قصة فيلم 1

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-04-03

إسكندر دوماس الكبير

ذو القناع الحديدي

(الجزء الأول)

 

كلمة التحرير

هذه رواية "ذو القناع الحديدي": شجاعة وغرام وعزم وإقدام، ومكايد ودسائس، وطموح ومغامرات، وحوادث خلابة، مثيرة للنفس، ووقائع تاريخية عجيبة، يصنعها عدد من أبطال التاريخ. وهي من أروع ما أنتجته قريحة الروائي الفرنسي الأكبر إسكندر دوماس. وتدور حوادثها في السنوات الأولى من عهد لويس الرابع عشر. فبينما هو ملك شاب، طموح، يريد أن يوطد دعائم ملكه ويقضي على البقية الباقية من مكانة الشرفاء، إذا هو شاب طائش يحب هذه ويترك تلك من حسان النساء.

وأبطال هذه الرواية هم الفرسان الأربعة الذين اشتهروا في عهد أبيه لويس الثالث عشر بأعمال البسالة الخارقة، حتى جرت حوادثهم مجرى الأمثال، وعلى رأس أولئك الفرسان أراميس الذي انقلب أسقفا لمدينة "فان". وهو الرأس المفكر، والداهية المدبر، وزعيم جماعة الجزويت المشهورين الذين كان مبدؤهم في ذلك الزمان "الغاية تبرر الواسطة". وقد عمل هؤلاء الفرسان على إسقاط لويس الرابع عشر، وإحلال أخيه التوأم "فيليب" مكانه على العرش.

ولما كانت هذه الرواية التاريخية ضخمة، لا يتسع لها عدد واحد من روايات الهلال، وكان اختصارها مخلا بروعة موضوعها، وجمال أسلوبها، فقد آثرنا أن ننشرها في جزءين. نقدم الجزء الأول منهما للقراء في هذا الشهر. وهو يتضمن قصة ولادة لويس الرابع عشر مع توأمه فيليب في وقت واحد، وكيف اختير الأول للعرش بعد أبيه بينما حرم الثاني، ثم سجن اثني عشر عاماً، في سجن الباستيل وكيف حيكت المؤامرة حتى أسقط لويس الرابع عشر، وسجن بدل أخيه.

* * *

أما الجزء الثاني، ويصدر في منتصف إبريل القادم، فهو يصور لويس الرابع عشر في سجنه، ثم كيف تخلص منه وتغلب على أخيه فيليب الذي حل محله على سرير الملك ليلة واحدة. ثم كيف وحد السلطة كلها في يده، وقضى على جميع خصومه ومعارضيه بجرأة وشدة لا تعرف الرحمة، حتى أستتب له الأمر. وقد سجل مؤلف هذه الرواية في جزءيها عصر لويس الرابع عشر بما فيه من أحداث عجيبة، فجاءت تحفة تاريخية رائعة.

 

شخصيات الرواية

لويس الرابع عشر: ملك فرنسا الشاب، ملك طموح يريد أن يوطد سلطته، متقلب العواطف، ولكنه يستمع إلى صوت الحق أحيانا.

الأمير فيليب: أخوه التوأم، شاب عاقل رضين، قضى طفولته مجهولا من الناس، ثم سجن سنوات، وكان لا يعرف نفسه ولا منتبه الرفيع.

الملكة آن النمسوية: والدة لويس وأخيه فيليب، وأرملة لويس الثالث عشر .. ملكة متكبرة، تعاني مرضاً جسمانياً وألماً نفسانياً وتحتفظ بسر مولد فيليب.

الدوقة مدام دى شيفريز: كانت صديقة للملكة آن ثم أحنى عليها الدهر، واطلعت على سر لفوكيه فباعته لكولبير.

فوكيه: وزير مالية فرنسا، رجل وجيه متعال، يقرب الشعراء والفنانين.

كولبير: وكيل المالية، رجل قدير ماكر، يطمح إلى منصب وزير المالية.

أراميس (الكونت دربلاى): كان أحد الفرسان الأربعة الأبطال في عهد لويس الثالث عشر، ثم صار أسقفا وعمل لأسقاط الملك وإجلاس أخيه چالتوأم أخيه التوأم مكانه.

بورتوس (دى فالون): أحد الفرسان الأربعة، ومن أغنى نبلاء فرنسا، ضخم الجسم كأنه مارد، شجاع، طيب القلب.

آتوس (دي لافير): كبير الفرسان الأربعة، ومن أكبر نبلاء فرنسا.

راؤول (دي براجلون): نجل آتوس، شاب شجاع مقدام، أحب الآنسة لويز دي لافاليير إحدى وصيفات الأميرة هنريتا، وتعاهدا على الزواج.

دار تانيان: أحد الفرسان الأربعة، وهو يشغل منصب قائد الفرسان.

لويز دي لافاليير: إحدى وصيفات الأميرة هنريتا، أحبها راؤول، وعاهدها على الزواج ولكنها وقعت في غرام الملك لويس الرابع عشر.

بيزمو: محافظ سجن الباستيل، يحب أطايب الطعام والشراب، واقع تحت تأثير أراميس الذي أقرضه أموالاً ثم تركها له، وهو عضو في جماعة الجزويت.

 

مؤلف الرواية

لقبوه "بالكبير" تمييزاً له من ابنه الذي يحمل اسمه نفسه "إسكندر دوماس". وقد ولد سنة 1802 في قرية فرنسية تدعى "فيلير- كوتريه" وقضى بها أعوامه الأولى خاملا، ثم انتقل إلى باريس وعمل في مكتبة دوق أورليتز، ثم أتصل بالبارون "تايلور" ومن طريقه عرف وكيل نيابة اسمه "فيلناف" كان قبل الثورة الفرنسية يكتب في كثير من الصحف، فاتخذه أستاذاً ومرشداً.

ويعد إسكندر دوماس الكبير أكثر الكتاب الروائيين إنتاجاً، وقد ترجمت رواياته إلى أكثر اللغات الحية، ومن أشهرها رواية "الكونت دي مونت كريستو" و"ذو القناع الحديدي" هذه.

واشتهر طول حياته بالإسراف الشديد، حتى لقد حجز الدائنون على متاعه أكثر من مرة برغم كثرة ما كان يربحه من مؤلفاته، على أنه مع ذلك كان دائم الفكاهة والابتسام، لا يبالي ما يقع فيه من الأزمات المالية، ويتلقاها بالسخرية التي كانت من لوازمه.

وقد روى ابنه أنه قال له يوماً: "إنك يا أبي كأنما ترمي أموالك من النافذة". فأجابه": "لا بأس! .. فهناك من يلتقطونها!" وقال لصديق له عاتبه على إسرافه: "كيف أكون مسرفا مع أنني جئت إلى باريس وليس معي سوى قطعة ذهبية واحدة ما زلت محتفظاً بها حتى الآن؟!"

وطلب إليه يوماً أن يساهم في التبرع بنفقات جنازة أحد المحضرين، فتبرع بضعف المبلغ المطلوب قائلاً: "هذا لكي تدفنوا اثنين من المحضرين بدلاً من واحد!"

وذهب ذات ليلة إلى مسرح الكوميدى فرانسيز لمشاهدة تمثيلية شعرية لصديقه "إسكندر سوميه". وهناك رأى أحد النظارة نائماً فلفت إليه نظر المؤلف مداعباً. ثم حدث في الليلة التالية أن كانا في المسرح يشاهدان تمثيلية له هو، فلفت سوميه نظره إلى متفرج نائم في المكان نفسه فأجابه قائلاً: "هذا الشخص هو نفسه الذي رأيناه أمس لم يستيقظ بعد!"

2
صديقان قديمان

كان كل موظفي البلاط مشغولين بأعمالهم فيه حينما انسل رجل إلى البيت القائم وسط الحدائق خلف ميدان جريف، يرتدي معطفاً أسود يتدلى على جانبه سيف طويل، وقد  أخذ طريقه في خطى متزنة ثابتة وإن يكن قد ودع الشباب، مما يدل على أنه ذو قلب غير هياب تعود المغامرات!

ولم يكد يجتاز الباب الداخلي حتى دقت الساعة الثامنة. وبعد عشر دقائق جاءت سيدة يتبعها حارس كامل السلاح فقرعت الباب نفسه وسرعان ما فتحته لها امرأة عجوز كانت هناك، فدخلت وهي ترفع عن وجهها القناع الذي كان يحجبه، وإذا هي سيدة جاوزت سن الشباب، وتخلى عنها الجمال، ولكنها مع ذلك ذات نشاط ظاهر، ولها رأس مرفوع. وقد حاولت إخفاء حقيقة سنها وراء زينتها الدالة على حسن الذوق!

ولم تكد تدخل البهو حتى استقبلها ذلك الرجل الذي سبقها إليه منذ قليل ومد يده لتحيتها قائلاً:

- يوم سعيد يا سيدتي الدوقة.

فأجابته قائلة:

- كيف أنت يا عزيزي أراميس؟

ثم قادها إلى جناح فخم تنعكس على نوافذه العالية أشعة الشمس الغاربة. وجلسا في الضوء الخافت جنبا إلى جنب، دون أن يطلب أحدهما إضاءة الجناح بالسموع، كأنما راقهما أن يختفيا وراء تلك الظلال، أو كأنهما يريدان الانزواء في عالم النسيان!

ثم قالت الدوقة:

- إنك لم تترك لي ما أعرف به أنك على قيد الحياة منذ حديثنا معا في فونتينبلو .. وأني أصارحك القول بأن وجودك في ذلك اليوم حين وفاة الفرنسيسكانى، ووقوفك على تلك الأسرار، قد أثارا في نفسى دهشة عظيمة!

فقال محدثها أراميس: "في إمكاني أن أفسر لك وجودي هناك ووقوفي على بعض الأسرار"

ولكن الدوقة واصلت كلامها قائلة:

- دعنا أولا نتحدث عن نفسينا قليلا، فإن صداقتنا ليست حديثة العهد!

فأومأ برأسه موافقا وقال: "أجل يا سيدتي، وإذا شاء الله فسنبقى صديقين إلى الأبد!"

وقالت الدوقة: "هذا ما أريده أيها الفارس، وليس مجيئي إلى هنا إلا الدليل على ذلك!"

فقال أراميس: "إن مصالحنا لم تعد موحدة يا سيدتي الدوقة كما كانت من قبل:

قالت: "نعم .. إن لنا الآن مصالح أخرى، ولكن ما دام كل منا الآن يفهم حديث الآخر كما كنا نتفاهم قبلا، ففي استطاعتنا أن نتحدث إذا شئت!"

قال: "إني تحت أمرك يا سيدتي .. لكن كيف عرفت عنواني؟ وماذا كان هدفك؟"

قالت: "إنه الفضول قبل كل شيء!. فقد أردت أن أعرف ما شأنك بالفرنسيسكاني الذي كانت لي به علاقة عمل، وكان موته فجأة كما تعلم. ولعلك تذكر أننا بعد محادثتنا معاً في فونتينبلو، وفي الفترة التي تلت إغلاق القبر عليه، كأن التأثر قد غلبنا فلم تتح لأحدنا فرصة لإتمام الحديث"

فأومأ أراميس برأسه موافقا وقال: "أجل يا سيدتي!"

وواصلت الدوقة كلامها فقالت: "على أني لم أكد أفترق عنك حتى ندمت على أني لم أتم الحديث معك. ومنذ ذلك الحين وأنا تواقة لأن أعرف الحقيقة .. إنك أشرفت على جنازة الفرنسيسكاني، ولم تقل لي كلمة عن علاقتك يجدر بنا ونحن صديقان قديمان. ولهذا أردت أن أقابلك وأتحدث معك لكي أطلعك على معلومات وقفت عليها أخيراً، ولكن أؤكد لك أن ماري ميشون التي لم تعد في عالم الوجود قد خلفت وراءها امرأة تحرص مثلها على ذكريات الماضي!"

فانحنى أراميس على يد الدوقة وطبع عليها قبلة ثم قال:

- لاشك في أنك لقيت نصبا في الاهتداء إلى مقرى!

فقالت: "أجل!. ولكني أعرف أنك صديق المسيو فوكيه؟! .. هذا شرف كبير لا أدعية لنفسي!. إنني لست إلا قسيسا صغيراً أستظل بحماية ذلك الكبير الكريم، ويسعدني أن أحتفظ له بواجب الشكر والوفاء!"

فقالت الدوقة: "لقد جعلك أسقفا!. ولا شك في أنه منصب لا بأس به وذو معاش حسن لفارس جميل!"

فابتسم أراميس وقال: "إذن فقد سألت عني في ديوان المسيو فوكيه؟"

قالت: "نعم، وقد كان ذلك أمرا يسيرا، فقد علمت أنك سافرت معه إلى فونتنيبلو، ثم توجهت إلى مقر أسقفيتك، وهي في (بل – أيل – أن – مير) على ما أظن!"

فقال مصححا: "إن أسقفيتى في (فان) يا سيدتي"

فقالت: "هذا ما قصدت أن أقوله. ولكن لساني سبق إلى ذكر (بل – أيل – أن – مير) التي هي من أملاك المسيو فوكيه. ولهذه المناسبة: هل صحيح أنها محصنة؟ .. أنا أعرف أنك واسع الدراية بالمسائل الحربية"

فقال: "لقد نسيت هذه المسائل منذ دخلت في خدمة الكنيسة"

قالت: "على كل حال، كان يكفيني أن أعلم أنك عدت من (فان) وعلى هذا عهدت إلى الكونت دى لافير، صديقنا الذي فطر على الكتمان، في التحقق من أمر رجوعك.ا ولكنه اعتذر بأنه لا يعرف عنوانك"

فقال الاسقف لنفسه: "هذه شيمة آتوس، إن الشهم لا يتغير!". ثم قالت الدوقة:

إنك تعلم أني لا أجرؤ على الظهور هنا فإن الملكة الوالدة دائمة الغضب على!. هل يدهشك ذلك؟. إن لذلك أسبابا لا محل لذكرها الآن. على أني خلال احتجابي عن الأنظار صادفني شيء من حسن الحظ فلقيت المسيو دارتانيان الذي كان في الماضي صديقاً لك"

فأومأ برأسه موافقا وابتسم قائلاً: "ولا يزال صديقي". بينما واصلت الدوقة كلامها فقالت:

- وقد حصلت منه على بعض المعلومات، وأرسلني إلى المسيو بيزمو محافظ الباستيل!

فدهش أراميس إذ ذلك وقال للدوقة:

- ولماذا أرسلك دارتانيان إلى بيزمو؟

فقالت: "ليس في استطاعتي أن أوضح لك هذا الأمر الآن"

وأخذ هو يجهد فكره لعله يعرف السبب. ثم قالت له الدوقة:

- أن المسيو بيزمو مدين لك كما أخبرني دارتانيان. ومن السهل أن نعرف من المدين عنوان الدائن"

قال: "هذا صحيح. وعلى هذا كان بيزمو هو الذي دلك على عنواني"

فقالت: "نعم، وعلى أثر ذلك أرسلت إليك خطابا في سانت مانديه"

فقال: "لا أزال محتفظا بهذا الخطاب، وله عندي قيمة كبيرة لأن له الفضل في رؤيتي إياك!"

3

وأعقبت ذلك فترة سكوت قطعها هو بعد قليل بقوله:

- لقد وصلنا في حديثنا إلى زيارتك للمسيو بيزمو .. أليس كذلك؟

فضحكن وقالت: "بل وصلنا إلى أبعد من ذلك!"

فقال: "اجل، كنا نتحدث عن الضغن الذي تحملينه للملكة الوالدة"

فقالت: "أبعد من ذلك. لقد كنا نتحدث عن العلاقة التي كانت تربطنا بالفرنسيسكانى!"

فبدا الاهتمام في وجهه من جديد وقال:

- نعم، نعم! .. أتمي حديثك .. ها أنذا كلي آذان صاغية للدوقة مدام دى شيفريز

فقالت الدوقة: "من السهل تفسير نلك العلاقة فإنك تعلم أني أعيش في بروكسل مع المسيو دى ليك"

- لقد سمعت ذلك

- وأنت تعلم أيضاً أن أولادي جردوني من كل ما أملك؟!

- هذا أمر شنيع يا عزيزتي الدوقة!

- شنيع حقاً .. وقد أرغمني ذلك التماس وسيلة للعيش خصوصاً أني ليس لي من يحميني!

- أنت التي طالما حميت أناسا كثيرين!

- هكذا الدنيا أيها الفارس!. وعلى كل حال ففي الوقت الحاضر تتاح لي فرض كثيرة لمقابلة ملك إسبانيا، وقد عين جلالته أخيرا قائدا جديدا للجزويت كما هو المعتاد!

- كما هو المعتاد؟!. أواثقة أنت من أن هذا هو المعتاد حقا؟

- نعم، كيف لا تعلم ذلك؟

- عفوا.! إنني أعلم ولكن ذهني كان شاردا.!

- لا بأس! .. أنا واثقة من أنك تعلم ذلك ما دمت على صلة وثيقة بالفرنسيسكانى. وقد أردت أن أقول: "أن ملك إسبانيا رأى أن يؤدي لي خدمة فلم يجد خيراً من إعطائي كتابا إلى الفلاندر، يوصيه بي خيرا وبالمسيو دى ليك، وقرر لي معاشا من أموال الجزويت!

فبدا التعجب في وجهه، وتساءل قائلاً: "الجزويت؟!"

فقالت الدوقة: "أجل!. وقد زارني الفرنسيسكانى، أعني قادئ الجزويت، ولما كان نظام تلك الجماعة لا يجعل حقا في الحصول على معاش من خزانتها إلا لمن يؤدي لها خدمات، فقد تفاهم معي على أن يكون لي عمل استحق به ذلك المعاش"

فقال أراميس: "عجبا!. لم أكن أعلم شيئاً عن هذا النظام"

فسكتت هنيهة حاولت خلالها أن تتفرس في وجه أراميس لكنها لم تتبينه تماما لشدة الظلام، ثم مضت فقالت:

- أجل تلك هي القاعدة. وعلى هذا يجب أن أكون ذا فائدة للجماعة. وقد عرضت أن أقوم برحلة لهذا الغرض وتمت الموافقة على ذلك، على أن المسألة في الواقع ليست غير شكلية، لأتمكن من نيل المعاش الذي أنا في حاجة إليه!

فهمس أراميس قائلاً في صوت متهدج: "إني ليحزنني أن أسمع ذلك. أمثلك تضطرين إلى أخذ معاش من الجزويت؟!"

فقالت: "كلا أيها الفارس، أن المعاش ليس منهم سل من ملك إسبانيا!"

فتنهد وهز رأيه مغمغما: "أليس المورد واحدا؟"

فقالت: كلا أيها الفارس، إن المعاش ليس منهم بل من ملك إسبانيا!" فاستطرد أراميس قائلاً:

- لا شك في أن ثروتك الطائلة قد بقى منها شيء؟

فقالت: "لم يبق لي سوى قصر دامبيير، ولكنه مرهون مثقل بالديون، ويكاد يصيبه الخراب!"

فحدجها بنظرة نافذة لكنه لم ير شيئاً في الظلام المحيط بهما ثم قال: "كيف تسكت الملكة الوالدة على كل ذلك؟"

فقالت الدوقة: "لقد نسيت الملكة الوالدة كل شيء!"

قال: "أحسبك سعيت في سبيل استعادة رضائها عنك؟"

- أجل!. ولكن الملك فيما يظهر ورث عن أبيه كراهيته لي. إني امرأة بغيضة لا يمكن أن يحبني أحد!. أليس كذلك؟

- أرجو يا عزيزتي الدوقة أن تصلي إلى الهدف وأن تخبريني بما جاء بك إلى هنا، لأني أعتقد أن كلا منا يستطيع أن يخدم الآخر

- هذا ما أعتقده أنا أيضاً. لقد ذهبت إلى فونينبلو لغرضين: أحدهما خاص بالفرنسيسكانى الذي تعرفه. ولهذه المناسبة خبرني كيف عرفته؟ لقد قصصت عليك قصتي ولكنك لم تخبرني بعد بشيء عن نفسك!

4

- كان طبيعيا أن عرفت الفرنسيسكاني، فقد كنا زميلين في دراسة اللاهوت بجامعة بارما، وسرعان ما توطدت الصداقة بيننا، ولكن شواغل العمل أو السفر أو الحرب كانت تفرق بيننا أحيانا

- أكنت تعرف أنه قائد الجزويت؟

- كنت أشك في ذلك!

- ولكن أي ظرف عجيب جعلك توجد بالفندق الذي اجتمع فيه المسافرون الإخوان التابعون للجماعة؟

- كان ذلك مصادفة لا أكثر!. فقد توجهت إلى فونتينبلو متنكرا لمقابلة المسيو فوكيه كي يمهد لي السبيل إلى مقابلة الملك، وهناك رأيت الراهب المسكين يموت في الطريق وعرفت شخصيته فورا، وأنت تعرفين الباقي فقد مات بين ذراعي!

- أجل!. ولكنه خلف لك سلطانا واسعا حتى أنك تصدر أوامرك وتوجيهاتك وكأنك أحد الملوك!

- لقد ترك لي بعض مهام أقوم بها!

- وماذا ترك لك فيما يختص بي؟

- ترك لك اثنى عشر ألف جنيه، وأحسبني وقعت على الأمر الخاص بصرف هذا المبلغ، ألم تتسلميه؟

- تسلمته! .. وقد قيل لي أنك تصدر أوامرك بشكل جعل الكثيرين يعتقدون أنك عينت خلفا للقائد الراحل!

فصعد الدم إلى وجه أراميس، واستطردت الدوقة تقول:

- لقد حصلت على معلوماتي هذه من ملك إسبانيا نفسه. وقد بدد بعض الشكوك التي قامت بذهني. أنه هو الذي يعين كل قائد للجزويت، ويجب أن يكون القائد إسبانيا طبقا لنظم الجماعة، ولكنك لست إسبانيا، كما أن ملك إسبانيا لم يعينك!

فقال أراميس:

- ها أنت ذي ترين يا سيدتي أنك كنت على خطأ في توهمك، ما دام ملك إسبانيا نفسه قد بين لك ذلك!

- الواقع يا عزيزي أراميس أني كنت أفكر في شيء آخر!. إني أعرف شيئاً عن معظم الأمور، وقد خطر لي أنك تعرف اللغة الإسبانية!

- إن كل فرنسي اشترك في حرب (الفروند) يعرف اللغة الإسبانية

- هل عشت في فلاندرز؟

- ثلاث سنوات!

- وهل مكثت طويلاً في مدريد؟

- خمسة عشر شهراً!

- إذن لك الحق في نيل الجنسية الإسبانية إذا شئت! فكل ما يشترط لكسب هذه الجنسية هو الإقامة سنتين في أرض إسبانية ومعرفة اللغة. وأنت قد أقمت أكثر من تلك الفترة وتعرف اللغة الإسبانية

- إلى أي هدف ترمين يا دوقة؟

- إلى أنني على صلة حسنة بملك إسبانيا!

فقال أراميس يحدث نفسه: "وأنا لست على صلة سيئة به!"

ثم سألته الدوقة:

- أأطلب إلى ملك إسبانيا أن يعينك خلفا للراهب الفرنسيسكاني؟. إذا لم تكن قد عينت في هذا المنصب بعد فإني أستطيع أن أؤدي لك هذه الخدمة!.

- ولماذا لم تؤدي الخدمة نفسها للمسيو دي لك؟. إنه رجل موهوب على أنك تحبينه أيضاً.!

- أجل ولا ريب!. ولكن دعنا الآن من المسيو دي ليك: ألا تحب أنت أن تنال ذلك المركز؟

- كلا!. وشكرا لك!

فسكتت هنيهة وقد رجحت أنه قد عين في ذلك المركز، ثم قالت له:

- إذا أبيت على أن أقدم لك هذه الخدمة، فإن ذلك لا يشجعني على طلب ما أريده منك!

- ما عليك إلا أن تطلبي

- وكيف أطلب إليك شيئاً وأنا غير واثقة من أن لك القدرة على تلبية طلبي؟

- مهما تكن سلطتي ومقدرتي محددتين، فأرجو أن تطلبي إلى ما تريدين

- إني محتاجة إلى مبلغ من المال لإصلاح قصر دامبيير

فقال أراميس ببرود:

- مبلغ من المال؟. حسنا يا دوقة!. كم تريدين؟

- إنه مبلغ ضخم

- إنك تعلمين إني لست غنيا!

- كلا ولكن جماعة الجزويت غنية فلو أنك عينت قائداً لها ...

- أحسبك تعرفين أني ليست القائد!

- في هذه الحالة تلجأ إلى صديق لك وافر الثروة. أعني المسي فوكيه

- المسيو فوكيه؟. أنه قد أصابه الخراب يا سيدتي!

- هذا ما يقال ولكني لا أصدقه!

- ولم لا تصدقين ذلك؟

ا- لأن عندي، أو بالأحرى عند دى ليك، خطابات معينة من الكاردينال مازارين تدل على وجود حسابات غريبة!

- أية حسابات؟

- حسابات خاصة بمبالغ مختلفة من المال اقترضت وتم التصرف فيها. إني لا أذكر تماماً ما في هذه الخطابات ولكنها تثبت أن وزير المالية قد أخذ ثلاثين مليون فرنك من خزائن الدولة. والأمر جد خطير!

فبدا في وجه أراميس الاهتمام والقلق وسألها قائلاً:

- أيمكن أن تكون لديك هذه الخطابات التي تتحدثين عنها ولا تخبري بها المسيو فوكيه؟

- إني أحتفظ بمثل هذه المسائل الصغير لوقت الحاجة. وقد يأتي اليوم الذي أستمد منها نفعا وعندئذ تسحب من الخزانة التي حفظت بها!

فسألها أراميس: "هل حل ذلك اليوم؟". فلما وافقت على كلامه قال لها:

- هل اعتزمت أن تطلعي المسيو فوكيه على تلك الخطابات؟

فقالت: "لقد آثرت أن أتحدث عنها معك!"

فقال: "لابد أنك في حاجة ماسة إلى المال، ولهذا تفكرين في مثل هذه المسائل، أنت التي كنت لا تكترثين لما يكتبه إليك مازارين نفسه!"

قالت: "نعم، الحقيقة أني في حاجة إلى المال!"

فقال أراميس ببرود: "لا شك أنه يؤلمك أن تتخذي مثل هذه الوسيلة إنه لأمر بشق عليك!"

فقالت: "لو أنني أردت الشر بدل الخير، ما كنت لأطلب إلى قائد الجزويت أو إلى المسيوفوكيه مبلغ نصف مليون فرنك لإصلاح قصر دامبير، بل كنت أطلب هذا المبلغ التافه من صديقتي القديمة الملكة الوالدة. ولا شك أن خطابات السنيور مازارين كانت تفتح لي بابها حيث لا يكلفني الحصول على هذا المبلغ إلا أن أقول لها: "أود لو أستقبلك في قصر دامبيير، وأرجو أن تسمحي لي بأن أجعل ذلك القصر أهلا لهذا الغرض) .. أليس كذلك؟"

فلم يجب أراميس ببنت شفة، وبقى ساكتا، فقالت له: "فيم تفكر؟"

فقال: "إني أجمع بعض أرقام!"

فقالت: "حسنا!. إنك تجمع الأرقام، بينما المسيو فوكيه يطرح أرقاماً.ا أما أنا فأضرب أرقاما بعضها في بعض! .. حقا يا عزيزي .. ما أبرعنا حاسبينا!. وما أشد ما يفهم أحدنا الآخر!"

فقال لها أراميس: "ألا تسمحين لي بأن أفكر قليلا في الأمر؟"

قالت: "إن الأمر بين أناس مثلنا لا يحتاج إلى ذلك، ولا يحتمل إلا أحد أمرين: إما القبول وإما الرفض"

فقال الاسقف يحدث نفسه: "إنه شرك منصوب، ومن المحال أن تستمع الملكة آن النمسوية إلى امرأة مثل هذه". ثم قال لها:

- أحسب أن المسيو فوكيه لا يوجد عنده الآن نصف مليون فرنك

فقالت: "إذن لا فائدة من الكلام في ذلك، ويمكن أن يصلح قصر دامبيير بطريقة أخرى"

- أحسبك لست في ورطة مالية إلى هذا الحد!

- بل أنا في ضائقة شديدة!

- لا شك في أن الملكة ستفعل لك ما يعجز عنه وزير المالية!

- نعم، ولكن ألا ترى من الأفضل أن أكلم المسيو فوكيه نفسه في شأن تلك الخطابات؟

- كلا. ولكن افعلي ما يحلو لك: فإن المسيو فوكيه إما أن يشعر بأنه في هذه المسألة مذنب أو برئ. فإذا كانت الأولى فإنه لشدة كبريائه لن يعترف بذنبه. وإذا كانت الثانية فإن تهديدك إياه يكون إهانة بالغة له

فقامت الدوقة من مقعدها وهي تقول:

- إن منطقك كمنطق الملائكة

- وإذن فستفضحين المسيو فوكيه لدى الملكة؟  - أفضحه؟. إنك تتخذ كلمة شديدة. إني لن أفضحه يا صديقي العزيز. إنك تعرف الآن من شؤون السياسة ما يكفي لأن تدري كيف تعالج هذه الأمور. إنني لن أفعل سوى أن أقف ضد المسيو فوكيه، وفي حرب حزب ضد حزب آخر يكون السلاح الذي يستخدم في الهجوم سلاحاً ذا أثر!. ومتى عادت علاقتي الودية مع الملكة الوالدة فقد أصحب ذات خطر

- إنك لا تجهلين إن المسيو فوكيه على أحسن علاقة مع ملك إسبانيا، وعلى ذلك إذا بدأت حربا حزبية ضد المسيو فوكيه، فإنه سيرد عليك بالطريقة نفسها، وسيتخذ من هذه العلاقة سلاحا للهجوم!

- أتريد أن تقول إنه سيكون على صلة حسنة بقائد الجزويت يا عزيزي أراميس؟

- قد يكون الأمر كذلك يا دوقة!

- إذن أنت ترى أنه سنقطع عني المعاش الذي آخذه من الجماعة؟

- أخشى أن يحدث ذلك؟

- حسناً!. يجب أن ألتمس ما أجده من عزاء. أن مدام شيفريز لم يبق هناك ما يمكن أن تخشاه بعد ريشيليو وبعد حرب الفروند وبعد المنفى!

فقال أراميس: "أن المعاش كما تعلمين هو ثمانية وأربعون ألف فرنك"

قالت: نعم، هو كذلك ويا للأسف"

قال: "أنت تعلمين طبعاً الصراع بين الأحزاب لا يدع سبيلا للفرار أمام الخصوم وأنصارهم"

قالت: "أتعني أن دى ليك المسكين سيشقى كذلك؟"

فقال: "أظن أنه لا مناص من ذلك يا دوقة"

- إن معاشه لا يعدو اثنى عشر ألف فرنك!

- أجل ولكن ملك إسبانيا لا يزال له سلطانه، وفي استطاعته بإيعاز من المسيو فوكيه أن يزج بالمسيو دى ليك في السجن حتى حين

- إني لا يزعجني ذلك يا صديقي العزيز، لأني بفضل صلحي مع الملكة آن، سأجعل فرنسا تصر على الإفراج عن دي ليك!

فقال: "هذا صحيح. ولكن في هذه الحالة هناك أمر آخر تخشينه!"

فسألته متلهفة: "ما هو؟". فقال:

- ستعلمين، إن لم تكوني قد علمت، أن عضو جماعة الجزويت لن يسهل عليه تركها، لأن الأسرار التي وقف عليها تصبح وبالا عليه!

5

ففكرت مدام دى شيفريز هنيهة ثم قالت:

- هذا أمر أشد خطراً، وسأفكر في الأمر!

وبرغم الظلام الشامل أحس أراميس أن محدثته تنظر إليه نظرة نافذة تكاد تخترق قلبه. ثم قال لها وهو يتحسس بدافع الغريزة خنجرا مخبأ على صدره: "لنخلص المسألة ولنتفاهم"

فقالت: "أجل!. أن دقة الحسب تسبب صدق المودة!"

قال: "فلنبدأ بإلغاء معاشك"

فقالت: "ولنحسب معه إلغاء معاش دي ليك، فتكون جملة الخسارة ستين ألف فرنك في السنة. أهذا ما تعنيه؟"

قال: "نعم، ويهمني أن أعرف ما تكسبينه في مقابل ذلك؟"

فقالت: "نصف مليون فرنك آخذها من الملكة!"

قال: "لكنك قد لا تأخذينها منها!"

فقالت: "إني أعرف الوسيلة لحصولي على هذا المبلغ!"

فازداد أراميس أصغاء وقد أحس أنه بدأ يكسب في هذا الحوار بمقدار ما تخسر محدثته، ثم قال لها:

- لنفرض أنك ستحصلين على هذا المبلغ، لكنك ستخسرين ضعفه لأنك سيكون لك معاش قدره مائة ألف فرنك بدلا من ستين ألفا، لمدة عشر سنوات!

فقالت: "إن النقص في دخلي لن يدوم أكثر من الفترة الباقية للمسيو فوكيه في منصبه، وأنا أقدرها بشهرين اثنين لا أكثر، وأرجو أن تعجبك هذه الصراحة!"

فقال أراميس: "شكراً لك يا دوقة. ولكنك تخطئين إذ تحسبين أن جماعة الجزويت تدفع معاشك بعد فضيحة المسيو فوكيه".

فقالت: "أنا أعرف كيف أجعلها تصرف لي معاشي، كما أعرف كيف أجعل الملكة تعطيني ما أريده!"

فارتسمت على شفتيه ابتسامة حجبها الظلام وقال: "في هذه الحالة لا مناص لنا من أن نسلم لك، ولكن ألا يمكن أن تكوني أكثر رحمة؟"

ولم تلحظ الدوقة ما في هذا القول من سخرية، وقالت له:

- عجبا!. كيف تستكثر مثل هذا المبلغ الزهيد الذي لا يزيد على نصف مليون فرنك، على حين أن الأمر يتعلق بوقايتك! .. أعني وقاية صديقك أو حاميك، من العواقب الوخيمة التي تنجم عن حرب حزبية؟!

فقال في هدوء: "لنفرض أن ذلك المبلغ صرف لك، ألا ترين أن المسيو دي ليك في هذه الحالة سيطالب بنصيبه أيضاً، أي بنصف مليون آخر؟. كما أن أولادك وغيرهم ممن يلوذون بك سيطالبون بأنصبتهم ولا شك من جديد. في حين أن تلك الخطابات التي وقع عليها مازارين مهما يكن ما تشتمل عليه لا تساوي ثلاثة ملايين أو أربعة ملايين من الفرنكات!. هل نسيت جواهر ملكة فرنسا؟ لاشك في أنها كانت أكبر قيمة من هذه الخطابات، ومع ذلك لم تكلف استعادتها ربع المبلغ الذي تطلبينه لنفسك!"

فقالت الدوقة: "قد يكون هذا صحيحاً، ولكن للتاجر أن يقدر بضاعته وفق ما يراه وللمشتري أن يدفع أو يرفض الشراء!"

فقال: "على رسلك يا سيدتي الدوقة. أتريدين أن تعلمي لماذا لا أشتري تلك الخطابات؟ إنني لا أشتريها لأنها خطابات زائفة!"

فضحكت قالدوقة وقالت ساخرة: "هذه سخافة ولا شك!. وعجيب منك إن تصدقها!"

فقال: "الواقع أنني لا أشك في أنها زائفة، وأنت تذكرين أنك بعد أن اختلفت مع الملكة بمسعى المسيو مازارين قد مكثت على علاقة وثيقة به. وفي ذلك ما يجعلك في موقف الجاسوسة، وصدقيني .. لست أحب أن أطلق عليك هذا الوصف!"

فقالت ساخرة: "بل أطلق على من الأوصاف كل ما تريد!"

فقال: "ليس هناك ما يدعو إلى هذا. على أنك على الأقل توافقيننى على أن لطفك معه بعد ذلك ليس فوق مستوى الشبهات!"

قالت: "ريما يكون هذا صحيحاً، ولكن الأصح منه ما تحويه الخطابات" ورأت مدام دى سيفريز أنها قالت ما فيه الكفاية، فنهضت ومشت خطوات صوب الباب، غير أن أراميس الداهية سرعان ما أعد مفاجأة للانتقام منها، فدق جرسا هناك وإذا بالشموع توقد فورا في الغرفة المجاورة وإذا بالأضواء تنعكس على وجهها النحيل وخديها الذابلين، وعينيها المغمضتين، وأسنانها المسودة. وهي واقفة بجانب المرآة الكبيرة، فوقف يتأملها مرفوع الرأس، وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة، كشفت عن أسنانه اللامعة، وأدركت العجوز خدعته التي كشفت عما جاهدت لإخفائه من قبح منظرها، فسارعت في الخروج، متحاملة على ساقيها المرتعشتين، بينما انحنى لها هو في رشاقة الفارس الذي كأنه، ثم قفز عبر الغرفة ليقودها إلى الباب.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا