الشيخة روان
حزام بن راشد
"تنويه"
وقعت العديد من القصص الحقيقية..
الموثقة من الجهات الأمنية في بلدي..
من التنظيمات الإرهابية..
تجنبت ذكر اسمائهن للاستدلال على صحة المعلومات
التي طرحتها بين أوراق الرواية..
تقديرًا للوضعين النفسي والاجتماعي لتلك العائلات المتضررة.
(أي تشابه بالأسماء.. هو فقط بمحض الصدفة)
قد يختلف معي البعض في كتاباتي..
لكن.. ماذا أفعل لهم طالما هذا أنا..
أكتب من أجل (وطني)..
وهم يعترضون عليّ من أجل طريقة فهمهم للدين!
* * *
سيأتي اليوم الذي ستقرؤون فيه هذا الإهداء
وأنا ميت تحت الأرض.. لذلك..
إن اختلفتم معي فيما كتبته وأنا حي..
أعيدوا قراءته وأنا ميت..
ربما ستفهمون ما كنت أريد أن أوصله إليكم..
من خلال كلماتي.. كلماتي فقط.. وليست رصاصاتي!
إهداء
على الرغم من المرارة التي أصبحت جزءًا من قلبي..
إلا أنني مازلت أقولها لكِ.. كما لو أنه لم يحدث لي شيء!
تلك الكلمة التي أحبها..
لن أكتبها طالما أنك عرفتها الآن! نعم هي.. وليست غيرها.
أحبك..
يا امرأة لا تزال معي.. في زمان الحصار..
أحبك..
يا امرأة لا تزال تقدم لي فمها وردة.. في زمان الغبار..
أحبك
حتى التقمص.. حتى التوحد..
حتى فنائي فيك.. وحتى اندثاري..
نزار قباني
عندما نكتب..
نتقاسم مع الناس بعض أوهامنا
وهزائمنا الصغيرة
واسيني الأعرج
الهروب نحو الهاوية!
يفترض أن أكون الآن بأقذر مكان في السجن!
وأن أواجه ربما حكم الإعدام، بسبب انتمائي إلى تنظيم داعش الإرهابي!
لكن صدفة العمر أو لعبة الحظ، جعلتني أنعم إلى الآن بملايين من الريالات، بعيدًا عن هذه النهاية المأساوية.. المفترضة!
ضياء، زوجي الثاني بالمسيار.. كما شرع البعض ذلك، ظنًا منهم أنه ضحك على الله!
هو سبب تعاستي وسعادتي في الوقت نفسه!
إلى الآن مازلت أشتم رائحة شقته النتنة، التي أجبرت على العيش فيها!
قصتي ليست لها شبيه، بل إنها لا تصدق أبدًا.. لدرجة أنني شخصيًا لم أستوعب تفاصيلها بعد.. كل ما حدث لي، لم يكن ليحدث لو تزوجت من ابن جيراننا، الذي أحبني وأحببته بجنون منذ صغرنا، في حي الجرادية بمدينة الرياض..
لكن عناد والدي قبل أن يتوفى، وتمكسه بعادات القبيلة، جعلاه يحرمني من خالد.. على الرغم من أنه لا يقل عني نسبًا، ومن قبيلة معروفة.. الشاب الوحيد الذي أحببته، حيث كان بتلك الفترة يدرس الطب، واستمر توارث ذللك الحرمان من قبل إخواني!
ولأنني يتيمة الوالدين.. لم أستطع مقاومة جبروت وعناد إخواني الشباب الثلاثة، فأنا أختهم من زوجة والدهم الثانية المنبوذة المتوفية.. التي اقتحمت حياة والدتهم، كما يقولون دائمًا..
بغضهم الدائم لي، أنا أختهم الوحيدة غير الشقيقة.. آخر العنقود، هو ما جعلني بأن أصل إلى هذه المرحلة..
زواجي الأول.. تزوجت مجبرة وأنا في سن السابعة عشرة بشاب من قبيلتي نفسها..
لم يلاطفني أبدًا خلال الأشهر الخمسة الأولى التي جمعتنا في منزل واحد مع أهله، فمنذ الأسبوع الأول، اكتشفت أنه يتواصل هاتفيًا مع فتاة أخرى..
أخبرني بعد مواجهته بذلك، بأنها حبيبته التي لا يريد الارتباط بغيرها، وأنه أجبر على الزواج مني بإصرار وتهديد والديه، مثله مثل معظم الشباب، بل وصلت به الدناءة بأن يطلب مني أن أقبل بأن يأتي بها في غرفتي وعلى فراشي خلسة! ومنذ أن طلب ذلك الطلب الوقح، انتهى كل شيء بالنسبة لي، ولم أغضب منه، لأنه ضحية مثلي تمامًا، ضحية تعنت أسري يقدم العادات على المنطق، لقد تزوجت من حبيب فتاة أخرى، كما هو تزوج مني.. حبيبة شاب آخر! قمة الظلم والخيانة أن نتزوج من أحباب غيرنا، ونقبل أن نمارس دورهم.. مجبرين!
ياااااه على هذا الظلم الشرعي يااااه.
لم أبقى معه أكثر من تلك المدة.. إلى أن طلقني، بعدما طلبت منه ذلك كثيرًا..
وسط غضب الأهالي.. وعلى الرغم من أنهم كانوا السبب الرئيسي في هذه النهاية الغبية.
بعد ذلك بفترة.. توفيت والدتي المريضة..
ومنذ ذلك اليوم، قررت أن أكرس جل وقتي في الدراسة، كي أنتهي من السنة الأخيرة من تعليمي الثانوي وألتحق بالجامعة، خصوصًا بعدما علمت بقرار خالد الذي قرر وقتها الاهتمام بإكمال السنة الأخيرة من دراسته بالطب.. واختفى كي يشغل مأساته بذلك الهدف.
حصلت على الشهادة الثانوية بامتياز، وبدأت أقدم بالجامعات المحلية، قبلت بي العديد من الجامعات، ومن بينها جامعة الملك عبد العزيز في جدة..
أذكر جيدًا شعوري تجاه هذا الخيار.. اخترت فورًا هذه الجامعة، ولا أعلم لماذا؟! لكنني أعتقد أن أحد أهم الأسباب هو أن مدينة جدة تبعد عن مدينتي (الرياض) قرابة ألف كيلو متر.. وحينها كنت أبحث البعد عن كل شيء.
أصررت على الذهاب، رغم رفض إخواني المتصنع، هم في نظرهم أن هذه فرصة على طبق من ذهب كي يتخلصوا من عبء وجودي بحياتهم العائلية، ومن إزعاج زوجاتهم الرافضات وجودي في منزل أحدهم، فأنا منذ وفاة والدتي ثم بيع منزلنا الصغير، أصبحت متنقلة بين منازل إخواني الثلاثة.
وافقوا وكلفوا أخي أحمد، أقلهم قسوة والذي يحمل بقلبه بعض الرحمة كما كنت أظن ذلك، بتجهيز أوراقي ومتطلبات دخولي سكن الطالبات الجامعي هناك..
حدث ذلك سريعًا.. مع اقتراب الموسم الدراسي الجديد عام 2014 م ودعتهم.. وأوصلني أحمد وأخبرني بأنه سوف يتواصل معي بين فترة وأخرى.. أذكر جيدًا ملامح وجهه وعيناه التي لم تقع على عيني مطلقًا، ربما حرجًا أو حزنًا، لا أعلم.. قال لي وهو يمسك بمقود سيارته بقوة وسط تموج حاجبيه:
- وداعًا روان.
ودعته بحزن.. والتحقت بالسكن كي أبدأ دراستي، أو إن جاز التعبير، كي تبدأ تعاستي!
بعد استكمال أوراقي من قبل المشرفة هناك، أوصلتني إحداهن إلى الغرفة التي سوف أعيش بها قرابة السنوات الخمس كي أحصل على الشهادة الجامعية.
أذكر جيدًا تفاصيل جدران تلك الممرات الأشبه بالمتاهات، ورائحة ملطف الجو التي كانت منتشرة بالمكان.. طوال ذلك الطريق، كانت تلقي تلك المشرفة القوانين والشروط والتحذيرات.. كل شيء ممنوع سوى الأكل والتنفس! جيد إلى حد ما..
يمنع اقتناء الهواتف وأجهزة الحاسوب وكل ما هو مجهز بكاميرا التصوير.
وبعد العاشرة مساء.. يمنع الخروج من السكن حتى مع ولي الأمر.. وغيرها من الأوامر المقيدة.. لكن اكتشفت فيما بعد أن الكثيرات منهن يخالفن القوانين بطرق ملتوية وذكية..
وصلت إلى الغرفة الصغيرة.. وجدت بداخلها سريرين وفتاة..
علمت بأن هذه الفتاة هي التي ستشاركني الغرفة..
تكلمت المشرفة:
- أنت يا خديجة.. هذه شريكتك الجديدة بالغرفة.. روان..
مشطتني بنظرات مريبة، ثم قالت بصوت متوسط:
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
- وعليكم السلام.
- ردي بتحية أفضل منها كما أمرنا الله.
- ها! آسفة.. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
نظرة خاطفة مني على جدران الغرفة أصابتني بالتوتر قليلاً!
كانت الجدران تحتضن الكثير من الصور التي لا تحمل الوجوه..
لوحات تحمل آيات جهادية.. وصور لمدينة بغداد القديمة ولدمشق، وفي منتصف الغرفة صورة لخريطة العالم العربي والإسلامي!
وسجادة خضراء بطرف سريرها، وبين أصابع يدها اليمنى سبحة صفراء طويلة..
وضعت حقيبتي بجانب السرير الخاص بي، وتظاهرت بهدوء أردت إثباته بابتسامة كاذبة..
خلعت عباءتي كي أتخلص من الحر وأرتاح قليلاً..
- بنطلون! وجينز! هنا في غرفتي!
- ما خطبك؟ وما الخطأ في ذلك؟
- اسمعي روان.. سأعذرك لأنه يومك الأول.. إذا أردت أن تنعمين بهذه الغرفة، تقيدي بالأدب وابتعدي عن المنكرات، وإلا سأتصرف معك تصرفًا آخر..
- أدب؟ منكرات؟ ما الذي فعلته؟! لم أتفوه بكلمة ولم أكمل حتى خمس دقائق معك!
- لا أريد مشاهدة هذه الملابس مرة أخرى.. ارتدي الملابس الفضفاضة فقط.
علمت أنها فتاة محافظة، بل متشددة، وأردت أن أنهي هذا النقاش، خصوصًا أنه اللقاء الأول بيننا، ولا أريد أن تتعكر علاقتنا منذ البداية، فأمامنا سنوات وسنوات..
لذلك أجبتها بالموافقة، وأخبرتها بأنني سوف أحترم ما تريده..
بدلت ملابسي ونمت نومًا عميقًا غير مريح أبدًا بتلك الليلة الغريبة والموحشة..
لا أريد أن أصدمكم بإخباري لكم بأنني لم أكمل أسابيع بالسكن الطلابي!
لقد هربت!
نعم، هربت من السكن بسبب تلك المجنونة التي ورطتني بأشياء كثيرة!
أسوأها عندما قامت بإجراء مكالمات من هاتفي الخاص وإرسال إيميلات من حسابي الخاص أيضًا إلى شخصيات مشبوهة من دون علمي!
طيبتي وحيائي جعلاها تتمادى معي وتستغلني..
تصرفاتها وحديثها العدائي المستمر تجاه الدولة صدمني كثيرًا..
تكفيرها للكل ومن دون استثناء أصابني بالقشعريرة والخوف.. لكنني لم أكن أعلم ماذا يجب علي أن أفعله.. فأنا أريد أن أحافظ على المكان الذي يأويني ويساعدني على إكمال دراستي..
كان كل حديثها عن الجماعات الإرهابية بسورية والعراق!
تمدحهم.. تبجلهم.. تدعو لهم وتناصرهم من خلال حسابات وهمية قامت بإنشائها على "تويتر"!.. صارحتني بذلك ظنًا منها بأنني سوف أتعاطف معها..
صارحتني بعدما أصبح بين يديها ما يدينني!
إي درجة أنها تجرأت بأحد الأيام كي تجبرني على مشاهدة مقطع لعملية اغتيال لرجلي أمن.. كانا يؤديان واجبهما وهما يستقلان السيارة!
لا أصدق أن رجال الأمن الذين يتوقفون وقت الصلاة لأدائها مع المواطنين، أو على الأرصفة مع عمال النظافة.. هم كفرة فجرة بأعينهم ويجب قتلهم!
رأيت العديد من المقاطع التي يقتل بها شباب في مقتبل العمر.. كل ذنبهم أنهم يرتدون زيًا عسكريًا كي يمارسوا واجبهم اليومي مقابل راتب شهري يصرفون به على عائلاتهم..
في كل عائلة تقريبًا يوجد رجل أمن.. شرطي.. رجل مرور.. أو حتى رجل دفاع مدني..
والكل يعلم أن معظمهم لا يملكون خلفية سياسية كبيرة أو عميقة بما يدور حولهم.. هم بسطاء.. يبحثون عن الوظيفة التي تساعدهم على مشاق ومتاعب الحياة..
ولهم شرف حماية الوطن من خلال ذلك.. كيف يكافؤون بالقتل؟!
لا أنسى ملامح المجنونة خديجة المنتشية بالسعادة وهي تشاهد هذه المقاطع وتتبعها بالتكبير..
كانت تصر علي أن أشاهد ذلك، وأخشى أن أرفض..
لذلك، كلما اقتربت مني كي تريني مثل تلك الفيديوهات، كنت أوجه نظري بجانب هاتفها وأوهمها بأنني أشاهد بتمتع.. وأنتظر بقلق انتهاء المقطع كي تحل عن سمائي وتنزاح غيومها الملبدة من أمام عيني..
توجست خيفة منها، خصوصًا عندما قالت لي كلمات لم أنسها أبدًا.. علمت من خلالها أنها فتاة ليست طبيعية أبدًا.. نظرت إلى الأعلى ثم قالت:
لطالما تمنيت لو أن تنبت لي لحية!!!
كي أسيطر على من حولي! وأتمكن من أنفسهم.. من مالهم.. حتى من أبنائهم.. ومن ساعة إزهاق أرواحهم برميهم في التهلكة!
من أجل هدف واحد فقط.. نصرة إلهي وديني.. لكنني فتاة.. للأسف!
تحملت كثيرًا كي أستمر بالسكن.. طلبت سرًا من المشرفة أن تغير لي الغرفة..
وفي كل مرة تسألني لماذا؟ ينشل لساني عن الإجابة خوفًا من العاقبة..
إلى أن حصل أنني أصبحت أصمم لها صورًا على برنامج "فوتوشوب" كي تنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي.. مقابل عشرين ريالاً للصورة..
قبلت لحاجتي الماسة إلى المال.. ولم أكن أفهم ما تحمله الصور من خطورة إلا بعد فوات الأوان..
إلى أن أتى ذلك اليوم الذي عرفتني فيه على ضياء..
سعودي الجنسية.. يبلغ من العمر 39 عامًا..
وقامت بالربط بيننا على "واتس واب".. كي يخبرني عن نوع الصور التي يريدها، ومن ثم أصممها وأرسلها له مباشرة كي يقوم بنشرها بشكل أكبر من خلال حسابات "تويتر".
بعد شهر من العمل.. والتقصير في الدراسة.. كتب لي ضياء بعد منتصف الليل:
- كيف حالك روان؟
استغربت من سؤاله على غير العادة في هذا التوقيت.. ترددت أن أجيبه، لأنه لم يسبق لنا أن تحدثنا خارج إطار العمل.. ثم كتبت وأنا مستلقية والخمول يمشط أجزائي:
- الحمد لله.. تفضل.
- هل خديجة بجانبك؟
- نعم.. ولكنها نائمة.. لماذا؟
- ما سوف يدور في هذه المحادثة أريده أن يظل بيننا، وأن نحذفه فور انتهائنا من الحديث.
كلماته هذه جعلت محاولات النوم التي كانت تراودني تزول وتتقهقر:
- تفضل أخي.
- لي خبرة بالحديث مع الناس، ومعرفة طبيعة شخصياتهم، ولدي قناعة كلية بأنك تفعلين ما تفعلينه مجبرة، لماذا؟ هل تجبرك خديجة؟
فاجأني حقيقة بما قاله.. وترددت كثيرًا بالاعتراف.. لأنني تساءلت مع نفسي حينها، ما الفائدة من إخباره بذلك؟ قاطع صمتي بتكرار سؤاله مرة أخرى:
- روان.. هل أنت مجبرة؟
- لا لا.. ثم لماذا تسأل؟
- من يعمل معنا أسأل عنه جيدًا بطريقتي الخاصة، وحديث خديجة عنك لم يقنعني، لذلك أشعر بأنك مجبرة بسبب خوفك مثلاً أو لحاجتك للمال ربما!
وجدت أصابعي تكتب من دون أن تستشيرني:
- نعم مجبرة.. ولا تسأل أكثر.
- روان.. نحن مقبلون على مرحلة خطرة ولا أنصحك بالاستمرار، ولن أبوح لك أكثر من ذلك.. وأنصحك بكل هدوء أن تحذفي المحادثة الآن، وألا يصل لخديجة ما دار بيننا أبدًا.
أذكر جيدًا رجفة يدي حينها، وأذكر طقطقة أسناني من الخوف التي بسببها جعلت خديجة تتقلب بفراشها، أغلقت هاتفي فورًا وحضنت فراشي ولم يتجرأ النوم حتى من الاقتراب مني إلى طلوع الشمس من دون أن أشعر بذلك.
أسبوع كامل لم أنم جيدًا، ولم أصمم أي تصميم وسط غضب خديجة..
كنت أتحجج بالمرض، ولم تصدق ذلك..
إلى أن أخبرتني ذلك اليوم بخبر زلزل كل جسدي..
أخبرتني بأنها تسعى منذ فترة إلى تجنيد بعض الطالبات المحافظات بالسكن، من أجل الانضمام إلى الخلايا الإرهابية السرية بالبلد، ممن يحملون نفس الفكر التكفيري التي تعتنقه هذه المجنونة!
صرخت صرخة بوجهها.. وأنا أتطاير غضبًا:
- ماذا تقولين؟ هل جننت.. وما دخلي أنا؟
- أنت رفيقتي بالجهاد هنا؟ هل نسيت؟
- نعمممم.. جهاااااد؟
تساءلت مع نفسي: ما هذا النوع الحديث من الجهاد التي تقصده؟!
كنت أبكي وأنا مرعوبة، وبدأت بطرح توسلاتي بين قدميها كي تتركني وشأني..
قالت بكل برود:
- فات الأوان يا جميلة.. أنت معنا ورسائلك على إيميلك الشخصي ومحادثاتك معي بالحفظ والصون، كلها تثبت أنك رفيقتنا، اهدئي.. فأنت الآن تعيشين الفخر.. أزهى فترات عمرك أيتها الغبية.. عفوًا أيتها المجاهدة.
(قالتها ضاحكة).
طبقت فمي وأخرست ملامحي وصمت صمتًا غريبًا..
لم أصدق أبدًا ما أنا فيه..
كان هدفي من دخول السكن هو الدراسة للهرب من الظروف العاطفية المؤلمة التي مررت بها، وتحول الهدف في لمح البصر إلى محاولة النجاة فقط!
طرأ على بالي أخي أحمد.. هو الحل لخروجي من هنا، لأنه – وكما تقول التعليمات والقوانين هنا – هو ولي أمري ولا أستطيع الخروج أبدًا إلا بإذن منه شخصيًا.. اتصلت عليه سرًا، وأخبرته بأن يأتي فورًا للأهمية..
سألني لماذا؟ أخبرته بأن الحديث على الهاتف غير مجد.. وطلبت منه أن يستعجل بالحضور من الرياض، تمتم بكلمات ثم أنهى المكالمة بـ "حسنًا"، وأغلق هاتفه لمدة أسبوع! ربما ظن أنني أريد منه المال؟
لم أهنأ بالنوم طوال ذلك الوقت، سوى وأنا مجبرة من فرط السهر والإجهاد..
وفي أحد الأيام وأنا أنظر إلى السقف يأسًا وإحباطًا، وخصلات شعري تغطي عيني.
أضاءت شاشة الهاتف بعد منتصف الليل.. نظرت إليها متكاسلة.. رسالة من ضياء.. فتحت الهاتف بسرعة.. كتب لي:
- صباح الخير أيتها المجاهدة (أتبعها برمز لوجه ضاحك)..
- ضياء.. أريد الخروج من هنا.. أشعر بالاختناق والضياع!
- أين أهلك؟
- شأن خاص.. أريد الهرب من هنا والرجوع إلى أهلي..
- سهل جدًا.
- كيف ذلك؟ أخبرني؟
- بعد أن تصلي إلى الحرم الجامعي من خلال الحافلة.. أخبريني في أي يوم تريدين ذلك وسآتي لأخذك.
- تأخذني! إلى أين!
- إلى أهلك كما تريدين.
- أهلي بالرياض وبين الرياض وجدة قرابة ألف كيلو متر!
- أعلم.. لذلك سآخذك إلى منزل أختي وترتاحين عندها ليلة، كي أرتب لك رحلة عبر البر مع عائلتها.. هي من سكان الرياض وأتت هنا لقضاء إجازة..
ترددت كثيرًا بالرد عليه.. لكن هاجس الخوف من خديجة وجنونها جعلاني أوافق على ما قاله.. المهم أن أخرج من هنا.. كتبت له:
- اتفقنا.. سأرتب بعض الأمور وسأخبرك عندما أجهز..
- اتفقنا روان.
انتهى الحوار.. ولم أستوعب ما سوف أفعله! سأخرج مع شاب غريب!
سأفعل كي أهرب من الجحيم.. كنت مضطرة، فأخي أحمد لم يفتح هاتفه حتى تلك الليلة، ومن المستحيل أن أهين نفسي وأطلب شيئًا من إخواني الآخرين.
كنت أهدئ من توتري وأخبر نفسي بأنها دقائق فقط وسينتهي كل شيء..
أتى ذلك اليوم.. ووصلت إلى الجامعة..
الخروج من البوابة بعد الدخول منها لا يكون إلا بعد العاشرة صباحًا..
تلك هي القوانين هناك.. وذلك يتطلب إبراز البطاقة الجامعية لمشرفات الأمن عند البوابة قبل الخروج.. بطاقات طالبات السكن تحمل اللون البنكي.. ولا يسمح لهن بالخروج قبل حضور الحافلة.. وأما من يملكن البطاقات العادية.. فيحق لهن الخروج عقب العاشرة.. لذلك، قمت بسرقة بطاقة إحدى الطالبات من حقيبتها أثناء المحاضرة.. وانتظرت بعد ذلك حتى يتزاحم الطالبات عند البوابة للخروج، وسيصعب حينها التدقيق على البطاقات من قبل المشرفات..
وبالفعل.. دخلت بينهن وأبرزت بطاقتي بسرعة تمويهيه لا تتجاوز ثواني..
لذلك نجحت بالخروج بالبطاقة المسروقة..
وجدته جالسًا خلف مقود سيارته البيضاء القديمة التي لا أعرف نوعها، إلا أنها تحمل علامة تويوتا الشهيرة.. تعرفت عليه من وجهه الذي وصفه لي..
تقدمت باتجاه السيارة وسط ارتجاف قدمي اللتين لم تشعرا بمثل هذا الارتجاف من قبل، كنت أشعر بدوار خفيف ولا أشعر بمن حولي، لا أرى سوى مسار واحد يحمل ألوانه الطبيعية والظلام الدامس من على يميني ويساري..
كنت أسرع بالخطوات، رغم أنني أشعر بالبطء الشديد والخمول الذي أصاب أطرافي فجأة!
إلى أن وصلت للسيارة.. وفتحت الباب الخلفي وركبت مسرعة وأغلقته..
كان كثيف الشعر واللحية.. ويرتدي ملابس رياضية.. عيناه باتجاه عيني المرتبكتين من خلال المرآة المستطيلة المثبتة بالأعلى، ثم قال:
- السلام عليكم..
- وعليكم السلام.. أرجوك تحرك قبل أن يراني أحد.
- حسنًا مجاهدتنا المنشقة (ابتسم ابتسامة ساخرة).
بعد نصف ساعة من الصمت.. وصلنا إلى البناية التي بها شقة أخته..
نزلت وأنا حائرة.. تقدمني وصعد الدرج وتبعته..
فتح الباب.. ثم دخلت بعده.. أغلق الباب ثم أدخلني المجلس وذهب إلى الداخل..
جلست ونبضاتي تضرب بقوة حتى أنني شعرت للحظات بأن تدافعها يلامس عظام قفصي الصدري من قوة ضرباتها..
كان المنزل بسيطًا جدًا.. ولا يوحي بأنه سكن عائلة..
اتضح لي ذلك من خلال العشوائية بالمجلس، وأعقاب السجائر المتناثرة والقمامة..
الرائحة كذلك كانت مستفزة.. جهاز التكييف من غير غطاء.. والصدى ملازمًا الجدار..
بعد أن تجولت نظراتي.. دخل ضياء.. لا يحمل حول جسده سوى فوطة قصيرة!
بدايتها تحت سرته ونهايتها فوق ركبتيه! وبيده اليمنى ساطور حاد!
صدمت.. ذعرت.. جننت.. حتى كاد يغمى علي..
- ما هذا؟ أين أختك؟!
أجابني بكل برود واستهزاء:
- أي أخت؟
علمت حينها أنني وقعت في فخ قذر.. تمنيت وقتها أنني برفقة خديجة!
اقترب مني وسط توسلاتي له وبكائي بأن يبتعد..
أخبرني بأن أي صوت عال قد يبدر مني، سيكون الصوت الأخير بعد أن يستقر الساطور في منتصف رأسي!
الفجعة التي احتلت مفاصلي وشرايين القلب وأوردته.. جعلتني لا أقوى على الصراخ أبدًا.. كل ما قمت به سوى صرخات أخف من صوت دبيب النمل!
ولم يدع لي الفرصة أن أكمل توسلاتي.. حت أغلق فمي بيده، ومن ثم وضع عليه اللاصق القوي المتين بشكل دائري مرره من خلف رأسي..
قاومته بكل ما بقيت لي من قوة.. كنت ضعيفة جدًا.. وكأنني قطعة فلين تقاوم أمواج بحر غادرة لا تعرف الرحمة..
شقق ملابسي.. ضربني على وجهي.. وقام بربط يدي وقدمي ببعضهما..
ثم بدأ بتصويري بهاتفه المحمول.. واغتصبني بدم بارد!
لم أستوعب ما كان يفعله بي.. ولم أشعر وقتها سوى بالألم الأول الذي حملته البداية.. ومن ثم غبت عن الوعي بعدها.. حتى هذه اللحظة ما زلت أعاني منها نفسيًا كلما تذكرت هذه الحادثة.
استيقظت بعد ساعة تقريبًا.. وجدته في ركن الغرفة، يجلس على طاولة خشبية، يسرح لحيته بيد، ويدخن سيجارة بيد أخرى.. نظر إلي وسط ضحكاته المتقطعة، ثم قال:
- ظهرية مباركة يا عروسة..
صعقت من كلماته ومن حالتي.. بدأت أشعر بآلام جسدي المنتهك..
عندها مباشرة.. ظهرت صورة إخواني الثلاثة في مخيلتي.. فارتعش جسدي كاملاً، وبكيت بقوة حتى احمرت عيناي وأنا أدعو وأتحسب عليه..
وواصل هو الضحك حتى صرح صرخة قوية:
- يكككفي.. ارتدي ملابسك وعباءتك، لتعودي بسرعة إلى الجامعة كي تلحقين بحافلة السكن الطلابي قبل ذهابها..
القذر.. استغل حاجتي للخروج لإشباع رغبته.. سألته وترجيته أن يحذف المقطع الذي صوره بهاتفه.. فرد بكل طغيان:
- لم أشبع منك بعد.. أريد أن أشاهده قبل النوم، وكلما اشتقت إليك.. وإن حضر مجرد التفكير إلى ذهنك بإبلاغ الشرطة عما حصل، فسيكون مقطع اغتصابك من أشهر المقاطع المتداولة بالسعودية.. خلال دقائق فقط من بلاغك..
أيقنت أنني أصبحت تحت رحمة حقير.. غير خديجة.. هل هذا مجاهد حقًا؟
لماذا اللحية التي تغطي نصف وجهه؟!
كم كنت مدمرة ومصدومة حينها، ولست مصدقة لما حل بي في تلك الساعات الماضية..
ارتديت ملابسي وأنا مكسورة، بعد أن حرر قيدي، وركبت بالمقعد الخلفي من دون مقاومة، وأوصلني إلى الجامعة، فدخلت مسرعة وكأنني داخلة إلى الجنة..
عدت بعدها إلى السكن مع الحافلة المخصصة لذلك، ووجدت خديجة تنتظرني بالغرفة:
- أهلاً بالعروسة..
صدمة أخرى كانت بانتظاري! لقد كانت تعلم كل شيء.. وهي من خططت برفقة السافل ضياء.. بعدما أخبرها عن نيتي بالهروب..
تأكدت حقًا من أنني وسط جماعة لا تعرف الرحمة.. لا تعرف شيئًا عن الدين!
مرضى.. حمقى.. جوعى.. خليط سيئ من كل شيء..
تجرأت وهجمت عليها كي أنتقم منها.. لكنني ضعيفة ومنهكة.. فقامت بدفعي بقوة وسقطت على السرير، ثم ثبتت يدي بعد أن صعدت فوقي:
- إن تكررت تلك الأفكار الغبية في مخيلتك.. ستتجرعين الندم.. كوني مطيعة.. أنت معنا ولن نتركك بسهولة.. أحذرك.
ثم ابتعدت عني.. وخرجت من الغرفة.. وبقيت وحدي أنظر إلى السقف ودموعي تتساقط على خدي من دون أن ترمش عيناي أبدًا..
ظللت ساعتين على وضعي.. ثم قمت لأغتسل من آثام دنست بها جسدي رغمًا عني.. فكرت بالانتحار وقتها.. لكنني أجبن من أن أفعلها.. تلك الأيام لم آكل جيدًا فيها سوى ما يساعدني على القدرة بالذهاب إلى الجامعة.. فالغياب ليس في صالحي، وإن تحججت بالمرض فسوف يعرضونني على الإدارة الطبية، وهذا الذي كنت أخشاه.. خوفًا من ملاحظة الكدمات أو الجروح التي وسمت على جسدي.. لذلك واصلت بالذهاب كالحمارة التي تحمل أسفارًا..
أسبوع واحد فقط.. ثم عاد للتواصل معي.. كتب لي أن اشتاق لي..
تمنيت لو أنني أملك القدر وقتها، لأسلط عليه ملك الموت كي يخطف روحه النتنة..
لكنني لا أملك شيئًا غير الصمت..
استمر بمراسلاته لي على الهاتف، واستمررت أنا في صمتي وعدم ردي..
حتى أني ذلك اليوم الذي أرسل لي فيه جزء قصير جدًا من مقطع الفيديو الذي صوره لي أثناء اغتصابه لي.. كنوع من التذكير والترهيب..
بكيت كثيرًا.. حتى احمرت عيناي.. كنت خائفة ومترددة ما بين إبلاغ الشرطة، وردة فعل الحقير تجاهي عندما يعلم ذلك، خصوصًا أنه هددني بنشر المقطع كاملاً في حال تسجيلي لأي بلاغ رسمي..
فكرت في إخواني.. في أحمد.. ولكن ماذا سأقول لهم؟ وكيف ستكون ردة فعلهم تجاه حديثي، التي حتمًا ستكون وخيمة.. وليست في صالحي..
لذلك اخترت الصمت ومجاراته بالكتابة لعل وعسى أن أجد حلاً..
- نعم.. ماذا تريد؟
- أخيرااااًا.. أريدك..
- أرجوك احذف المقطع ويكفي ما حصل..
- سأحذفه.. ولكن بشرط.. أريدك.. بالحلال..
- نعممم؟
- نتزوج.. زواج مسيار.. إنني معجب ومغرم بك.. أقصد بجسدك.
شعرت بأن صفعات الصدمات تنهال علي بشكل متتابع.. لن تتوقف..
لقد تعبت حقًا.. مللت البكاء، ومن آلام عيني التي لم تهنأ بالنوم منذ أن دخلت إلى غرفة الحقيرة خديجة.. الحقيرة التي تهددني بأدلة تفيد بتورطي معهم بأمور تهدد أمن الدولة، وهذا الملعون.. كان يحدثني بجدية، بأنه سوف ينشر فضيحتي على الملأ..
اتصلت هذه المرة على أخي أحمد من دون شعور..
أريد شخصًا قريبًا مني كي يسمعني..
كان الخط مفتوحًا.. رد على اتصالي أخيرًا من ثالث مرة:
- أهلاً روان.. كيف حالك..
صمت قليلاً وتمالكت دموعي:
- أهلاً أحمد.. لقد اشتقت إليكم جميعًا.. لماذا لا تسألون عن أختكم الوحيدة؟
- معك حق أختي.. لكن الدنيا وأشغالها.. هل تحتاجين إلى مال؟
- وهل المال كل شيء؟ لقد مللت الجلوس هنا، أريد أن أزوركم في أقرب فرصة.
- ها سأسافر غدًا مع العمل ولن أكون متفرغًا أبدًأ هذه الفترة..
- حسنًا.. حسنًا.. كل التوفيق لك بحياتك..
- آسف روان لدي مكالمة بالانتظار مهمة جدًا.. سأتصل بك بعد فراغي.
- إلى اللقاء يا أخي..
حزنت كثيرًا من طريقته معي، على الرغم من توقعي لإجاباته.. أعلم جيدًا أنه لن يعاود الاتصال.. هكذا معظمنا.. إذا أراد أن ينهي المكالمة.. تحجج بأي عذر، ثم يخبرنا بأنه سوف يعاود الاتصال، ويختفي بعدها وكأنه حبة ملح ذابت وسط بركة ماء..
كنت أريد الخروج كي أتنفس قليلاً.. لم أتمش بجدة أبدًا منذ وصولي إليها..
ولم أر بحرها الشهير.. ولا حتى مولاتها ولا شوارعها المزدحمة.. كل ذلك بسبب تلك القوانين الصارمة الخاصة بهذا السكن المشؤوم..
حتى هاتفي.. أصبحت أكره التصفح فيه.. خوفًا من رؤيتي لرسائل ذلك اللعين..
أنا مدمرة جدًا.. إلى الآن لم أستوعب أن عذريتي قد انتهكت!
ليست عذريتي فحسب.. بل حتى أحلامي.. ومستقبلي الدراسي حينها..
حل على بالي المشوش.. حبيبي الذي تعلمت منه الحب منذ صغري..
تعلمت منه اللعب بالأحجار.. حتى كرة القدم.. كان هلاليًا متعصبًا، وعلمني حب الهلال.. تعلمت منه الضحك.. الركض خلف سيارات المبيدات الحشرية.. خالد.. ليتك قاومت جبروت عادات قبيلتي الغبية..
وصمدت أمام جهلهم وطغيانهم على المشاعر.. ولم تتركني هكذا لا أريد سوى رؤيتك، ولن أتردد حينها بالارتماء تحت طاعتك.. أنا غاضبة منك.. بل إنني أردد كاذبة كلما تذكرتك بصوت مرتفع.. لن أسامحك..
لأنه ببساطة.. هناك شيء ما بداخلي يبطن لك عكس ما أنطق..
لو أنك معي لما وقعت بهذا الوحل.. لو أنك زوجي الآن لما كنت الآن وسط غياهب هذه الجماعة المجنونة، ولما كنت أمام هذين الخيارين السيئين جدًا..
الزواج بطريقة لا يتقبلها القلب ولا العقل.. أو الفضيحة في مجتمع لا يسمح بنشوء أي بوادر أعذار لما قد تقع به امرأة في مأزق.. كنت أفكر بهذه الأمور مرارًا..
وأردد بعدها: آآآآخ يا رب.. ماذا تنتظر كي تتدخل لإنقاذي؟
وما الأسباب التي تستطيع فتاة ضعيفة مثلي اتخاذها كي تتحقق إرادتك؟
قاطعت خديجة سرحاني وتوهاني:
- صلاة الفجر..
قلت بنفسي من دون أن تسمعني.. لا أعلم ماذا تستفيدين من الصلاة..
طالما أنها لا تنهاك عن معتقداتك الدامية وأخلاقك البائسة؟
صليت الفجر ودعوت كثيرًا.. ومر اليوم مثل كل يوم.. تفكير، قلق، سهر، ونوم قليل جدًا لا يزيدني سوى إرهاقًا..
أيام عديدة حتى تلقيت اتصالاً من أخي أحمد.. يخبرني بأنه في جدة ويرغب بزيارتي.. وسيحضر بعد العصر كي يأخذني..
ياااااه.. سألت نفسي.. هل فعلاً لي أخوة؟ هل حن على أخته أخيرًا؟
لبست وانتظرته متحمسة.. حتى اتصل بعد أن قدم طلبه لإدارة السكن.. لأول مرة أخرج من السكن بتوقيت ليس له علاقة بالدوام التعليمي.. ركبت السيارة ووضعت يدي على كتفه باستحياء كي أضع خدي على خده كنوع من السلام.. لكنه ابتعد حياء منه وصافحني فقط:
- كيف حالك.. اشتقنا لك..
- الحمد لله أنا من اشتقت لكم كثيرًا ومللت من هذا السجن..
- هي رغبتك.. هل نسيت؟
- لا لا.. أريد أن أرى جدة الآن وأن أتنفس..
أخذنا الحديث العادي جدًا حتى وصلنا إلى أحد المقاهي الجميلة بشارع التحلية الشهير هناك.. ونزلنا.. طلب لي وله الشاي، من دون أن يسألني ماذا أحب أن أشرب..
ابتسمت.. فلا يوجد شيء يستحق الحزن.. أردت وقتها أن أستغل كل لحظة أقضيها خارج السكن.. أرتشف رشفة من الشاي.. وقال بعد أن أخذ نفسًا عميقًا:
- اتصل بي شخص يدعي ضياء يقول إنه من طرف صديقة لك بالسكن تدعى خديجة، ويريد أن يتقدم للزواج منك..
فوجئت.. ووقع كوب الشاي من يدي وتكسر وتناثر بالأرض..
الحقير.. كيف حصل على رقم أخي وكيف تجرأ على هذا الطلب؟
- ماذا بك.. كل من بالمقهى ينظرون إلينا أيتها الهمجية..
- ها..
لم أتفوق بكلمة واحدة.. نبضاتي تخفق بقوة.. وأسناني ترتعد قهرًا، وحاولت أن أداري ذلك بالضغط عليها.. حتى يختفي صوت ضرباتها..
أتى النادل كي ينظف الزوبعة التي أحدثتها بالأرض، وتمنيت لو أن يبدأ بتنظيف ما بداخلي من شوائب وارتباكات وآلام..
- ماذا حصل يا روان؟ هل أحرجتك بالخبر أم ماذا؟
- ها.. ها.. لا لا.. لا شيء..
- هو يريدك زوجة ولكن!
- ماذا؟ أعلم أنك لن توافق..
- ليس كذلك.. تكلمت مع إخواني لأنهما كما تعلمين أكبر مني.. واتفقنا على أن وجودك بالسكن يحدث لنا بعض القلق عليك.. فعليه وافقنا جميعًا على فكرة الزواج الـ...
لم يكمل.. لأنني لم أسمح له بإكمال حديثه.. كيف يوافقون وهم لا يعرفون عنه شيئًا؟ وهم حتى لم يقوموا باستشارتي؟!.. لم أكن أملك عذرًا، ولا حتى أي فكرة أريد أن أوصلها إلى أخي أحمد، إلى أن قال بكل هدوء وخجل، أعتقد أنه كان مصطنعًا بعض الشيء:
- هو لديه الكثير من الأعمال والتجارة.. لذلك يريدك بزواج المسيار..
نظرت إليه والصمت غطى كل ملامحي.. وكأنني تمثال وسط المقهى..
استمررت بالنظر إليه من دون أن أتفوه بكلمة.. واستمر هو بالنظر يمينًا ويسارًا..
لم يقو بالنظر إلي أبدًا.. فأنا أعلم أن كل هذا الإلحاح.. هو من زوجاتهم.. خصوصًا زوجة أخي أحمد التي يحبها جدًا لدرجة التعلق به والخضوع إليها.
والتي دائمًا ما تهدده بالذهاب إلى بيت أهلها، لو أتى بي إلى منزلهم!
تزايد صمتي.. شعرت به عندما بدأ بالكلام، لكنني لم أستطع التركيز أبدًا..
لا معه ولا حتى مع أحاديث الزبائن.. اختفت بأذني أصوات تصادم الفناجين وأصوات الملاعق وأصوات الضحكات بالطاولات التي على مقربة منا..
امتعض من سكوتي.. أعلم أنه مهما توقع السبب، لن يستطيع توقع ما يحدث بداخل قلبي أو حتى الأفكار التي اقتحمت عقلي كالسيل المنهمر.. الأدلة التي يهددني بها ضياء مع خديجة، ولا أعلم ما مدى خطورتها من عدمه، أو مقطع فيديو اغتصابي الذي قد يتسبب في مقتلي من قبل إخواني أو أن أعيش مفضوحة ومنبوذة بقية حياتي، من قبل مجتمعي الذي لا يرحم..
واصل أعذاره الحقيرة التي استحالة أن تخرج من أفواه إخوان يحملون في بطاقاتهم أمام خانة الجنس كلمة (ذكر):
- ليس لديك أحد يا أختي، وكما تعلمين الكل مشغول بوظيفته وعائلته ومشاكل الحياة وضغوطاتها.. وأعتقد أن الزواج بهذه الطريقة سوف يساعدك على تحقيق حلمك بإكمال دراستك وكذلك بالحصول على المال من زوجك..
قاطعته بعد ضربت بيدي على الطاولة:
- يكفي.. أحمد.. أريد العودة إلى السكن، وقم أنت بما تراه وإخوتك مناسبًا.
ثم أكملت صمتي.. للأسف.. لم أستمتع حتى بهذا اليوم الذي ظننته مميزًا، وسيساعدني على الهدوء قليلاً، هذا قدري.. اكتئاب وقلق دائمين..
عدت إلى السكن هادئة.. لم أقل كلمة واحدة لأحمد عند نزولي من سيارته..
حتى أنني لم أرد عليه قوله وداعًا..
دخلت غرفتي وسط نظرات خديجة.. التي كانت جالسة خلف جهاز الحاسوب الخاص بها، المزود بالكاميرا.. والذي لا أعلم كيف أدخلته هو وأجهزتها الأخرى..
خلعت عباءتي وتلحفت فراشي بنفس ملابسي.. ثم نمت مباشرة.. النوم أحيانًا أسهل طريقة للهروب من الواقع المرير..
أصبحت الأيام مكررة بالنسبة لي لدرجة لا تطاق.. حزن وتفكير وتهديدات مستمرة.. شعرت حينها بأنني فعلاً وحيدة.. وبدأت أنظر إلى تهديدات ذلك الحقير.. خصوصًا أنه بدأ بإقناعي بأن الزواج ستكون مدته ستة أشهر فقط.. وبعدها سيحذف المقطع كاملاً وكل الأدلة التي تشير بتورطي بالعمل معهم، ثم سيطلق سراحي.. وكرر كثيرًا أنه سيقسم على المصحف بكل هذه الوعود..
مرت الأيام.. إلى أن تلقيت اتصالاً من أخي أحمد يسألني عن قراري..
أعلم جيدًا أن زوجته سيدة الحسن هي من تكرر عليه الموضوع كثيرًا، وتدفعه بالاتصال علي، كي تتخلص من سيرتي بمنزلهم..
أخبرني أحمد بأنه وأخواه اتفقوا مجددًا على أنه لا مانع لديهم من زواجي، وأنهم سوف يخصصون لي مبلغ ألف ريـال شهريًا، كي يجدون لي مسكنًا خاصًاً قريبًا من الجامعة، يأتي إلي به كما يقول زوجي الشرعي متى ما أردت ذلك، وأنهم قد سألوا أحد مشايخ الدين بخصوص ذلك ويرى أنه من الحلال ولا مانع به أبدًا.. ثم أكمل مبررًا بوقاحة.. بأنه وأخواه يريدون أن يطمئنوا على وضعي.. خصوصًا أنني أختهم الوحيدة، من امرأة أخرى لم يرضوا بها يومًا، وأمانة كبيرة تركها والدنا لهم، ثم ختم.. كلنا نرى ذلك يا روان، فهذا أفضل لك وأكثر طمأنينة لنا..
صمت عندها لدقائق بكل تبلد ولم أذرف دمعة واحدة ثم أجبته:
- موافقة!
- ماذا؟ أحقًا روان؟
- قلت لك بأنني موافقة..
- ألف مبروك.. سوف أخبر ضياء بذلك، وسأصل إلى جدة الخميس المقبل كي أقوم بالترتيبات للسكن مع أخي فايز، وسآخذك يوم الأحد بعد أن أنهي ترتيبات خروجك من السكن، ومن ثم نعقد القران لدى مأذون أعرفه، اتفقنا؟
- اتفقنا.
أراد أن يكمل حديثه وهو في قمة السعادة..
لكنني أنهيت المكالمة لأول مرة بحياتي بوجهه، ولم أدعه يكمل..
ونعم الأخوة.. أغرتهم الدنيا ولم يمسح الزمن حقدهم من زواج والدهم بأني.. لم يتعاملوا معي أبدًا كأختهم وشرفهم.. ولكن لم تعد تفرق معي، بعد ما فعله بي ذلك القذر..
كل ما أريده منه.. أن أحصل على ثمن حريتي من خلال القليل من عبوديتي!
لم أكن أعلم أن ما أفعله صحيحاً أو لا.. فقط أردت المحاولة..
للأسف، تلك هي الحقيقة.. اللعنة.. مسيار! اللعنة.. اللعنة عليها من حقيقة..
إنها شرعنة للجنس، بحجة وجود ذلك بين صفحات موروثنا الإسلامي!
لم أستصغ ذلك أبداً.. لكنني أجد نفسي مضطرة للقبول وأنا مكسورة القلب..
لن أغفر لإخواني، ولن أغفر لمن أباح تلك الطرق بالزيجات في هذا العصر..
ولأنني لا أريد لذلك اليوم أن يأتي.. مرت اللحظات كالبرق..
هكذا هي الأشياء التي تخيفنا.. تختصر وقت الانتظار بسرعة غريبة..
أما اللحظات السعيدة.. فتتثاقل خطواتها.. مثل السلحفاة البرية.. المهم.. حضر ذلك اليوم اللعين..
حزمت حقيبتي الصغيرة التي لا أملك غيرها.. وودعتني خديجة باستفزاز واستهزاء قائلة:
- جعله الله في موازين حسناتك يا رفيقة..
طبقت شفتي على بعضها، ورددت عليها بداخلي من دون أن تسمع:
- سأترحم عليك يوماً بعد أن تكون نهايتك على يدي!
ثم سحبت حقيبتي إلى الخارج..
قبل أن أخرج صادفت مريم.. طالبة بسيطة.. حزنت على خروجي كثيراً..
على الرغم من أننا لم نتحدث كثيراً بالأيام التي قضيتها بالسكن.. ودعتني.. وتمنت لي التوفيق وأن نلتقي قريباً بالجامعة أو أي مكان آخر..
ثم كتبت لي رقم هاتفها بورقة صغيرة.. أخذتها منها وضعتها بحقيبتي..
ودعتها وأنا أبتسم لها ولطيبة قلبها.. ثم خرجت من الباب..
وجدت أحمد وفايز بانتظاري كي يسوقاني إلى حتفي.. كما تساق النعجة نحو القصاب.. ابتسامة كاذبة علت عليهما.
ركبت معهما من دون أن أبادر بالسلام أو حتى أن أرد بشيء..
وصلنا إلى الشقة القريبة التي وفرها لي إخواني.. في حي الجامعة الشعبي الشهير بجدة.. القريب جداً من جامعة الملك عبدالعزيز..
الكثير من الطلاب المغتربين عن أهاليهم يسكنون به، وكذلك الكثير من العمالة الوافدة.. لطالما سمعت عن المخالفات التي تحدث سراً بذلك الجزء الشعبي من الحي.. سواء بتجارة الممنوعات أو غيرها..
دخلنا الشقة وسط ترحيب إخوتي.. شقة قديمة.. لا يستجيب لها الترميم من هول دمارها وقذارتها.. تفوح منها رائحة الديتول.. يبدو أنهم قاموا بتنظيفها قبل أن نصل إلى هنا.. تساءلت مع نفسي كيف يبدو شكلها قبل النظافة، خصوصاً أنها الآن لا تمت للنظافة بصلة!
كانت مكونة من صالة صغيرة جداً، بها ثلاثة كراس بلاستيكية بيضاء متسخة، وطاولة، وحمام صغير يشترك معه مغسلة طويلة مستطيلة وضعوا تحته موقد صغير للطبخ.. فهمت من ذلك بأنه المطبخ.. وغرفة نوم ضيقة وضعوا بها سريراً لشخصين من غير فراش! وتلفاز صغير جداً، وجهاز تبريد مستعمل..
كأنها شقة دعارة بكل ما تعنيه الكلمة!
تشبه تلك الشقق التي نشاهدها في الأفلام العربية القديمة.. وأنا هنا سيدة هذه الشقة!
من هذه المناظر بالشقة، شعرت بأن شيئاً من الكره والحقد حل فجأة بكل دواخلي على إخوتي، هذه المرة تمكن مني ذلك!
وكأن هناك شيئاً انقطع.. جعلني أجزم بأن ما بيننا انتهى.. وأنني هنا فقط من أجل نفسي.. كي أحررها وكي أنتقم.. لم أكن أعلم كيف سيحدث ذلك.. لكن بداخلي كان هناك صوت يحمل نبرة الانتقام.. بدأ بالتعالي شيئاً فشيئاً..
لحظات ثم سمعنا صوت طرق الباب..
فتح الباب أخي أحمد ورحب بهم..
كان السافل ضياء ومعه اثنين من أصدقائه أحدهما المأذون..
جلسوا ومن دون مقدمات بعد السلام.. فتح المأذون الكتاب.. الذي كما كان واضحاً بأنه أحد معارف أحمد.. وطلب بطاقات الشهود المدنية.. ثم سأل أخي أحمد وأخي فايز عن الموافقة، ومن ثم نطق بالشروط المتعارف عليها في هكذا زواج بعد أن كتبها:
- يا أختي.. ليس لك حق من هذا الرجل عند الزواج.. لا بالسكن ولا بالنفقة ولا حتى بالمبيت.. متى ما توافرت له الفرصة سيكون معك.. هل أنت موافقة؟
نظرت إلى أخواتي وكل واحد منهما مشغول بالنظر إلى الأرض، وكأنهما ينتظران هذه اللحظات المهينة أن تمر بسرعة كي يغادرا..
ولم يلاحظ أحد من الحضور دموعي من خلف النقاب.. تذكرت والدتي ووالدي، ولم أجعل لصورتهما أن تكتمل في مخيلتي، حتى لا أتردد بالقبول.. وقعت عيناي على عيني السافل ضياء وهو يسرح لحيته ويبتسم بنذالة.. تذكرت ذلك المشهد الشنيع.. يشبهه تماماً ولكن هذه المرة لا يدخن سيجارة.. ثم نطقت بصعوبة وألم:
- نعم أقبل.. موافقة.
انتهى كل شيء بسرعة، وقام أخي أحمد بإعطائي نسخة من مفتاح الشقة وأعطى لزوج الغفلة نسخة أخرى.. لمحته وهو يتسلم من ضياء ظرفاً صغيراً، وتظاهرت بعدم الانتباه.. يبدو أنه مهري.. أو ثمني الرخيص كتعبير أبلغ..
خرج الجميع مباركين ومودعين.. ولم تقع عينا فايز وأحمد على عيني..
وقضيت ليلتي الأولى في البكاء بجانب ذلك القذر.. الذي لم يتردد بمحاولة تكرار.
ما فعله بي بتلك الليلة المنكوبة، التي قلبت حياتي رأساً على عقب..
لكنني قاومته.. وطلبت منه أن يتركني وشأني على الأقل بهذه الأيام فقط..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا