27)
عاد شاهين من عمله فوجد والده في انتظاره وبمجرد أن سلم عليه طلب منه والده أن يتبعه إلى غرفة المكتب، جلس شاهين وهو يقول: خيراً يا أبي ماذا حدث؟
رد الأب: شاهين أريد أن تسمع جيداً ما سأقول لك وأن تفكر به جيداً يا بني أنت ولدي الوحيد الذي خرجت به من الدنيا، في الماضي عندما قررت العمل في البنك لم أمانع لأنني كنت أعتمد على عامر، واليوم كما ترى خرج عامر من الشركة، صحيح أن حصته في الشركة كانت عشرة في المائة لكنه كان يساعدني بالإدارة، وقد حمل عني الكثير من الأعباء وبعد أن اكتشفت أنه أصبح يسرقني واشتريت حصته رغم أنني كنت أستطيع أن أجبره أن يتنازل عنها مقابل عدم فضحه خاصة أن لدي الدليل على رشوته لكنني وضعت اعتباراً للعشرة التي كانت بيننا، وكما ترى أصبح الحمل علي ثقيلاً.. وحان الوقت أن تعمل معي يا شاهين وبالراتب الذي تريده.. ماذا تقول يا بني؟
قام شاهين من مقعده وقبل رأس أبيه وقال: سأستقيل من البنك وأعمل معك يا أبي.. لا تقلق لن أتركك وحدك، لن أتخلى عنك أبداً.
(28)
جلست سمر ساهمة في البهو الرئيسي للمنزل.. وكانت تنظر إلى ساعتها من حين لآخر وعاد عمها عبد العزيز من عمله فسلمت عليه باحترام وصعد غرفته ليغير ملابسه، ومن ثم يتناول الجميع طعام الغداء.. لم تخبر سمر أحداً بموضوع حملها فعندما اتصلت بعادل كان في اجتماع وأخبرتها السكرتيرة أنه سوف يتأخر، فجلست في البهو تنتظر، لم تكن تنتظر عادل بل كانت تنتظر هاني.. وفتح الباب ووصل هاني وفوجئ بسمر أمامه مباشرة واقفة تبتسم في وجهه، كانت منذ زواجها تعامله باستعلاء وجفاف لكنها اليوم تبتسم في وجهه وقالت: مرحباً يا هاني.. كنت أنتظرك، هل تسمح لي بكلمة، رد هاني: بالتأكيد يا سمر هل نجلس هنا؟ نظرت سمر في ساعتها وقالت: وصل عمي للتو.. ما زال لدينا نصف ساعة قبل الغداء أظنها تكفي لما أريد قوله لك..
صمت هاني بانتظار أن تبدأ الكلام.. فقالت: اسمع يا ابن عمي أنت تعرف كم أنا وهديل أصدقاء وأصدقك القول كانت هديل أقرب إلي من أختي، كنت أعتبرها جزءاً مني.. سكتت سمر قليلاً ثم استطردت: عندما تزوجت أنت وهديل كان زواجكما هو نهاية صداقتنا وقد كرهت هديل وتصورت أنني لن أسامحها أبداً لأنني وقتها كنت أحبك وهديل كانت تعرف ذلك.
احمر وجه هاني لتصريح سمر وجرأتها فأكملت سمر قائلة: يجب أن نواجه الحقائق حتى نستطيع علاج الوضع وتخطي أزمة التعامل بيننا، نعم يا هاني لقد أحببتك فيما مضى وعندما تزوجتا هديل شعرت بالطعنة تكاد تقتلني وفي قمة يأسي خطبني عادل، وقد شعرت وقتها أن زواجي منه يرد اعتباري ويثأر لكرامتي الجريحة وسأكون مع هديل في مقام واحد، وفعلاً وافقت على الزواج، لكنني بعد أن عشت مع عادل وجدت نفسي سعيدة، ومع الوقت تعلقت به والآن أشعر بالفخر وأنا أعترف أمامك أنني أحبه أكثر من أي شخص في الدنيا، نعم أنا أحبه كثيراً.. أعشقه.. أهواه.. عندها فقط عرفت أنني أستطيع أن أسامح.
رفع هاني عينيه وقال: سمر.. هل سامحتني؟ ردت سمر بصوت قوي: وسامحت هديل يا هاني، استعت عيناه دهشة فأومأت سمر برأسها الجميل الشامخ: نعم، سامحتها، وسنعود كما كنا أختين، وأنا الآن أطلب منك أنت أن تسامحها..
أطرق هاني برأسه وقال: لقد صدمت بها يا سمر، كنت ألاحظ إعجابك بي سابقاً لكنني لم أعرف منها مدى عمق مشاعرك نحوي لكن هديل كانت تعرف، وقد خانتك وبررت لي ذلك بـ...
قاطعته سمر قائلة بحزم: سامحها يا هاني إنها ابنة عمتك وهي تحبك الآن ولا تزال زوجتك.. أعطها فرصة فهي نادمة وأنا صاحبة الشأن قد سامحتها، وأريد منك أن تفعل مثلي، سامحها لنبدأ جميعاً من جديد ونتعامل معاً كأخوة وأحباب كما يفترض بنا أن نكون.
ابتسم هاني: سأسامحها يا سمر، إكراماً لك.
ابتسمت سمر: وإكراماً لابن أخيك القادم، ستصبح عماً عن قريب.
عندها فتح باب المنزل ودخل عادل فاندفعت سمر نحوه وهي تقبل وجهه بعينيها وقالت: لدي أخباك لك.. أخبار سعيدة..
(29)
خرجت دلال من محاضرتها واتجهت نحو القاعة التي ستحضر فيها محاضرتها التالية، ووقفت خارج القاعة تنتظر فقد كانت القاعة لا تزال مشغولة بطلبة المحاضرة السابقة الذين استبقاهم أستاذهم لبعض الوقت الإضافي.. وفجأة رفعت رأسها لتجد شاباً واقفاً أمامها مباشرة وقال في ارتباك: آنسة دلال هل تسمحين لي أن أقدم لك نفسي.. اسمي محمد طالب في السنة النهائية وقد أردت أن أعطيك فكرة عن انتخابات الجامعة، فأنا أمثل إحدى القوائم والتي سيكون لنا الشرف لو أوليتينا ثقتك وقمت بانتخابنا.
نظرت دلال إليه بتمعن وهي تبتسم بداخلها، كان يستطيع أن يبعث لها إحدى زميلاتها اللاتي يعملن في نفس المجموعة معه لكنه يبدو معجباً بها، لقد لاحظته منذ فترة، منذ دخلت هذه الكلية التي تكرهها جبراً، إنه لا يكف عن النظر إليها.. كانت هذه المرة الأولى التي تراه عن قرب.. إنه وسيم وهو أبيض البشرة، فاتح الشعر وكان صوته جاداً كأنه في خطاب رسمي وأخذ يحدثها عن قائمته الانتخابية وعن إنجازاتها في جميع الكليات وعن أهدافها القادمة وكانت تستمع إليه وهي تحدق في وجهه، واضطرت دلال لمقاطعته فقد حان وقت دخول المحاضرة، فاعتذرت منه فقال بسرعة وكأنه يتشبث بها حتى لا تهرب منه: هل لديك وقت فراغ كي أحدثك بالتفصيل؟
ردت دلال: لا داعي للحديث، فأنا أساساً أرغب في انتخاب مجموعتكم وقد كنت أفعل أيام دراستي في كلية العلوم الإدارية. قالت جملتها الأخيرة بحسرة وخيبة بدت واضحة في نبرة صوتها..
لكن محمد لم ييأس وقال: آنسة دلال لدي الكثير لأقوله أرجوك أعطني فرصة.. أنا..
قاطعته دلال: اعذرني.. لدي محاضرة.
وتركته واقفاً ينظر وراءها في حسرة، كان معجباً بها بشدة، كانت تأسره بجمالها وحزنها وسخطها الذي يبدو في عينيها.. كانت متمردة.. لقد وقع في هواها منذ رآها وهو يريدها ولا يريد غيرها.
30)
كانت رغد تعيش أياماً قاسية، فمنذ الخلاف الذي نشب بين والدها ووالد أحمد وهي لا تعرف مصيرها مع أحمد، كل ما تعرفه أنها تحبه بكل مشاعرها، بعدد أنفاسها، بكل ذرة من كيانها وأنها عندما شعرت بأن حبهما في خطر فقدت اتزانها، وتكاد تفقد عقلها وهي ترى أحمد يتهرب منها، لقد كانت تتصل به يومياً وتبكي وترجوه أن يتمسك بها، أن يحارب لأجلها، أن يتحدى الظروف لأجلها، لكن أحمد كان يائساً وكان يسد كل الأبواب في وجهها، وكان يقول لها إنه لن يستطيع أن يرفع رأسه أمام عائلتها، وق فعل والده ما فعل، وفي الوقت نفسه لا يستطيع معاقبة والده أو محاسبته فهو لا أحد له سوى والده الذي نذر نفسه لتربيته وهو يحاول إعطاءه الأعذار لما فعل ويبرر ضعف ضميره بمبررات لم تكن تهم رغد بشيء، فالسيد عامر لا يهمها إنما أحمد الرجل الذي نبض قلبها بحبه منذ الصغر، لقد كان خطيبها وحبيبها وصديقها وأخاها، إنه حياتها كلها، وأصبحت رغد هزيلة.. حزينة وكثيراً ما سهرت تبكي حبها ومصيرها، وكانت تشكو لدلال خوفها، ولم تكن دلال تعرف كيف تساعدها وحتى أخوها كان يعرف ما تمر به فالجميع يعرف أن رغد وأحمد بمثابة الخطيبين ولكن ما باليد حيلة، وعاشت رغد تلك الأيام مخلوعة القلب إلى أن جاء بوم.. يوم ليس كمثله يوم، كانت قد حادثت أحمد البارحة وبكت كما أصبحت معتادة كلما سمعت صوته وقد ذهبت إلى الجامعة في الصباح وعلى وجهها علامات الأرق والسهر، وعندما عادت إلى المنزل لاحظت الوجوم على وجه أبيها وأمها وأخوتها وانقبض قلبها بين ضلوعها وسألت: ماذا حدث؟ نظر الأب إليها وتنهد وقال: اجلسي يا ابنتي. جلست رغد وقلبها يكاد يخرج من بين ضلوعها وحدقت في وجه والدها متسائلة فقال والدها بصوت حاول جهده أن يضبط نبراته: رغد.. تعرفين أن كل شيء في هذه الدنيا قسمة ونصيب حتى اللقمة التي يأكلها الإنسان أحياناً تسقط من يده وصولها لفمه.. ارتعشت رموش رغد فوق عينيها وصمتت تنتظر وكأن لسانها قد انعقد.. تنهد الأب ثانية وقال: رغد الليلة سيتزوج أحمد يا ابنتي..
وانهارت رغد.. انهارت الفراشة الجميلة..ن
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا