بؤس 5 لستيفن كينغ

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-04-03

5
كانت الظلمة هي بداية مرحلة الألم والسحابة التي تنذر بوشوك حدوث اضطراب عظيم. ولقد بدأ بتذكر ما مهد للظلمة عندما أخبرته بما حدث له. لقد حصل ذلك عندما سألها السؤال التقليدي للنائم الذي يستيقظ فأخبرته بأنه كان في بلدة سايدويندر الصغيرة، في كولورادو. كما أخبرته بأنها قرأت كل رواياته الثماني مرتين على الأقل، وأنها قرأت روايات ميزري "Misery" المفضلة لديها أربع أو خمس أو وربما ست مرات. لكنها كانت تتمنى فقط لو أنه كان يكتبها بسرعة أكبر. وأخبرته كذلك بأنها بالكاد صدقت أن مريضها هو بول شيلدون نفسه حتى بعد تحققها من بطاقته الشخصية في محفظته.
سألها، "بالمناسبة، أين محفظتي؟"
أجابته، "لقد وضعتها في مكان آمن". وتحولت ابتسامتها فجأة إلى نظرة ضيقة متمعنة لم ترق له كثيراً؛ كان الأمر أشبه باكتشاف شق عميق مخفي بالكامل تقريباً بواسطة أزهار صيفية وسط مرج أخضر جميل. "هل اعتقدت بأنني سأسرق شيئاً منها؟"
"لا، بالطبع لا. الأمر ببساطة هو أن ..". الأمر ببساطة هو أن بقية حياتي كلها موجودة فيها، قال في نفسه. حياتي خارج هذه الغرفة. خارج الألم. خارج الطريقة التي يمتد فيها الزمن مثل شريط وردي طويل من لبانة تنتج فقاعات، يخرجها طفل من فمه عندما يكون سئماً. لأن هذا هو حالي منذ ساعة تقريباً قبل أن تأتي الأقراص.
"الأمر ببساطة ماذا يا رجل؟" ألحت عليه، ولاحظ حينئذ أن النظرة المتمعنة تزداد غضباً أكثر فأكثر. كان الشق يتسع وكأن زلزالاً يحدث في تلك اللحظة خلف جبهتها. كان باستطاعته سماع صفير الرياح الحاد والثابت في الخارج، وفجأة تخيل بأنها تنتشله من فراشه، وترميه على كتفها الصلبة، فيتدلى مثل كيس خيش معلق فوق حائط حجري، ثم تحمله إلى الخارج، وترميه فوق كومة من الثلج، فيتجمد حتى الموت.
قال لها، مندهشاً من سهولة خروجه بهذه الكذبة: "لطالما طلب مني والدي أن أحافظ على محفظتي". ففي الحقيقة، لقد تدبر والده أمر تربيته دون أن يعيره انتباهه إلا عند الضرورة القصوى، وطوال عمره لم يقدم لبول - بقدر ما تسعفه ذاكرته - إلا نصيحة واحدة فقط. حدث ذلك في عيد مولده الرابع عشر حين أعطاه والده واقياً ذكرياً من نوع ريد ديفل في مغلف لامع. قال له روجر شيلدون: "ضع ذلك في محفظتك، فإذا ما تهيجت يوماً وأنت تعمل في خدمة الزبائن، خذ ثانية قبل أن تستبد بك الرغبة، وارتد هذا الشيء. هناك الكثير من السفلة في هذا العالم، وأنا لا أريدك أن تنضم إلى ضحاياهم، وأنت في السادسة عشرة من عمرك".
هنا، استأنف بول كلامه: "أعتقد بأنه طلب مني المحافظة على محفظتي مرات عديدة جداً لدرجة أن ذلك انحفر في داخلي إلى الأبد. فإذا أسأت إليك، أنا أعتذر بشدة".
أحست آني بالارتياح، وانفرجت أساريرها. وردم الشق، ومالت الأزهار الصيفية برؤوسها بمرح من جديد. تخيل بأنه يدفع بيده داخل ابتسامتها فلا يجد شيئاً سوى العتمة اللينة. "لا إساءة على الإطلاق. إنها في مكان آمن. انتظر ... لدي شيء من أجلك".
خرجت قليلاً، ثم عادت وبيدها زبدية من الحساء الساخن. كانت الخضار طافية على وجه الحساء. صحيح أنه لم يكن قادراً على أكل الكثير، لكنه أكل أكثر مما كان يعتقد في البداية بأنه قادر على أكله. فبدت عليها أمارات الرضا. وبينما كان يتناول الحساء أخبرته بما حصل. أما هو فلقد تذكر ما قالته حرفياً، وقد اعتقد حينئذ بأنه من الجيد أن يعرف المرء كيف انتهى به الأمر بساقين مكسورتين. لكن الطريقة التي توصل بها إلى هذه المعرفة كانت غير مريحة، فقد بدا له الأمر وكأنه شخصية ما في إحدى القصص أو المسرحيات، شخصية لم يسرد تاريخها باعتباره تاريخاً بل ابتدعت من وحي الخيال.
كانت قد ذهبت إلى سايدويندر بواسطة سيارة من أجل إحضار العلف للماشية وبعض الأشياء من البقالية ... وإلقاء نظرة على الكتب ذات الأغلفة الورقية في مركز ويلسون للأدوية. وكان ذلك يوم الأربعاء أي قبل أسبوعين تقريباً من الآن، والكتب ورقية الغلاف تأتي يوم الثلاثاء.
قالت وهي تطعمه الحساء بالملعقة، ومن ثم تمسح بمهنية عالية نقطة سالت على زاوية فمه بواسطة منديل: "في الحقيقة، كنت أفكر بك، هذا ما يجعل الأمر مصادفة رائعة، ألا ترى ذلك؟ كنت آمل أن يصدر أخيراً كتاب طفل ميزري بغلاف ورقي، ولكن لم يحالفني الحظ".
قالت آني: "كانت هناك عاصفة قادمة". ولكن، حتى منتصف ظهر ذلك اليوم، كان متوقعو حالة الطقس يزعمون بكل ثقة بأنها ستنحرف جنوباً باتجاه نيو مكسيكو وسانغري دو كريستوس.
قال، متذكراً بينما كان يتحدث: أجل، قالوا إنها ستحول وجهتها. ولهذا السبب بالذات ذهبت". حاول أن يحرك ساقيه فكانت النتيجة أن تفجرت شرارة من الألم جعلته يئن من الوجع.
قالت آني: "لا تفعل ذلك، إذا دفعت ساقيك للتحدث يا بول فلن تصمتا أبداً ... ولن أستطيع إعطاءك المزيد من الأقراص قبل ساعتين من الآن. أنا أعطيك الكثير مسبقاً".
لماذا لست في المستشفى؟ هذا هو السؤال البديهي الذي يجب أن يطرح، لكنه لم يكن متأكداً من أنه سؤال يود أي منهما طرحه. ليس الآن على أية حال.
"عندما وصلت إلى مخزن العلف، أخبرني توني روبرتس بأنه من الأفضل لي أن أدخل إذا كنت سأرجع إلى هنا قبل أن تضرب العاصفة، فقلت له ..".
سألها بول، "كم نبعد عن هذه البلدة؟"
أجابته بغموض مشيحة بنظرها نحو النافذة "مسافة". ثم مرت فترة فاصلة من الصمت المريب. ارتعب بول مما رآه على وجهها، لأن ما رآه كان لا شيء، لا شيء لكنه أسود قاتم. شق عميق وسط مرج جبلي، سواد لا تنمو فيه أي أزهار والسقوط فيه قد يكون طويلاً. كان وجهاً لامرأة أصبحت فجأة متحررة من كل المواقف والمعالم البارزة في حياتها، امرأة نسيت ليس فقط الذكرى التي كانت في سياق سردها، بل نسيت الذاكرة نفسها. هو نفسه كان قد طاف في ملجأ ذهني ذات مرة - حدث ذلك منذ سنين، عندما كان يقوم بكتابة ميزري، أول الكتب الأربعة التي شكلت مصدر دخله الرئيس طوال السنوات الثمانية الماضية - وعرف هذه النظرة ... أو، بدقة أكبر، هذه اللانظرة. الكلمة التي تعرفها هي كتتونيا (حالة من الذهول والجمود قريبة من فقدان الوعي، تقترن عادة بانفصام الشخصية) لكن ما أخافه لم يكن هذه الحالة بالضبط، بل كان مقارنة غريبة أجراها في ذهنه، فقد اعتقد في تلك اللحظة بأن أفكارها أصبحت مشابهة إلى حد كبير لذاتها الجسمانية التي تخيلها: صلبة، ليفية، بلا انثناءات، وبلا مناطق فاصلة.
بعد ذلك، انفرج وجهها بشكل تدريجي. وبدت الأفكار وكأنها تتدفق إليها من جديد. لكنه أدرك بأن التدفق كان غير دقيق تماماً. فهي لم تكن تمتلئ، مثل بركة أو مكان تتجمع فيه مياه المد، بل كانت تسخن. نعم ... إنها تسخن، مثل أداة كهربائية صغيرة، محمصة، أو ربما وسادة تدفئة.
"قلت لتوني، 'تلك العاصفة ستتجه جنوباً'". في البداية، تحدثت ببطء وبشكل غير متناغم إلى حد ما، لكن كلماتها بعد ذلك بدأت ترجع إلى إيقاعها الطبيعي وإلى قدراتها الطبيعية في المحادثة. بيد أنه أصبح يحس بالقلق الآن. فكل ما قالته كان غريباً بعض الشيء، وغير طبيعي. كان الاستماع إلى آني أشبه بالاستماع إلى أغنية معزوفة بالمفتاح الموسيقي الخاطئ.
"لكنه قال: 'لقد غيرت رأيها'".
قلت: "يا للهول، من الأفضل أن أركب سيارتي وأمضي في طريقي".
فأجابني: "لو كنت مكانك لبقيت في البلدة سيدة ويلكس، إنهم يقولون الآن في الراديو بأنها قد تشتد ولا أحد مستعد لها".
لكنني بالتأكيد كنت مضطرة للرجوع فليس هناك من يطعم الحيوانات غيري. وأقرب أناس هم آل رويدمان، وهم يبعدون أميالاً من هنا. أضف إلى ذلك أن آل رويدمان لا يحبونني".
رمقته بنظرة ثاقبة بينما كانت تقول هذه الكلمات الأخيرة، وعندما لم يجب نقرت على حافة الزيدية بطريقة آمرة.
"انتهيت؟"
"أجل، لقد اكتفيت، شكراً. كان لذيذاً .. هل تملكين الكثير من الماشية؟" 
 لأنه لو كان ذلك صحيحاً - فكر في داخله - فهذا يعني بالتأكيد بأن لديها من يساعدها، أو لديها رجل يعمل بالأجرة على الأقل. مساعد هي الكلمة المناسبة، فهو كان قد لاحظ مسبقاً بأنها لا ترتدي خاتم زواج في يدها.
أجابت، "ليس الكثير، لدي نصف دزينة من الدجاجات البياضات وبقرتان. وميزري".
رمش بعينيه مستغرباً.#
ضحكت وقالت: "ستظن بأنني سمجة جداً لتسمية خنزيرة باسم المرأة الشجاعة والجميلة التي ابتدعتها. لكنه اسمها وأنا لم أتعمد الإساءة على الإطلاق". ثم أضافت بعد لحظة من التفكير: "إنها ودودة جداً". تجعدت المنطقة فوق أنفها، وأصبحت للحظة هي نفسها خنزيرة، وخاصة مع الشعيرات القاسية القليلة التي نمت فوق ذقنها، وأصدرت صوتاً يشبه صوت الخنزير: "ووينك! ووينك! ووهو - ووهو - ووينك!".
نظر بول إليها بعينين جاحظتين.
لم تلاحظ آني ذلك، فهي كانت قد ذهبت بعيداً مرة أخرى، وأصبحت نظرتها ضبابية ومتفكرة. ولم يكن ثمة أي انعكاس في عينيها باستثناء المصباح الموجود على الطاولة المحاذية للسرير، والذي سكن بشكل خافت في كل واحدة منهما.
أخيراً، استأنفت حديثها من جديد، فقالت بصوت ضعيف: "قطعت حوالي خمسة أميال ثم بدأ الثلج بالسقوط. جاء بسرعة؛ ما إن يبدأ الثلج بالانهمار هنا حتى يسقط بسرعة، هكذا كان الأمر دائماً. تقدمت ببطء وأنوار مصابيحي مضاءة، فوجدت سيارتك على جانب الطريق، مقلوبة". نظرت إليه شزراً. "لم تكن مصابيحك مضاءة".
"لقد حدث الأمر بشكل مباغت". قال ذلك متذكراً فقط كيف أنه أخذ على حين غرة. فهو لم يتذكر بعد أنه كان مخموراً أيضاً.
قالت آني: "توقفت، لو كنت على منحدر لما كنت قد توقفت. إنه ليس تصرفاً أخلاقياً، أعرف، لكن سماكة الثلج على الطريق كانت تبلغ ثلاثة إنشات مسبقاً، وحتى لو كنت تقود سيارة فليس بإمكانك أن تضمن الانطلاق من جديد عندما تتوقف عن الحركة. من الأسهل لك أن تقول لنفسك، 'لعلهم خرجوا من السيارة، وحصلوا على توصيلة' إلى آخره، إلى آخره. لكن سيارتك كانت على قمة الهضبة الكبيرة الثالثة بعد منزل آل رويدمان، وهناك يصبح الطريق منبسطاً لمسافة لا بأس بها. وهكذا أوقفت سيارتي، وحالما خرجت منها سمعت صوت أنين. كان صوتك أنت يا بول".
رمقته بنظرة أمومية غريبة.
عندئذ، اتضحت الصورة في ذهن بول شيلدون للمرة الأولى: إنني واقع في ورطة هنا. هذه المرأة غير طبيعية.

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا