3
عتمة، ثم الألم، فالتشوش. ومن ثم الإدراك بأن الألم - بالرغم من وجوده الدائم - كان يختفي بواسطة تسوية غير مريحة كان يفترض بأنها مجرد عملية إلهاء. الذكرى الحقيقية الأولى هي التوقف، وإرغامه على العودة إلى الحياة بواسطة نفس المرأة الباعث على القرف.
الذكرى الحقيقية الثانية: أصابعها تقحم شيئاً ما داخل فمه في أوقات متقطعة، ولكن منتظمة؛ شيئاً يشبه كبسولات كونتاك المضادة للسعال، وبما أنها لم تكن تتبع بالماء فهي كانت تقبع في فمه فقط. وعندما كانت تذوب، كانت تخلف طعماً مراً للغاية يشبه قليلاً طعم الأسبرين. وقد كان من المستحسن بالنسبة إليه أن يبصق تلك المرارة خارجاً إلا أنه كان يدرك جيداً بأنه لا ينبغي عليه فعل ذلك، فذلك الطعم المر هو الذي كان يأتي بالمد العالي ليغطي الوتد.
(وتدان، إنهما وتدان، هناك اثنان، حسناً هناك اثنان جيد. والآن اهدأ مش جيد هشششش).
وجعلته يختفي لفترة من الزمن.
كانت كل هذه الأمور تأتي في أوقات متقطعة ومتباعدة. ولكن، فيما بعد، عندما لم يعد الألم يرجع بل بدأ بالتآكل (كما تآكل وتد ريفير بيتش، فكر في نفسه، لأنه لا يوجد شيء يدوم إلى الأبد؛ رغم أن الطفل الذي كان عليه كان سيهزأ من مثل هذه الهرطقة). وبدأت الأشياء الخارجية بالتدخل بسرعة متزايدة إلى أن أعاد العالم الموضوعي، بكل ما يحمل من ذكريات، وتجارب، وأفكار مسبقة بناء ذاته إلى حد كبير. إنه بول شيلدون الذي كتب روايات ذات نوعين، جيدة ورائجة. لقد تزوج وطلق مرتين خلال حياته. وكان يدخن بشراهة. وقد حدث شيء بالغ السوء له لكنه ما يزال حياً. تلك الغيمة الرمادية الداكنة بدأت بالتبدد بشكل تدريجي؛ ولكن متسارع. ولكن، ستمضي فترة طويلة إلى حد ما قبل أن تأتي معجبته الأولى بآلته الكاتبة القديمة المطقطقة، بفمها الفاغر المكشر، وصوتها الذي يشبه صوت داكي دادلز (شخصية كرتونية). إلا أن بول كان يدرك قبل ذلك بمدة بأنه كان يعيش في حالة لا تطاق من التوقف والعطالة.
4
ذلك الجزء العارف مسبقاً من عقله رآها قبل أن يدرك بأنه كان يراها، ولا بد أنه فهمها قبل أن يدرك بأنه كان يفهمها. وإلا، لماذا ربط هذه الصور القاسية والمشؤومة بها؟ كلما كانت تدخل غرفته كان يخطر في باله تلك التماثيل المنحوتة التي كانت القبائل الإفريقية المؤمنة بالخرافات تعبدها في روايات هـ. رايدر هاغارد، وكذلك الحجارة والقدر.
كانت صورة آني ويلكس كصنم إفريقي مأخوذ من روايتي هي أو مناجم الملك سليمان سخيفة وملائمة على نحو غريب في آن معاً. كانت امرأة ضخمة الجسم، وباستثناء الانتفاخ الكبير والعدائي لصدرها الكامن تحت البلوزة الرمادية ذات الكمين الطويلين والتي كانت تلبسها دائماً، كانت تبدو كأنها لا تملك أي انحناءات أنثوية على الإطلاق. فلم يكن هناك أي تكور محدد لورك، أو مؤخرة، أو حتى بطة ساق تحت الامتدادات اللامتناهية للتنانير التي كانت تلبسها في المنزل (كانت تنسحب إلى غرفة نومها الخفية كي ترتدي بنطالاً من الجينز قبل القيام بمهامها الاعتيادية خارج المنزل). كان جسدها ضخماً لكنه غير لطيف. وكان ثمة شعور يتولد لدي رؤيتها يذكر المرء بالعوائق وحواجز الطرقات أكثر مما يوحي بالثغرات المرحبة، أو الفضاءات المفتوحة، والمناطق الفاصلة.
الأهم من ذلك كله هو أنها كانت تشعره بإحساس مزعج بالصلابة، وكأنها كانت بلا أوعية دموعية أو حتى أعضاء داخلية، مجرد آني ويلكس جامدة من الأعلى إلى الأسفل ومن كل جوانبها. كما أنه كان يزداد اقتناعاً يوماً بعد يوم بأن عينيها - مع أنهما كانتا تبدوان بأنهما تتحركان - كانتا مجرد عينين مرسومتين في مقلتيها فقط، وأنهما لم تكونا تتحركان إلا كما تبدو أعين الصور حين تنظر إليها وتشعر بأنها تتبعك من حيث هي معلقة إلى أي مكان تنتقل إليه في الغرفة. كان يعتقد بأنه إذا ما جعل الإصبعين الأولين من يده على شكل حرف V وحاول أن يدخلهما في منخريها، فإنهما قد تصادفان بعد مليمترات قليلة فقط عائقاً صلباً (لكنه لين قليلاً)، وحتى بلوزتها الرمادية، وتنانيرها المنزلية غير الأنيقة، وبنطالها الجينز المخصص للعمل الخارجي؛ كلها كانت جزءاً من ذلك الجسد الليفي الصلب الذي لا يملك أي فجوات أو أخاديد. في الواقع، لهذا السبب، لم يكن يستغرب أبداً، شعوره بأنها كانت أشبه بصنم في رواية تحبس الأنفاس. كالصنم، كانت توحي له بشيء واحد فقط: شعور بعدم الارتياح يتحول شيئاً فشيئاً إلى رعب حقيقي. وكالصنم، أخذت كل شيء آخر.
لا، مهلاً، هذا ليس عدلاً تماماً. فهي أعطت شيئاً آخر بالفعل. أعطته أقراص الدواء التي جلبت المد ليغطي الوتدين.
الأقراص هي المد، وآني ويلكس هي الكائن القمري الذي جذب تلك الأقراص إلى فمه مثل بقايا طافية فوق الموج. كانت تجلب إليه اثنين منها كل ست ساعات، في البداية كانت تعلن عن وجودها فقط من خلال دس زوج من أصابعها في فمه (سرعان ما تعلم أن يمص هاتين الإصبعين بقوة بالرغم من مذاقهما المر). وفي المرة الثانية، كانت تظهر في بلوزتها ذات الكمين الطويلين وواحدة من تنانيرها العديدة، عادةً مع نسخة ذات غلاف ورقي من إحدى رواياته تحت إبطها. في الليل كانت تظهر له في عباءة وردية يكسوها الزغب، ووجهها يلمع من جراء دهنه بأحد المساحيق (كان باستطاعته معرفة اسم المكون الرئيسي لهذا المسحوق بسهولة رغم أنه لم ير الزجاجة التي مسحت بها وجهها، وذلك من رائحة مادة اللانولين القوية والواضحة)، فتهزه من نومه المضطرب المليء بالأحلام وهي تحتضن حبتي الدواء في يدها، والقمر المزعج يسكن النافذة فوق إحدى كتفيها الصلبتين.
بعد فترة وجيزة - بعد أن أصبح فزعه أكبر بكثير من مقدرته على تجاهله - أصبح بمقدوره معرفة ما كانت تلقمه إياه: مسكن آلام مع دواء يدعى نوفريل مكون من مادة الكوديين القوية. ولأن النوفريل يسبب الإمساك أحياناً لدى المرضى الذين يتعاطونه، فقد كانت تضطر في مناسبات نادرة إلى جلب وعاء التبرز، بالرغم من أنه كان يتغذى على حمية مكونة بالكامل من السوائل والجيلاتين (في السابق، عندما كان لا يزال يعيش في غيمته السوداء، كانت تغذيه عن طريق الوريد). كما أن هناك أثراً جانبياً آخر، وأكثر خطورة، وهو الهبوط التنفسي الذي يمكن أن يصيب المرضى الحساسين. ومع أن بول لم يكن من أولئك المرضى - بالرغم من أنه كان مدخناً شرهاً لما يقارب الثمانية عشر عاماً - إلا أن تنفسه توقف في مناسبة واحدة على الأقل (قد تكون هناك مرات أخرى لا يتذكرها؛ خلال حالة التشوش). تلك كانت المرة التي أجرت له فيها التنفس الاصطناعي. لكنه فيما بعد أصبح يشك في أنها كادت أن تقتله بإعطائه جرعة زائدة بالصدفة، ولعل ذلك حدث بالفعل، فهي لم تكن تعرف ما تفعله بالقدر الذي كانت تظنه، وهذا كان واحداً من الأشياء التي كانت ترعبه بخصوص آني.
اكتشف بول ثلاثة أشياء في وقت واحد تقريباً، وذلك بعد حوالي عشرة أيام من خروجه من السحابة السوداء. اكتشف أولاً أن آني ويلكس كانت تملك كمية كبيرة من نوفريل (في الواقع، كانت تملك العديد من الأدوية من مختلف الأنواع). واكتشف ثانياً أنه كان مدمناً على دواء نوفريل. أما الاكتشاف الثالث فهو أن آني ويلكس كانت مجنونة على نحو خطر.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا