الألم الصامت
كنا في بيت جدتي، حين بدأت تقص علينا قصة قديمة جدًا من ماضيها، حول كيف بنت هذا البيت الكبير مع جدّي بنفسها، وبعد أن تنتهي من رواية القصة، تعيد سردها مرتين وثلاثة وأكثر، ويتوقف بها الزمن عند الأحداث التي عاشتها قبل عشرين عامًا تحديدًا، أما ما بعد ذلك، فتنسى كل شيء وكأنه لم يكن".
هنا، بدأنا نشعر بأن جدتي ليست بخير، لنكتشف أنها بداية لمعاناة مع مرض الزهايمر، لم نكن حينها نعرف الكثير عن هذا المرض، لكننا أدركنا أننا أمام مريض يحتاج منا أن نكون في منتهى الشجاعة والقوة كي نتمكن من رعايته".
لقد كنت أريها صورها مع أطفالي في كل مرة، لم يكن ذلك سهلًا عليهم أيضًا، فابنتي الكبرى كانت شديدة التعلق بها، ولا تيأس من أن تعرّفها بنفسها وتغمرها، كانت تكرر ذلك كل بضعة دقائق وهي الفترة الكافية كي تنسى مجددًا ما أخبرتها إياه للتو".
بدأت عوارض المرض تشتد، ومعها بدأت الجدة تفقد السيطرة على الأمور أكثر، لقد باتت تنسى ما قامت به قبل دقائق فقط
كانت تأكل، ثم بعد فترة قصيرة تنسى أنها أكلت، فتأكل من جديد، وقد أدى ذلك إلى زيادة في وزنها، قبل أن تعيد خسارته في مراحل المرض المتقدمة. كانت تلتقي بوالدتي، وبعد دقائق تسألني:" لماذا لم تعد والدتك تزورني؟" وعندما تقترب منها والدتي تحضنها بلهفة وكأنها رأتها للتو. كانت مشاعرها تتبدل بسرعة، أحيانًا تضحك وأحيانًا أخرى تبكي، أحيانًا تغضب ثم تهدأ".
في مراحل لاحقة، فقدت جدتي حاستي الشم والذوق، بدأنا نجبرها على تناول طعامها، بدأت صحتها تتراجع، كما بدأت تقوم بأمور تشعرنا بالقلق عليها، كتلك المرة التي غادرت فيها منزلها لوحدها بحثًا عن والدتي التي كانت تنام إلى جنبها في السرير!".
حال جدتي أصاب والدتي باكتئاب شديد، كانت تنظر إليها وتبكي، وهي تقول: اشتقت إلى والدتي، كأنها لم تعد موجودة بيننا، وكأننا خسرناها للأبد"
والدتي وخالاتي كن الأكثر تواجدًا مع الجدة خلال مرضها، لناحية تقديم الرعاية لها، ولم يكن من السهل تحديد أسلوب التعامل الأنسب لها في حالات معينة، مما أدى إلى حالة من التوتر العاطفي بين الجميع، وخصوصًا مع رفض الجدة تناول أي أدوية، ومع إدراك الجميع لعدم وجود علاج لهذا المرض.
بينما أسرح ضفائر جدّتي، اتذكر كيف كانت الجدة تزين شعري حين كنت طفلة، وكيف كانت تخيط لي أثوابًا لحفلات المدرسة باستخدام آلة الخياطة التي ما زالت أحتفظ بها حتى اليوم، والتي خاطت فيها ثوبها الأحمر الأخير الذي ارتدته في آخر حفلة عائلية جمعتها مع كل أفراد أسرتها قبل رحيلها"
رغم مرضها وتقدمها في السن، كنت لا أزال أراها جميلة، وخصوصًا حين ترتدي ثوبها الأحمر وشالها الأسود، ولأنني كنت أدرك كم تحب جدتي أن تظهر أنيقة طوال الوقت، فقد كنت أهتم بمظهرها، خلال مرضها، وأضع لها عطرها المفضل
ومرت سنوات قليلة حين انتشرت جائحة (كوفيد-19)، لم تعرف الجدة أي شيء عنه، ولكنها كانت تسأل عن السبب الذي يجعل أبنائها يتفادون الاقتراب منها، ولماذا أكلمها عبر النافذة؟ لقد أردنا في الواقع حمايتها من العدوى، حيث يؤكد الدكاترة على أن المصابين بالخرف أكثر عرضة للخطر من غيرهم بسبب السن، والسيرة المرضية ذات الصلة بما فيها من أمراض مزمنة، وضعف المناعة أمام العدوى، ما جعل مؤسسات صحية عدة تحاول حماية مثل هؤلاء المرضى بتطبيق تدابير التباعد جسديًا ومكافحة العدوى على نحو صارم، وأيضًا بتقييد عدد الزيارات الأُسرية
بعد تقدم مرض الزهايمر وعجز جسدها عن مقاومة آثاره توفيت جدّتي بعد أشهر قليلة من انتشار الوباء، ولم تعثر على إجابة حول سبب خوفنا من الاقتراب منها !!
ولو علمت كانت لتحزن كثيرًا، لقد عاشت في منزل مكتظ بالأبناء والأحفاد والأحباء، ومن دون هذه التجمعات العائلية كانت لتعاني كثيراً
منذ وفاتها، وأنا أستحضر صورتها في مخيلتي قبل إصابتها بالمرض، لقد تمكن الزهايمر من خطف جدتي منا، لكنه لن يمحي صورة السيدة التي رافقتنا طوال سنين عمرنا سيدة نابضة بالحياة وجميلة وحكيمة، هكذا كانت وهكذا سنتذكرها دائمًا
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا