روايات مصرية للجيب
سلسلة ملف المستقبل
أشعة الموت
1. لقاء مع القائد الأعلى:
انبعث ضوء وردي خافت يملأ أرجاء الغرفة المربعة الصغيرة، وابتلع الشاب الواقف عند منتصفها ريقه، وهو يتأمل الغرفة العارية دون أن يحرك رأسه، أو تهتز وقفته العسكرية الثابتة، وتوترت عضلاته فجأة عندما انكشفت دائرة صغيرة أمام وجهه، وانطلق منها ضوء أزرق، وتركزت البقعة الضوئية الزرقاء على وجهه لحظة، ثم دارت حول جسده، وعادت تتركز على وجهه، ثم أخذت تخفت حتى اختفت تماما، وأغلقت الدائرة الصغيرة في الحائط، وارتعد جسد الشاب ثانية واحدة عندما تردد في أعماق الغرفة صوت عميق قائلا:
مرحبا بك في القيادة العليا للمخابرات العملية أيها الملازم (نور).. لقد تم التحقق من شخصيتك، تقدم ثلاث خطوات إلى الأمام ثم قف.
ونقل الشاب قدميه ثلاث خطوات، ثم وقف منتبها، وشعر لأول وهلة أن جدران الغرفة ترتفع، ثم تنبه إلى أن الدائرة التي يقف عليها تهبط به إلى أسفل في أنبوب مضاء باللون البنفسجي الهادئ.. كانت ملامح الملازم (نور) تبدو هادئة، ولكن أعماقه كانت تعصف بالعديد من التساؤلات، فمن النادر بل من شبه المستحيل أن يستدعي القائد العام للمخابرات العلمية ضابطا في رتبته شخصياً.
وتوقفت أفكار نور عندما توقف الهبوط، ووجد نفسه أمام باب معدني براق.
انفتح الباب بهدوء بدون أدنى صوت، ومن ورائه ظهرت غرفة واسعة مضيئة، وفي آخرها مكتب ضخم يجلس وراءه رجل في حوالي الخامسة والخمسين من العمر، أشيب الرأس، هادئ الملامح، تطل من عينيه نظرة تحمل الإصرار والوقار معا، وبدأ الرجل يتكلم وهو يشير إلى نور الاقتراب:
مرحبا بك أيها الملازم نور، تقدم.
وتقدم نور إلى المكتب، وأغلق الباب خلفه بهدوء، ووقف منتبها وعيناه مركزتان على الرجل الوقور، وأدى التحية العسكرية.. ابتسم الرجل وضغط بإصبعه على أحد الأزرار العديدة المصفوفة أمامه على المكتب، ثم نظر إلى شاشة الكمبيوتر الصغير الموضوع أمامه، وأخذ يقرأ بصوت مسموع:
نور الدين محمود، أربعة وعشرون عاما، ملازم أول، تخرجت من كلية الشرطة منذ حوالي عام، وبالتحديد في الخامس من نوفمبر عام ألف وتسعمائة وتسعة وتسعين، التحقت بالإدارة العامة للمخابرات العملية بعد شهر واحد من عملك بالشرطة، تقريراتك كلها بدرجة ممتاز، أمامي تقرير سري من رئيسك يقول فيه: إنك نابغة، موهوب، ولقد اختارك الكمبيوتر من بين اثني عشر ألفا من رجال المخابرات العملية في جميع أنحاء جمهورية مصر العربية، وأتعشم أن تكون على هذا المستوى في المهمة التي سأسندها إليك.
توتر نور وهو يتساءل في نفسه عن الأمر الخطير الذي استدعاه من أجله القائد العام، ولم يطل تساؤله، فقد ضغط القائد العام على زر أصفر أمامه، وقال وهو يشير إلى شاشة مثبتة على الحائط عن يمين نور:
أنظر إلى هذه الصورة عن يميكن أيها الملازم، أحفظها جيداً، إنها صورة لأحداث ما أنتجته قريحة علمائنا منذ ابتكار الوقود الأميني، أكرر لك، احفظ هذه الصورة جيدا، إن هذا الجهاز المائل بها يبعث نوعا من الإشعاع يفوق بمئات المرات أشعة الليزر، ولقد أطلق عليه علماؤنا اسم (أشعة الموت).. وهذه الأشعة يمكن أن تستخدم في العديد من الأغراض النافعة: كالجراحة بدون استخدام مخدر، وصناعة الدواء، والتعدين، وغيرها.. كما يمكن أن تستخدم أيضاً في التدمير، التدمير الشديد.
توترت عضلات وجه نور عند سماعه العبارة الأخيرة، فقد كان ولا يزال يكره كل ما يؤدي إلى التدمير، بل إنه كثيراً ما يتساءل عن السبب الذي يحدو ببعض البشر إلى صنع أدوات التدمير، وطرد أفكاره وتوتره بسرعة ليتابع القائد العام وهو يستمر في شرح المهمة قائلا:
وبطريقة ما وبرغم احتياطات الأمن البالغة في المعامل التابعة للجهاز العلمي، فقد تسرب سر هذا الجهاز، لقد باع أحد العاملين في المشروع سر الجهاز إلى عصابة خطيرة.
وزفر القائد العام بأسى وهو يتابع:
ولقد تم وضع جميع العاملين في المشروع تحت المراقبة والاستجواب الدقيق، وتم حصر الشبهات في ثلاثة منهم، ستجد أسماءهم ووظائفهم في شريط الفيديو الذي سيسلم إليك عند خروجك من هنا، وبه كل المعلومات الأخرى التي ربما تحتاج إليها في مهمتك.. المهم أن هذه العصابة قد أرسلت إنذاراً باستخدام هذا الإشعاع الرهيب في تدمير أعظم المنشآت الحديثة في جميع بلدان الشرق الأوسط ما لم يتم الإفراج عن سبعة من عتاة الإجرام الذين تم سجنهم في السجن الخاص على سطح القمر، ولقد أمهلتنا العصابة خمسة أيام فقط للاستسلام لمطالبهم وإلا نفذوا تهديدهم، ولقد ضاع يومان كاملان في الاستجواب، وعدة محاولات فاشلة للعثور على مقر العصابة، ولم يعد باقيا لك سوى ثلاثة أيام فقط.
توقف القائد العام قليلا ليبتلع ريقه، وصمت نور حتى استأنف القائد العام:
اعلم أن مهمتك صعبة جداً، فعليك أن تبحث عن إبرة في كومة من القش.. فنحن لم نصل بعد إلى مقر العصابة أو حصر عددها، ولقد تركت لك حرية وضع الخطة، واختيار الأفراد والوسيلة، وستكون لك كل الإمكانات التي تطلبها، المهم هو النجاح، هل سمعت؟ النجاح أيها الملازم، وفقك الله.
أجاب نور بكلمة واحدة:
بإذن الله.
ثم أدى التحية العسكرية واستدار، وسار نحو الباب، وأوقفه القائد العام قائلا:
تذكر أن عملنا سري جدا، ولو فشلت فسيعلم العالم كله فشلك، أما لو وفقك الله إلى النجاح فلن يعلم بذلك أحد.
ابتسم نور وأجاب:
سأعمل جاهداً على ألا يعلم بذلك أحد يا سيدي القائد.
ثم أدى التحية العسكرية مرة أخرى، وغادر الغرفة من الباب الذي أغلق خلفه بهدوء.
2. الفريق...
في غرفة واسع في الدور الثاني من مبنى إدارة المخابرات العلمية وقف الملازم أول (نور) يتأمل أفراد فريقه الصغير: محمود، شاب في الواحد والعشرين من عمره، عبقري في علم الأشعة وفن استخدامها، ضئيل الجسم، دقيق الملامح، يرتدي نظارة طبية صغيرة.. ورمزي، طبيب متخصص في علم النفس، في الثلاثين من عمره، طويل نحيف.. وأخيراً سلوى، مهندسة شابة في الثالثة والعشرين من عمرها، تمتاز – برغم صغر سنها – بعبقريتها الفذة في التعامل مع أجهزة الرصد والتتبع.
وقطع نور حبل الصمت قائلا:
في البداية أرحب بكل منكم، لقد تم اختياركم بسرعة ودقة لأداء مهمة غاية في السرية، وتحتاج إلى مهارات كل منكم، باختصار، سنبحث عن إبرة في كومة من القش.
نظر إليه الثلاثة بتساؤل ودهشة، فقال مبتسما:
سأبدأ بشرح الأمر بالتفصيل.
وما أن انتهى نور من شرح الموضوع حتى زفرت سلوى بدهشة، وأطلق محمود صفيراً تعجبيا، وبقى رمزي هادئا إن اتسعت عيناه.. وقال نور:
وكما سبق أن قلت يجب علينا أن نجد الإبرة من وسط كومة القش في زمن لا يزيد على..
ثم نظر إلى ساعته قبل أن يتابع حديثه:
يومين وتسع ساعات فقط، أي ما مجموعة سبع وخمسون ساعة من الآن، ومع أول دقات الساعة الثامنة والخمسين لا يعود لمهمتنا فائدة.
تنهدت سلوى وقالت:
لو أنني أبحث عن ناطحة سحاب بعينها في جميع أنحاء جمهورية مصر العربية وحدها لاستغرقت وقتا أطول.. ولكن!
سألها نور باهتمام:
ولكن ماذا؟
ترددت سلوى لحظة، ثم قالت:
أعني أن هناك وسيلة، وسيلة نظرية، أقصد نظرية الاستبعاد، فلو أننا استبعدنا الأماكن التي لا يمكن أن يتواجد فيها رجال العصابة فسوف تبقى الأماكن التي يمكن تواجدهم فيها.
وهنا انبرى رمزي قائلا:
أعتقد أن لدي طريقة أفضل، وأسرع. تحول نظر نور إليه باهتمام، فتابع قوله:
إنها طريقة نستخدمها في علم النفس، وبدون التوغل في تفاصيل ومصطلحات علمية معقدة أستطيع أن أقول باختصار: إنها تشبه لعبة: ماذا تفعل لو كنت مكاني؟
نظرت إليه سلوى بتساؤل، وصاح نور عيناه تتألقان:
فهمت..
واستطرد رمزي قائلا:
ببساطة سأسأل نفسي: لو أنني كنت واحداً من هؤلاء المدمرين، فما أفضل مكان يمكنني منه أن أوجه أشعتي إلى أي مكان في الشقر الأوسط؟
قاطعة نور وهو يقول:
بالضبط.. وفي هذه الحالة يجب أن تتوافر في هذا المكان شروط خاصة.
صاح محمود:
بالطبع، ثلاثة شروط بالذات.
أولاً: أن يكون في موقع متوسط يمكن منه الوصول إلى جميع الاتجاهات ببساطة.
ثانياً: أن يكون بعيداً عن الوضوح.
ثالثاً: أن يكون منفردا، غير محاط بالبنايات.
قطب نور حاجبيه وقال:
لو وافقنا على هذه النظرية وأراها معقولة تماما، لكانت أنسب الدول من حيث الموقع هي مصر.. ولو نظرنا إلى الشرطين الأخيرين لوجدنا أمامنا لغزاً جديداً، ولكن!
ثم التفت إلى سلوى وسألها:
تقولين إنك خبيرة في الاتصالات، ترى، هل يمكنك تعقب إشارة لاسلكية أو محمولة على الليزر مهما بلغت من الضعف؟
أجابت سلوى بثقة واعتداد:
بالطبع، حتى لو عجز مرسلوها أنفسهم عن التقاطها.
ابتسم نور وقال:
حسنا، أعتقد يا رفاق أن لدي خطة معقولة.
3. المواجهة...
في ردهة واسعة رحبة كان هناك ثلاثة رجال يقفون بتوتر شديد، وقد انعقد الصمت فوق رءوسهم، ولم يكن أحدهم يتكلم، وإن كانت ملامح ثلاثتهم تعبر عن قلق بالغ.
كان أكبرهم، وهو مهندس إلكتروني يدعي عاطف، ضخم الجثة، غليظ الحاجبين، يسير جيئة وذهابا في توتر واضح.
وكان الثاني وهو فني بالأشعة يدعي عبد الستار، قصير، نحيل، نحيف الوجه، يدعك أرنبة أنفه بصورة عصبية ملحوظة.
أما الثالث وهو فني إلكترونيات يسمى حامد، طويل، ممتلئ بعض الشيء، حاد الملامح، فكان يحرك رأسه يمينا وشمالا، ويفرك كفيه بحركة عصبية أخرى، والتفت الثلاثة فجأة مع ولوج نور إلى الردهة.. ابتسم نور وهو يرى التوتر الظاهر على وجوههم، ثم تصفح عدة أوراق بين يديه بهدوء متعمداً إثارة أعصابهم، ثم رفع رأسه إليهم، وتأملهم قليلا في صمت قبل أن يقول:
مرحبا.. أعتذر في البداية عن استدعائي لكم في مثل هذا الوقت المتأخر، ولكن.. كان لابد لي من مواجهتكم معا لأخبركم بالمعلومات الأخيرة التي توصلنا إليها.
تململ الثلاثة وبدا على وجوههم التساؤل، فبادرهم نور قائلا:
يعلم ثلاثتكم بالطبع أمر تسرب سر جهاز الأشعة الجديد الذي كنتم ضمن العاملين في مشروعه، كما لا يخفي على أي منكم طبعا مدى خطورة تسرب هذا السر الرهيب، وتعلمون أيضاً أن هناك من هدد باستخدام هذا السر في تدمير بعض المنشآت الحديثة في جميع بلدان الشرق الأوسط.
ثم سكت برهة وهو يتأمل وجوههم قبل أن يقول:
ولكن الذي لا يعلمه أي منكم هو أننا قد حصلنا على بعض المعلومات الخطيرة بشأن..
وتوقف نور عن الحديث، وأخذ يراقب وجوه الرجال الثلاثة، محاولا أن يقرأ فيها تأثير كلماته، ثم تابع قوله:
بشأن الجاسوس الذي باع هذا السر.
ظهرت الدهشة على وجوه الثلاثة، ولكن أحداً منهم لم ينطق إلى أن ألقى نور بقنبلته قائلا:
ويؤسفني أيها السادة أن أقول: إن هذا الخائن هو أحدكم.
صاح الثلاثة بغضب، وصرخ فيه المهندس عاطف:
اسمع أيها الملازم، ربما كان رؤساؤك قد منحوك بعض الصلاحيات هنا، ولكن ذلك لا يشتمل على حق توجيه الإهانات إلى أي من العاملين في هذا المشروع أو اتهامهم بالخيانة..
قاطعه نور هادئا وهو يقول:
اسمح لي يا سيدي، إنني لم أتهم سوى واحد فقط منكم، وليس من الضرورة أن أقصدك بل ربما..
وهنا صرخ عبد الستار غاضبا:
ربما ماذا؟ ربما كنت أنا أليس كذلك؟
أو أنك تقصد حامد.. اسمع أيها الشاب، لم أشعر لحظة بالدم على العمل في مركز الأبحاث العلمية هذا، ولكنك لو استمررت في وقاحتك فسوف.
تابع نور حديثه مقاطعا عبد الستار ومتجاهلا ملاحظته:
لقد تم فحص حالة الجميع منذ بداية العمل في مشروع أشعة الموت: الحالة المادية.. والحالة الاجتماعية، والمعنوية، وآسف عندما أقول: العائلية أيضاً، كما تم التحقيق مع الجميع، ولقد استعنا ولأول مرة بجهاز التحليل النفسي الترددي، ولقد أسفر هذا البحث الدقيق عن أن الجاسوس لابد أن يكون واحداً منكم.
قفز حامد من مكانه صارخا:
ويل لك!! هل تجرؤ على اتهامنا؟
وهنا تبدلت النظرة الهادئة في عين نور، وحل محلها نظرة صارمة تجمد لها الثلاثة، ورفع ذراعه بقوة مشيراً إليهم بالصمت، وقال بصوت مخيف:
مهلا أيها السادة، لا وقت عندي للمجاملات، بل للحقائق، والحقائق فقط، والوقت أقل من أن أضيعه في مثل هذه المهاترات فليستمع لي ثلاثتكم وبلا مقاطعة.
تسمر الثلاثة، وتابع نور قوله:
لقد جمعتكم هنا لأخبركم بشيء واحد فقط، لقد توصلنا تقريبا إلى مخبأ العصابة التي هددت بالتدمير، وما هي إلا ساعات قليلة ويكونون في قبضتنا، وساعتها سيقع الخائن، وعندئذ لن يرحمه أحد، إنما جئت لأعراض عرضا سخيا، فليعترف الخائن، وسأضمن له أن يكتفي بنقله أو استبعاده فقط، وإلا.
كان التهديد واضحا، وبرغم ذلك لم يتحرك أحد من الرجال الثلاثة، وأن ظهرت علامات الغضب واضحة على وجوههم، وانتظر نور فترة، ولم يجد استجابة من أحدهم، أشار بيده بلا مبالاة، وقال:
حسنا، فليعد كل منكم إلى غرفته، فلم أعد في حاجة إليكم:
واستدار مغادراً الردهة، وتركهم يتبادلون نظرات بها مزيج من الدهشة والغضب والاستنكار، ثم انصرف الثلاثة إلى غرفهم بصمت وغضب، وما أن أغلق كل منهم باب غرفته حتى راح أحدهم يدور في الغرفة كالأسد الجريح، وفي رأسه عاصفة من القلق، وراح يحدث نفسه:
ترى هل ما يقوله هذا الملازم صحيحا؟ أو أن الأمر كله لا يعدو مجرد خدعة؟ ولكن لماذا؟ كان من الأفضل أن تتركز الجهود حول معرفة مقر العصابة بدلا من البحث عمن باع السر، ولكن! إنه يقول: إنهم قد توصلوا تقريبا إلى المخبأ، أبداً مستحيل، لا يمكن أن يتوصلوا إلى المخبأ بهذه السهولة، لقد قضيت شهراً كاملا أفكر في أنسب الأماكن حتى توصلت إلى هذا المكان، إنها خدعة بلا شك، ثم لماذا أخبرنا بذلك؟.. ربما كانت مفاوضة منه فعلا.. لا.. لا.. إنها خدعة، خدعة واضحة، وماذا ينتظرنا يا ترى؟ الأمر كله عجيب. كان من المفروض أن يخفي عنا معلوماته، إذن فإنها خدعة، لو كان صحيحا أنهم قد توصلوا إلى مخبأ العصابة فإن في ذلك دماري، إلا إذا هربت العصابة قبل وصولهم.. إذن فهذا ما يريده، أن أحذرهم، ولكن كيف توصلوا إلى مخبأ العصابة بهذه السرعة؟ إن الشرق الأوسط يمتد من المحيط إلى الخليج، والبحث عن جهاز في حجم جهاز (أشعة الموت) مستحيل.
ونظر الرجل إلى ساعته، لم تبق سوى خمسين ساعة تقريبا على الموعد المحدد، وسار إلى سريره، ثم مسح على قائمة الأيسر بيده بتردد واستلقى على السرير، وحاول النوم ولكن أفكاره كانت تتجه على الرغم منه إلى نفس الشيء، وعاد يحدث نفسه:
في الأمر خدعة، أكاد أقسم على ذلك، من المستحيل الوصول إلى المخبأ في هذا الوقت القصير، إنه أكثر من الوقت الذي استغرقناه لكي نختار المخبأ، ولكن، لو افترضنا – مجرد افتراض – أن ما يقوله هذا الملازم صحيحا، فإن هذا يكون في غاية الخطورة، إنها تكون النهاية لي.. لا.. لا.. إنها خدعة، لا يمكن أن يقع عبقري مثلي في خدعة كهذه، وإن لم تكن خدعة؟ حسنا، فلأعد ترتيب المعلومات بهدوء.. اللعنة!! إنني متوتر جداً وذهني مشوش للغاية.
وقام الرجل واقفاً، ثم أزاح نقشا صغيراً على قائم السرير الأيسر، فتحرك كاشفا عن فجوة صغيرة في حجم نصف القرش، وأخرج منها قطعة نقدية صغيرة، وحركها بين أصابعه في تردد، وهو يقول لنفسه:
ماذا لو كانت خدعة؟ بل ماذا لو كانت حقيقة؟ على كل من المستحيل التقاط إشارات هذا الجهاز الدقيق، إنه تحفتي الفنية، تحميل الصوت على أشعة ألفا، موجات فائقة القصر، ثم لابد أن أحذر الرفاق.
ولكنه أعاد الجهاز إلى مكانه وأغلق النقش، ثم عاد يسير في الغرفة بتوتر، وعقله يصرخ:
إنها خدعة، لا شك أنها خدعة.
4. إشارة غامضة...
تثاءبت سلوى بملل، وقالت موجهة حديثها إلى نور:
لقد بدأت أشك في خطتك هذه أيها القائد، عشر ساعات مرت وأنا أنتظر هذه الإشارة، لابد أنه أذكى من أن تخدعه خطة كهذه برغم حبكتها.
أجابها نور وهو يسير في الغرفة متوتراً:
أوافقك.. إن عشر ساعات مدة طويلة، ولكن المجرم هو المجرم، كما أنني لم أضع هذه المدة عبثا، لقد أكملت التحريات حول المشتبه فيهم، ولقد وصلت إلى نتيجة جيدة، فلقد استبعدت أحدهم تماما.
قاطعه رمزي وهو يقول:
أستطيع أن استبعاد اثنين.. هل تعلم أيها القائد أن جهاز التحليل النفسي الترددي هذا رائع، لقد آن الأوان لكي يثق رجال الأمن في التحليل النفسي لكي يثق رجال الأمن في التحليل النفسي كقرينه ضد أي متهم أو كدفاع عنه.. فلو أنك درست الحياة النفسية لرجل أو امرأة معينة لأمكنك الجزم بصورة مؤكدة بإمكانية ارتكابه فعلا ما، أو عدمإمكانية ارتكابه.
كان نور قد أمسك ذقنه بيده اليسرى وهو يستمع إلى رمزي، وعلى وجهه دلائل تفكير عميق، ثم قاطعه قائلا:
لقد نبهتني إلى نقطة هامة جداً يا عزيزي الطبيب، فعلا إن الطب النفسي علم رائع، أعتقد أنه يمكنني حصر الشبهة في..
وقاطعهما صوت أزيز خافت وصرخة انتصار من سلوى، وهرع الجميع إلى جهاز الرصد الصغير الموضوع على حافة النافذة، وارتفع صوت سلوى بفرح:
لقد نجحت الخطة، ها هي ذي الإشارة المنتظرة.
ثم جلست أمام الجهاز بسرعة، وراحت أناملها تبعث بأزراره ومفاتيحه، وقد ارتسم على ملامحها الاهتمام والتركيز الشديدان، وأصبح صوت الإشارة واضحا بعد أن صمت الجميع، ولم يعد هناك سوى صوت أزيز الجهاز الصغير. وبعد حوالي سبع دقائق توقف الأزيز.. والتفتت سلوى إلى الرجال الثلاثة، وقالت بصوت خافت، وكأنها تخشى تحطيم جدار الصمت في الغرفة:
إنها شفرة سرية بلا شك، ونوع الإشارة ذاتها عجيب، إنها ليست لاسلكية ولا محمولة على أشعة الليزر، إنها محمولة على جسيمات!
أسرع محمود قائلا:
ربما تقصدين نوعا من الأشعة الجسيمية، أشعة ألف مثلا، أو بيتا، أعتقد أنني أعلم نوع هذه الإشارة، إنها حلم للعديد منا.
ثم التفت إلى نور وقال:
هذه الإشارة محمولة على أشعة ألفا أيها القائد، أكاد أقسم على ذلك.
تحرك نور نحو شاشة تليفزيونية على الحائط وهو يقول:
المهم الآن هو حل شفرة الإشارة.
ثم ضغط على زر صغير بجوار الشاشة، وظهر وجه نحيل عليها، ووجه نور أمراً:
عندي رسالة بالشفرة أريد معرفة مضمونها بأسرع وسلة ممكنة.
أجاب الشاب البادية صورته على الشاشة:
سيقوم قسم الكمبيوتر بتحليلها فوراً يا سيدي على أحدث كمبيوتر لحل الشفرة، ولو استدعى الأمر فسوف.
قاطعه نور صارخا:
لا تهمني التفاصيل.. المهم الرسالة، سأنقلها إليك حالا.
والتفت نور إلى محمود وسلوى تنقل الرسالة، وقال:
لقد كلفتك خلال الساعات العشر الماضية دراسة كل ما يتعلق بـ أشعة الموت.. هل تعتقد أنه يمكنك إيجاد طريقة لمنع تأثيرها؟
حك محمود رأسه مفكراً، وقال:
إن طبيعة هذه الأشعة طبيعة جسيمية، مثل أشعتي ألفا وبيتا، وليست موجبة مثل أشعة جاما أو أشعة رونتجن، والأشعة الجسيمية تمتاز بخاصية مهمة، وهي أنها دائما تحتوي على شحنة كهرومغناطيسية، فهي إما أن تكون سالبة أو موجبة، وبالنسبة لـ أشعة الموت بالذات فهي تحمل شحنة سالبة قوية، وأعتقد أن الأسلوب الأمثل لمنعها هو..
قاطعه نور بسؤال حازم:
تعتقد أم تجزم؟
ابتسم محمود وقال:
حسنا، أجزم أن الأسلوب الأمثل لمنعها هو وجود شحنة مغناطيسية، موجبة قوية حول منطقة وجودها، وتبعا لنظرية تجاذب الأضداد فسوف تنجذب جسيمات (أشعة الموت) إلى الشحنة الموجبة وخاصة إذا كانت تفوقها قوة.
وتحرك نور دون أي تعليق نحو شاشة التلفزيون المعلقة على الحائط، وضغط على زر آخر، فظهر على الشاشة وجه رجل عجوز وقور الملامح، وقال نور باهتمام:
أعتقد أننا في حاجة إلى جهاز بسيط وبسرعة كبيرة.
ابتسم العجوز وسأله بهدوء:
التفاصيل أيها الملازم:
تردد نور برهة ثم قال:
أحتاج إلى مغناطيسي قوي جدا، وبالذات شحنته الموجبة.. أقصد أحتاج إلى جهاز ما ينتج نوعا من الشحنة الموجبة، تكون من القوة بحيث تجتذب أشعة الموت السالبة، لست أدري هي يبدو حديثي واضحا، أو أنه ينبغي أن أوضحه أكثر؟
قال العجوز وعلامات الجد بادية على وجهه:
رائع.. رائع أيها الملازم.. يا لها من فكرة بسيطة، وإن دلت على ذكاء فطري!! ولكن هل توصلتم إلى معرفة مخبأ العصابة؟
احمر وجه نور خجلا وهو يجيب بتلعثم:
ما أن ينتهي صنع هذا الجهاز، حتى نكون قد وجدنا المخبأ يا سيدي.
ثم أضاف بسرعة:
لقد وصلنا إلى بداية الخيط، وما هي إلا ساعات قليلة حتى..
قاطعه العجوز بحزم:
ما أن ينتهي فريق علمائنا من صنع هذا الجهاز المطلوب حتى يكون بين يديك أيها الملازم.. وفقكم الله.
وقف نور منتصبا أمام الشاشة حتى اختفي منها هذا الوجه، ثم زفر بتوتر وبقى صامتا برهة، ثم تحرك نحو سلوى وسألها:
من أي غرفة صدرت هذه الإشارة؟
أجابت سلوى بهمس:
من الغرفة الثالثة.
هز نور رأسه، وقال:
إذن فقد وقع الخائن.. سيندم على أنه لم يساومني في العرض الذي قدمته إليه.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا