10
انحسر المد. وعاد الوتدان إلى الظهور. وبدأ انتظار الساعة كي تدق. ثم جاءت الدقات. فاستلقى على الوسائد يراقب الباب، إلى أن جاءت. كانت ترتدي مئزراً فوق كنزتها وواحدة من تنانيرها. وفي إحدى يديها كانت تحمل دلواً لمسح الأرض.
قالت: "أعتقد بأنك تريد دواءك المنتظر".
"نعم، من فضلك". حاول الابتسام لها مظهراً امتنانه وأحس بالعار ثانية؛ فلقد شعر بأنه قبيح أمام نفسه، وبأنه ليس هو.
فقالت له: "إنه بحوزتي، ولكن، أولاً عليَّ أن أنظف الفوضى في الزاوية. الفوضى التي أحدثتها أنت. عليك أن تنتظر حتى أنتهي من فعل ذلك".
استلقى في سريره، وساقاه ترسمان أشكالاً تشبه الأغصان المتكسرة تحت الغطاء، والعرق البارد يتصبب على وجهه في جداول صغيرة بطيئة الحركة. استلقى وراقبها وهي تمشي نحو الزاوية وتضع الدلو على الأرض ثم تلتقط شظايا الصحن وتأخذها إلى خارج الغرفة، ثم تعود فتجلس على ركبتيها بجانب الدلو وتغمر يديها فيه لتخرج خرقة مليئة برغوة الصابون فتعصرها ثم تبدأ بتنظيف الحساء المراق على الجدار. استلقى وراقبها، وفي النهاية بدأ يرتعش، وزاد الارتعاش من الألم، ولكن لم يكن بيده حيلة. وعندما استدارت ورأته يرتجف ويبلل أغطية الفراش بالعرق، منحته تلك الابتسامة العارفة الماكرة التي لو كان قادراً، لقتلها بسهولة من أجلها.
قالت: "لقد جف على الحائط". ثم أدارت وجهها ثانية نحو الزاوية. "أخشى بأن هذا سيتطلب وقتاً يا بول".
اختفت البقعة رويداً رويداً عن الجص، لكنها استمرت بنقع الخرقة وعصرها والفرك، ومن ثم إعادة العملية كلها من جديد. لم يكن يستطيع رؤية وجهها، لكن اعتقاده - بل جزمه - بأنها غابت عن الوعي وأنها قد تستمر بفرك الحائط لساعات كان يعذبه.
أخيراً - بالكاد قبل أن تدق الساعة لمرة واحدة، معلنة الساعة الثانية والنصف - نهضت وألقت الخرقة في الماء. ثم أخذت الدلو من الغرفة دون أن تنبس ببنت شفة. استلقى في السرير وراح يستمع إلى صرير الألواح الخشبية تحت وقع خطواتها الثقيلة الخرقاء، وإلى صوت الماء وهي تريقه من الدلو. ولم يصدق أذنيه عندما سمع صوت صمام الحنفية حين بدأت تملأ الدلو من جديد. فراح يبكي بصمت. صحيح أن المد لم يكن قد انحسر بعد، لكنه لم يكن يرى إلا أرضاً طينية تأخذ بالجفاف وذينك الوتدين يلقيان بظلالهما المتكسرة الأبدية عليها.
عادت ثانية ووقفت للحظة فقط داخل الممر وحدقت في وجهه الرطب بنفس ذلك المزيج من الصرامة والأمومة. ثم تحولت عيناها إلى الزاوية حيث لم يبق أي أثر للحساء المتناثر وقالت:
"الآن، عليَّ أن أمسح، وإلا فالصابون سيخلف بقعة كامدة. عليَّ أن أقوم بكل شيء. عليَّ أن أعمل على ترتيب كل شيء. العيش وحيدة كما هو الحال معي ليس عذراً على الإطلاق لإهمال العمل. كان لأمي شعار في الحياة يا بول، وأنا أقتدي به دائماً. لقد اعتادت أن تقول 'إن فقدت أناقتك مرة فلن تكسبها ثانية'".
قال متأوهاً من الألم: "رجاءً رجاءً، الألم، أنا أموت".
"لا، إنك لا تموت".
"سوف أصرخ". قال وقد بدأ يصرخ بصوت أعلى. من المؤلم أن يصرخ المرء. فالصراخ يؤلم ساقيه ويؤلم قلبه. "لا يمكنني أن أمنع نفسي".
أجابته، "فاصرخ إذن، ولكن، تذكر بأنك أنت من تسبب بهذه الفوضى، وليس أنا. إنه خطؤك وحدك".
بطريقة ما نجح في كبح نفسه عن الصراخ. وراقبها وهي تنقع وتعصر ثم تمسح. تنقع وتعصر ثم تمسح. إلى أن وقفت أخيراً - تماماً عندما بدأت الساعة في الصالون، حسب ظنه، تدق معلنة الساعة الثالثة - وأمسكت بالدلو.
إنها ستخرج الآن. ستخرج وسأسمعها تسكب الماء في الحوض، وربما سوف لن تعود قبل ساعات لأنها ربما لم تكتف بعد من معاقبتي.
ولكن، بدلاً من المغادرة، مشت باتجاه السرير ومدت يدها في جيب المئزر ثم أخرجت ليس فقط قرصين بل ثلاثة.
قالت برقة: "خذ".
حدق فيها وكأن وجهه كله كان عيوناً فقط.
وضعها بسرعة في فمه، وعندما رفع رأسه شاهدها ترفع دلو المسح البلاستيكي الأصفر باتجاهه. كان الدلو يقترب منه ويملأ مساحة الرؤية لديه مثل قمر ساقط. ومالت المياه الرمادية باتجاه حافة الغطاء.
قالت: "افعل ذلك. أعرف بأنك تستطيع ابتلاع الأقراص بدون ماء، ولكن صدقني إذا قلت بأنني أستطيع أن أجعلها تخرج من جوفك ثانيةً. على أي حال، إنها ماء للمسح فقط. إنها لن تؤذيك".
مالت نحوه مثل عمود ضخم، ومال معها الدلو قليلاً. كان باستطاعته رؤية الخرقة وهي تتحرك ببطء في قعره المعتم مثل شيء غارق. كما رأى طبقة رقيقة من الصابون على السطح. جزء منه تذمر، لكنه لم يتردد أبداً. شرب بسرعة وانزلقت الأقراص داخل جوفه. كان الطعم في فمه يشبه ذلك الطعم الذي كان يحسه عندما كانت أمه تجبره أحياناً على تنظيف أسنانه بواسطة الصابون.
تحركت معدته وأصدر صوتاً عالياً.
"لو كنت مكانك لما أخرجت الأقراص من جوفي، يا بول. فلن يكون هناك المزيد منها قبل الساعة التاسعة".
نظرت إليه للحظة بدون أي تعبير، ثم أضاء وجهها فجأة وابتسمت.
"إنك لن تغضبني ثانية، أليس كذلك؟"
قال بصوت هامس: "لا". أأغضب القمر الذي يجلب المد؟ يا لها من فكرة! يا لها من فكرة سيئة!
قالت آني: "أحبك". ثم قبلته على خده وغادرت دون أن تنظر إلى الخلف، حاملة دلو المسح كما تحمل المرأة الريفية القوية دلو الحليب، بعيداً قليلاً عن جسدها بحيث لا تريق أياً منه.
استلقى ثانية على ظهره وهو يشعر بطعم الجص والحصى في فمه وحلقه. وبطعم الصابون أيضاً.
لن أتقيأ ... لن أتقيأ ... لن أتقيأ!
أخيراً، بدأت هذه الفكرة الملحة بالتضاؤل، فأدرك حينئذ بأنه كان سينام. لقد فعل كل ما بوسعه، ولمدة لا بأس بها، من أجل أن يبدأ مفعول الدواء بالسريان.
لقد نجح.
هذه المرة فقط.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا