بؤس 6 لستيفن كينع

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-04-03

6
جلست بجانبه حيث كان يستلقي، في ما يمكن أن تكون غرفة نوم إضافية، للدقائق العشرين التالية وتكلمت. عندما أمتص جسده الحساء، صحا الألم في ساقيه من جديد. أرغم نفسه على التركيز على ما كانت تقوله، لكنه لم يكن قادراً على النجاح في القيام بذلك بشكل كامل. كان ذهنه مقسوماً إلى قسمين؛ أحدهما كان يستمع إليها وهي تخبره كيف سحبته من سيارته الكامارو 74 المهشمة؛ وذلك هو القسم الذي ينبع منه الألم مثل زوج من الأوتاد المتكسرة اللذين يومضان ويختفيان بين موجات المد المنحسرة. أما في القسم الثاني فكان باستطاعته رؤية نفسه في فندق بولديرادو يكتب السطور الأخيرة من روايته الجديدة التي لا تضم ميزري تشاستين - شكراً لله على نعمه الصغيرة - بين شخصياتها.
كان يملك من الأسباب، ومن كل الأنواع، ما يدفعه لعدم الكتابة عن ميزري، لكن أحد هذه الأسباب كان أكثر بروزاً من البقية، وغير قابل للدحض. لقد ماتت ميزري في النهاية؛ الحمد لله على نعمه الكبيرة. ولم تسقط دمعة جافة واحدة من أحد في البيت عندما حدث ذلك. ماتت قبل خمس صفحات من نهاية طفل ميزري: "وهكذا غادر إيان وجيفري باحة كنيسة دانثورب معاً، متكلين على نفسيهما، عاقدين العزم على إيجاد حياتيهما من جديد". كان يضحك بشكل هستيري أثناء كتابته هذا السطر لدرجة أنه وجد صعوبة في نقر المفاتيح الصحيحة على الآلة الطابعة، واضطر لإعادة ما يكتب عدة مرات. الشكر لله على وجود القلم المصحح أي بي أم. كتب كلمة النهاية في الأسفل ثم راح يثب بفرح في أرجاء الغرفة - نفس الغرفة في فندق بولديرادو - صارخاً أخيراً لقد تحررت! أخيراً لقد تحررت! يا الله، لقد أصبحت حراً أخيراً! لقد باعت السافلة التافهة المزرعة أخيراً!
كانت الرواية الجديدة بعنوان سيارات سريعة. هذه المرة لم يضحك عندما انتهى منها، بل اكتفى بالجلوس بجانب الآلة الكاتبة لبرهة، محدثاً نفسه، لعلك فزت للتو بجائزة الكتاب الأميركي للسنة القادمة يا صديقي. ثم رفع -
"- كدمة صغيرة على صدغك الأيمن ليست بالأمر المهم على الإطلاق. إنهما ساقاك ... كان باستطاعتي مباشرة رؤية – حتى مع ذلك الضوء الخافت - أن ساقيك لم -"
- الهاتف واتصل بخدمة الغرف من أجل طلب. زجاجة دوم بيريغنون. تذكر أنه انتظر إحضارها؛ وهو يمشي ذهاباً وإياباً في الغرفة التي أنهى فيها كل كتبه منذ العام 1974؛ تذكر إعطاءه النادل ورقة من فئة الخمسين دولاراً كبقشيش له، وأنه سأله إذا ما استمع إلى النشرة الجوية؛ وتذكر النادل المرتبك، المبتسم، والمبتهج يقول له بأن العاصفة المتجهة نحوهم في تلك الآونة يفترض بأنها ستنحرف قليلاً نحو الجنوب باتجاه نيومكسيكو؛ تذكر إحساسه بالقشعريرة لدى لمسه الزجاجة الباردة، والصوت الأكتم الذي صدر عن الفلينة عندما حررها بلطف؛ والطعم الحامضي الجاف للكأس الأولى، وفتحه حقيبة سفره وإلقاءه نظرة على تذكرة الطائرة التي ستقله إلى نيويورك؛ كما تذكر فجأة أنه، بتأثير تلك اللحظة، قرر -
"- بأن من الأفضل أن آخذك إلى البيت في الحال! كان إيصالك إلى الشاحنة أمراً مجهداً، لكنني امرأة ضخمة - لعلك لاحظت ذلك - وكنت أملك كومة من البطانيات في الخلف. أدخلتك إلى الشاحنة وغطيتك بالبطانيات. وحتى في تلك اللحظة، مع الضوء الخافت وكل شيء، اعتقدت بأن وجهك كان يبدو مألوفاً! اعتقدت ربما -"
- إخراج الكامارو من المرآب والتوجه غرباً بدلاً من ركوب الطائرة. وماذا بحق ... كان يوجد في نيويورك على أية حال؟ المنزل فارغ، كئيب، عدائي، وربما مسروق. تباً له! فكر في نفسه، وهو يشرب المزيد من الشراب. اذهب غرباً يا رجل، اذهب غرباً! كانت الفكرة مجنونة إلى درجة جعلتها منطقية. لم يأخذ أي شيء باستثناء بدلاً من الثياب و -
"- وجدت حقيبة. وضعتها داخل السيارة أيضاً، ولكن لم يكن بمقدوري رؤية أي شيء آخر وكنت خائفة من أن تموت عليَّ أو ما يشبه ذلك، لذا أدرت محرك أولد بيسي وأخذتك -"
- ومخطوطة روايته سيارات سريعة وانطلق باتجاه لاس فيغاس أو رينو أو ربما سيتي أوف ذا انجلز. تذكر أن الفكرة بدت سخيفة بالنسبة إليه في البداية. لربما كانت الرحلة مناسبة بالنسبة لذلك الشاب الذي كان عليه عندما باع روايته الأولى ولم يكمل بعد الرابعة والعشرين من عمره، لكنها ليست كذلك بالنسبة لرجل مضت سنتان على ذكرى مولده الأربعين. ولكن، بعد بضع كؤوس من الشراب لم تعد الفكرة تبدو سخيفة أبداً، بل إنها في الحقيقة بدت أقرب لأن تكون مشوقة ومثيرة. نوع من رحلة طويلة إلى مكان ما، طريقة لتقديم نفسه من جديد إلى الواقع بعد عيشه الخيالي في الرواية. وهكذا، وقع -
"- أدخلتك بسرعة! كنت متأكدة من أنك ستموت ... أعني، كنت متأكدة! أخرجت محفظتك من جيبك الخلفي ونظرت إلى رخصة القيادة الخاصة بك ورأيت الاسم، بول شيلدون، وقلت في نفسي: 'أوه، لا بد أنها مصادفة'. لكن الصورة الموجودة على الرخصة تشبهك أيضاً، بعدها أصبت بالذعر حتى أنني اضطررت إلى الجلوس على مائدة المطبخ. اعتقدت في البداية بأنه سيغمى عليَّ. وبعد فترة قصيرة، بدأت أفكر بأن الصورة قد تكون مصادفة هي الأخرى - إن صور رخص القيادة لا تبدو بأنها تشبه أحداً - لكنني وجدت بعد ذلك بطاقتك الخاصة بنقابة الكتاب، وواحدة من جمعية الكتاب الدولية بن PEN فعلمت بأنك كنت -"
- في مشكلة عندما بدأ الثلج بالتساقط، لكنه - قبل فترة طويلة من ذلك - كان قد جلس في فندق بولديرادو وأعطى جورج عشرين دولاراً من أجل تزويده بزجاجة دوم بيريغنون ثانية، وشربها كلها بينما كان يقود باتجاه جبال روكي تحت سماء بلون البرونز الداكن، وفي مكان ما إلى الشرق من نفق آيزنهاور غير وجهته لأن الطرق كانت جافة ومكشوفة، ولأنه كان يعتقد بأن العاصفة كانت تنحرف إلى الجنوب، كما أن النفق اللعين جعله عصبياً. كان يستمع إلى شريط بو دودلي ولم يشغل الراديو إلى أن بدأت الكامارو بالانزلاق والتزحلق بشكل خطير، عندئذ بدأ يدرك بأنها لم تكن مجرد عاصفة ثلجية داخلية عابرة بل عاصفة حقيقية. لعل العاصفة لم تكن تنحرف باتجاه الجنوب على الإطلاق؛ لعلها كانت متجهة نحوه مباشرة. ولذا كان في مشكلة عويصة.
(كما هو حالك أنت الآن).
لكنه كان مخموراً بما يكفي لكي يعتقد أن بإمكانه الخروج منها بسلام. لذا، بدلاً من التوقف في بلدة كانا والبحث عن ملجأ له، قاد سيارته قدماً. كان باستطاعته أن يتذكر كيف تحول بعد ظهر ذلك اليوم إلى لون رمادي كئيب، وكيف بدأ تأثير الشراب بالتلاشي تدريجياً. كان باستطاعته أن يتذكر كيف انحنى إلى الأمام كي يأخذ علبة سجائره من على لوحة العدادات، وحصل ذلك عندما بدأت الانزلاقة الأخيرة، وكيف أنه حاول التعامل معها، لكن الأمور استمرت بالتفاقم. وكان باستطاعته أن يتذكر أيضاً صوت ضربة قوية مكتومة وانقلاب العالم رأساً على عقب. كان -
"- صرخت! وعندما سمعتك تصرخ، عرفت بأنك ستعيش. نادراً ما يصرخ المحتضرون، لأنهم يفتقدون إلى الطاقة. أنا أعلم، فقررت بأن أساعدك كي تبقى على قيد الحياة. جلبت بعضاً من الأدوية المسكنة لدي وجعلتك تتناولها. بعد ذلك غفوت. وعندما أفقت من نومك وبدأت الصراخ من جديد، أعطيتك المزيد من المسكنات. داهمتك الحمى لبعض الوقت، لكنني تمكنت من مداواتها أيضاً. أعطيتك دواء كيفليكس. لكن كل شيء انتهى الآن، أعدك". عندئذ، نهضت واقفة. "والآن حان الوقت لكي ترتاح يا بول. عليك أن تستعيد قوتك".
"ساقاي تؤلمانني".
"نعم، أنا متأكدة من ذلك. سأعطيك بعض الأدوية خلال ساعة".
"الآن، أرجوك". أحس بالخجل لأنه توسل إليها، لكنه لم يستطع منع نفسه من ذلك. فالمد انحسر والوتدان المتكسران وقفا عاريين.
قالت بحزم: "خلال ساعة". ثم اتجهت نحو الباب وبيدها الملعقة وصحن الحساء.
"انتظري!"
عادت أدراجها، وهي تنظر إليه بتعبير فيه مزيج من الحزم والحب. لم يعجبه ذلك التعبير، لم يعجبه أبداً.
"انقضى أسبوعان منذ أن انتشلتني؟"
بدت غامضة مرة أخرى، ومنزعجة. لقد أحس بأن إدراكها للزمن لم يكن جيداً.
"شيء قريب من ذلك".
"هل كنت فاقد الوعي؟"
"كل الوقت تقريباً".
"ماذا أكلت؟"
حدقت فيه بإمعان ثم قالت بإيجاز: "أي في".
"أي في؟"
أخطأت في فهم دهشته واستغرابه إذ اعتقدت بأنه يجهل معنى ذلك.
فقالت: "لقد غذيتك عن طريق الوريد. من خلال أنابيب. وهذا هو سبب وجود تلك العلامات على ذراعيك". نظرت إليه بعينين أصبحتا فجأة كامدتين ومتفكرتين. "أنت مدين لي بحياتك يا بول. أتمنى أن تتذكر ذلك. آمل أنك لن تنسى ذلك".
ثم خرجت.

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا