8
تغيرت حالته تماماً. لقد جاء المد وحمله معه. ظل التلفاز يعمل في الغرفة الأخرى لفترة ثم توقف. كانت الساعة تصدر دقات في بعض الأحيان وكان يحاول إحصاء الدقات، لكنه كان دائماً يضيع بينها.
أي في من خلال أنابيب! هذا هو سبب وجود تلك العلامات على ذراعيك.
رفع نفسه على مرفق واحد وحاول تلمس طريقه إلى المصباح إلى أن وصل إليه أخيراً وشغله. نظر إلى ذراعه وفي الجزء الأمامي من مرفقيه شاهد ظلالاً متداخلة من اللونين الأرجواني والبني المصفر، وثقباً مليئاً بدم أسود في منتصف كل من الكدمتين.
اضطجع ثانيةً، وهو ينظر إلى السقف ويستمع إلى صوت الريح. كان يقبع بالقرب من قمة سلسلة جبال غريت ديفايد في قلب الشتاء مع امرأة عقلها ليس سليماً، امرأة غذته عن طريق الوريد عندما كان غائباً عن الوعي، امرأة من الواضح أنها كانت تملك مخزوناً لا ينضب من الأدوية، امرأة لم تخبر أحداً بوجوده هنا.
كانت هذه الأشياء مهمة، لكنه بدأ يدرك بأن هناك شيئاً أكثر أهمية منها: كان المد قد بدأ ينحسر من جديد. وهكذا، بدأ ينتظر انطلاق صوت منبه ساعتها في الطابق العلوي. صحيح أنه لن يرن إلا بعد وقت طويل، لكن الوقت قد حان بالنسبة إليه كي يبدأ بانتظاره.
صحيح أنها كانت مجنونة لكنه كان بحاجة إليها.
أوه، أنا واقع في مشكلة كبيرة، قال في نفسه، ثم حدق في السقف دون أن ينظر إلى شيء وقطرات العرق بدأت تتجمع على جبهته ثانيةً.
9
في الصباح التالي، جلبت إليه المزيد من الحساء وأخبرته بأنها قرأت أربعين صفحة مما سمته "مخطوطة كتابه". كما أخبرته بأنها لم تكن تعتقد بأنه بمثل جودة بقية أعماله.
"من الصعب تتبعه. إنه يقفز دائماً في الزمن تارة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء".
فأجابها بول، "هذه تقنية". كان في منطقة وسطى بين التألم وعدم التألم، ولهذا السبب كان بمقدوره التفكير قليلاً في ما كانت تقوله. "تقنية، هل هذا كل ما في الأمر. الموضوع ... الموضوع هو الذي يحدد الشكل". افترض بأن مهارات المهنة هذه قد تهمها، أو ربما تفتنها. والله يعلم بأن تلك المهارات كانت تسحر الحضور في حلقات البحث التي كان الأدباء يعقدونها، والتي كان يحاضر فيها أحياناً عندما كان شاباً. "إن عقل الفتى، كما ترين، مضطرب، ولهذا السبب -"
"صحيح! إنه مضطرب جداً، وهذا ما يجعله أقل إثارة للاهتمام. ليس مملاً - أنا متأكدة من أنك لا تستطيع ابتكار شخصية مملة - لكنه أقل إثارة للاهتمام. والبذاءة! بين كل كلمة وأخرى هناك تلك الكلمة المقرفة! إنها -" فكرت قليلاً، بينما كانت تلقمه الحساء بشكل آلي، وتمسح فمه إذا سال عليه شيء دون أن تنظر إليه تقريباً، كما يفعل ضارب الآلة الكاتبة الخبير دون أن ينظر إلى المفاتيح؛ وهذا ما جعله يدرك، مباشرة، بأنها كانت ممرضة. ولكن، ليست طبيبة. أوه لا، فالأطباء لن يعرفوا متى يسيل الطعام، ولن يقدروا على توقع مسار السيلان بمثل هذه الدقة المتناهية.
لو كان خبير الأرصاد الجوية المسؤول عن تلك العاصفة ماهراً في عمله بمثل مهارة آني ويلكس في عملها، لما كنت قد علقت في هذه الورطة اللعينة، قال في نفسه بمرارة.
"ليس فيها أي شيء من النبل!" صاحت فجأة، وهي تقفز واقفة حتى أنها كادت أن تريق الحساء على وجهه الأبيض، المرفوع نحو الأعلى.
قال بصبر نافد: "نعم، أنا أفهم ما تعنينه يا آني. ذلك صحيح، إن توني بوناسارو لا يملك أي نبل. إنه فتى يعيش في حي فقير يحاول الخروج من بيئة سيئة، أتفهمين، وتلك الكلمات ... الجميع يستخدمون تلك الكلمات في -"
قالت رامقة إياه بنظرة محرمة: "غير صحيح! ماذا تظنني أفعل عندما أذهب إلى مخزن العلف في البلدة؟ ماذا تظنني أقول؟ 'أعطني الآن يا توني كيساً من علف الخنزير الـ ... ذاك وكيساً من علف البقر الـ ... وبعضاً من دواء قمل الأذنين الـ ...'؟ وماذا تظنه يقول لي؟ 'أنت محقة مـ ... يا آني، سآتي في الـ ... الحال'؟"
نظرت إليه، وبدا وجهها حينئذ مثل سماء ستولد أعاصير في أية لحظة. استلقى بول على ظهره، مرعوباً. كان صحن الحساء يتمايل في يديها، فسقطت قطرة منه، ثم قطرتان على غطاء السرير.
"وبعد ذلك، هل أذهب إلى المصرف وأقول إلى السيدة بولينغر، 'إليك هذا الشيك الكبير المـ ... ومن الأفضل لك أن تعطيني خمسين دولاراً مـ ... بأسرع ما يمكنك'؟ هل تظن بأنهم عندما وضعوني هناك على المنصة في دن -"
سال بعض من حساء لحم البقر على غطاء السرير. نظرت إلى الحساء المراق، ثم إليه، وانقلب وجهها. "انظر! انظر ماذا جعلتني أفعل!"
"أنا آسف".
"بالتأكيد! يجب أن تأسف!" صرخت في وجهه ورمت الصحن إلى الزواية فتكسر إلى شظايا، وتلطخ الجدار بالحساء. فشهق بول من فزعه.
عندئذ، توقفت آني. وبقيت جالسة مكانها لما يقارب الثلاثين ثانية. وخلال ذلك الوقت بدا قلب بول شيلدون بأنه لا يدق على الإطلاق.
أفاقت قليلاً من نوبتها الهستيرية ثم قهقهت بعصبية قائلة: "لدي مثل هذا المزاج".
قال بول بصوت جاف: "أنا آسف".
"ينبغي أن تكون آسفاً". ارتخى وجهها ثانية ثم نظرت بعصبية إلى الجدار. اعتقد بول بأنها سوف تغيب عن الواقع مرة أخرى، لكنها بدلاً من ذلك أخذت نفساً عميقاً، ثم رفعت جسدها الضخم عن السرير.
"لا حاجة بك لاستخدام مثل هذه الكلمات في كتب ميزري، لأنهم لم يكونوا يستخدمون أياً منها على الإطلاق في ذلك الحين. حتى أنها لم تكن قد وجدت بعد. العصور الحيوانية تتطلب ألفاظاً حيوانية، باعتقادي، لكن ذلك الزمن كان أفضل من زمننا هذا. عليك أن تلتزم بقصص ميزري يا بول. أنا أقول ذلك بصدق، باعتباري معجبتك الأولى".
ذهبت إلى الباب ثم نظرت إليه ثانية. "سأعيد مخطوطة هذا الكتاب إلى حقيبتك وأنهي طفل ميزري. قد أعود إلى الرواية الأخرى لاحقاً، عندما أنتهي منها".
قال بول محاولاً الابتسام: "لا تفعلي ذلك إذا كان سيغضبك. أفضل ألا أغضبك. فأنا، كما تعلمين، أعتمد عليك".
لم تبادله ابتسامته! بل اكتفت بالقول: "أجل، بالتأكيد، بالتأكيد، أليس كذلك يا بول".
ثم غادرت.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا