سر بين صديقين
كانت الملكة الوالدة في غرفة نومها بالقصر الملكي ومعها مدام دي موتفيل والسنيورا مولينا. وكان حضور الملك منتظراً منذ بداية النهار ولكنه لم يحضر، فنفد صبر الملكة الوالدة وصارت تسأل عنه كل حين، وكان جو البلاط كله ينذر باقتراب عاصفة، وقد تفادى رجال البلاط وسيداته الالتقاء في الردهات حتى لا يتحدثوا عن أمور شائكة. وكان الأمير أخو الملك الأصغر قد صحب جلالته منذ باكورة الصباح في رحلة صيد. ومكثت زوجة الأمير (التي يشيرون إليها بلفظ المدام) في جناحها لا تلقى أحداً.
وبعد أن تلت الملكة الوالدة صلواتها باللغة اللاتينية أخذا تتحدث مع صديقتيها عن مسائل منزلية لغة قسطلة (من أقاليم إسبانيا). وكانت مدام دي موتفيل تجيب باللغة الفرنسية برغم معرفتها لتلك اللغة. ولما استنفد النساء الثلاث كل وسائل التصنع والأدب الملفوف للتعبير عما في مسلك الملك من أقلاق للملكة والملكة الوالدة يجعلهما تذوبان كمدا وغيظا، وبعد أن أبدين كل ما بنفوسهن من سخط على الآنسة دي لافاليير بعبارات مهذبة كثيرة الحيطة، بعد ذلك كله أتمت الملكة الوالدة كلامها بقولها:
- آه من هؤلاء الأولاد!
والحق أن هذه العبارة على إيجازها كانت كافية للدلالة على ما يعتمل في نفس الملكة آن النمسوية، التي عرفت بمقدرتها على كتمان أخطر الأسرار وأجابت مولينا قائلة:
- أجل، أولئك الأولاد الذين تضحى الأمهات في سبيلهم!
ثم عادت الملكة تقول:
- إن ألام تضحى بكل شيء!
ولم تكد تتم كلمتها حتى رفعت رأسها ونظرت إلى صورة زيتية كبيرة للملك لويس الثالث عشر بحجمه الطبيعي وبوجهه الشاحب، فخيل إليها أن شعاعا من الضوء ينبثق من عينيه في تلك الصورة، وأن خياشيمه قد امتلأت حنقا وغضباً، وكأنما دبت الحياة في الصورة!
وخيم السكوت على أثر الكلمة الأخيرة من الملكة الوالدة، وأخذت مولينا تقلب الأشرطة والمخرم لملاءة منضدة كبيرة، وعجبت مدام دي موتفيل من نظرة تفاهم تبادلتها الملكة وصديقتها موضع ثقتها فأرخت عينيها كما يخلق بامرأة كتوم وتظاهرت بأنها لم تلحظ شيئاً مما يدور أمامها، لكنها ازدادت أصغاء لما يقال، وإن لم تسمع شيئاً سوى همهمة من جانب الوصيفة الإسبانية التي يتمثل فيها الحذر، وآهة عميقة من جانب الملكة، فنظرت إلى هذه توا وسألتها:
- أتتألمين؟
- كلا يا موتفيل. لماذا تقولين ذلك؟
- لأن جلالتك تأوهت الآن!
- صدقت! .. لقد تأوهت حقاً.
- أن المسيو فالو ليس بعيداً من هنا، وأحسبه في جناح المدام!
- لماذا هو هناك؟
- لأن المدام عندها نوبة عصبية!
- حقاً أنه مرض لطيف! .. لا فائدة من وجود المسيو فالو هناك، على حين أن طبيباً آخر يستطيع أن يشفي المدام.
فبدت الدهشة في نظرات مدام دي موتفيل وقالت:
- طبيب آخر غير المسيو فالو؟ .. من الذي تعنينه؟
- أعني الشغل، شغل الفراغ. إذا كان هناك أحد مريضاً حقاً فهو ابنتي المسكينة!
- وجلالتك أيضاً.
- نعم، على أني أقل مرضا في هذا المساء!
فقالت دي موتفيل: "لا تركني إلى ذلك يا سيدتي"
وما كادت تتم عبارتها حتى شعرت الملكة بألم حاد، فعاد وجهها شاحبا كوجوه الموتى، واستندت إلى مؤخرة كرسيها، وظهرت عليها دلائل الإغماء المفاجئ. فسارعت مولينا إلى خزانة مذهبة ذات غطاء من الصدف، وأخرجت منها قارورة فيها عقاقير للشم، ووضعتها تحت أنف الملكة فاستنشقتها هنيهة ثم تمتمت قائلة:
- إن هذا سيعجل بوفاتي .. لتكن مشيئة الله!
فأعادت مولينا القارورة إلى الخزانة وقالت للملكة:
- بعد عمر طويل!
وسألتها مدام دي موتفيل: "أتشعرين جلالتك بتحسن الآن؟"
فقال الملكة: "أحسن من ذي قبل!"
ووضعت أصبعها على شفتيها لتدعوهما إلى السكوت. ثم قالت مدام دي موتفيل بعد قليل:
- حقاً .. أنه لأمر عجيب.
فسألتها الملكة: "ماذا تعنين؟"
فقالت: "هل تتذكرين جلالتك اليوم الذي شعرت فيه بهذا الألم أول مرة؟"
قالت: "أذكر أنه كان يوماً حزيناً جداً فيما يختص بي!"
فقالت مدام دي موتفيل: "لكن جلالتك لم تعدي ذلك اليوم دائماً يوما حزينا؟".
ونظرت إليها الملكة متسائلة، فواصلت كلامها قائلة:
- في ذلك اليوم، منذ ثلاث وعشرين سنة، ولد جلالة نجلك.
فندت عن صدر الملكة آهة حزينة، وأخفت وجهها بين يديها، وظلت دقائق مستغرقة في تفكير أليم. وألقت مولينا نظرة غاضبة على مدام دي موتفيل، وكانت هذه قد اشتد بها الندم على ما قالته للملكة، ولم تدر له معنى يؤلمها، حتى أوشكت أن تسألها، ولكن الملكة آن قامت وهي تقول:
- أجل! .. يوم 5سبتمبر، لقد بدأ حزني يوم 5 سبتمبر، شعرت في ذلك اليوم بأعظم فرح، ثم شعرت في غده بأشد حزن عرفته في حياتي، وكان هذا كفارة عن ذلك الفرح البالغ.
وبقيت دقائق ساكتة زائغة البصر وقد تدلت يداها وكأن الحياة فارقتها!
وقالت مولينا: "يجب أن نضعها في فراشها"
فأشارت إليها الملكة قائلة: "نعم يا مولينا. وليكن ذلك فورا ..!"
ثم قالت الوصيفة الإسبانية: "لندع الملكة وحدها!"
وحينئذ نهضت مدام دي موتفيل، وأخذت تنظر في أسف شديد إلى الدموع تجري على خدي الملكة، بينما قالت لها هذه:
- أجل يا موتفيل، دعينا وحدنا، أذهبي!
وقد أحدثت هذه الكلمة أثراً سيئاً في نفس الوصيفة الفرنسية، إذ دلتها على أن هناك سراً قديماً بين الملكة ووصيفتها الإسبانية توشك أن تفضي به إليها على حدة، دون أن تقف عليه هي، فتمهلت وقالت للملكة:
- أتكفي مولينا وحدها لخدمة جلالتك الليلة؟
وإذ أومأت الملكة برأسها موافقة، لم يسع مدام دي موتفيل إلا أن تنحني وتنسحب، لكنها قبل أن تصل إلى الباب فوجئت بفتحه ودخول وصيفة عجوز ترتدي ثياباً كثياب سيدات البلاط الإسباني سنة 1620، وما لبثت هذه أن اقتربت من الملكة وهي ما زالت تبكي. وقالت لها: "الدواء يا مولاتي!"
فسألتها الملكة آن: "أي دواء؟"
فقالت الوصيفة العجوز: "دواء يذهب عن جلالتك الآلام!"
وهنا سألتها مدام دي موتفيل: "من الذي أحضره؟ .. المسيو فالو؟"
فقال الوصيفة: "لا، بل أحضرته سيدة من إقليم الفلاندر"
فدهشت مدام دي موتفيل وقالت: "من إقليم الفلاندر؟ .. أهي إسبانية؟"
وبدا على الوصيفة أنها لا تدري، فعادت مدام دي موتفيل تسألها: "من الذي بعثها؟ .. وما اسمها؟ .. وما مركزها في الهيئة الاجتماعية؟".
وأجابت الوصيفة العجوز بقولها: "لقد أرسلها المسيو كولبير، وهي لم تفصح عن اسمها، وستشرح بنفسها كل شيء عن شخصها!"
فازدادت دهشة مدام دي موتفيل وقالت: "أعجوز هي أم شابة، وماذا يدل عليه وجهها؟"
وأجابت الوصيفة قائلة: "إنها تضع قناعاً على وجهها، ولذلك لم أتبينه تماما!"
وكانت الوالدة تستمع لذلك الحوار، فالتفتت إلى مولينا وقال لها:
- أذهبي يا مولينا وانظري ماذا هناك؟
وهنا انبعث من وراء الستار المسدل على الباب صوت حازم يقول: "لا حاجة إلى ذلك". وفي اللحظة نفسها انفرج الستار ودخلت امرأة مقنعة، في زي يشبه زي الراهبات، ثم قالت قبل أن تنطق الملكة ببنت شفة:
- مولاتي .. إنني مندوبة من جماعة الراهبات في مدينة (بروجز)، وقد جئت ومعي الدواء الكفيل بشفاء جلالتك من آلامك.
ثم وقفت في مكانها ساكتة، ولن تنطق إحدى الحاضرات بكلمة حتى قالت لها الملكة: "تكلمي"
فقالت: "سأتكلم حين أكون وحدي مع جلالتك!"
ونظرت الملكة آن إلى وصيفتيها فانسحبتا توا، وعندئذ تقدمت الراهبة بضع خطوات نحو الملكة وانحنت لها في إجلال، بينما نظرت الملكة إليها في ارتياب محاولة أن تعرف هويتها بنظراتها الفاحصة إلى وجهها الذي أخفاه قناعها، ثم قالت لها الملكة:
- لابد أن ملكة فرنسا في مرض شديد حتى أن نبأ مرضها وصل إلى دير الراهبات في بروجز؟
فقالت: "إن مرض جلالتك لا يعز على الشفاء!"
- ولكن خبريني: كيف علمت بنبأ مرضي؟
- إن لجلالتك أصدقاء في الفلاندر.
- من هم أولئك الأصدقاء الذين بعثوك إلى؟ .. أذكري أسماءهم.
- هذا محال يا مولاتي ما دامت ذاكرة جلالتك لم يوقظها قلبك!
فعادت الملكة آن ترسل نظراتها خلال قناع الراهبة، لتستشف غرضها، ولما عجزت عن ذلك قالت لها:
- لعلك لا تعلمين أن الشخصيات الملكية لا تخاطب من وراء قناع؟
فقال الراهبة: "أرجو أن نغفري لي ذلك".
وقالت الملكة: "لن أغفر لك إلا إذا خلعت نقابك!"
فقالت: "لقد أقسمت يا سيدتي على أن أساعد كل شخص يتألم دون أن أسمح له برؤية وجهي، ولعل في استطاعتي أن أخفف من آلام جسمك وذهنك، ولكن ما دمت جلالتك لا تسمحين لي بذلك فإني أنسحب، وداعاً يا مولاتي!"
ونطقت هذه الكلمات بجد واحترام ذهبا بغضب الملكة وارتيابهاـ وإن تكن قد بقيت على فضولها، وقالت لها:
- إنك على صواب، فلا يليق بمن يتألم أن يرفض وسيلة لتخفيف ألمه أرسلها الله إليه، تكلمي إذن، وعسى أن تقدري على تخفيف الألم الذي أضنى جسمي.
- لنتحدث أولاً عن الألم الذي بذهنك، لأني موقنة بأن الذهن يتألم أيضاً!
فرددت الملكة متعجبة: "ذهني؟!"
وواصلت الراهبة كلامها قائلة: "توجد أنواع من السرطان، خفية في كنهها حتى أن خفقها لا يلحظ. وهذه الأنواع يا سيدتي لا تكاد تنبئ عنها العوارض الظاهرة، فالطبيب الذي ينحني على صدر المريض لا يسمع أسنان المرض النهمة وهي تقرض العضلات لأن الدم يستمر في جريانه، ومبضع الجراح كان ولا يزال عاجزاً عن القضاء عليها، لأن موطنها هو الذهن الذي تعمل على إفساده، وهي تملأ القلب كله بثغراتها!"
فرفعت الملكة ذراعها وتأملت هنيهة بياضها الناصع وسرها أن وجدتها عيلة كما كانت في أيام شبابها، ثم قالت للراهبة:
- إن الآلام التي تشيرين إليها هي من ظروف الحياة لمت يولد على الأرض رفيع المنبت، وإذا أصبحت تلك الآلام أشد من أن يتحملها الإنسان، فإن الله يضع عنه وزرها بالندم والاعتراف، وهناك نزيح عن كاهلنا حمله، ونعفى أنفسنا من عبء الأسرار التي تثقلها، ولكن لا تنسي أن الله يمنحنا برحمته قوة تعاوننا على حمل ذلك العبء. وقد حملت عبئ صابرة بفضل هذه القوة.
- أراك شجاعة يا مولاتي حيال أعدائك كما كنت دائماً، إنك لا تقرين بثقة لك في أصدقائك!
- إن الملكات ليس لهن أصدقاء، وإذا لم يكن لديك شيء آخر تقولينه لي، وحسبت أن الله ملهمك، فاتركيني، أرجو منك، فإني أخشى المستقبل!
فقالت الراهبة بحزم:
- لقد حسبتك تخشين الماضي أكثر من المستقبل!
ولم تكد تتم هذه الجملة حتى قامت الملكة من مكانها فزعة، وقالت لها بلهجة الأمر:
- تكلمي وأوضحي! .. هيا وإلا ..
- لا تهدديني يا صاحبة الجلالة، لقد جئت إليك وملء قلبي المحبة والإجلال لك، ولقد جئت إليك من طريق صديق!
- برهني لي على ذلك بدلا من مضايقتي.
- هذا أمر يسير على، وسترين جلالتك من الذي يخلص لك فعلا.
أي الكوارث نزلت بك في خلال الثلاث والعشرين سنة الأخيرة؟
- إنها كوارث شديدة، ألم أنقذ الملك؟
- أني لا أعني كوارث من هذا القبيل، بل أود لو أسألك: منذ ميلاد الملك هل سبب لك أحد الأصدقاء بعدم الكتمان أي قلق أو شر؟
- أني لا أفهم ما تقولين!
- سأوضح قولي إذن، أن جلالتك تذكرين أن الملك ولد يوم 5سبتمبر سنة 1638 في الساعة الحادية عشرة والربع.
- أجل ..
- وعند منتصف الساعة الثانية عشرة نودي بنجلك ولياً للعهد بعد أن عمده صاحب الفخامة (دي مو) بحضورك وحضور الملك، ثم ذهب الملك إلى كنيسة القصر القديم في سان جرمان لحضور الصلاة.
فتمتمت الملكة قائلة: "نعم، نعم هذا ما حدث تماما"
ومضت الراهبة في حديثها فقالت:
- وقد بدأت جلالتك النفاس في حضرة المرحوم أخيك والأمراء وسيدات البلاط، وكان بوفار طبيب الملك وهو نوريه الجراح في الغرفة المجاورة، ونمت جلالتك من الساعة الثالثة إلى الساعة السابعة كما أعتقد.
- أجل، ولكنك لا تخبرينني إلا بما يعرفه كل إنسان.
- إنني الآن يا سيدتي أدنو من شيء لا يعرفه إلا القلائل، بل لا يعرفه إلا بعض القلائل، أو اثنان فقط، لأنه في حينه كان يعرفه خمسة، ثم مات أهم عارفيه وهو الملك الذي يرقد الآن إلى جوار أجداده، وقد تبعته وشيكا بيرون المولدة، وأصبح لابورت في عالم النسيان!
وهنا فتحت الملكة فاها تريد أن تتكلم، وشعرت بالعرق البارد يتصبب من جبينها، بينما استطردت الراهبة فقالت:
- كانت الساعة الثامنة، وقد جلس الملك إلى مائدة العشاء بادي السرور، تغمره السعادة وترتفع من حواليه صيحات الفرح وشرب الانخاب، وكان الشعب يهتف تحت الشرفات، ورجال الحرس السويسري، والفرسان، والحرس الملكي يجوبون خلال المدينة، والطلبة يمشون سكارى صاخبين، وأزعجت هذه الأصوات ولي العهد الذي كان راقدا بين ذراعي مدام (دي هوزاك) مرضعته، ولو أنه فتح عينيه لرأى تاجين في أسفل مهده، وبغتة صرخت جلالتك صرخة عالية فجرت إليك مدام بيرون، وكان الطبيبان يتناولان عشاءهما في الغرفة المجاورة لغرفتك، بينما القصر هجره الحراس، وفحصتك القابلة ثم صاحت صيحة دهشة، وأخذاك بين ذراعيها، وأرسلت لابورت توا ليخبر صاحب الجلالة أن الملكة تريد أن تراه في غرفتها، وكان لابورت كما قد تذكرين جلالتك رجلاً هادئاً حاضر الذهن، فلم يفاجئ الملك بما يزعجه، بل اقترب من جلالته وقال له وعلى شفتيه ابتسامة: "مولاي. إن جلالة الملكة في سعادة عظيمة وستزداد سعادتها إذا رأت جلالتك". وكان الملك في أشد حالات السرور والمرح فقام قائلاً للجالسين إلى المائدة: "أيها السادة: إني ذاهب لرؤية زوجتي". وجاء جلالته إلى سريرك في اللحظة التي قدمت إليه مدام بيرون أميراً ثانياً في مثل جمال الأول وهتفت قائلة له: "مولاي. إن الله لا يشاء أن تحكم فرنسا ملكات". وتحت تأثير الفرحة الأولى تناول الملك الطفل بين ذراعيه ورفع رأسه قائلاً: "شكراً لك يا إلهي!"
وسكتت الراهبة لترى مبلغ تأثر الملكة، وكانت هذه قد قبعت في كرسيها وأخذت تصغي باهتمام دون أن تحرك شفتيها بلفظ ما. ثم قالت الراهبة:
- لقد اقتنعت جلالتك يومئذ بأن المملكة لا ينبغي أن يكون لها غير ولي عهد واحد، وهكذا نشأ الوليد الآخر بعيداً عن والديه الملكيين، على أن جلالتك وأن سمحت بذلك فقد تعذبت كثيراً، وكم ذرفت الدموع الغزار، وطبعت القبل الحنون على محيا ذلك الطفل البريء في مقابل حياة البؤس والظلام التي قضت بها ظروف السياسة على توأم لويس الرابع عشر!
وهنا تمتمت الملكة بصوت واهن: "آه. يا إلهي!"
واستأنفت الراهبة كلامها فقالت: "إن الملك قدر ما قد ينجم عن وجود ولدين له متشابهين في السن وغي حق المطالبة بالعرش، وأزعجه الخوف على مستقبل البلاد وأمنها. وهكذا أخذ الكاردينال ريشيليو يفكر في الأمر بتوجيه من الملك، وبعد أن مكث ساعة يفكر وهو في مكتب الملك خرج يقول: (أمير واحد يمثل الأمن والسلام للدولة، وأميران اثنان يمثلان الحرب الداخلية والفوضى) ..."
وعندئذ قامت الملكة بغتة من مقعدها وقد شحب وجهها وقبضت يديها وقالت بصوت أجش:
- أنك تعرفين أكثر مما ينبغي لك أن تعرفيه من أسرار الدولة. أما الأصدقاء الذين تزعمين إنك أتيت من عندهم فهم كاذبون خائنون. وأنت شريكتهم في الجريمة التي ترتكب الآن. اخلعي نقابك وإلا أمرت قائد الحرس بالقبض عليك. لا تحسبي إن هذا السر يخيفني! إنه لن يغادر صدرك، لأن سرك وحياتك لم يعودا ملكك منذ هذه اللحظة!
ونهضت الملكة آن وتقدمت خطوتين نحو الراهبة. فقالت هذه:
- تعلمي أن تقدري قيمة الأصدقاء الذين نبذتهم، وأن تقدري إخلاصهم وكتمانهم للسر!
ثم خلعت قناعها فجأة، فصاحت الملكة في دهشة: "مدام دي شيفريز!"
وقالت هذه في هدوء: "نعم يا مولاتي، إنني أنا هي تلك التي لا يعلم بذلك السر سواها!"
فتمتمت الملكة قائلة: "تعالى عانقيني يا دوقة. وا أسفاه! إنك تقتلين صديقتك إذ تعبثين هكذا بمأساتها!"
وأسندت الملكة رأسها إلى كتف الدوقة العجوز، وانفجرت باكية.
فقالت لها الدوقة: "إنك لا تزالين شابة يا مولاتي، وليس أدل على ذلك من إنك تبكين!"
* * *
وجهت الملكة آن نظرة رزينة إلى مدام دي شيفريز ثم قالت لها:
- أحسبك قد ذكرت اسمي مقروناً بكلمة السعادة منذ قليل، ولست أكتمك يا دوقة أني لم أكن أتصور أن أي مخلوق من البشر يمكن أن يكون أقل سعادة من ملكة فرنسا!
- إن أحزانك يا مولاتي كانت شديدة حقاً. ولكنك فيما يختص بالمآسي التي وقعت لنا نحن الصديقتين القديمتين اللتين فرق بينهما حقد الرجال، لا تزالين تملكين موارد للسرور قد تكون ضئيلة في ذاتها ولكنها مما يحسدك عليه كثير من الناس.
فقالت الملكة: "موارد للسرور؟! .. أين هذه الموارد؟ وماذا يغريك بأن تذكري كلمة السرور أنت التي اعترفت منذ هنيهة بأن جسمي وذهني كليهما في حاجة إلى الدواء؟"
فجمعت مدام دي شيفريز شتات جرأتها وقالت: "ما أبعد الملوك عن سواد الناس!. إنهم لبعدهم عن الناس ينسون أن غيرهم قد يعوزه ضروريات الحياة. مثلهم كمثل ساكن في جبل بأفريقيا يأكل من الأرض الخضراء ويرتوي من جداول الثلج الذائب، فلا يقدر أن يفهم أن الناس الذين في السهول الواطئة يموتون جوعاً وظمأ وسط أراضيهم التي تحرقها حرارة الشمس!"
فأحمر وجه الملكة قليلاً إذ بدأت تدرك ما ترمي إليه صديقتها القديمة، وقالت لها:
- كان من الخطأ أن أهمل أمرك!
- آه يا سيدتي. إني أعرف أن الملك قد ورث عن أبيه كراهيته لي. ولا شك أنه يخرجني من هنا إذا علم بوجودي في القصر!
- قد لا أستطيع أن أقول إنه يميل إليك يا دوقة، ولكني قد أستطيع أن أصنع شيئاً دون أن يعلم به.
فابتسمت الدوقة ولم تجب، واستطردت الملكة قائلة:
- لقد أصبت إذ جئت إلى هنا ولو لتكذيب نبأ وفاتك!
- هل قيل إذن إني مت؟
- إننا جميعاً مصيرنا إلى الموت. ولعلك أدركت أن أختك الصغرى كما كنت تسمينني، تسير مسرعة نحو القبر!
- لو أن جلالتك اعتقدت صحة وفاتي، فلا شك أنك عجبت إذ لم يصل إليك مني نبأ قبل ذلك!
- إن الموت كثيراً ما يدهم الناس يا دوقة!
- آه يا صاحبة الجلالة. إن أولئك الذين تثقل كواهلهم الأسرار كالسر الذي كنا نتحدث عنه، يشعرون بحاجة ماسة إلى يبوحوا بها، ويرغبون في تحقيق هذه الرغبة قبل أن يموتوا. ولا يفوتهم أن يرتبوا أوراقهم قبل رحلتهم الأخيرة!
فارتاعت الملكة. بينما استمرت الدوقة في حديثها قائلة:
- إن جلالتك ستعلمين نبأ وفاتي ولاشك، وسيكون ذلك في اليوم التالي لهذه الوفاة، إذ تتسلمين جلالتك رسائل تحوى كل ما دار بيننا من مكاتبات في الأيام الخالية!
فصاحت الملكة منزعجة: "ألم تحرقيها؟"
وقالت الدوقة في هدوء: "إن الخونة – وحدهم – هم الذين يحرقون ما قد يكون لديهم من المكاتبات الملكية!"
- تقولين: الخونة؟
- أجل يا مولاتي .. وبعبارة أصح قد يدعى أولئك الخونة إنهم حرقوا تلك المكاتبات، على حين أنهم في الواقع احتفظوا بها لكي يبيعوها. أما الأصدقاء الأمناء فإنهم على عكس ذلك تماما، وإذا كان أحد منهم قد احتفظ بتلك الكنوز الملكية، فلكي يحملها يوماً من الأيام إلى جلالة ملكته المحبوبة قائلاً لها: "مولاتي. إن الزمن تقدم بي، وصحتي في تدهور مطرد. وحيال خطر الموت أخشى أن يظهر السر، ولهذا جئتك بهذه الأوراق التي تتضمن سراً خطراً عليك، لتحرقيها بيدك!"
فسألتها الملكة: "أية أوراق تشيرين إليها يا دوقة؟"
فقالت: "فيما يختص بي لا أمتلك إلا ورقة واحدة ولكنها حقا من أخطر الأوراق!"
-خبريني يا دوقة ما هي!
- هي خطاب بتاريخ الثلاثاء الثاني من أغسطس سنة 1644 كتبته إلى بخطك، وطلبت فيه إلى أن أذهب إلى (نوزاى – لى – سيك) لأرى ذلك الطفل التعس
وهنا ساد صمت عميق، كان ذهن الملكة خلاله يجوس خلال الماضي وكانت مدام دى شيفريز ترقب نجاح خطتها. ثم تمتمت الملكة قائلة:
- أجل. الطفل التعس. إنه أشقى طفل في العالم. لقد عاش الطفل المسكين عيشة حزينة لينهيها بتلك النهاية القاسية!
فصاحت الدوقة: "هل مات؟"
- لقد مات بالسل. مات منسيا ذابلا كالزهرة التي وهبها عاشق إلى حبيبته، فتركتها في خزانة مغلقة لتخفيها عن أعين الرقباء!
وعادت الدوقة تكرر قولها: "مات؟! .. أكان ذلك في (نوزاى – لى – سيك) ..؟ .."
فقالت الملكة: "أجل!. مات بين ذراعي مربيه، وكان رجلا مسكينا شريفا لم يعش طويلا بعده!"
- من السهل إدراك ذلك. فقد كان عسيراً عليه أن يحمل تلك الصدمة بعد وقوفه على ذلك السر وكلاهما يرهق الكاهل!
ولم ترد الملكة أن تلحظ ما في القول من سخرية خفية. ثم قالت مدام دى شيفريز: "مع هذا قد سألت منذ بضع سنوات عن ذلك الطفل البائس في (نوزاى – لى – سيك). وقد وجدت الناس هناك لا يعتقدون أنه مات حقاً، وهذا هو السبب الذب جعلني لا أشارك جلالتك في الحزن، لأني لو كنت تصورت صدق ذلك لما أشرت أدنى إشارة إلى هذا الحادث ولما رضيت أن أبعث الكمد في نفس جلالتك!"
فاعتدلت الملكة في مقعدها وقالت: "تقولين: أن الناس لا يعتقدون أنه مات؟!."
فقالت الدوقة: "لقد قالوا: أنه ذات مساء في سنة 1645 جاءت إلى هناك سيدة بهية الطلعة ذات كبرياء، لفتت الأنظار إليها برغم قناعها وبرغم المعطف الذي كان يلف جسدها. وكان واضحاً أنها ذات رتبة رفيعة بلا ريب، فوقفت بعربتها عند مفترق الطريق، حيث وافاها بالطفل ذلك الوصي عليه. وفي اليوم التالي غادر الطفل والوصي تلك الجهة"
فقالت الملكة: "إن فيما تحكينه شيئاً من الصدق، والواقع أن الطفل المسكين مات من مرض مفاجئ يجعل حياة جميع الأطفال معلقة بخيط"
- لا شك في أن ما تقولينه جلالتك هو الحق، لكنه مع هذا يبدو عجيبا، فإن الشخص الذي نبأني بهذه التفصيلات، وهو الذي عهدت أنا إليه في السؤال عن صحة الطفل ...
فقطعت الملكة كلامها وسألتها مرتاعة:
- هل عهدت في هذه المهمة إلى أحد آخر؟. آه يا دوقة!
فقالت الدوقة: "لا عليك يا سيدتي، إن هذا الرسول لا يمكن أن ينبس ببنت شفة، مثله في ذلك مثل جلالتك ومثلي. ولنفرض أنه أنا يا سيدتي. فالمهم أنه حين مر بمدينة تورين"
فرددت الملكة متعجبة: "تورين؟!". ومضت الدوقة في حديثها قائلة:
- نعم، مر بتورين منذ بضعة أشهر، وهناك عرف الطفل والوصي. أو بعبارة أصح ظن أنه عرفهما وكلاهما في عيشة ناعمة، أحدهما في ختام حياته، والآخر في عنفوان شبابه. فاحكمي بعد ذلك عما في الشائعات من صدق! ولكن أحسبني أتعبت جلالتك ولم يكن غرضي ذلك، ولهذا أستأذنك في الانصراف بعد أن جددت لك التعبير عن إخلاصي وإجلالي!
فقالت لها الملكة: "بل امكثي يا دوقة وحدثيني عن نفسك!"
فقالت بعد زفرة طويلة: "عن نفسي؟. إني لست أهلا لأن تلقى على نظرة يا سيدتي!"
فاقتربت الملكة منها متحببة وقالت: "كلا!. إنك أقدم صديقة لي، أم تراك غاضبة مني يا دوقة؟"
فقالت: "أنا غاضبة منك؟! .. وماذا يحملني على ذلك؟! .. لو كان لدي أي شعور من هذا القبيل نحو جلالتك ما أتيت إليك!"
فسكتت الملكة قليلاً، ثم استأنفت الحديث فقالت:
- يا عزيزتي الدوقة .. إن الموت يزحف صوبنا نحن الاثنتين، ويجب أن نكون يدا واحدة حيال ذلك الموت الذي لن يلبث قليلا حتى يدركنا!
فقالت: "إنك تأسرينني يا مولاتي بهذا العطف الذي ليس غريباً عليك"
قالت: "إن أحداً من الناس لم يحبني ولم يخدمني مثلك!"
- إن تذكر جلالتك خدمتي إنما هو عطف كريم منك، وهذا ما يجعلني دائماً وكلي ولاء ووفاء لجلالتك
- إذن .. ألا تقدمين لي برهانا على صداقتك يا دوقة؟ يجب أن تطلبي مني شيئاً الآن، إني أعرفك حق المعرفة فليس هناك من هو أصدق منك ولاء أو أكثر نبلا!
- لا تمتدحيني كثيراً يا سيدتي
- مهما أطنب في الثناء، فهذا ولا شك دون ما تستحقين!
فتنهدت الدوقة وقالت: "حقاً .. إن السن وسوء الحظ يؤثران في الناس تأثيراً كبيراً..!"
فقالت الملكة: "إن دوقة الأيام الخالية، ذات البهاء والكبرياء كانت تقول دائماً: (لا أريد شيئاً منك). أما الأن فما أسعدني حقا بأن يكون في استطاعتي إجابة أي طلب لك!"
- يجب أن أوضح لك الأمر أولا يا مولاتي. إن جلالتك تستطيعين أن تمنحيني أعظم سرور، ولن يشق عليك ذلك برغم أنك الآن تحت سلطان ابنك كما كنت تحت سلطان زوجك. فهل أنت على استعداد حقا لإجابة ما أطلب يا مولاتي؟
فقالت الملكة : "ناديني أولا كما كنت تنادينني في الماضي. وكلميني بالإسبانية إن كنت لا تزالي تعرفينها!"
فقالت الدوقة بالإسبانية: "حسنا. يا عزيزتي آن! .. هل تقبلين أن تمنحيني شرف تمضيتك بضعة أيام معي في قصر دامبيير؟"
فنظرت إليها الملكة في تودد وقالت: "أهذا كل ما تطلبينه؟"
فقالت: "إني إذ أطلب إليك هذا، إنما أطلب أعظم شرف لي!. أتقبلين؟"
- أجل بكل سرور. وسأكون سعيدة إذا كان وجودي سيفيدك.
وهنا أمسكت الدوقة يد الملكة، ثم راحت تغمرها بالقبلات، وقالت لها:
- أتوافقين جلالتك على الانتظار أسبوعين قبل أن تأتي؟
- أوافق بكل سرور، ولكن لماذا؟
- لأن الناس وقد عرفوا أني مغضوب على في القصر الملكي، لا يرضون أن يقرضوني مائة ألف فرنك لإصلاح قصر دامبيير. ولكنهم حين يعلمون أن ذلك الإصلاح لكي أستطيع أن أستقبل جلالتك في القصر، فإن كل المال الذي في باريس يكون تحت تصرفي!
فأومأت الملكة برأيها دلالة على الفهم وقالت:
- سأقرضك هذا المبلغ إذا شئت يا دوقة!
- لا أقدر أن أقبل منك مثل هذا المبلغ
- إنك تخطئين إذا رفضت ذلك، ثم إن مائة ألف فرنك ليست بالمبلغ الفادح. إني أعلم علم اليقين أنك لا تقدرين القيمة الحقيقية لصمتك وكتمانك. ادفعي هذه المنضدة قليلا نحوي وسأكتب لك أمرا إلى المسيو كولبير، بل إلى المسيو فوكيه الذي هو أكثر لطفا وأسرع معروفاً!
* * *
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا