ويبقى الأمل ينبض في القلوب من 31 إلى 33 للكاتبة علياء الكاظمي

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-06-16

31)
كانت رغد مستلقية في فراشها صامتة تحدق في سقف غرفتها ودموعها تسيل على وجنتيها بغزارة.. دموع كثيرة.. أنهار من الدموع.. دموع لا تتوقف.. لم تكن تظن أن الإنسان يستطيع أن يذرف كل هذه الدموع.. وكانت تشعر وكأن قبضة حديدية تقبض على قلبها وتكاد تعتصره وتحس بضيقة غريبة تجثم على صدرها.. وكانت أختها دلال تجلس عند رأسها على طرف سريرها وهي تبكي أيضاً، إنها تبكي حال أختها، تبكي حبها النظيف، الصورة المثالية للحبن الحب الذي لم يكتمل والصورة التي أصبحت سراباً.. وكانت أثناء بكائها على أختها تشعر أنها تبكي نفسها، تبكي الكلية التي أحبتها ودراستها التي تأخرت وصلاح الجبان الذي خذلها.. والذي لا تعرف عنه شيئاً منذ عرف والدها، حتى وهي تقوم بإجراءات التحويل من كليتها لم تتجرأ حتى أن تنظر ناحية مكتبه، وفجأة تنتبه دلال من خواطرها وتمد يدها وتمسح على رأس أختها، وتفتح فمها لتقول ما تخفف به عن رغد، لكن رغد لا تسمع شيئاً مما تقوله فتصمت دلال وتنحني تقبل يدي رغد وتضغط عليهما علها تمنحها الشجاعة لمواجهة هذا الموقف الصعب.
وفتح الباب ودخلت الأم.. والتاع قلبها على حال ابنتها وكانت تشعر بالعجز وهي تنظر إليها، صحيح أنها تشعر غالباً بالعجز عن التأثير في حياة من حولها وخاصة أبناؤها لكن شعورها اليوم كان مضاعفاً وهي ترى ابنتها الصغرى الجميلة منهارة محطمة وهي لا تعرف حتى ما تقول لها.. تقدمت الأم من رغد وقلبت رأسها وقالت لدلال: ابقي معها عسى أن يمدها الله بالقوة لتتجاوز ألمها.. وانسحبت من غرفة ابنتها وهي تشعر أنها ضعيفة أكثر من أي وقت مضى، وفجأة بدأت أنفاس رغد تتهدج وكأنها لا تقوى على التنفس وبدأ صدرها يعلو ويهبط بسرعة فخرجت دلال مسرعة وهي تصرخ وتنادي أخاها وأباها.. فدخل شاهين وحمل رغد بين ذراعيه كطفلة صغيرة ونقلت رغد إلى المستشفى.. حيث قضت هذه الليلة.. ليلة زواج أحمد من فتاة أخرى غيرها.
(32)
جلس شاهين أمام بسمة في مطعم هادئ منعزل لا يرتاده الكثيرون وكان شاهين حزيناً متألماً متأثراً وقد كان بحاجة إلى لقاء بسمة التي ما إن جلست أمامه حتى رق قلبها وهي تراه في هذه الحالة، كانت تعرف أن شاهين متأثر لما حصل مع أخته رغد، فقد حكى لها قصة أخته كاملة وكيف أنها قضت ثلاثة أيام في المستشفى وأنها منذ عادت إلى البيت وهي حزينة محطمة تكاد لا تأكل شيئاً ورغم محاولة الجميع تدليلها والترفيه عنها إلا أنها مكتئبة وتبدو كأنها في عالم آخر، ووالده المسكين يكاد يجن حزناً ولا يتوقف عن شتم السيد عامر ولم يسمع شاهين أن والده قد شتم أحداً قط من قبل لكنه سمعه وهو يشتم السيد عامر ويدعو عليه أن يحرق الله قلبه كما أحرق قلب رغد المسكينة، وقد عرف شاهين أن عروس أحمد هي فتاة في عمر رغد وهي من أقارب والده، وقد كره شاهين أحمد واحتقره، ذلك الشاب المسلوب الإرادة الذي كسر قلب أخته وتخلى عنها، صحيح أنه يعرف أن زواجهما أصبح مستحيلاً لكنه كان يتمنى لو أن أحمد لم يتزوج بهذه السرعة، كان يأمل أن تهدأ مشاعر رغد بعد حين وتنسى أحمد مع الوقت لكن أن توجه لها ضربة قاسية كهذه وهي الفتاة الرقيقة الغضة فذلك كثير ومجحف، كان يحكي لبسمة وهي تستمع له وتخفف عنه وتنظر إليه كأنها أم تنظر إلى ولدها، وفجأة قال شاهين: بسمة لم أعد أطيق البعد عنك.. أريد أن نتزوج قريباً، بل قريباً جداً أشعر أنني أحتاج إليكِ، لقد قررت أن أفاتح والدي الليلة بأمر زواجنا، لن أنتظر يوماً واحداً أكثر.
ردت بسمة بحب: لكن يا شاهين والدك متضايق لأجل أختك لم لا تنتظر قليلاً حتى تهدأ الأمور.
شاهين: لا لن أنتظر لقد انتظرنا طويلاً ولم أعد أطيق الانتظار.. لا أريد أن أعيش بعيداً عنك.. سأفاتحه الليلة وسأصر على أن نتزوج في أقرب وقت.
ابتسمت بسمة بحنان وقالت بخجل: كما تريد يا حبيبي.. كما تريد.
(33)
دخل شاهين المنزل ليجد سمر أمامه وهي ثائرة وقالت له: كيف تخفون عني ما حدث لرغد، ألست أختكم؟ ألست ابنتكم، لماذا لم تخبروني؟ أختي تدخل المستشفى وتنهار وأنا آخر من يعلم أزوركم اليوم لأعرف من أمي كالغريبة.
قاطعها شاهين: سمر لقد خفنا عليك خاصة أنك في بداية شهور الحمل، بصراحة لم نشأن أن نفزعك.. وتركها شاهين واقفة تتذمر واتجه ناحية مكتب والده وطرق الباب ودخل.. كان الأب جالساً وقد بدا وكأنه كبر عشرات السنين، كان متأثر بما حدث لرغد وحزيناً لأجلها.. دخل شاهين وقال: أبي أريدك في موضوع يخصني..
الأب: اجلس يا بني.. خيراً إن شاء الله..
شاهين: أريد أن أتزوج يا أبي.
اتسعت عينا السيد عبد الله فهو لم يتوقع أن يفاتحه شاهين بالزواج في هذه الظروف، خاصة أنه لم تمر فترة طويلة على فسخه لخطبته السابقة..
الأب: ألا ترى أن الظروف غير مناسبة يا بني؟!
شاهين: بالعكس يا أبي أرى أننا بحاجة إلى الفرح وإلى الخروج من دائرة المشاكل والأحزان التي نمر بها.. أبي أرجوك لا ترد طلبي.
الأب: هل اخترت عروساً؟ أم ماذا؟
قالها الأب بنبرة سخرية بسبب حسرته على ابنة أخته التي كان فرحاً بها كل الفرح..
شاهين: نعم يا أبي، فتاة مهذبة رائعة الأخلاق شاهدتها في إحدى الوزارات ودخلت قلبي.
الأب: هل هي سبب تركك لشيماء؟
رد شاهين بارتباك: لا يا ابي بل عرفتها بعد فسخ خطوبتي أنا وشيماء، إنه مضطر للكذب في هذا الخصوص حتى لا يجرح مشاعر أبيه..
تنهد الأب وبدأ يسأل عن التفاصيل التي لم تعجبه أبداً عندما عرفها، فبسمة من عائلة أقل مستوى بكثير من عائلة السيد عبد الله ووالدها منفصلان فهي لم تنشأ في أسرة متماسكة وهذا النسب لم يكن ما يطمح إليه السيد عبد الله فشاهين ابنه الوحيد الذي أراد له زوجة من عائلة مرموقة ثرية، زوجة تشرفه وتليق به، وليست فتاة مغمورة من عائلة فقيرة مفككة..
قال الأب: اسمع يا ابني لقد احترمت رغبتك بترك شيماء لكن أن تناسب عائلة كهذه أنا لن أقبل، لن أقبل أبداً.. 
شاهين: أنا لست صغيراً يا أبي وأظن أنه من حقي أن أختار شريكة حياتي.
الأب: ومن حقي عليك أن تأخذ برأيي، وأنا غير موافق، ماذا حدث لعقلك، تترك ابنة عمتك الجميلة الراقية لتخطب فتاة لا أصل لها ولا عائلة؟
شاهين: ابنة عمتي إنسانة فارغة، صورة بلا جوهر وبلا شخصية، إنسانة لن أندم يوماً على تركي لها.. أما بسمة فهي رائعة..
قاطعه الأب صارخاً: لن أسمح لك حتى بالمقارنة، شيماء تاج على رأسك أنت الذي لا تستحق النعمة، ولن أوافق على زواجك لو انطبقت السماء على الأرض.
شاهين: إذن سأترك البيت ولن أعود..
صرخ الأب: مع السلامة.. بلا رجعة..
فخرج شاهين وهو يرتعش من الباب ووجد والدته وسمر ودلال أمام باب المكتب وقد سمعن صراخهما في الداخل وعرفن ما حدث.. و..
صرخت الأم: شاهين إلى أين يا بني؟
شاهين: أترك هذا البيت لن أبقى فيه دقيقة واحدة.. سأعيش في منزل العائلة..
صرخت الأم: استعذ بالله يا بني.. والدك سيهدأ سوف يوافق..
لكن شاهين صعد إلى غرفته وأخرج حقيبة كبيرة وبدأ يضع ملابسه.. جرت وراءه دلال باكية وأخذت تحاول ردعه بلا فائدة.. كان ثائراً كالبركان.. ولا يرد عليها.. وبدت سمر كالضائعة لا تعرف ماذا تفعل..
أما الأم فقد جلست على الأرض أمام باب مكتب زوجها وبدأ شريط حياتها يمر أمام عينيها.. إنها تعيسة.. أبناؤها بعيدون عنها، وقد كان شاهين هو الوحيد الذي بداريها ويدللها ويحكي لها.. كان الوحيد الذي يرحم ضعفها ويهتم بها.. الوحيد الذي يشعرها أهميتها بأنها موجودة، وفزعت الأم بل شعرت بالرعب عندما تخيلت المنزل دون شاهين وقامت واقفة وبدا التصميم في عينيها ودخلت على الأب.. رفع الأب رأسه ونظر إليها متسائلاً..
قالت الأم: اسمع يا عبد الله.. لن أسمح لك أن تفرق بيني وبين ابني.. وافق على زواجه واترك له حرية اختيار زوجته.. إنه هو من سيتزوج لا أنت..
الأب: لا تتدخلي بيني وبينه..
الأم: كيف لا أتدخل؟ أرى ابني الوحيد يخرج من المنزل وتريدني أن أسكت؟ لماذا؟ لأنك بأنانيتك تريد أن تمنعه من الزواج بمن يحب ولأجل ماذا؟ لأجل أن يتزوج زواجاً مشرفاً.. مشرفاً أمام الناس ومخزياً أمام نفسه.. انظر إلينا يا عبد الله.. أليست زيجتنا مشرفة؟! نعم مشرفة ومرموقة ومتكافئة لكننا لسنا سعداء.. لم تحبني يوماً ولم تتقارب طباعنا يوماً.. عشنا كالأغراب أنت بأنانيتك وأنا بضعفي واستسلامي هل تريد لابنك أن يكون نسخة منك؟ أجبني لا تحدق في وجهي هكذا، لن أستسلم هذه المرة فابني هو أعز ما أملك.. إذا خرج من البتي سأخرج معه وأقسم أنني لن أعود..
الأب: وفاء لا تتحديني..
الأم: عبد الله.. لن يخرج شاهين من البيت وسيتزوج بسمة موافقتك..
اقتربت الأم منه وقالت بصوت منخفض: لم تحبني يوماً.. أنا صورة بلا روح وبلا جوهر.. جميلة من الخارج لكن لا شخصية لي..
الأب: لا تقولي ذلك..
الأم وقد انهمرت دموعها: هذه هي الحقيقة.. كنت أضعف من أن تكون لي شخصية أجذبك بها إليّ وها نحن نعيش تحت سقف واحد ولا يجمعنا شيء سوى المظهر الأسرى والاجتماعي لكن لا شيء بيننا.. إكراماً لي وافق على زواج شاهين ممن اختارها قلبه لقد استجمعت شجاعتي لمواجهتك وهي المرة الأولى التي أطلب منك شيئاً أنا زوجتك وأم أولادك..
وانهمرت دموع الأم الملتاعة..
وعندما سمع الأب صوت شاهين وهو يجر حقيبته في البهو في طريقه إلى الخروج، ونظرت إليه الأم كأنها تستحلفه أن يفعل شيئاً.. فهرول الأب وراءه وناداه: شاهين.. التفت شاهين نحو أبيه وقد استبد به الغضب.. تقدم الأب منه وقال: لا تترك البيت يا بني.. أنا موافق على زواجك من بسمة.. لا مانع لدي ومستعد أن أخطبها لك اليوم..
نظر شاهين إلى أبيه بدهشة ثم التفت نحو أمه وأختيه اللتين لحقتا به.. ثم قال: أبي هل حقاً أنت موافق؟!
الأب: نعم موافق إكراماً لخاطر والدتك يا شاهين، فقط إكراماً لها.
ورمى شاهين بنفسه على صدر أبيه وأجهش بالكباء كطفل صغير ووضع الأب ذراعه على ظهر ولده يربت عليه ويبكي معه وفي ذراعه الأخرى ضم إليه زوجته.. المرأة التي لم يشعر بها يوماً ولم يحبها يوماً.. أم أولاده التي تحررت أخيراً من استسلامها وخنوعها..

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا