شدة ولعي بها، وكنت أحب التمويل الذي تخصصت فيه، وتروق لي فكرة تدريسه ومن يدري قد أحصل على الماجستير والدكتوراه لاحقًا وأصبح دكتورة مميزة مثل الدكتور خالد.
قرأ الدكتور خالد تعابير وجهي فقال مشجعًا: أرى أن الفكرة أعجبتك.؟
قلت: كثيرًا يا دكتور. لا شيء أحب لي من أن أكون معيدة في الجامعة، فعلًا أحب ذلك.
قال: حسنًا يا معيدة المستقبل، سأهتم بالأمر وابتداء من الفصل القادم سأنسق مع أحد المعيدين لتحضري معه محاضراته، أريدك أن تتعلمي منه. وسأعمل على تأهيلك لتنضمي إلى أسرة التدريس بعد تخرجك إن شاء الله.
قلت والسعادة تغمرني: كم أنا سعيدة يا دكتور. شكرًا لك.
قال مبتسمًا: لا شكر على واجب، أنت مكسب للجامعة، وأنا متأكد أنك في يوم ما ستكونين زميلة لي، ودكتورة ناجحة ومحبوبة أيضًا.
عدت إلى البيت يومها وأنا أكاد أطير من الفرح، اتصلت بحمد فلم يجب اتصالي، وأرسل لي رسالة هاتفية أنه في اجتماع،
أخبرت شريفة عن حديثي مع الدكتور خالد وفرحت كثيرًا من أجلي، أوصلتها إلى بيتها، وعدت إلى البيت لأجد أجمل مفاجأة في انتظاري.
دخلت إلى البهو فوجدت أمي تجلس بانتظاري. وبجوارها دلال وملامحها توحي بفرح عظيم، وكلتاهما تحدقان بي.
قلت على الفور: ما بكما؟
قالت أمي: لقد اتصلت جارتنا عالية. وطلبت يدك لولدها حمد.
***
(20)
21 مايو
تحددت خطوبتي الرسمية في 21 مايو،
وعرفت كل عائلتي أنني أحب حمد، وأريده، لم ترفض أسرتي ارتباطنا مثلما فعلت أسرته- وكنت الوحيدة التي أعرف ذلك الرفض- لكنهم ترددوا بعض الشيء، إن قرار الزواج قرار صعب للغاية. لكنني حسمته بإصراري على الموافقة. وذلك الإصرار فضح سر حبي أنا وحمد،
اتصلت يومها بحمد ضاحكة قال لي: كم أنا سعيد لأنك تضحكين ما رأيك بالمفاجأة؟
هتفت به: أجمل مفاجأة.
قال: بسمة.
قلت: يا بعده.
فقال: ستصبحين خطيبتي أمام كل الناس وبعدها ستكونين زوجتي، لا أريد من هذه الدنيا أكثر من ذلك.
ضحكت وأنا أقول: لكن أنا أريد.
قال: وماذا تريدين أكثر؟
قلت: أريد ستة أولاد. كلهم يشبهونك.
ضحك وقال: لكنكِ أجمل مني. سأوافق على إنجاب ستة أولاد بشرط أن يكونوا يشبهونكِ أنتِ.
قلت: لا لا. أريدهم يشبهونك أنت.
نادتني ماما نشمية لتعرف رأيي بالزواج من حمد، وبمجرد جلوسي قرأت سري في ملامحي، قالت لي: هكذا إذن، تريدين الزواج من حمد؟
أومأت برأسي خجلة منها، فمهما كنت قوية، كانت لجدتي هيبة لا تضاهي.
قالت: أتمنى أن يكون هذا الحمد يستحقك.
قلت بخجل: صدقيني يا جدتي أن اختياري في محله.
قالت: واثقة أنا برجاحة عقلكِ. مبروك يا ابنتي.
وتهلل وجهي بالفرح، فكلمة مبروك من جدتي تعني أن الأمر قد تم.
فبعد كلمتها لا يمكن لأحد الاعتراض، حتى عمي ماجد الذي يعتبر نفسه مكان أبي لم يستطيع أن يبدي رأيه.
فعندما أبلغته جدتي الخبر لم تترك له المجال ليقول أي شيء. كانت تبلغه بموضوع حسم الرأي فيه. ولم يكن لرأيه أمام رأيها أي أهمية.
وتحدد موعد خطبتي الرسمية في الواحد والعشرين من مايو،
حددت جدتي التاريخ ولم نعارضها. وبدأت تجهيزات الخطبة، أخبرتنا أم حمد أنها ستأتي بصحبة ابنتها طبعًا وكنتها آلاء وخالات حمد وعماته وعددهن يفوق العشرين معًا.
في حين دعت أمي عماتي. ولم يكن لي خالات. وستتواجد أختاي وجدتي وعمتي حصة التي وعدتنا بالحضور من البحرين، ودعوت صديقة عمري الغالية شريفة أيضًا.
كان عدد الحضور يفوق الثلاثين شخصًا من النساء، في حين تقرر أن تكون خطبة الرجال في منزل عمي ماجد.
بدأت التحضيرات للمناسبة الأسعد في حياتي، وانشغلت أمي باختيار أصناف العشاء وحلويات التقديم وغيرها من التفاصيل،
في حين انشغلت أنا بالبحث عن ثوب مناسب. تركت أمي مهمة اختيار الثوب لي ولأختي دلال على أن لا نشتريه قبل أن نأتي معنا لرؤيته، وبدأت مهمة البحث عن الثوب المطلوب في الأسواق وجاءت معنا شريفة التي لا يمكنني الاستغناء عنها وعن مساعدتها،
وجدت أختي لنفسها ثوبًا جميلًا خلال جولتنا الأولى في التسوق، واتصلت بي تهاني لتطمئن إن كنت أريدها أن تأتي معي.
فأخبرتها أننا على ما يرام. كنت أعرف مدى انشغالها مع أطفالك لذلك لم أحب إزعاجها. كما أنني أعرف أنه من الصعب اختيار ثوب يرضي جميع الأذواق وبالتالي كلما كان أقل عددًا سيكون الاختيار أسهل.
اشترت شريفة لنفسها ثوبًا أنيقًا بسيطًا خلال جولتنا الثانية للتسوق، وبقيت أنا أبحث دون أن أجد ما يعجبني،
اقترب الموعد وبدأت أقلق. ماذا سأرتدي؟
خرجت يوم العطلة الأسبوعية باكرًا وحدي وأخذت أبحث في أحد المجمعات الراقية، كان ذلك الصباح هادئًا والمجمع يكاد يخلو من الناس،
دخلت أحد المحلات ووجدت الثوب المنشود بين يدي البائعة وهي تهم بتعليقه في مدخل المحل،
تعلقت عيناي بالثوب السماوي البهي، فقالت البائعة وهي تبتسم: لقد وصل هذا الثوب من ايطاليا للتو. وهو قطعة واحدة، أعتقد أنه سيكون مقاسك.
دخلت غرفة القياس على الفور، وناديت البائعة كي تساعدني على إغلاق الثوب من الخلف. ووقفت أنظر لنفسي. كان الثوب قصيرًا يصل إلى أسفل ركبتي بأكمام مطرزة باللون الفضي وكذلك كانت حاشيته مطرزة. وشريط فضي عريض يحيط بالخصر، كان الثوب تحفة فنية. وهذا أقل ما يقال بحقه،
وقعت في حبه على الفور، وبان الرضا على وجهي، قررت أن اشتريه، وتغاضيت عن طلب أمي بأن ترى ما اختاره قبل أن أشتريه.
وخرجت من المحل بعد أن دفعت ثمنه وأن أحمله بين يدي برفق وابتسامتي تعلو وجهي،
كان الثوب غاليًا جدًا، لكنه يستحق ثمنه الذي لم أفاصل فيه البائعة من شدة إعجابي به، وللمرة الثانية لم يكن يحتاج إلى أية إصلاحات.
في محل مجاور وجدت في النافذة حذاءً فضيًا مرصًعا بالكريستال فدخلت لأجربه، واشتريته أيضًا على الفور، وهكذا اشتريت كل ما احتاجه وحدي وبجولة واحدة، كم ستشعر دلال بالإحباط لأنها لم تأتِ معي هذا الصباح.
عدت إلى البيت قرابة الظهر ووجدت أمي تتناول إفطارها مع دلال التي صرخت: خرجت وحدكِ؟ اشتريت ثوبًا؟
قالت أمي بانفعال: أردت أن أراه أولًا.
ضحكت وأنا أقول: لن أريكما إياه. سيكون مفاجأة للجميع.
سألتني أمي بقلق: ما هو لونه؟ لا تقولي إنه أبيض؟ الأفضل أن تتركي الأبيض للعرس.
قلت لها مطمئنة: لا تقلقي. ليس أبيض. إنه مفاجأة.
صعدت إلى غرفتي وكما توقعت صعدت دلال خلفي وهي لا تطيق صبرًا لترى الثوب، لكنني أصررت على موقفي. سيكون الثوب مفاجأة للجميع، وضعته في دولابي الكبير وأقفلت عليه وأخفيت المفتاح في حقيبة يدي،
اتصلت بحمد النائم، وقلت: صباح الخير. خطيبتك وجدت ثوب الخطوبة واشترته وأخفته في دولابها أيضًا.
ضحك وهو يقول بصوته النائم: ومتى قامت خطيبتي بكل هذا؟ كم الساعة الآن؟ أم أنك ذهبت للسوق خلال الليل؟
قلت وأنا أكاد أقفز فرحًا: ذهبت صباحًا، وحدي، واشتريته فور رؤيتي له، كان بين يدي البائعة وقد وصل للتو. و.
قال حمد: لابد أن دلال اغتاظت لأنها لم تكن معك.
ضحكت قائلة: كادت تفقد وعيها عندما رأتني أدخل وأنا أحمل الكيس.
حادثته لساعة. حديثًا جميلًا. رائعًا. حنونًا، مفعمًا بالأمل وبالأيام الجميلة القادمة والتي ستشهد ارتباطنا أمام كل الناس،
قال حمد: على فكرة، لقد قررت أن أقدم لك سوارًا في الخطبة.
قلت حائرة: عادة يقدم العريس دبلة للعروس في الخطوبة؟
قال: لكن دبلتي الآن بين أصابعكِ، أخبري أمك أنني سأقدم لكِ دبلة فخمة في العرس، ما رأيكِ؟
معه حق، فالدبلة التي قدمها لي غالية جدًا عندي. ولا أريد استبدالها بأي دبلة أخرى، سيكون السوار فكرة جيدة وفي العرس لا بأس أن يقدم لي دبلة أخرى مع الشبكة.
قلت بحب: معك حق، حمد. أنا أحبك. كثيرًا.
قال بحب مماثل: وأنا أحبكِ أكثر.
***
(21)
سوار
وجاء اليوم الموعود، بدت أمي جميلة وأنيقة لأقصى حد والسعادة تلمع على وجهها،
وبدت دلال رائعة وكذلك كانت تهاني. شعرت يومها أن كل ركن في بيتنا يلمع، والبيت كله في حالة حركة منذ الصباح،
انتثرت الورود والشموع في كل مكان. ورود كلها بيضاء كقلبي،
وصفت الحلوى في أوان فضية فاخرة وزينت طاولتنا الكبيرة بالورود وأصناف العشاء الفاخر الذي طلبته أمي على ذوقها جاهزة للضيوف المهمين،
حرقت أمي أجود أنواع البخور، ووقفت إحدى الخادمات تحمل مرشًا لماء الورد لتستقبل الحضور الذين بدأوا بالتوافد قرابة الثامنة، اتصلت شريفة التي داهمها المرض فجأة واعتذرت عن الحضور مما أحزنني.
وصلت عمتي حصة ذلك الصباح، وأصرت على أن تذهب معي إلى الصالون، وأسعدني وجودها بقربي خاصة وأن مرحها قلل من توتري في مناسبة كهذه وقد عوض وجودها غياب شريفة بعض الشيء.
عدنا إلى البيت معًا في حين ذهبت أمي ودلال إلى صالون آخر، ذهبت إلى غرفتي مباشرة وأغلقت الباب، وقد قررت أن يراني الجميع عندما أنزل للضيوف.
أرسل إلى حمد رسالة قرابة الثامنة والنصف بأنه في الطريق لمنزل عمي. كتب لي: اليوم أخبر العالم أنني لا أريد سوى بسمة، ولا أحب سوى بسمة ولن تحمل اسمي سوى بسمة.
ابتسمت وأنا أكتب له: يا بعده.
وبدأت استعد،
وصلت أم حمد بصحبة هبة وآلاء والأخريات من نساء عائلتهن، ورحبت بهن أمي على نحو لائق،
توسطت جدتي نشمية المجلس وقد ارتدت بدلة سوداء غاية في الأناقة، بدت وجيهة جدًا. وعميدة عظيمة لعائلة حقيقية.
في التاسعة والنصف طرقت تهاني باب غرفتي وهي تقول: لقد حان الوقت. دعيني أدخل لأراكِ.
وأخيرًا فتحت الباب. خطت تهاني للداخل وصرخت: الله. كل هذا الجمال يا بسمة. تبارك الله أحسن الخالقين.
كنت جميلة. كما لم أكن في حياتي. كان الحب زينتي والعشق تاجي. وبثوبي السماوي بدوت كملاك نزل من السماء.
بدوت رقيقة بشعري المصفف بعناية والذي تركته متماوجًا خلف ظهري. وعيناي الواسعتان يظللهما ظل أزرق سماوي كلون ثوبي ورموشي السوداء الطويلة كسهام تخترق القلوب على خط عريض من الكحل الأسود مما يبرز اتساع عيني. وشفتاي المصبوغتان بلون الورد وكذلك كانت أظافري.
ثبت دبوسًا ماسيًا ضخمًا على صدري وارتديت معه أقراطًا ماسية دائرية كانت هدية عزيزة من أبي،
تمنيت لو كان أبي حيًا ليراني عروسًا وليخطبني حبيبي منه، دعوت له بالرحمة وأحسست بشكل ما أنه معي وسعيد لأجلي.
بدأت تهاني تقرأ علي المعوذات وهي تقول: لم أكن أظنكِ جميلة إلى هذا الحد.
قلت ضاحكة: كنتِ ترينني بشعة؟
قالت بحرارة: أبدًا، أنت دائمًا جميلة، لكنك اليوم جميلة جدًا جدًا. أتمنى لك السعادة يا أختي.
قلت لها بحب: شكرًا لكِ.
ونزلت إلى الضيوف. دخلت صالة بيتنا الفخمة. ووقفت النساء لدخولي، كانت هبة قد تقدمت نحوي وقبلتني وبدأت تعرفني على نساء العائلة. رأيت انبهارهن في عيونهن فاطمئن قلبي. عندما اقتربت من أم حمد قالت لي بفرح: أهلًا بعروس ابني.
وقبلتني بحرارة. بدت الأمور طيبة وعيون الموجودات تلتهمني التهامًا.
جلست بجوار جدتي نشمية التي بدت جامدة الملامح وساد بعض الصمت قبل أن تتحدث خالة حمد الأكبر سنًا قائلة: باسم الله وعلى سنة الله ورسوله أتينا اليوم لنطلب يد ابنتكم بسمة لولدنا حمد. ولنا كل الشرف بمصاهرة عائلتكم الكريمة عسى أن يجد طلبنا هذا القبول لديكم.
ردت جدتي نشمية قائلة: بسمة أصبحت ابنتكم وحمد أصبح ولدنا. وعسى أن تكون هذه المصاهرة قدم خير لعائلتنا وعائلتكم جمعنا الله وإياكم على خير وسعة.
أطلقت إحدى عمات حمد زغرودة وهي تقول: ألف الصلاة والسلام عليك يا حبيب الله محمد،
زغردت النساء وتقدمت أم حمد مني وهي تحمل علبة خشبية فخمة نقش عليها اسمي بجوار اسم حمد،
فتحت أمه العلبة وبرق فيها سوار ماسي فخم وعريض ألبسته لي بنفسها في يدي اليمنى،
التقطت المصورة التي أحضرتها لتوثق أجمل لحظات حياتي الصور، وبدأ على الفور تقديم القهوة العربية مع الحلويات الفاخرة التي اختارتها أمي لهذه المناسبة السعيدة،
أحسست بالسوار عزيزًا علي وكأنه قطعة مني. واندمجت أسرتي مع أسرة حمد سريعًا. جميل أن يجتمع كل هؤلاء الناس من أجلنا أنا وحمد،
أما عمتي حصة فقد أشاعت جوًا مرحًا كعادتها وأخذت تحدث أهل حمد عن حياتها في البحرين العزيزة.
تم تقديم العشاء وانتقلت النساء إلى القاعة الأخرى، وبقيت بجوار جدتي التي همست لي: ألف مبروك يا ابنتي أتمنى لك كل السعادة.
انحنيت وقبلت يدها وأنا أقول: أطال الله في عمرك يا جدتي وأدامك لنا.
ربتت جدتي على رأسي بحب وقد أحسست لحظتها كم أحبها وكم تحبني هي أيضًا.
بدأت النساء في المغادرة وقرابة الحادية عشرة مساءً قالت عمتي حصة وقد بقي المقربون فقط من العائلتين: أين هو حمد؟ نريد أن نراه.
بتردد قالت أمه: لم نحسب حسابنا أنه سيأتي.
قالت عمتي: وهل هناك خطبة دون حضور الخطيب. اتصلوا به ليأتي، لا يوجد أحد غريب بيننا.
ترددت أمه، ففي عائلتهم لم يكن الخاطب يحضر الخطوبة حسب عاداتهم،
تدخلت هبة وهي تقول لتنقذ الموقف المتوتر: سأتصل به، جميل أن يأتي ليرى خطيبته وهي بهذا الجمال، سيفوته الكثير إن لم يحضر.
ضحكت عمتي وقالت: هذا عين العقل!
اتصلت هبة بحمد الذي رحب بالفكرة وخلال نصف ساعة وصل حمد ودخل بعد أن فتحت له هبة الباب وبجوارها أختي دلال،
زغردت عمتي حصة لدخوله، تقدم حمد وقبل رأس جدتي احترامًا لها. وقبل رأس أمه،
ثم نظر نحوي واتسعت ابتسامته،
جلس حمد بجواري واحمر وجهي خجلًا. التقطت المصورة لنا عدة صور، قالت نهائي وهي تشد غنى نحو حمد: هذه ابنتي.
مسح حمد على شعر غنى التي يعرفها، ولحسن الحظ لم تذكر غنى شيئًا عن رؤيتها لحمد سابقًا.
دخل أخي مجبل الذي عاد من منزل عمي وعرفته أمي بالموجودين، انشغل الجميع في الحديث وبادرت عمتي حصة أخيرًا بأن قالت: تعال يا حمد أنت وبسمة واجلسا معًا في الصالة المقابلة. هيا.
كانت الصالة المقابلة مفتوحة على الصالة الرئيسية بحيث يرانا الجميع، وبجوارها نافورة صغيرة تحيط بها بعض الزهور في أوان خزفية جميلة تهتم بها أمي وتحبها،
جلست مع حمد أخيرًا وحدنا. أطرقت برأسي بخجل.
فقال: بسمة. انظري إلي.
رفعت عيني إلى وجهه الحبيب وغصت في بحور عينيه.
قال ي: ما أروعكِ الليلة. كم أنا محظوظ بكِ.
لم استطع الرد عليه فقد كنت غارقة في خجلي.
قال: بعد شهر سيكون عيد ميلادي، ووقتها سأعقد قراني عليك، سأخبر الجميع بهذا والآن.
نطقت أخيرًا: بعد شهر؟
قال نعم: وقتها تكونين قد انتهيتِ من الامتحانات النهائية، نعقد قراننا ونسافر لشهر العسل خلال عطلة الصيف، لِم علينا الانتظار أكثر؟ أم أنك تريدين التعرف علي؟
ضحكت لكلامه فأنا أعرفه منذ أكثر من عام، وأحبه بجنون،
فقلت موافقة: كما تريد. أتمنى أن أجد فستانًا مناسبًا! تعبت وأنا أبحث عن الفساتين.
قال بجدية مضحكة: ثوبك هذا مناسب، ضعي عليه طرحة ونتزوج اليوم إن أردتِ.
ضحكت بشدة: أنت مجنون.
قال ضاحكًا: مجنون بكِ.
دمعت عيناي من شدة الضحك، فرفعت أصبعي لأمسح دمعة فرت من طرف عيني، فلمح السوار في معصمي،
قال حمد: ما رأيك بالسوار. لقد اخترته لكِ بنفسي.
قلت: صحيح؟ لم أعلم أنك ذهبت مع أمك لتختاره.
قال: هناك الكثير من الأمور التي أخفيها، فأنا أحب المفاجآت. أعدك بأن تمتلئ حياتنا بمفاجآت كثيرة.
ابتسمت لعينيه، ولم أكن أعرف وقتها أن حياتنا ستكون حقًا حافلة بالمفاجآت. والتي لم تكن سعيدة، بكل أسف.
***
(22)
21/6
قبل أن يخرج حمد من بيتنا بليلة خطوبتنا فجر مفاجأة عندما قال أمام الجميع: سنعقد قراننا إن شاء الله الشهر القادم، يوم 21/6 وهو يوم ميلادي، أظن أن الوقت سيكون كافيًا للتجهيز.
فغر الجميع أفواههم في حين وقفت أنا بجوار حمد مبتسمة، خرج حمد مع أهله، فقالت عمتي حصة بطريقة مسرحية مضحكة: إنه طويل. وأيضًا مجنون.
فضحكت، قالت أمي بقلق: أهو جاد؟
قلت: أظن إنه جاد!
قالت جدتي: سنتكلم في هذا الموضوع لاحقًا. كلنا متعبون الآن والوقت غير مناسب للكلام،
وقفت جدتي فسكت الجميع، أوصلتها تهاني إلى منزلها ثم عادت. تحدث الجميع عن أحداث الخطبة، وعلقوا عليها، بقيت أنا سارحة في سعادتي الكبيرة. وأخيرًا صعدت إلى غرفتي لأحادث حمد ولأنام على صوته ككل ليلة.
صحوت في اليوم التالي على اتصال من شريفة. كان صوتها مريضًا وقد أثر الزكام على نبراته،
بدت متحمسة لسماع تفاصيل ما حدث بالأمس وقد تملكها الحزن لعدم حضورها، قالت: يا للأسف. لم أحضر خطبتك ولم أرتد الثوب الذي اشتريته من أجلكِ.
قلت لها بصوتي المبحوح المتعب: لا تقلقي. سترتدينه قريبًا، سيكون عقد قراننا بعد شهر.
شهقت شريفة: هل أنتِ جادة! ؟
قلت: إنها إحدى مفاجآت حمد، فاتتك رؤية وجه أمي عندما قال لها ذلك.
صرخت شريفة: أخبريني ماذا احدث بالتفصيل.
وأخذت أخبرها بأحداث البارحة بالتفصيل الممل رغم تعبي وإرهاقي والصداع في رأسي،
امتدت مكالمتنا ساعة كاملة، حاولت أن أعود للنوم بعدها لكنني لم أستطع،
أغمضت عيني وأخذت أفكر، هل حقًا يكفي شهر واحد للتجهيز لزواجي؟ وأين ستقام حفلة العرس؟ وهل ستكون حفلة صغيرة في البيت أم حفلة كبيرة في فندق؟
تساؤلات كثيرة اجتاحت عقلي. والسؤال الأهم. أين سأسكن مع حمد بعد الزواج؟
لم نتطرق أبدًا لهذه التفاصيل. أحسست أن قرار زواجنا بهذه السرعة غير ممكن فأمامنا الكثير من الترتيبات والأمور التي يجب مناقشتها،
اتصل بي حمد ففتحت عيني على رقمه الظاهر على شاشة هاتفي النقال، فأجبته على الفور.
فوجئ بأنني مستيقظة فقد اعتدت على إيقاظه أيام العطل فأخبرته بمخاوفي. طمأنني بأن كل شيء سيكون كما أريد وأنه سيناقش مع أهله بخصوص سكننا والعرس.
قال في نهاية المكالمة: المهم أن تصبحي زوجتي. لا أريد الانتظار أكثر ومستعد لتحقيق كل ما تريدين.
في ذلك اليوم دارت مناقشات كثيرة بيني وبين أهلي وبحضور جدتي، قلت إن زواجي بعد شهر سيكون قرارًا جيدًا خاصة وأننا سنملك الوقت لنسافر خلال العطلة، كما أنني لست بحاجة للتعرف على حمد فأنا أعرفه جيدًا وأريده، وأوضحت أنني لا أريد حفلة عرس كبيرة ذات ترتيبات كثيرة، يكفي أن أقيم حفلة بالبيت وسأدعو المقربين من العائلتين بحيث لا يزيد عددهم عن مائتي مدعو وبيتنا يمكنه استيعاب هذا العدد، قالت أمي إنها تمنت لي عرسًا كبيرًا تدعو فيه كل معارفنا.
قالت: ولم العجلة هكذا؟ دعينا نحضر نفسنا خلال الصيف على أن يقام الزفاف في آخر العام، سيكون من الصعب عليكِ إيجاد فستان جاهز لك خلال هذه المدة القصيرة، دعينا نسافر في الصيف للتجهيز وتصميم فستان لائق لك، حمد رجل، والرجال لا يعرفون أهمية هذه الأمور.
كانت دلال حائرة فمرة تنحاز لي ومرة تنحاز لرأي أمي، أما عمتي حصة- والتي ستسافر هذا المساء- كانت تؤيدني. قالت إن الحفلة الكبيرة غير مهمة، فالمظاهر كلها لا تعني شيئًا بجوار رغبتي بالاقتران بالرجل الذي أحبه،
قالت بلكنتها المحببة: بماذا يفيدها العرس غير الحسد؟ نصف المدعوات يكدن يمتن حسدًا والنصف الآخر أتين للفرجة والنميمة، المهم أن تدعو من يحبها بصدق والعدد الذي ذكرته بسمة كاف ومناسب وستكون حفلة رائعة وستجد ثوبًا بسهولة، ما حاجتها لثوب فخم مادام العرس في البيت؟ ستجد ما يناسبها كما وجدت فستان الخطبة الرائع بالأمس.
بدت مناقشاتنا لن تنتهي، سألتني أمي عن محل سكني معه بعد الزواج فقلت لها إن حمد سيخبرني اليوم بعد أن يعرف رأي أمه، كنت أعرف أن أخاه فواز يعيش مع زوجته في بيتهم. ولم يكن من المحتمل أن أعيش أنا أيضًا معهم. وهذا ما قلته لأمي.
وبعد كلام كثير. واختلاف كثير. نطقت جدتي نشمية لتقول الرأي الأخير، خفق قلبي ونظرت إليها راجية، فمصيري كله بات معلقًا بين شفتيها.
قالت جدتي: لا مانع من أن نقيم حفلة العرس بعد شهر، كما يريد حمد، لقد أحببت الفتى، ولن نكسر بخاطره ما دامت هذه رغبة بسمة أيضًا.
جريت من مكاني ورميت نفسي في حضن جدتي وأنا أشبعها تقبيلًا.
***
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا