سن الغزال للكاتب أسامة المسلم

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-07-23

سن الغزال

صالح.. فتى يتيم في الثامنة من العمر..

يعيش مع جدته وخاله بعد وفاة أمه وأبيه في حادث سير..

خاله كان تاجر عقار فاشلاً وذا حظ سيئ..

بدد معظم أموال راتبه في استثمارات خاسرة ومع ذلك لم يستطع ترك تلك الهواية التي أصبحت كالقمار الذي يحرق كل دخله..

(صالح) وهو يدخل على خاله في غرفة المعيشة جرياً ويقول بحماس وصوت مرتفع: خالي!.. خالي!.. انظر!

(الخال) يغلق الجريدة التي كان يتصفحها ويوجه نظره لشيء مده (صالح) بأصابعه الصغيرة: ما هذا؟

(صالح) مبتسماً وكاشفاً عن فقدانه لأحد أسنانه الأمامية الكبيرة: سني.. لقد سقط! انظر يا خالي لقد سقط سني الأمامي!

(الخال) ضاحكاً: نعم! نعم!.. أستطيع رؤية ذلك.. مبارك

(صالح) بحماس: سوف أرميه وأطلب سن غزال!.. سأقول: "خذ سن الحمار واستبدل به لي سن غزال!".

(الخال): ما هذه الهرطقات؟.. عن ماذا تتحدث؟

(صالح): جدتي تقول إني لو رميت سني في السماء وطلبت سن غزال بدل سن حمار فستكون أسناني جميله

(الخال): تطلب من بالضبط؟

(صالح): لا أعرف لكن هذا ما تقوله..

(الخال) وهو يفتح الجريدة مرة أخرى: اسمع يا عزيزي.. أبوك رحمه الله كانت أسنانه أسنان حمار وأمك التي هي أختي الحبيبة رحمها الله أسنانها أيضاً ليست كالغزال لا من قريب أو بعيد وأجدادك كذلك كانوا يستطيعون بأسنانهم قضم الحبال وكسر الحجارة فبالله عليك من أين ستحصل على أسنان غزلان؟

(صالح): لكن جدتي تقول..

(الخال) مقاطعاً خلال قلب صفحات الجريدة ونظره في مقالاتها:

جدتك تحاول رفع معنوياتك.. استعد للصدمة الوراثية التي تخبئها لك جيناتك

(صالح) قبل أن يخرج غاضباً: سترى!.. ستكون أسناني كأسنان الغزلان!

(الخال) وهو يهز الجريدة ويكمل القراءة:

"ومن قال إن أسنان الغزلان جميلة من الأساس..؟"

بعد أقل من ساعة عاد (صالح) لخاله مطأطئ الرأس وجلس بجانبه وهو يتابع التلفاز..

(الخال) وهو يقلب محطات التلفاز بجهاز التحكم دون أن يلتفت إلى ابن أخته: ما بك؟

(صالح) بحزن: لقد رميت السن في الهواء وطلبت سن غزال..

(الخال) ببرود: وماذا حدث؟

(صالح): سقط في فمي مرة أخرى وأنا أراقبه خلال ارتفاعه ولم أحصل على شيء

ضحك خال صالح بقوة..

(صالح) بحزن: جدتي خدعتني..

حمل الخال ابن أخته الصغير ووضعه في حجره وقال له: لا يا صالح.. جدتك لم تكذب عليك لكن كما أخبرتك هناك عوامل كثيرة تمنع تحقيق ذلك.. الأمر ببساطة وراثه.. آباؤك وأعمامك أسنانهم هكذا وأنت ستسير على الطريق نفسه مجبراً

(صالح) والابتسامة تعود لمحياه: حسناً.. سأجرب طريقتك!

(الخال): أي طريقة؟

(صالح): طريقة الجنيات!

(الخال) بتعجب: الجنيات؟.. وما دخل الجن بأسنانك؟.. ومتى قلت لك إن الجن لهم علاقة بالموضوع؟

(صالح): الجنيات التي قلت إنها السبب الحقيقي لحصولي على أسنان الحمار

(الخال) بعد تفكر سريع: آه.. تقصد الجينات

(صالح) وهو يهز رأسه مؤيداً: نعم.. الجنيات!

(الخال) ضاحكاً: المشكلة يا صالح إذا كانت الجينات عادلة فسوف تمنحك أسناناً تناسب تفكيرك وأنت لا تفكر كالغزلان

(صالح): ما الطريقة؟

(الخال): أي طريقة؟

(صالح): الطريقة التي أتبعها كي تمنحني الجنيات سناً جميلاً كالغزلان!

توقف الخال عن محاولة شرح الأمر بمنطقية لذلك الطفل الصغير المتحمس للحصول على أسنان الغزلان وقرر مجاراته في خيالاته الطفولية مثلما فعلت جدته بل وقرر كذلك أن يزيد عليها ويخلق قصة أكثر تشويقاً للفتى الصغير.

(الخال) وهو يرفع صالح من حجره ويجلسه بجانبه: اسمع يا صالح.. الجنيات تختلف طريقة عملهم عن تلك التي تعمل بها تعويذة جدتك فهم لن يمنحوك سن الغزال هكذا مباشرة لأنك فقط رددت طلباً في الهواء فهم أشبه بالقطاع الخاص الذي لا يعمل بدون مقابل وجدتك كالقطاع العام تمنح دون أن تطلب شيئاً منك سوى الانتظار وبالطبع سيطول انتظارك حتى ترى نتيجة وقد لا تراها

(صالح) بفم مفتوح: لم أفهم..

(الخال) مبتسماً: فقط ضع سنك الليلة تحت وسادتك قبل النوم وفي الصباح سأخبرك بما يجب أن تفعله

(صالح) بحماس: حاضر!!

عند حلول الليل نفذ (صالح) ما أخبره به خاله ووضع سنه تحت المخدة وأسند رأسه عليها وغط في النوم. بعد ساعة تقريباً خرج خاله من غرفته مرتدياً ملاءة بيضاء فوق رأسه وسار متوجهاً لغرفة (صالح) وخلال سيره رأته أمه وقالت بنبرة حسرة:

"هل فقدت عقلك يا بني بسبب تلك المشاريع الخاسرة..".

(الخال) وهو متحجب باللحاف الأبيض: يبدو كذلك يا أمي.. تصبحين على خير

دخل الخال الغرفة واقترب من رأس (صالح) ومد يده تحت الوسادة وأخذ السن ثم مد يده في جيبه وأخرج عملة ورقية بقيمة مائة ريال ووضعها مكان السن وقبل أن يسحب يده فتح (صالح) عينيه الناعستين وقال وهو نصف مستيقظ:

"هل أنت الجنية التي قال لي عنها خالي؟".

ارتبك الخال وسحب الغطاء وغطى ملامح وجهه بالكامل

وقال بعد تغيير نبرة صوته: "نعم يا صغيري.. عد للنوم الآن.."

(صالح) والنوم يغالبه: صوتك ليس صوت جنية..

(الخال) وهو يعيد رأس (صالح) إلى الوسادة برفق:

"أنا زوج الجنية.. زوجتي مشغولة اليوم.. عد للنوم"

(صالح) مغمضاً عينيه ومستسلماً للنعاس: صوتك يشبه صوت خالي..

(الخال) رافعاً الغطاء الأبيض من على رأسه مبتسماً بعدما تيقن من نوم (صالح):

"تجارة العقارات أفقدت خالك عقله وجعلته يمتهن ترويع الصغار ليلاً.. أحلاماً سعيدة أيها الجحش الصغير..".

في اليوم التالي دخل (صالح) على خاله وكما جرت العادة وجده يقرأ الجريدة ويحتسي الشاي فقال له بحماس وهو يمد له العملة ذات المئة ريال:

لقد جاءت الجنية لي البارحة ووضعت هذه تحت وسادتي!!

(الخال): وهو يأخذ المبلغ ضاحكاً:

لقد اشترت منك سنك الساقط ومنحتك مقابله بعض المال..

(صالح): وماذا أفعل بالمال؟.. أشتري سن الغزال؟

(الخال): ستشتري شيئاً به لكن ليس سن غزال..

(صالح): أنا لا أفهم شيئاً مما تقول يا خالي

(الخال) يهز الجريدة ويعاود القراءة: ستفهم لاحقاً.. اذهب الآن والعب بعيداً عني واتركني أكمل هذا الخبر عن مزاد المخطط الجديد في المدينة

أكمل (صالح) الصغير اللعب وأكمل خاله القراءة عن المزاد الذي كان فاتحة خير عليه وعلى العائلة بأكملها فقد استثمر خال صالح فيه مبلغاً من المال وحقق أرباحاً كبيرة نقلتهم من حالة معيشية إلى حالة مختلفة وتحولت حياتهم بين ليلة وضحاها من الفقر إلى الثراء. مضت السنون وورث صالح أسنان أبيه ولم تكن أسنان غزلان بل كانت كما هو متوقع وتنبأ به خاله بل أسوأ.. كبيرة وبارزة شوهت ضحكته وسببت له إحراجاً مع كل من يقابل لكن ذلك لم يكن عائقاً أمامه كي يكمل دراسته ويتخرج من الجامعة.

بعد وفاة جدته تزوج الخال وأخذ ابن أخته ليعيش معه ومع أسرته ورباه كأحد أبنائه لذا عند وفاة خاله بعد بلوغ (صالح) العشرين من العمر وتحديداً قبل تخرجه بأيام كانت الصدمة قوية وحزنه عليه أكبر بكثير من أبنائه وزوجته فخاله كان له بمثابة الأخ الأكبر الذي تحول لأب مع تقدمه في العمر.

قرر (صالح) ترك منزل خاله بعد وفاته والعيش وحده خاصة بعد انقلاب زوجة خاله عليه وحرمانه من كل شيء نعم به في السابق. لم يكن الاستقلال بحياته سهلاً فهو لم يكن يملك دخلاً وخاله هو من كان يصرف عليه فاكتفى بالعودة لبيت جدته القديم والإقامة فيه والعمل بشكل متقطع في بعض الأعمال البسيطة ليعيل نفسه. شيئاً فشيئاً ومع مرور أشهر بدأت حالته المادية تتحسن لدخوله في التجارة بشكل بسيط جداً ووفر له هذا دخلاً متواضعاً دفعه للتفكير بالزواج لكن هاجس أسنانه الكبيرة طاردة وجعله منطوياً ومتردداً فعزف عن الفكرة في نهاية المطاف وآثر علاج نفسه قبلها مما اقتنع أنه علة جسدية ستعكر صفو حياته مهما أقنع نفسه بعكس ذلك.

توجه بعد عدة أسابيع لعبادة خاصة بطب الأسنان ليرى ما إذا كان هناك شيء يمكنهم القيام به لعلاج أسنانه فاقترح عليه الطبيب عملية لخلع تلك الأسنان وزراعة أسنان جديدة أقل حجماً لكن تكاليف تلك العملية الباهظة بددت حلمه في الحصول على أسنان طبيعية. قرر (صالح) بعد تفكير الافتراض من البنك كحل أخير فجلس مع أحد موظفي البنك وبالطبع شرح له الموظف أنه لا يمكن منحه المال دون أن يكون لديه حساب بالبنك.

(صالح): كيف أفتح حساباً لديكم؟

(موظف البنك) وهو يدخل بعض البيانات على الحاسوب: فتح الحساب لا يستلزم شيئاً سوى بطاقة التعريف الخاصة بك.. هل تملك واحدة؟

(صالح) يخرج هويته الوطنية ويمدها للموظف: نعم..

(موظف البنك): حسناً.. خلال دقائق سوف أفتح لك حساباً وتكون عميلاً عندنا

(صالح): وهل هذا سيعطيني حق الاقتراض؟

(موظف البنك): نعم إن كنت موظفاً

(صالح): لا لست موظفاً

(موظف البنك) مبتسماً وهو ينهي إجراءات فتح الحساب: إذا نتشرف بك كعميل لدينا فقط..

(صالح) بخيبة: حسناً

(موظف البنك) وهو يمعن النظر في الشاشة بتعجب: هل أنت متيقن من أنك لم تفتح حساباً لدينا من قبل؟

(صالح): أنا لم أدخل بنكاً في حياتي..

(موظف البنك): غريب.. يوجد لك حساب لدينا وباسمك

(صالح): ربما يكون تشابهاً في الأسماء

(موظف البنك): نحن نعتمد على رقم السجل المدني وليس الحساب هناك حساب باسمك أنشئ قبل 12 عاماً وكان أول مبلغ وضع فيه هو 100 ريـال

(صالح): غريب..

(موظف البنك): نعم.. هل تريد السحب من المبلغ؟

(صالح): وماذا سأفعل ب100 ريـال؟.. اتركها في الحساب..

(موظف البنك): لا يا عزيزي.. حسابك كان يتلقى حوالة ثابتة شهرياً بقيمة عشرة آلاف ريال طيلة تلك الفترة ولم تتوقف الحوالات إلا قبل عدة أشهر فقط.. حسابك الآن يتجاوز المليون ريال

(صال) بتعجب شديد: ماذا؟.. كيف؟.. لابد وأن هناك خطأ ما؟

(موظف البنك): لا يوجد خطأ.. جميع الحوالات موضحة هنا بالرقم والتاريخ

(صالح): حوالات ممن؟

(موظف البنك) مدققاً في الشاشة: من حساب شخص يدعى (ظافر).. هل تعرفه؟

ابتسم (صالح) ودمعت عينه عندما سمع اسم خاله وتذكر ما قاله له عندما كان صغيراً يوم سقوط سنه وتذكر المئة ريال تحت وسادته ويبدو أن خاله قد استخدمها في ذلك الاستثمار المربح الذي دخل فيه وهذا كان فيما يبدو نوعاً من الأمانة التي أحب أن يردها له أو المساعدة غير المباشرة لابن أخته اليتيم.

(موظف البنك): سيد (صالح).. هل تعرف هذا الشخص؟

(صالح) وهو يمسح دمعته: نعم.. شخص كان يدعي أنه جنية تشتري الأسنان.. لكنه كان ملاكاً يُهدي الحب.

 

مدعي المثالية ناقص في كل النواحي..

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا