2015-5-16
قسم التحقيقات مبني الأمن الجنائي
تجلس ضحى أمام مكتب أبو سالم، تنظر إلى صورة معلقة خلفه عليها أسد يلاحق غزال، تنظر إلى تفاصيل الصورة بدهشة ثم تكسر الجمود بالمكان بسؤالها:
- هل تقصدون بأن الأسد هم الشرطة والغزال هو المجرم؟
ينظر إليها أبو سالم باستغراب من ملاحظتها هذه قبل أن يجيبها:
- لا أعلم.. الصورة معلقة قبل قدومي إلى هذا المكتب.
تقترب ضحى دون إذن لتنزل الصورة وتضعها في الأسفل بينما كان أبو سالم يسدد نحوها مستفهمة ومستنكرة، أما هي، فقد تابعت تقول:
- لا أعلم لماذا الدنيا مقلوبة.. الأسد والنمر والذئب هم الشجعان والأبطال رغم أنها حيوانات مفترسة.. تقتل لتأكل!! ومن يقتلهم هم المساكين الضعاف الذين لا يجدون من يحميهم ويدافع عنهم!!
رفع أبو سالم حاجبيه باستنكار ومع ذلك تابعت قولها: أنا كتلك الغزال.. والأسد ليس أنتم.. بل هي هموم الدنيا ومصائبها التي تلاحقني.. وكلما ابتعدت عني واسترحت.. وجدتها عادت لمطاردتي مجدداً!
ابتسم أبو سالم بسخرية فقد عجز عن فهم تذمرها هذا الذي صبته على اللوحة وعزاه لتوترها ومع ذلك احترم رغبتها وأبقاها على الأرض ثم رفع السماعة.
وطلب قهوة وماء، قبل أن يغلق السماعة وينظر إلى ضحى متأهباً للسماع.
تلتقط ضحى أنفاسها، تشيح بنظرها بعيداً عنه، وكأنها تذهب لبداية بعيدة، ثم تحدث قائلة:
اسمي ضحى.. تجاوزت الأربعين من عمري.. عشت يتيمة.. بعد وفاة والداي بسن مبكرة.. كانت خالتي فقيرة لكنها قبلت أن تربيني.. بلا شك لم تكن تعاملني مثل أطفالها الآخرين.. فأنا بالنهاية لست من لحمها ودمها.. شعرت منذ طفولتي بأنني مختلفة عن البقية.. زوج خالتي كان ينظر لي بنظرة عطف مبالغة.. ويتحدث لأبنائه بأنني يتيمة.. ويكرر تلك الكلمة دائماً.. لم يكن يدرك بأنه بذلك كان يشعرني بأنني لست منهم.. وفي حالة شجاري مع أحد أبنائه.. كان يأخذه بعيداً ليشتري له الهدايا ويطلب منه أن لا يتشاجر معي.. فأنا "يتيمة".. هل تعرف يا أبو سالم.. استمرت تلك الكلمة تطاردني حتى دخلت المدرسة الثانوية.. وجدت كل المدرسة تعلم بتلك الحقيقة.. فخالتي قالت للمديرة والتي بدورها نقلت تلك المعلومة للمعلمات.. لينظروا إلى أيضاً كما في المنزل بنظرة عطف.. تشعرني بأنني ناقصة أعاني من مشكلة.. ربما نفسية أو عقلية.. لم أكن أريد منهم العواطف.. كنت أريد منهم أن أعامل كما غيري دون زيادة أو نقصان.. لكن كل ذلك لم يحدث.. تخرجت في الثانوية.. وأكملت دراستي الجامعية.. وتزوجت كل بنات العائلة.. وبقيت أنا وحيدة.. لا ينقصني شيء.. أنا جميلة.. هكذا يقول الجميع.. مثقفة.. لدي شهادة.. ومقبلة على وظيفة مجزية.. لكن أين الزوج.. لم أهتم بهذا الأمر مبدئياً.. لكن القلق كالعدوى.. ينتقل من شخص إلى آخر.. خالتي نقلت إلى تلك العدوى.. هل يتحاشون الزواج من يتيمة.. لماذا.. بماذا يفكر الناس.. وجدت خالتي ذات يوم تنصحني بأن أكون أكثر انفتاحاً مع الآخرين وخاصة مع الجنس الآخر.. شكل لي الكلام صدمة كبيرة.. فتلك المرأة كانت ترسل لنا إشارات دائمة أن علينا الحذر منهم.. فبعضهم مثل الذئاب الذين يبحثون عن فريسة ليلتهموها.. لماذا تغيرت كل قناعاتها.. من أجل التخلص مني.. يا إلهي.. من الصعوبة أن تعيش في مكان تعرف أنك شخص غير مرغوب فيه ..
لم أعد أطيق نظرات خالتي.. همزها ولمزها.. أعترف بأنني كرهتها أيضاً.. أهرب من مواجهتها.. سعيت بأن أحصل على ساعات عمل إضافية في الوظيفة الجديدة التي حصلت عليها بعد عناء.. كل ذلك حتى ابتعد عن "قلق العنوسة" وأن لا أكون عالة على قلوب لا تستطيع أن تتحملني ..
في العمل تعرفت على شاب ذي خلق وطيب من جنسية عربية.. يتحدث بلباقة ويستمع كذلك.. ومن المهم لدي الأنثى أن تجد من يستمع إليها أكثر ممن يجيد الحديث.. تحدثت له عن حياتي.. عما يحدث لي.. غمرني بمشاعر التعاطف والاهتمام.. كنت أشعر بهذا الأمر.. لكن كلمات خالتي لم تفارقني (التي تراجعت عنها لاحقاً).. "ذئاب.. غير جديرين بالثقة.. الحذر منهم".. حاولت تفادي وأعبر عما في داخلي، وجهه المريح.. أسلوبه.. كل شيء يدعوني إلى تجاوز كل ما تقوله.. وأيضاً لا أنكر كراهيتي لخالتي جعلني أحاول تفادي تذكرها حتى.. حتى جاء ذلك اليوم؟
؛يرد أبو سالم
- اليوم الذي ظهر به هاشم؟
- نعم.. اليوم الذي سمعت هذا الاسم أول مرة.. بدأت قصته عندما كنت منشغلة بالعمل وحساباته المتداخلة.. رن هاتف العمل باستمرار.. رفعت السماعة.. كانت خالتي.. كانت تردد "نصيبك وصل.. نصيبك وصل!"
كان الأمر غريباً.. هل مر عليك شعور عجزت فيه عن فهم إن كنت سعيداً حقاً أو حزيناً؟! فقدت القدرة على التركيز بالأوراق التي أمامي.. واستحوذ الموضوع على تفكيري.. بدأت مرحلة التكهنات.. كيف هو.. شكله.. ظروفه.. ابن من.. أين يعيش.. أسئلة تجر أسئلة وأسئلة.
كانت وجهتي الأولى نحو ذلك الشاب العربي الذي يزاملني في العمل لسؤاله وجس نبضه في آن واحد.. كانت رده مخيباً نوعاً ما إذ قال"هيا.. اتخذي طريقك نحو السعادة".. لم أستطع أن أعبر له عما أحمله بداخلي.. فضلت الصمت.. يبدو أنه لم يفكر بي بتاتاً!.. يكفي ابتسامته التي خرجت من قلبه وهو يتمني لي حياة رغدة وجميلة.. خرجت من العمل وقررت بلحظتها أن أتناساه وألا يكون هاجساً يمنعني عن خطواتي المقبلة ..
عدت إلى المنزل.. هذه المرة على استعداد تام لرؤية خالتي والجلوس معها.. وهذا ما حدث.. جلست ساعة كاملة تتحدث عن الرجل الذي يريدني.. لم تقل لي خلالها أي سلبية عنه قبل أن تخرج صورته.. كان جميلاً.. لا لن أكذب.. مقبول نوعاً ما.. لا يوجد ما يعيبه.. وضعهم المادي جيد للغاية فوالدته لديها أملاكها الخاصة كذلك هناك راتب لوالده المتوفي.. تفاجأت أيضاً أنه يصغرني بعشرة أعوام.. لكن لم التفت لهذا الأمر، فربنا عقله يسبق عمره.. بقي برأسي سؤال واحد.. شخصيته كيف هي.. هذا ما عجزت خالتي على الرد.. لا تستطيع أن تصف شخصية رجل لم تجلس معه أو تتحدث حتى.. نقلت ما قالته أمه فقط.. سألتها "متى أستطيع أن أراه".. لتفاجئني أن أم الرجل تريد الجلوس معها على انفراد لتتعرف على بشكل أكبر.. هنا بدأ اليأس يتسلل إلى داخلي.. تريد أن تتعرف هي علي.. وليس هو.. من يريد الزواج هنا.. يبدو بأنه رجل ضعيف الشخصية.. مهزوز.. قراره وكلمته بيد والدته.. لكن.. يجب أن أجلس معها.. سأحتفظ بنسبة قليلة من الأمل بأن توقعاتي ليست بمحلها.. كان موعد لقاء تلم المرأة بعد يومين من ذلك الحديث.. كانت خلالها الدقائق تمر بطيئة.. تفكير يأخذني يميناً وآخر شمالاً.. تفاؤل.. تشاؤم.. توقعات.. شعرت بالتعب الذهني.. فضلت أن أبتعد عن العمل يوم اللقاء الموعود الساعة السابعة مساء.. أتذكر ذلك التوقيت جيداً.. طرق الباب.. كانت هي.. ترتدي العباءة.. ملامحها بريئة.. مبتسمة.. تنظر لي بارتياح.. بكل صدق أحببتها حتى قبل أن تتحدث.. شعرت أن تلك المرأة ستكون "أمي" التي تعطف على لحنان وشعور دفين بداخلها.. وليس لعطف مأخوذ من تأثير "اليتم" الذي أعيش فيه ..
جلست معها برفقة خالتي التي تركتنا بعد دقائق.. بدأت تضع تلك المرأة يدها على وجهي.. قالت بصوت كاد يبكيني "كم تحملتي من مرار الدنيا يا ضحى".. لم تكن تعطف هنا.. بل تصف حالتي التي أعيشها.. ثم بدأت بالحديث عن ابنها "هاشم" ..
هو شاب طيب.. يعمل بجد والتزام.. على مقربة بأن يكون محققاً في الشرطة.. تلك الوظيفة التي حلم بها.. لأن أباه قتل في جريمة تم إغلاقها تحت بند "ضد مجهول".. بقي هذا سؤاله الذي لم يفارقه قط وشكل عقدة كبيرة له.. متى يجدون ذلك "المجهول".. لم يستطع نسيان والده.. الذي كان يعامله بمحبة وحنان شديدين.. كان دائماً يجلس في كرسيه المطل على النافذة.. يقلد حركاته.. كرر الكثير من الأشياء التي يعملها.. بالبداية ظنت والدته بأنه مجرد تأثر سينتهي مع مرور الوقت.. لكن الأمر طال.. لتضطر أن تأخذه إلى دكتور نفسي.. أخبرها بأن كثيراً من أقارب المتوفي بعد أشهر يتقبلون الأمر، ويعودون إلى حياتهم الطبيعية ولكن ليس الجميع، فبعض الأقارب خاصة المتعلقين بالمتوفي قد لا يكون باستطاعتهم العودة لحياتهم الطبيعية فترة طويلة، وربما قد تمتد أعواماً، يتعطل فيها الشخص الحزين عن أداء المهمات الموكلة إليه في تصريف شؤون حياته ويحاول استذكارهم بأي طريقة.. طلب منها بعد ذلك ضرورة أن أحاول التخلص من أشياء زوجها الراحل.. تحاول أن تغير حتى المنزل.. فعلت كل ما طلب منها الدكتور.. فزادت الحالة سوءاً.. كان يدخل في نوبة غضب ويحطم كل الأشياء التي تحيط به.. لأعود إلى الدكتور مجدداً.. أخبرني أن هناك أدوية يجب أن تأخذ حتى يتخلص من تلك النوبات.. ويعيش حياة هادئة.. وأنا ملتزمة بتلك الأدوية.. وأنت إن كان لنا نصيب معك.. يجب أن تواصلي الالتزام بها.. لا أريد أن يؤذي نفسه أو يؤذيك أو يؤذيني بسبب نسيانه لتلك الأدوية.. وأنا سأساعدك في تذكيرك بهذا الأمر مراراً..
قاطعها أبو سالم..
- هل هي صديقة خالتك؟
صمتت برهة.. مكررة جملة..
- لا يهم.. إن كانت صديقة لها أم لا.. فهذا الأمر لن يغير الواقع بشيء..
يعتذر منها أبو سالم.. لتكمل حديثها..
- انتهي حديثي مع أم هاشم هنا.. لم أجد هذا السبب مؤثراً لرفض هذا الزوج أو بالأحرى للهروب من هذا الجحيم الذي أعيش فيه.. وافقت.. بعد أيام حضر هاشم.. شاب هادئ.. لا يظهر عليه أن يجيد العنف أصلاً.. قليل الكلام.. كان ينظر إلى أمه أكثر من النظر إلى.. لم أبال أيضاً.. فأنا أنثي والأنثى تعرف كيف تأخذ عقل الرجل وفكره.. انتظرت حتى موعد الزفاف.. حاولت بشتى الطرق أن ألفت انتباهه.. أو أستطيع أن أخرجه من حالة الصمت وقلة الحديث.. فشلت.. ذهبت لأمه اشتكي لها هذا الحال.. أخبرتني أن هذا طبع فيه.. يتغير مع مرور الوقت.. مر الوقت.. وبدلاً من أن أري طبعه يتغير.. فجعت بوفاة والدته.. لتزداد الأمور سوءاً.. حتى الكلمات القليلة التي كان يحدثني بها اختفت.. وفي أحد الأيام سقطت في وعكة صحية.. لم أستطع الحراك من الفراش.. وكنت نائمة في أغلب الأوقات.. فاتني موعد أدويته مدة يومين.. عندما خرجت من الوعكة.. وجدت هاشم يتحدث لي دون أن يصمت.. استغربت تغير أحواله.. لم أفكر قط أن انقطاع الأدوية السبب.. اعتقدت أن حالتي المرضية هي من دفعته للتعاطف معي.. عندما عدت لتذكيره بجرعة الأدوية وبدأ بتناولها مجدداً.. عاد لصمته.. لحالة السكون التي تنتابه.. هنا انتبهت.. أحسست أن تلك العقاقية السبب.. لكن قررت أن أذهب إلى الدكتور النفسي الذي وجدت صعوبة حتى أصل لرقمه.. كانت أمه تخفي عني كل شيء.. حتى الأدوية.. كانت تصل بشكل دوري من أحد الأشخاص المجهولين الذي يرفض أن يتحدث معي أو حتى مع هاشم.. استطعت أن أصل إلى رقم الدكتور بعدما أخذت هاتف المرحومة ووجدت اسمه ورقمه.. كان أحد الأطباء الذين يعملون خارج البلاد.. يأتي بشكل دوري إلى هنا.. وفي كل زيارة كانت تأخذ هاشم إليه لمتابعة الحالة.. تواصلت معه.. انتظرت لما يقارب أسبوعين حتى جاء ليوم واحد استطعت أن أخذ موعد لزيارته.. أتذكر ذلك اليوم جيداً.. لقد بقيت منتظرة في الخارج ساعتين.. كان الازدحام شديداً في تلك العيادة.. عندما جلست معه. كشف له عن شخصيتي.. سألته عن هاشم.. رفض أن يجاوب على أي سؤال.. واعتبر أن الأمر شأن خاص بالمريض وأن والدته هي التي لها الحق بالسؤال.. أخبرته أن والدته توفيت وأنا زوجته.. وأنا المسؤولة الأولى عن حالته الصحية الآن واضطررت أن أخرج عقد الزواج لأثبت له هذا الأمر.. شعر الدكتور بالحزن لوفاة تلك المرأة.. وكأنه خسر أحداً من أقاربه أو أصدقائه.. وقف وذهب إلى الخزينة القريبة منه قام بفتحها وأخرج ملفاً.. أتذكر لونها جيداً.. كان أزرق ذا حواف سوداء.. جلس وقام بفتحه أمامي.. وقبل أن يقرأ ما فيه.. قال لي ..
- قبل أن تعرفي تأثير الأدوية.. يجب أن تدركي جيداً حالة زوجك الصحية.. لقد أخبرتني والدته في آخر زيارة لها أنها لم تجرؤ على أخبارك بالحقيقة.. لكن أنا سأخبرك.. حتى لا يحدث ما يحمد عقباه ..
فتح الدرج وأخرج نظارته.. وبدأ بقراءة الملف
- المريض هاشم عبد الله. تعرض لصدمة نفسية في سن التاسعة عشرة جراء وفاة والده في ظروف غامضة.. ومن خلال حديثنا مع والدته ومعه عن الأمور التي يشعر بها.. أبرزها أصوات غريبة كانت تتردد على مسمعيه.. تقول كلاماً مخيفاً مثل.. سنقتلك بعد والدك.. سنقتلك.. سنتحرك.. سيكون موتك مفجعاً.. سنقوم بتشويه جسدك.. واستناداً أيضاً على معلومات أخرى من والدته.. فهو منعزل عن المجتمع.. يأكل قليلاً.. هذا الأمر دعاني لفحصه طبياً والتأكد من خلوه من الأمراض وكذلك التأكد أنه لا يتعاطى آية مخدرات أو كحوليات.. وتبين أنه معافي جسدياً ولا يتعاطى.. لذلك كان الانتقال للجانب النفسي ومعرفة ما حدث لوالده وحيثيات وفاته.. حيث تم قتله بظروف غامضة وتشويه جثته ورميها بالقرب من أحد المصانع.. لأن والده كان يعمل في قسم التحقيقات الخاصة بالمخدرات.. لذلك ربما كان مستهدفاً من إحدى العصابات.
الوفاة شكلت صدمة كبيرة على هذا الشاب.. قادت حالته النفسية للأسوأ.. ولحدوث تلك الأعراض.. وهذا ما دفعني للتحليل أنه يعاني من "الذهان".. لذلك سيتم صرف له العقاقير الخاصة به.. مع الحفاظ على سرية البيانات وعدم نشرها أو تعاطيها مع أي شخص بالاتفاق ما بيني وبين والدته.. حتى لا يعيق هذا الأمر حياته الخاصة!
أغلق الملف.. بينما الصدمة تعلو وجهي.. وحالة من اللا تصديق لما يحدث.. كيف لوالدته أن تكذب وتقول لي حقيقي منقوصة.. ماذا لو أهملت أنا دواءه لأيام طويلة.. ماذا سيحدث لي.. ربما يدفعه هذا المرض لتصرفات مجنونة ..!!
أحس الدكتور بحالتي.. ليكمل حديثه.
- التزامك بالعلاج يبعده عن حدوث أي أمور قد تكون سيئة.. الآن السر بيدك.. تستطيعين الحفاظ عليه ليكمل حياته.. أو تكشفين سره.. ليتغير كل شيء.. ويبدأ من الصفر.. أما الأدوية.. فهي ستصله بشكل دوري.. ولا تقلقي.. المرحومة دفعت مبلغاً يغطي احتياجاته لهذا الدواء عشرة سنوات مقبلة ..
تضحك ..
- هل تعرف أن والدته أيضاً كان لديها ملف عند الطبيب ذاته.. لقد كانت تعاني من الاكتئاب والوسواس القهري.. أخبرني بذلك موضحاً أن الأمر أيضاً يجب أن يبقي طي الكتمان حتى لا يعرف الابن بهذا الأمر ويترك لديه سيئ.. بعد ذلك تركت المكان دون حتى أن أودع الطبيب.. ماذا سأفعل.. وكيف سأتصرف ..
وبعد أيام طوال من التفكير قررت أن تستمر حياتي كما هي.. لا أريد أن أغير شيئاً.ز حتى لا أري الأسوأ.. أو أضطر للعودة إلى بيت خالتي.. لتزداد حياتي سوء وعناء.. سارت الأمور بشكل جيد.. حتى دخلنا في دهاليز تلك القضية.. لقد أصبح من الصعب حتى إقناعه بأخذ الدواء.. كان مشغولاً بها وبالحديث مع صديقه "الجلندي"
ينظر أبو سالم بنظرة استغراب ..
- الجلندي.. من هو الجلندي؟!
ترتبك ضحى قليلاً وتقوم بتعديل جلستها ..
- الجلندي.. كيف لا تعرفه.. قال لي ذات يوم بأنه يعمل معه في قسم التحقيقات ..
يرفه أبو سالم السماعة ويتصل على أحد الموظفين.
- صابر.. هل لدينا شخص في أي من قطاعات العمل يدعي "الجلندي".. أنت متأكد.. تأكد أكثر!!
يصمتان قليلاً قبل أن يرن الهاتف مجدداً.
- لا يوجد.. شكراً.
تنظر ضحى باستغراب إلى أبو سالم.. ليبقوا صامتين لحظات.. قبل أن يوجه لها سؤالاً:
- هل تعرفين أين يلتقيان عادة؟
تفكر لحظات وكأنها تتذكر قبل أن تجيبه:
- نعم.. يواعده باستمرار في مقاهي البحار الشعبية.
يرد عليها بصورة حماسية:
- جيد.. جيد.
تخرج ضحى من حقيبتها منديلاً لتمسح دموعها التي انهمرت مجدداً.
- هل ستؤذونه بعد أن علمتم بالحقيقة؟
يخفف أبو سالم من حماسه، ويتكلم بهدوء:
- لماذا نؤذيه.. حالته لن تقوده إلى السجن.. سنقوم بتحويله إلى الطب النفسي والذي سيكشف على حالته ويقرر بقاءه لديهم أو لا.. ومما ذكرتيه أن هاشماً يتعاطى عقاقير تخص مرضه، لذلك سيكون من السهل بقاؤه هناك.. لكن بالبداية يجب أن نتأكد أكثر من صديقة هذا المدعو الجلندي.. لنعرف المزيد من الحقائق حول تصرفات زوجك.
تهز ضحى رأسها وقبل أن يسمح لها بالرحيل سألها:
- لماذا أبلغتينا أن هاشماً من الممكن أن يرتكب أمراً سيئاً؟! أعني كيف طرأ هذا ببالك؟
تنظر للأرض كأنها تحاول الهرب من نظرات أبو سالم الشاخصة عليها وكأنها ترمي عليها اتهاماً مبطناً وتجيبه:
- كنت بالقرب من الباب.. سمعته يتحدث مع الجلندي.. كان يخبره أنه يستطيع أن ينهي تلك القضية بطريقة سهلة وسيسحق رجلاً لم يذكر اسمه مردداً أنه لن يرحمه البتة، عندما سمعت تلك التفاصيل.. أحسست بأن الأمر لم يعد ممكناً بأن يبقي دون تدخل.. كان يجب أن أنقذه من مغبة تصرف خاطئ.. وأنقذ من كان يريد أن يؤذيه.
يرفع أبو سالم أحد الملفات ليهم بالرحيل من المكتب.
- كان يجب عليك أن تبلغينا مبكراً.. ما حدث كان من الممكن تفاديه!
تقف ضحى مطأطئة الرأس وتجيب بارتباك:
- كنت قلقة وخائفة.. فكرت خمسين مرة بقراري قبل أن أتصل بكم!
يبتسم محاولاً التخفيف من توترها ..
- لا عليك.. هذا قضاء الله وقدره.. الآن سنبحث عن صديقه ربما يكشف لنا شيئاً ونغلق هذا الملف.
قبل أن تخرج من المكان التفتت أبو سالم وهي تؤكد:
- أرجو بألا تؤذوه.. أنت الآن تعرف حالته الصحية جيداً.
يقترب أبو سالم منها ويجيب:
- إذا ثبت معاناته من أمراض نفسية.. فإنه سيعود لمنزله أو يعالج بأحد المصحات.. لكنه لن يستمر في هذا المكان أبداً.. وسأحاول أن أقنع حساماً بالتنازل عن القضية.. فهو حر لا يريد المشاكل والدخول بدهاليز هو في غني عنها.
تخرج ضحى من المكتب يتبعها أبو سالم الذي ذهب إلى المكتب المجاور حيث كان بانتظاره حزام.. أخبره بالحوار الذي جري مع ضحى، فالتمعت عينيه وهو يقول:
- يا رجل.. بدأت أشعر بأن الجلندي هذا دوراً في ذلك، عليك أن تتحقق منه!!
11
2015-5-18
مقاهي البحار الشعبية
كان يوماً رطباً للغاية.. ذهب حزام صاحب الوجه الدائري ذو بشرة بيضاء وهو يرتدي قميصاً رياضياً وشورت أسود مع جوربين ذوي ألوان زاهية إلى كل المقاهي هناك.. كان يجلس لدقائق يطلب الشاي، يتحاور مع العاملين بشكل ودي، لئلا يشعرهم بأنه من جهة أمنية فيرتبكوا أو يخففوا عنه شيئاً، يسألهم في البداية عن هاشم.. أغلبهم يرددون بأنهم لا يعرفونه وبعضهم يقول نعم نعرفه لكن بعد أن يطلب منهم أن يصفوه.. يصفون شخصاً آخر.. لم يتبق سوي ثلاثة مقاه.. دخل الأول ..استقبله شخص بحفاوة.. جلس ليطلب الشاي مجدداً ويداخله يردد "للمرة السابعة اليوم سأشرب الشاي.. يا إلهي".. يذهب ذلك الرجل ويأتي بالشاي قبل أن يسأله عن جنسيته ومنذ متى يعمل هنا "كرر تلك الأسئلة لسبع مرات أيضاً".. ثم بادره بالسؤال
- لدي صديق يأتي إلى هنا باستمرار.. اسمه هاشم.
هز رأسه وهو يجيب:
- أجل أعرفه.. المحقق هاشم عبد الله ..
تتسع عينا حزام وهو يقول بحفاوة:
- نعم هو بعينه.. لم أتعرف إلى اسمك!
يبتسم ويمد يده لمصافحته ويرد:
- أنا أبو توماس.. هل أنت صديقه.. لماذا لم يأت إلى هنا منذ أيام.. كان يتردد بشكل دوري إلينا.
يبتسم حزام.. لقد وصل إلى مبتغاه.
- نعم.. يعاني من بعض المشاكل الصحية ..
يضحك ..
- كنت أدرك ذلك!
تذهب ابتسامته وتتبدل ملامحه للقلق والريبة وهو يسأل:
- ما الذي تعنيه؟! كيف أدركت بأنه يعاني من مشاكل صحية!
يضع أبو توماس يده بالقرب من رأسه ملوحاً بيده نحو رأسه مشيراً بأن هذا الشاب.. "يعاني من مشكلة عقلية"!
يستغرب حزام ويطلب منه الجلوس بجانبه وقد ازداد فضوله وهو يسأل:
- كيف علمت.. لا أحد يعلم بهذا السر؟
يستمر بالضحك وهو يجيب:
- عن أي سر تتحدث.. كل يوم يأتي إلى هنا ليطلب مني قهوة وشاي مغربي.. وعندما أسأله لماذا؟ يقول لي ولصديقي!
ينظر إلى عيني أبو توماس الضاحكتين:
- وما الغريب في الأمر!
تعلو صوت ضحكات أبو توماس ..
- يبدو أن هذا السر لا يعلمه أحد غيري.. لأي صديقه مجرد وهم.. كان يتحدث إلى نفسه.. في البداية كان يجلس في مكان مكشوف.. كان الآخرين ينظرون له ويضحكون لذلك طلبت منه أن يجلس في زاوية بعيدة.. حتى لا يلاحظه الآخرين..
سألني باستمرار لماذا.. فأقنعته بأن الكراسي تلك للعائلات.. فصدقني فوراً ..
حاول حزام أن يخفف شعوره من الصدمة وقال:
- وهو يتخيل دائماً.. خياله واسع!
يهز رأسه ..
- يتخيل ذلك الصديق دائماً.. اسمه.. "الجلندي" أعتقد ذلك!
يقف حزام ليرسل قبلة إلى جبين ذلك الرجل.
- الجلندي.. هذا الاسم الذي أبحث عنه ..
يقف أبو توماس لاستكمال عمله وقبل رحيله التفت حزام ليقول مؤكدا:
- هل تظن أن شخصاً حقيقياً اسمه "الجلندي".. لا لا يا أخ.. هذا من خياله.. صنعه دون مناسبة.. كان في البداية يجلس وحيداً منزوياً.. قبل أن يتحدث إلى نفسه باستمرار ويردد.. "الجلندي والجلندي"!
يفهم حزام الحقيقة وبأن هذا الشخص ليس سوي مجرد وهم.. صنعه عقل زميله هاشم، يقوم بدفع الحساب حتى قبل أن يشرب الشاي ويعطي أبو توماس إكرامية خاصة له.. ثم ينطلق بسرعة إلى سيارته ومنها إلى مقر عمله.. كان أبو سالم يهم بالرحيل إلى بيته.. لكن حزام استوقفه.
- عثرت على الجلندي.. عثرت عليه!!
يسحبه أبو سالم من يده ويدخلان معاً المكتب.. يحكي له ما حدث بالتفصيل.. كان فم أبو سالم فاغراً وعيناه متسعتان وهو يستمع لما يرويه له حزام ثم علق أخيراً:
- إذا، الرجل يعاني من مشاكل نفسية.. والجلندي مجرد "وهم" ..!
يحيي أبو سالم حزام على جهوده وعلى فك لغز هذا الرجل ويطلب منه أن يباشر قضية "الجريمة الصحراوي" حتى يعرف من هم وراء تلك الجريمة البشعة.. يمتثل حزام لأوامره والفرحة تغمره لتحقيقه هذا الانتصار، يخرج من المكتب ليتصل فوراً على جعفر ويقول:
- يا صديقي.. لقد انتهت حكاية ها
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا