صفقة سياسية
قصدت الدوقة الرفيعة المنبت مدام دي شيفريز، بعد مغادرتها الدار بميدان (بودواييه) إلى الفندق الذي تنزل به، وكانت تخشى أن يكون هناك من يتبعها، فما كادت تصل إلى باب الفندق وتستوثق من أن أحدا لم يسر في أثرها حتى خرجت من باب الحديقة الذي يوصل إلى شارع آخر، وتوجهت بسرعة إلى شارع (كروا ديه بيتى شان) حيث يقيم المسيو كولبير وكيل وزارة المالية.
وكان الليل قد أرخى سدوله، والظلمة حالكة، وقد شمل باريس السكون، باسطا رداءه على تلك الدوقة وهي تحمل دسيستها السياسة، وكانت قد ألفت الدسائس السياسية والمؤامرات التي تحاك في الظلام، وعرفت أن أي وزير لا يمكن أن يرفض لقاء شابة حسناء في بيته، ولا امرأة عجوز كثيرة التجارب!
واستقبلها أحد الخدم في دار المسيو كولبير ولم يستطع إخفاء دهشته من زيارة امرأة في مثل سنها لسيده في مثل تلك الساعة، وكتبت هي اسمها على رقعة من الورق ناولته إياها ليوصلها إلى سيده في غرفة مكتبه، وقد فوجئ هذا إذ قرأ اسم الزائرة وأمر الخادم بإدخالها توا.!
ووقفت الدوقة هنيهة بالباب تتفرس في وجه كولبير مليا لتدرس شخصيته قبل أن تحدثه، ورأت أن له رأسا كبيراً مستديراً، وحاجبين عريضين، وملامح عاطلة من الجمال، وقد وصع على رأسه قلنسوة كالتي يرتديها القساوسة. ولم تر في هيئته لأول وهلة أية دلالة على حب الانتقام أو الطموح. غير أنها قالت لنفسها وهي تتأمل عينيه الصغيرتين النفاذتين، والغضون الباهية على جبينه، وانطباق شفتيه: "إنه الرجل الذي أحتاج إليه!"
واستقبلها هو مرحبا في أدب متكلف، وما لبث أن سألها بعد أن قدم لها مقعداً كبيراً، فقال في صوت حاول جاهداً أن يضفى عليه الهدوء:
- أية مسألة يا سيدتي أتاحت لي شرف زيارتك الليلة؟
فأجابت الدوقة قائلة على الفور:
- إنهما مسألتان، أو مسألة واحدة ذات شطرين هما: حاجتي إليك أيها السيد، وحاجتك إلي في الوقت ذاته!
فتكلف الابتسام وقال: "أما الشطر الأول فيسرني أن أضع نفسي في خدمة سيدتي الدوقة لعلس أستطيع القيام به. وأما الشطر الثاني ..."
فقطعت الدوقة عبارته قائلة: "مسيو كولبير .. إنك وكيل المالية، وإنه ليسرك طبعاً أن تكون وزيرها!"
ففتح الرجل فمه ورفع حاجبيه دهشة ثم غمغم قائلاً: "سيدتي!". بينما واصلت هي كلامها فقالت:
- فيم الدهشة؟. ولم الإنكار؟ .. إن هذا يطيل حديثنا بلا موجب، وهو بعد عبث لا فائدة منه!
فعاد إلى ابتسامته المتكلفة وقال: "سيدتي .. إني ليسعدني حقاً أن أستمع لسيدة عظيمة لها مثل مركزك ولقبك، ولكن هذا لا يمنعني من الاعتراف بأني ما فكرت يوماً في انتزاع وظيفة رئيسي منه!"
فقالت: "لم أقل إنك تنتزع وظيفته، ولم أفكر في ذلك قط. وأحسب أن كلمة (تحل محله) تؤدي المعنى المراد. وعلى هذا فإني أفرض أنك يسرك أن تحل محل المسيو فوكيه وزير المالية!"
فقال: "إن ثروة المسيو فوكيه يا سيدتي تمكنه من أن يحبط كل محاولة من هذا القبيل. أن وزير المالية في هذا العصر يشبه إلى حد كبير تمثال رودس الضخم الذي تسير السفن تحته دون أن تقلبه!"
قالت: "نعم: هذا صحيح، ولكني أذكر أن المسيو كونراد عضو الأكاديمية قال يوما: (أن تمثال رودس الضخم هذا سقط من مكانه الشاهق ولم يكن الذي أسقطه سوى تاجر لا أكثر!. وقد حمل أربعمائة جمل بأنقاضه!) .. تصور يا مسيو كولبير .. لقد فعل هذا تاجر بسيط هو أقل من وكيل وزارة المالية على كل حال!"
فسكت كولبير قليلاً ثم قال: "لكني أؤكد لك يا سيدتي أني لا أريد أن أسقط المسيو فوكيه!"
فقالت: "حسنا يا مسيو كولبير: ما دمت تصر على أن تبدى لي كل هذه الحساسية، وكأنك تجهل أني مدام دي شيفريز، وأني قد تقدمت بي السن إلى حد ما، أي انك بعبارة أخرى تحدث امرأة كانت لها علائق سياسية بالكاردينال دي ريشيليو، وليس أمامها وقت تضيعه .. أقول: ما دمت تأبى ألا أن تكون هكذا كما أنت فخير لي أن أذهب، وسأجد أناسا آخرين أوسع أفقا، وأشد رغبة في تكوين مستقبلهم!"
فقال متلعثما: "كيف ذلك يا سيدتي؟"
قالت: "إنك تعطيني فكرة سيئة عن مفاوضي العصر الحاضر. وأؤكد لك أن المسيو (سانك مارس) الذي كان وكيلا للمالية في الجيل الماضي، أيام شبابي، ما كان ليبدى مثل هذا التردد، لو أنه سمع عن الكاردينال ريشيليو مثل ما قلته لك الآن عن المسيو فوكيه، وهذا برغم أن المسيو (سانك مارس) لم يكن خارق الذكاء!"
قازداد تلعثم المسيو كولبير وقال للدوقة: "أرجو يا سيدتي أن تظهري شيئاً من التسامح!"
فقالت: "حسنا! .. أتوافق على أن تحل محل المسيو فوكيه؟"
قال: "أوافق ولكن في حالة واحدة .. إذا فصل الملك المسيو فوكيه من منصبه!"
فابتسمت الدوقة العجوز وقالت: "هذا شرط لا حاجة إليه. فمن الواضح إنك إذا كنت لم تنجح في إبعاد المسيو فوكيه عن منصبه فذلك لأنه أمر فوق طاقتك. وأنا لست بلهاء إلى حد أن آتي إليك الليلة وأخاطبك في مثل هذا الشأن دون أن أعد للأمر عدته، وتكون في يدي كل الأدوات التي يحتاج إليه تنفيذه!"
فقال كولبير بعد فترة صمت قصيرة:
- آسف يا سيدتي لاضطراري مع ذلك إلى الإصرار على وجهة نظري!. على أني أرى واجبا على أن أنبئك بأن المسيو فوكيه خلال السنوات الست الأخيرة قامت ضده أكثر من تهمة، ولكنها لم تستطع أن تهزه أو تؤثر فيه!
فحدجته الدوقة بنظرة فاحصة، ثم قالت في لهجة ملؤها الثقة والاعتداد بالنفس:
- لكل شيء أوان يا مسيو كولبير!. أن أصحاب تلك الاتهامات لم تكن بينهم واحدة تسمى مدام دى شيفريز، ولم تكن بأيديهم أدلة قاطعة تعادل كتبا ستة تؤيد التهمة موقعا عليها من المسيو دي مازارين!
فتمتم كولبير: "تؤيد التهمة؟! .. أية تهمة يا سيدتي؟"
فقالت في هدوء: "نعم، التهمة بل الجريمة التي ارتكبها المسيو فوكيه إذا شئت!"
فإزدادت دهشته وأخذ يردد: "جريمة ارتكبها المسيو فوكيه؟!"
وواصلت الدوقة كلامها فقالت: "أجل!. لا أقل من ذلك. ومن عجب يا مسيو كولبير أن ملامح وجهك التي كانت جامدة منذ هنيهة قد بدت الآن على عكس ذلك، وهي تنبئ بوضوح عن شدة اهتمامك بالموضوع، موضوع الجريمة التي اقترفها المسيو فوكيه. ويسرني أن الأمر على كل حال أثار في نفسك الاهتمام!"
فقال: "أليس طبيعيا أن أهتم لذلك يا سيدتي؟. أن هذه الكلمة الواحدة (كلمة جريمة) تدل على شيء كثير خطير!"
فقالت: "نعم، أنها كلمة تتضمن منصب وزير المالية لك، وأمرا بالنفى من البلاد أو النزول بسجن الباستيل للمسيو فوكيه!"
فسكت قليلا ثم قال: "عفوا يا سيدتي الدوقة، أن نفى المسيو فوكيه يكاد يكون من المحال. أما أن يسجن أو يوصم بالعار فهذا شيء كبير ..."
فقطعت كلامه قائلة: "أني أعني ما أقوله تماماً!. ولئن كنت الآن لا أقيم دائماً بباريس، فما زلت على بينة من كل ما يدور فيها. واني لعلى يقين من أن الملك لا يميل إلى المسيو فوكيه، وأنه لن يتوانى عن التضحية به متى لاحت له الفرصة لذلك!"
فغمغم المسيو كولبير قائلاً: "إنها فرصة طيبة على كل حال!"
فقالت الدوقة: "بل هي فرصة طيبة جداً .. تساوى نصف مليون فرنك على الأقل!"
فسألها كولبير: "من أي وجه؟"
فأجابت بقولها: "أعني يا سيدي أني إذ أمسك بيدي هذه الفرصة، لن أدعا تنقل إلى يدك إلا في مقابل نصف مليون فرنك!"
فقال: "أني أفهم ما تقولين تماماً يا سيدتي. ولكن ما دمت قد حددت ثمنا .. ألا يحق لمن سيدفعه أن يرى السلع التي يبتاعها؟"
فقالت: "إنها شيء تافه. وليست سوى ستة خطابات من المسيو مازارين كما أسلفت القول. على أنها لا تعد فادحة الثمن ما دامت تثبت قطعا أن المسيو فوكيه اختلس مبالغ طائلة من خزانة الدولة وأنفقها في مآربه الخاصة!"
فلمعت عينا كولبير بسرور ظاهر وقال:
- أهي تثبت ذلك بصفة قاطعة حقا؟
فقالت "أجل بالتأكيد!. هل تحب أن تقرأ نلك الخطابات؟"
فأجاب: "أحب ذلك من كل قلبي! .. أنها صور من تلك الخطابات طبعاً .. أليس كذلك؟"
فأومأت برأسها موافقة، ثم مدت يدها النحيلة إلى صدرها وأخرجت رزمة صغيرة من الورقة قدمتها له قائلة:
- هيا .. اقرأ يا مسيو كولبير
فتناول رزمة الورق من يدها في شغف ظاهر، ثم فضها وأخذ يقرأ ما فيها باهتمام شديد، فلما انتهى من ذلك نظر إلى الورقة وعيناه تلتمعان سرورا، وقال: "هذا بديع! .. بديع جداً يا سيدتي!"
فقالت وهي تبتسم: "الأمر واضح إلى أقصى حد، أليس كذلك؟"
فقال: "أجل يا سيدتي .. أجل!. أن المسيو مازارين قد سلم إلى المسيو فوكيه مالا .. ولابد أن هذا احتفظ بذلك المال لنفسه. ولكن أي مال هذا؟ .. أن الخطابات الستة لم يرد فيها ما يوضح هذا الأمر"
فقالت الدوقة بهدوء: "صدقت!. ولك الحق في أن تسأل: أي مال هذا؟ .. ومتى وصلنا إلى اتفاق فسأريك خطابا سابعاً يزودك بتفصيل المسألة كلها من أولها إلى آخرها!"
ففكر كولبير هنيهة ثم قال:
وأين أصول هذه الخطابات
- هذا سؤال لا فائدة منه، وما أشبه بأن أسأل المسيو كولبير مثلا: هل أكياس النقود التي سيدفعها ثمنا لهذه الخطابات مملوءة أم فارغة؟!"
- حسناً يا سيدتي
- إذن فقد اتفقنا؟
- كلا!. هناك شيء لم يعره أحد منا أقل التفات. أن المسيو فوكيه لا يمكن أن تتم فضيحته إلا بدعوى قضائية يصدر الحكم فيها بإدانته!
- حسناً! .. فلترفع هذه الدعوى إذن
- لا يمكن اتخاذ الطرق القانونية ضده يا سيدتي. فهو النائب العام للبرلمان. ولا شك في أن جميع الدوائر والمصالح الحكومية في فرنسا، ومن بينها إدارة الجيش وإدارة القضاء نفسه متصلة كلها اتصالا وثيقا بروح الزمالة. وفي هذه الحالة يا سيدتي لن يسمح البرلمان بأن يقف رئيسه أمام محكمة علنية. حتى لو قدم إلى المحاكمة بأمر ملكي فلن يحكم عليه!
فقالت الدوقة في هدوء: "لا أدري ما شأني أنا بكل هذا؟"
فقال كولبير: "أعرف ذلك يا سيدتي، ولكني أنا لي شأن به!. وهذا ما يقلل من قيمة الدليل الذي اطلعتني عليه. فالواقع أن أي دليل على جريمة لا يكون ذا قيمة إذا لم يكن هناك مجال لمحاكمة مقترفها!"
فقالت الدوقة متململة: "أن المسيو فوكيه سيفقد منصبه ولا شك نتيجة لاتجاه الشبهات إليه. أليس هذا كافيا؟"
فسكت كولبير قليلا، وبدت في وجهه دلائل البغض وحب الانتقام ثم قال: "أهذا كل ما في الأمر؟"
فقالت: "عفوا يا مسيو كولبير، لم أكن أدري أنك شديد التأثر هكذا .. حسناً!. في هذه الحالة ما دمت تريد أكثر مما عندي فلا متسع لبحث المسألة معك!"
فقال: "بل نواصل البحث يا سيدتي!. ولكن ما دامت قيمة بضاعتك قد نقصت، فيجب أن ينقص ثمنها!"
فقالت وهي تمعن النظر في وجهه: "إنك تساومني؟!"
فابتسم وقال: "إن كل إنسان يريد التعامل لابد له من أن يساوم!"
فسألته متبرمة: "كم من المال تدفع ثمنا لتلك الخطابات؟"
فقال بعد تفكير قليل: "مائتي ألف فرنك!"
فضحكت الدوقة ساخرة. ثم قاله له: "ألا تدفع أربعمائة ألف فرنك؟ بل ثلاثمائة ألف. ما رأيك؟"
فبدا عليه التردد، ولم يجد ما يقوله، وواصلت هي كلامها فقالت:
- ثلاثمائة ألف لا أقل!. فإما أن تقبل وإما أن ترفض! .. ثم إن هذا كل ما في الأمر!
- وماذا لديك أيضاً.
- إن المال ليس كل ما أريده منك. فهناك خدمة أريد أن تؤديها لي أيضاً! .. إنك تعلم أني كنت مقربة من الملكة الوالدة. وأنا الآن أود لو أقابلها وأحدثها!
فبقي ينظر إليها ساكتا، ثم غمغم يقول: "الملكة؟. تقابلين الملكة الوالدة؟"
فقال له: "أجل يا مسيو كولبير، أريد أن أقابل الملكة .. إنها لم تعد صديقتي منذ فترة طويلة، ولكنها ستعود إلى صداقتي إذا أعطيت فرصة لمقابلتها ومحادثتها!"
فقال كولبير: "لكن جلالتها لا تقابل أحداً الآن. أنها تعاني من مرضها آلاماً شديدة، ونوبات الألم تعتريها الآن في فترات متقاربة!"
فقالت الدوقة: "هذا نفسه ما يدعوني إلى طلب مقابلتها. إن مرضها العضال الذي حار أطباؤها في علاجه، كثير الانتشار في إقليم الفلاندر، ولاسيما بين النساء. وكثيرات منهن استطعن التخلص من آلامه وتم شفاؤهن!"
فسألها كولبير متعجباً: "أتعنين السرطان؟. إنه مرض خطير لا يوجد ما يشفي منه حتى الآن!"
فقالت: "لا تظن ذلك يا مسيو كولبير، إن فلاح الفلاندر رجل فطري، وزوجته تعمل وتكد في المنزل والحقل وما بينهما، وإنها لتشقى بذلك أكثر مما يشقى البغل أو الحمار، ثم هي إلى ذلك قليلة العناية بنفسها، ولهذا تصيبها الأمراض المختلفة. وكثيراً ما يأبى زوجها أن يكتفي بتركها تشقى هكذا بينما هو يدخن غليونه، فيضربها ضرباً مبرحاً يترك في جسمها رضوضا قد تسبب أصابتها بالسرطان، فإذا اشتد بها الألم التمست الشفاء عند الراهبات في (بروجز) وهن خير طبيبات لكل نوع من المرض، وعندهن سوائل مفيدة لمختلف الأوجاع، وتكفي قارورة منها ومعها شمعة يعطينها للمريضة لكي تشفى من ذلك المرض الوبيل. وسأذهب إلى الملكة ببعض ذلك الماء، وستشفى جلالتها وتوقد من الشموع ما تراه ملائماً. وها أنت ذا يا مسيو كولبير أنك إذا حلت دون مقابلتي للملكة كنت بمثابة قاتلها!"
وكان يصغى إلى حديثها بكل جوارحه، فلما انتهت منه قال لها: "الحق يا سيدتي الدوقة أنك ذات مقدرة بالغة. على أني أعتقد أن هذا العطف المحمود من جانبك على الملكة يخفي وراءه صالحا شخصياً ولو ضئيلاً! .. أليس كذلك؟"
فقالت الدوقة: "أنا لم أحاول إخفاءه عليك يا مسيو كولبير. وهذا الصالح الشخصي ليس ضئيلاً كما تقول، بل هو في الواقع صالح كبير جداً. والآن ما رأيك؟ .. إنك إذا مكنتني من لقاء الملكة على انفراد فسأقنع بالثلاثمائة ألف فرنك التي طلبتها. وإلا فإني أحتفظ لنفسي بالخطابات الستة – اللهم إلا إذا أعطيتني في هذه الحالة خمسمائة ألف فرنك!"
وتحركت الدوقة في مقعدها كأنما تهم بالنهوض والانصراف، فاشتدت حيرة المسيو كولبير، ورأى ألا فائدة من مواصلة المساومة، برغم فداحة الثمن الذي تطلبه. وما لبث قليلاً حتى قال لها:
- سيسرني يا سيدتي أن أدفع لك الثلاثمائة ألف فرنك، ولكن كيف أحصل على الخطابات الأصلية؟
فقالت: "تحصل عليها بأبسط طريقة يا عزيزي المسيو كولبير. من الذي تثق به في أداء هذه المهمة؟"
فضحك كولبير حتى بدت نواجذه وقال: "لا أثق بأحد!"
فقالت وهي تشاركه الضحك: "يمكنك على الأقل أن تستثنى نفسك!. أعني أن تكلف نفسك الذهاب معي إلى المكان الذي توجد به الخطابات فتتسلمها وتستوثق منها!"
فأومأ برأسه موافقاً وقال: "صدقت يا سيدتي الدوقة". فقالت: "لا تنس الثلاثمائة ألف فرنك، فأنا أيضاً لا أثق بأحد!"
فصعد الدم إلى وجهه حتى بلغ أطراف أذنيه، فهو ككل الرجال البارزين المشتغلين بالأرقام لا يرضى أن يتطرق الشك إلى نزاهته. ثم قال لها:
- سآخذ معي أذنين بالمبلغ على خزانتي. أيرضيك هذا؟
فقالت: "بودي لو كان الأذنان بمليونين أو أكثر من الفرنكات. وإذن كنت أريك طرقا عدة تؤدي كلها إلى غايات لا تصل إليها إلا في الأحلام!"
وهنا نظر في ساعته، ثم قال لها: "أتسمحين لي أن أطلب عربتي؟"
فقالت: "إن عربتي تنتظر بالباب!"
فسعل كولبير بشكل يدل على التردد. وخطر بباله في هذه اللحظة أن ما عرضته الدوقة عليه إنما هو شرك نصب لإيقاعه فيه، وربما يكون هناك من ينتظرهما لدى الباب، أو تكون هي قد اتفقت مع المسيو فوكيه من قبل على بيع تلك الخطابات إليه!
ولما بان عليه التردد نظرت إليه الدوقة وقالت له: "أتؤثر ركوب عربتك؟". فقال على الفور: "أعترف بذلك!"
فابتسمت وقالت: "لعلك تحسب أني ربما أقودك إلى شرك؟"
فاحمر وجهه مرة أخرى وقال: "يا سيدتي الدوقة .. إنك تبدين جرأة نادرة وقلة مبالاة. ولكني رجل له سمت الجد والصراحة، فأية لعبة تلعب على قد تسئ إلى سمعتي!"
فقالت: "الحقيقة أنك خائف! .. ولكن لا بأس .. هيا اركب عربتك وخذ معك من الخدم أي عدد تشاء، ولكت أصغ إلى ما سأقوله لك: إن ما ندبره فيما بيننا لا يعلمه سوانا، وإذا علم به أي شخص ثالث فكأن العالم كله قد علمه. وأنا لا أبالي كما وصفتني، وستتبع عربتي عربتك، وحسبي أن أركب عربتك عند ذهابي إلى الملكة!"
فغمغم يقول: "الملكة؟". فقالت:
- أنسيت هكذا بسرعة؟. فكيف يفوتك أهم بند من بنود اتفاقنا؟
وهنا التفت إليها قائلاً: "لقد فكرت يا سيدتي ولن أصحبك!"
فسألته: "ولم لا؟". فقال: "لأن لي بك كل الثقة!"
فقالت: "شكراً لك. ولكن بشرط أن أحصل على المبلغ الآن!"
فقال: "ها هو ذا يا سيدتي!"
وكتب بضعة أسطر على رقعة من الورق وسلمها إلى الدوقة.
فتناولت الورقة وقالت: "إن مسلكك راق وسأكافئك عليه!"
وضحكت ضحكة مخيفة .. ثم فتحت صدر ثوبها وأخرجت من طياته رزمة صغيرة من الورق ومدت يدها بها إليه وقالت وهي لا تزال تضحك:
- هاك الخطابات الأصلية يا مسيو كولبير. إنها الآن ملكك. وإن مستقبلك الآن مكفول. هيا الآن اصحبني إلى الملكة!
فبهت مرة أخرى وقال: "الآن؟. إنك إذا تعرضت مرة ثانية لغضب جلالتها وعرف في البلاط أني كنت الواسطة في دخولك القصر، فإن الملكة لن تسامحني ما عاشت. كلا! بل يوجد في القصر بعض أناس مخلصين لي وهم سيتولون أمر استقبال الملكة إياك، دون أن يذكر اسمي"
فقالت: "كما تشاء، ما دمت سأتمكن من دخول القصر!"
قال: "ستدخلين القصر في زي راهبة من راهبات مدينة بروجز"
قالت: "معذرة ولكني لا أحب أن أتعرض لرفض المقابلة"
- هذا أيضاً شأنك أنت يا سيدتي. سأصدر تعليماتي إلى رئيس خدم الأمين المختص بخدمة صاحبة الجلالة، كي يسمح بدخول راهبه، تحمل إلى جلالتها دواء يشفي آلامها. خذي هذا الخطاب واعملي على أن تحصلي على الدواء وعلى كل المعلومات اللازمة. إني أعترف بمعرفتي لراهبة، ولكني أنكر أني أعرف أي شيء عن مدام شيفريز!
* * *
منصب للبيع
سلم كولبير الخطاب إلى الدوقة، ثم سارع إلى إزاحة الكرسي الذي كانت واقفة وراءه من طريقها إلى الباب، فحيته بإيماءة خفيفة برأسها وغادرت الغرفة حيث أوصلها خادمه إلى عربتها المنتظرة بالباب الخارجي فاستقلتها وانصرفت.
وكان كولبير قد عرف خط مازارين منذ تبينه في الخطابات، فما كادت الدوقة تنصرف حتى دق الجرس لسكرتيره، فلما جاء هذا مسرعاً أمره أن يدعو إليه المسيو فانيل المستشار بالبرلمان، فقال السكرتير:
- إن المسيو فانيل جاء منذ هنيهة ليقدم كعادته لسيدي الوكيل بيانا بما دار خلال اليوم بالبرلمان.
واقترب كولبير من أحد المصابيح وقرأ مرة أخرى خطابات الكردينال المتوفى، وابتسم ابتسامة الرضا إذ أدرك قيمة الأوراق التي تسلمها من ندام دي شيفريز، ثم أسند رأسه إلى يديه واستغرق في تفكير عميق، وفي أثناء ذلك دخل الغرفة رجل طويل القامة ضخم الجسم يدل وجهه النحيل ونظرته الثابتة وأنفه الأقنى، على ثقة بالنفس مع التواضع. وكان يتأبط رزمة ضخمة من الورق فوضعها برفق على المنضدة التي استند إليها كولبير. وقال له هذا وقد تنبه لدخوله وقطع تفكيره:
- عم مساء يا مسيو فانيل
فحنى الرجل رأسه وقال: "عم مساء يا صاحب المعالي!"
وخفق قلب كولبير إذ سمع هذا اللقب وقال للمستشار: "لماذا تلقبني بصاحب المعالي، ليس هناك ما يدعو إلى ذلك!"
فقال فانيل: "إن هذا من حقك يا سيدي فأنت وزير وهذا اللقب حق للوزراء!"
فزم كولبير شفتيه ثم قال: "لم يحن الوقت لذلك بعد يا مسيو فانيل، وما أنا الآن إلا (مسيو) فقط!"
فسارع المستشار إلى الرد قائلاً: "لا يا سيدي! .. إنك وزير في الواقع، وعلى هذا يجب أن تدعى صاحب المعالي. وإذا كنت تكره أن أفعل ذلك علنا فأسمح لي بأن أناديك بهذا اللقب فيما بيننا"
فرفع كولبير رأسه ونظر إليه مليا كأنما يريد أن يستشف مدى إخلاصه، ثم قال له كولبير فجأة:
- فانيل .. إنك ذو جلد على العمل كما أعلم فهل تستطيع أن تعمل اثنتي عشرة ساعة في اليوم؟
فقال: "الواقع أنني أعمل خمس عشرة ساعة كل يوم!"
- هذا مستحيل. أن عمل المستشار في البرلمان لا يحتاج إلى أكثر من ثلاث ساعات.
- إني أعد بعض بيانات لصديق لي في قسم الحسابات، ولما كنت مع هذا أجد فراغاً من الوقت فإني أدرس اللغة العبرية!
- إن لك سمعة عالية في البرلمان يا فانيل.
- شكراً لله على ذلك يا صاحب المعالي
- يجب ألا يصيبك الصدأ ببقائك في منصب المستشار.
- وماذا ينبغي لي أن أفعل لأحول دون ذلك؟
- اشتر لنفسك منصباً رفيعاً. إن المطامع الصغيرة الحقيرة يصعب إرضاؤها.
- الواقع أن ملء أكياس النقود الصغيرة أصعب من ملء الأكياس الكبيرة ثم قال له كولبير: "أي منصب ترنو إليه؟"
- لست أرنو إلى أي منصب!
- هناك منصب معين، ولكن لابد أن يكون الإنسان ملكا تقريباً حتى يستطيع أن يشتريه، بل أحسب الملك نفسه لا يرغب في شراء منصب النائب العام.
وهنا نظر فانيل إلى كولبير نظرة غبية، فلم يدر كولبير أفهم فانيل قصده أم لم يفهم. ثم قال له فانيل:
- لماذا تحدثني يا صاحب المعالي عن منصب النائب العام للبرلمان؟ إني لا أعرف منصباً من هذا القبيل إلا ذلك الذي يحتله المسيو فوكيه الآن.
- نعم، هذا صحيح يا عزيزي المستشار.
- عفواً يا صاحب المعالي، ولكن قبل أن يشتري هذا المنصب يجب أولاً أن يكون معروضاً للبيع!
- أعتقد يا مسيو فانيل أن هذا المنصب سيعرض للبيع!
- للبيع؟!. ماذا؟. منصب المسيو فوكيه النائب العام للبرلمان؟!
فسأله كولبير بجد: "أخائف أنت من هذا المنصب؟"
- خائف؟! كلا، ولكن .. هل من المعقول أن مستشارا بالبرلمان لا يتمنى أن يصبح النائب العام!
- حسناً يا مسيو فانيل، ما زلت أقول لك أن هذا المنصب سيكون للبيع عما قريب.
- إني أقول يا صاحب المعالي أن هذا محال، فإن الإنسان لا يرمى الدرع التي يذود بها عن شرفه ومستقبله وعن حياته نفسها.
- من الناس من يبلغ بهم الحمق أن يظنوا أنفسهم بمنجاة من كل أذى!
- أجل يا صاحب المعالي، ولكن هؤلاء الناس لا يركبهم الشطط لصالح رجل مثلي.
- ولم لا؟
- لسبب واحد بسيط وهو الفقر!
- صحيح أن منصب المسيو فوكيه قد يكلف مبلغاً طائلاً من المال. ماذا تدفع في مقابله يا مسيو فانيل!
- ثلاثمائة ألف فرنك أو أربعمائة ألف.
- وقيمة المنصب؟
- مليون ونصف على أقل تقدير. إني أعرف أناساً عرضوا مليوناً وسبعمائة ألف فرنك دون أن يستطيعوا إغراء المسيو فوكيه بالبيع. وإذا فرضنا أن المسيو فوكيه يريد بيع منصبه – وهو ما لا أعتقده برغم ما سمعته ..
- أسمعت شيئاً عن ذلك؟. ممن سمعته؟
- من المسيو دي جورفيل، والمسيو بليسون وآخرين!
- حسناً! إذا كان المسيو فوكيه يريد البيع حقاً ...
- لا يمكنني بعد أن أشتري المنصب لأن المسيو فوكيه سيطلب الدفع نقداً، وليس لأحد مليون ونصف من الفرنكات لكي يقدمها فورا.
فقطع كولبير كلامه بإشارة متعالية، إذ كان قد بدا يفكر. ولما رأى فانيل اهتمام سيده ومواصلته الكلام في الموضوع، مكث ينتظر الحل دون أن يتعجله. ثم قال له كولبير:
- أوضح لي المزايا التي لصاحب هذا المنصب.
- له حق اتهام أي مواطن فرنسي لا يكون أميراً من الأسرة المالكة، والحق في إبطال الإجراءات القانونية التي تتخذ ضد أي فرنسي غير الملك والأمراء. إن النائب العام هو يد الملك اليمنى في معاقبة المذنب، وهو الأداة التي يمكنه بها إن يتفادى تطبيق العدالة. ومن ثم فإن المسيو فوكيه يمكنه أن يقف أمام الملك. إن النائب العام يمكن أن يصبح أداة جد نافعة أو ذات خطر بالغ!
فقال له كولبير فجأة: "أسمع يا فانيل: أتحب أن تصبح نائباَ عاماً؟"
- لقد بينت لك أنه يعوزني نحو مليون ومائة ألف فرنك لكي أكمل المبلغ اللازم لشراء هذا المنصب.
- اقترض هذا المبلغ من أصدقائك، إنك رجل شريف نزيه!
- أوه يا صاحب المعالي!. وددت لو ظن الناس كما تظن.
- أحسبك كذلك وفي هذا الكفاية. وإذا اقتضى الأمر ضامنا لك في ذلك المبلغ فأنا على استعداد لذلك.
- لا تنس يا صاحب المعالي المثل الذي يقول: "من كان مسئولاً عن آخر فلابد أن يدفع ثمن هذه المسئولية".
ونهض فانيل وهو في عجب مما عرض عليه فجأة على غير انتظار، ثم قال لكولبير:
- لعلك لا تسخر مني يا صاحب المعالي.
- انتظر: لقد قلت لي أن المسيو دي جورفيل خاطبك في شأن منصب المسيو فوكيه!
- أجل. وكذلك فعل بليسون.
- أكان كلامهما في ذلك رسمياً أم من تلقاء نفسيهما؟
- لقد قالا: "أن رجال البرلمان قد أوتوا من الكبرياء مثل ما أوتوا من الثروة. وينبغي لهم أن يجمعوا فيما بينهم مليونين أو ثلاثة ملايين ليقدموها للمسيو فوكيه حاميهم وكوكبهم المنير!"
- وبماذا أجبت أنت؟
- قلت: إني مستعد لأن أقدم عشرة آلاف فرنك إذا اقتضى الأمر ذلك. فقال له كولبير مدفوعاً بعامل البغض لفوكيه:
- أنت إذن تحب المسيو فوكيه؟
فقال فانيل: "كلا! ولكن المسيو فوكيه رئيسنا. وهو مدين وفي طريقه إلى الإفلاس والخراب. وينبغي لنا أن نحفظ شرف الهيئة التي نحن أعضاؤها ويهمنا .. .."
فقطع كولبير كلامه وقال: "نعم، وهذا يوضح لنا أن المسيو فوكيه سيبقى في أمان وسلام ما دام يشغل منصبه الحالي في البرلمان!"
ثم عاد المسيو فانيل فقال: "ذكر لي المسيو دي جورفيل أن تقديمنا أية إعانة مالية للمسيو فوكيه قد يسئ إلى كرامته ولا شك أنه سيرفضه. ولذا ينبغي لرجال البرلمان أن يكتتبوا فيما بينهم ليشتروا منصب النائب العام، وفي هذه الحالة يتم كل شيء على ما يرام، فنحفظ شرف هيئتنا ونحفظ على المسيو فوكيه كرامته وأباءه"
فابتسم كولبير ساخراً وقال: "هذا فتح للموضوع!"
وقال فانيل: "لقد حسبت ذلك يا صاحي المعالي"
- حسناً يا مسيو فانيل. أذهب توا وأبحث عن المسيو دي جورفيل أو المسيو بليسون. أتعرف أي صديق آخر للمسيو فوكيه؟
- أنا على صلة حسنة بالمسيو لافونتين.
- لافونتين الشاعر، مؤلف القصص الشعرية؟
- أجل. لقد كان يكتب أشعاراً لزوجتي حين كان المسيو فوكيه أحد أصدقائنا.
- إذن .. اذهب إليه، ويحسن أن تحصل أيضاً على موعد لمقابلة وزير المالية.
فقال فانيل: "سأفعل كل هذا يا صاحب المعالي، ولكن المهم هو الحصول على المال المطلوب"
- اطمئن يا مسيو فانيل، في الموعد المحدد لإتمام الصفقة ستزود بالمال المطلوب، فلا تقلق من هذه الناحية.
- ما أعظم هذه الأريحية يا صاحب المعالي. لقد فقت الملوك في سخائهم .. بل لقد تفوقت على المسيو فوكيه نفسه في سخائه!
- انتظر لحظة. لا تدع مجالا لسوء الفهم بيننا. أنني لست أقدم لك مليوناً وأربعمائة ألف فرنك هدية لك يا مسيو فانيل، بل عندي أطفال أعولهم، ولكني إنما أقرضك هذا المبلغ!
- حدد أية فائدة تريدها، وأطلب أي ضمان يرضيك .. إنني مستعد لأي شيء يا صاحب المعالي. وبعد الوفاء بكل شرط ما زلت أقول إنك فقت الملوك ومسيو فوكيه في الجود والكرم. فما هي الشروط التي تفرضها؟
- الوفاء بالدين في خلال ثمان سنوات ورهن المنصب نفسه!
- حسناً!. أهذا كل ما تشترطه؟
- وسأحتفظ لنفسي بحق شراء المنصب منك، بربح قدره مائة وخمسون ألف فرنك، وهذا إذا لم تقم بأعباء المنصب بالطريقة التي تحقق صالح الملك وتتفق مع مشروعاتي!. هل لديك اعتراض على شيء؟
- لا .. يا صاحب المعالي.
- حسناً!. سنوقع على اتفاق بيننا بهذه الشروط في أي وقت تشاء. والآن أذهب بأقصى سرعتك إلى أصدقاء المسيو فوكيه، وأحصل على موعد معه، ولا تشتد حيال ما يطلب منك. ومتى تمت الترتيبات كلها ...
- سألح عليه في التوقيع على عقد الصفقة.
- كلا!. بل حذار أن تفعل ذلك. لا تحدث المسيو فوكيه بشيء عن التوقيع أو الوثائق، بل لا تطلب إليه كلمة شرف وإلا فقدت كل شيء. وكل ما عليك أن تغريه بمصافحتك دلالة على الموافقة. أفهمت؟
- فهمت يا صاحب المعالي!
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا