رواية اختلال 6 للكاتب سعد البدر

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-03-30

 

15-5-2015

قسم التحقيقات في مبنى الأمن الجنائي

الساعة العاشرة صباحاً، وصل هاشم إلى مكتبه، أجرى اتصالاً مع أبو سالم يبلغه أنه وافق على طلبه وسيفاوض حسام على نسيان ما حدث وأنه مستعدٌ أيضاً لدفع تعويض له ثم طلب منه أن يقله هو بنفسه إلى المكان الذي يريد.

ذهب هاشم إلى الزنزانة وجد حسام أمامه جالساً يحاكي أحد السجناء الآخرين.

- حسام.. حان وقت الإفراج عنك.

ينظر له بطريقة مريبة وكأنه لم يصدق ما يقوله:

- أعرف أنك لن تصدقني بعد كل ما حدث لك الآن.. ستنتصر أنت.. وستنال كل ما تريد.

يفتح أحد الشرطة المرافقة لهاشم السجن ليخرج حسام وهو غير مصدق لما يحدث

"أنا حر" يردد بداخله، يذهبان معاً إلى مكتب أبو سالم، الذي قدم اعتذاره إلى حسام على الخطأ الذي وقع.

- يا أخ حسام، هناك الكثير من الأخطاء التي تقع بها أي مؤسسة وهذا خطأ نحن نحتمل مغبته، وهاشم نادمٌ بشدة على ما حدث وهو بنفسه سيعوضك مادياً ومعنوياً.

لم يبدِ حسام اعتراضاً على كلام أبو سالم ووجه نظره إلى هاشم وسأل:

- هل ستعتذر أنت؟

يرسم هاشم ابتسامة صفراء على شفتيه ويجيبه:

- أنا آسف، قادني التهور إلى تصور أمور غير حقيقية، وما حدث سيكون خيراً لك.. ستنال مبلغاً كبيراً.

أخرج هاشم من جيبه ظرفاً، ودفعه بهدوء للأمام، يقرب حسام يديله ليلتقطه ويرى ما بداخله، ابتسم وقال:

- سامحتك، الإنسان معرض للخطأ، وأنا مخطئ أيضاً كان يجب عليّ أن لا أشعرك بالخوف وأنا أحمل بيدي تلك الآلة..

يشعر أبو سالم بالسعادة فالموضوع "اقفل الآن" ولن يفتح مجدداً. يقفان معاً، يهم حسام بالرحيل لكن هاشماً يناديه:

- سآخذك معي.

يحاول حسام تلافي هذا الأمر مجيباً:

- لا لا الأمر لا يحتاج إلى هذا كله، سأذهب بتاكسي أو اتصل بأحد الأصدقاء.

يقترب منه هاشم ويصر:

- لا يا أخي.. هذا الأمر جزءٌ من الاعتذار.

يهز حسام رأسه بالموافقة على مضض، يخرجان معاً إلى سيارة هاشم لينطلق بها.

- أين تريد الذهاب؟

يفكر قليلاً قبل أن يصرح برغبته بالذهاب إلى الكراج البعيد عن حتى يستثقل هاشم الطريق ويتركه في حال سبيله..

- أريد أن أذهب إلى الكراج لأخذ شاحنة نقل السيارات.

وعوضاً عن ذلك بدا هاشم مبتهجاً ورسم ابتسامة كبيرة على وجهه وهو يجيبه:

- نعم أنا أفضّل هذا أيضاً.

انتابت حسام الريبة من رده، أما هاشم، فقد شعر بالراحة، فالخطة تسير وفق المتفق عليه، يرفع هاتفه ليتصل على " الجلندي"

- أهلاً، نعم.. لقد ذهبوا إلى الحديقة.. هل وصلت أنت وأبناؤك هناك، سأصل قبلك إذاً.

يغلق الهاتف ويوجّه نظره إلى حسام ويقول:

- هل بإمكانك أن تساعدني في معرفة تفاصيل تلك الجريمة.

يضحك حسام بتوتر ويجيبه:

- لا أرجوك.. لن أتحدث بهذا الأمر مجدداً.. يكفي ما حدث لي.. لا أريد أن أقول أمراً وأراك تشهر المسدس في وجهي مجدداً.

يضحك هاشم بصوت مرتفع وهو يقول:

- لا لا.. أنت بريء.. لكن أنت تمر على هذا المكان باستمرار.. هل رأيت أمراً يثير الشبهات؟! ربما يدلنا على حل لتلك القضية.

يرفض حسام التحدث بهذا الموضوع.. يهز رأسه بالنفي.. محاولاً أن يغلق هاشم هذا الموضوع لكي لا يتحدثا عنه مجدداً.

يصلان إلى الكراج، يترجل حسام ليشكر هاشماً على هذه التوصيلة المجانية لكنه يصر أن ينزل معه للتأكد من سلامة المكان وأن الأمور تسير على ما يرام، حاول حسام أن يطمئنه بأن كل شيء بخير لكنه أصر على طلبه لينزل معه، دخلاً معاً إلى داخل الكراج، بدأ حسام بالبحث عن مفتاح العربة، أخرج هاشم المسدس من جيبه ليوجه ضربة من طرف السلاح على رأس حسام الذي سقط مغشياً عليه.

يحمله ليضعه على كرسي قريب، يعود إلى مركبته لإخراج حبل، يشد وثاقه، يخرج هاتفه ليقوم بالاتصال مجدداً على الجلندي؛ ليخبره ما فعل، ليأتي رده.

- انتظرني.. أنا في الطريق.

دقائق ثم شعر هاشم بصوت يقترب من الباب، فانتابه الهلع، أخرج المسدس، نظر من الفتحة فلم يجد أحد، فتح الباب وخرج فلم يجد شيئاً!!

- ربما وسواس ..

عاد للداخل، ينتظر الجلندي، شعر بالحركة ذاتها، لم يتحرك، جلس يراقب الباب. يسمع صوتاً ينادي:

"هاشم.. كن رجلاً وقوياً.. مثل والدك"!

شعر برعب شديد.. أخرج المسدس يوجه يميناً ويساراً.

- من هنا.. اكشف عن نفسك!!

لكن الصمت يعود إلى المكان مجدداً، يكرر هاشم اتصاله بالجلندي لكنه لم يرد، أعاد الاتصال دون جدوى، ازداد توتره، تحرك دون توقف داخل الكراج، يفكر ماذا يفعل إن لم يأت شريكه!!

- هل يجب أن أهرب وأترك المكان لكن حساماً سيقوم بالإبلاغ عني، سيزج بي في السجن؟!

بعد نصف الساعة، سمع صوت سيارة تقترب، فازداد الرعب في قلبه.

نظر من الفتحة ليجدها تقف عند الباب مباشرة، يترجل منها شخص، يركز نظره قبل أن يردد بارتياح:

- الحمد لله.. الجلندي.

يفتح له الباب، يصرخ بقوة:

- لماذا لم ترد على اتصالاتي، لقد شعرت بالخوف، فكرت بالهروب وترك المكان؟

يهدأ الجلندي من روعه.

- ما بالك يا رجل.. لقد أخبرتك بأنني في الطريق.. ولم أنتبه للهاتف بعد ذلك ..

يردد هاشم:

- لقد سمعت أصواتاً غريبة في المكان، أناس تردد كلمات غريبة، لا أعرف ما يحدث لي.

يطلب الجلندي من هاشم الجلوس والهدوء:

- سآتي لك بقنينة ماء.. أهدأ.. تلك جميعها أوهام.. لا تفقد تركيزك.. أمامنا مهمة يجب أن ننفذها.. لا أريد أن تعود تلك الوساوس والأوهام لك.. ستتسبب بفشل المهمة وسنخسر كل شيء.

يذهب الجلندي إلى مركبته ليأتي بماء وطعام، لا يشعر هاشم برغبة في أكل شيء فيكتفي بالماء بينما يذهب الجلندي إلى حسام الذي لم يستعد وعيه بعد ليعاين وثاقه، قبل أن يخرج من جعبته قناعاً أسود ليرتديه وقفازين.

يراقبه هاشم بصمت واستغراب فيطلب منه الجلندي أن يغادر المكان ويأتي بعد أن يتصل عليه.

- ماذا تقول.. هل سأتركك وحيداً هنا.. ألا تخاف؟

يحاول أن يطمئنه بوضع يديه على كتفيه، ضاغطاً عليها.

- لا تقلق.. سأقوم بالأمر بنفسي.. أنت لست بحالتك الطبيعية.. وأخشى أن ما تعانيه من ضغوطات نفسية سيعود أثره علينا.. اذهب إلى منزلك خذ قيلولة.. ارتاح.. افعل أي شيء.. لا تأتي إلا عندما اتصل بك.

حاول إقناعه مجدداً وقاده نحو مركبته وطلب منه الرحيل.

أذعن هاشم لرغبة صديقة وعاد للمنزل، كانت ضحى ترتب المنزل، رحبت بعودته مبتسمة وأعدت له الطعام، نظر لها هاشم وقال:

- أول مرة أشعر بأنك تستقبليني بحب كبير واهتمام!

تضحك ..

- لا ليس أول مرة.. ربما أول مرة أنت تشعر بهذا لكن كلماتك تسعدني.. لا يهم.. يكفي أنك شعرت بهذا الحب الكبير.

يبتسم هاشم، يشعر أن الحياة بدأت تقف إلى جانبه مجدداً، ها هو الجلندي يقاتل من أجل أن يكشف حقيقة حسام بينما ضحى تصبح "جميلة ولافتة" نظره.

جاءت بالطعام إليه، أعدت له كل ما يحب ويشتهي ..

- استعد الآن.. لأن يزيد وزنك.. لقد هزل جسدك كثيراً مؤخراً.

يومئ برأسه ..

- لكنني سأستعيد وزني.. وأستعيد الكثير من الأشياء التي فقدت منى ..

تشد ضحى على أزره وتقول:

- ستستعيدها كلها.. كل ما تحب سيكون إلى جانبك أنا على ثقة من ذلك.. فأنت إنسان ذكي وتدرك جيداً ماذا تفعل.

ينظر لها هاشم ..

- ذكي وأدرك ماذا أفعل كنت أحتاج كثيراً لشخص ما يقول لي تلك الجملة.. حتى أعلم جيداً أن ما أقوم به واجتهد من أجله.. هو أمر صحيح.

تسكب له العصير وتقول:

- لن أسألك ماذا تفعل أو ما يحدث في تلك القضية.. أعلم أن الأمور تسير بالاتجاه الصحيح.. أرى ذلك في عينيك.. وهذا يكفيني.. واصل لا تتوقف ولا تتراجع أبداً.. الأيام الجميلة تنتظرك.

يبتسم وهو يقول:

- وتنتظرك أنت أيضاً.. لأنني من فور إغلاق تلك القضية سأذهب معك في رحلة حول العالم.. أريد الابتعاد من القضايا ومن أبو سالم وجعفر وحزام وكل أمر يذكرني بما حدث مؤخراً.

تقوم ضحى من مكانها لتقبل رأسه.

- أثق أن هناك رحلة جميلة.. تنتظرني.. أثق في ذلك جيداً

يضحك هاشم ..

- نعم تنتظرك رحلة جميلة ..!

يكملان حديثهما، يخططان للرحلة، عينا هاشم تنتقل إلى الهاتف كل دقيقة ليتأكد بأن الجلندي لم يتصل به، طال انتظاره، كان يفكر بالاتصال كل لحظة.

في الوقت ذاته.. داخل الكراج، حسام على الكرسي، يعيش كوابيس متتالية، تزيد حالته سوءاً، يجد أمامه العقيد عساف ببذلته العسكرية المزهوة بنياشين كثيرة وهو يهدده ويتوعده:

إذا القرار بيدك.. إما أن تقتلهما.. أو تقتل.. لا خيار أمامك.. وأنت تعرف جيداً أنني إن قلت كلمة، فلا أتراجع عنها، وأنت يا حسام ستنفذ ما قلت دون تردد.. أعلم أنك بريء.. وأنهما وراء زجك بهذا المكان القذر.. يجب أن تتخلص منهما.. وتذهب إلى بيتك، حيث أمك التي تنتظرك كل يوم عند الباب منتظرة أن يفرج عنك.. ستفرح برؤيتك.. فكر بالأمر.. هل تريد أن تخرج إلى أمك "جثة هامدة".. لتضرب على رأسها حتى يدمي.. وتمسي أيامها جميعاً أمام قبرك.. أم تريد أن تراك حياً ترزق.. لتسعد برؤيتك ورؤية أبنائك؟

يتصبب حسام عرقاً، يمسك كوب الماء أمامه، يحاول أن يشرب منه لكت يديه ترتجفان بقوة؛ ليسقط الكأس وينكسر، ذلك المشهد لم يهز جفن العقيد عساف ولم يبعد عن عيني حسام.

قبل أن ينطق حسام بكلمة، يسمع صراخاً خلفه.

- اعترف.. أنت من فعل كل هذا.

ينظر خلفه فيجد مكتباً عليه شخص يرتدي الدشداشة والغترة والعقال.. يحاول أن يركز جيداً كيف تواجد هذا الشخص فجأة في المكان، ينظر يميناً فيجد شاباً بالرداء ذاته يقول:

- موكلي لن يرد بأي كلمة.. لا يوجد أي دليل ضده.

يعود حسام للنظر إلى الأمام، فيجد "عساف" ينظر إليه وهو يضحك بصوت عال.

- مجنون.. أنت مجنون ستموت في السجن وحيداً.. أخبرتك بذلك.

يعود بنظره للوراء، لم يعد للمحقق والمحامي أثر!! فجأة تنطفئ الأنوار ويدخل في ظلام دامس، يصمت لدقائق قبل أن يصرخ.

- أنا مظلوم.. أنا مظلوم!

يستمر بالصراخ، ثم استفاق فجأة، ووجد أمامه شخص يغطي رأسه بقناع أسود

- يبدو بأنك عشت كابوساً مؤلماً.. فقد كنت تردد أنا مظلوم كثيراً!!

يحاول أن يحرك حسام ذراعيه لكنه يجد نفسه مكبلاً!! فيلتفت إليه ويسأل بحرقة:

- لماذا تفعل بي هكذا.. ولما تغطي وجهك.. ماذا تفكر فيه؟!

يجر كرسي قريب منه ويجلس مواجهاً له ويجيب:

- أعلم وتعلم ما الذي أفكر به.. كما تعلم يقيناً بأنك المجرم.. وإذا لم تكن أنت، ببساطة فستصبح هو.

دارت عينا حسام بفزع وهو يحاول عبثاً أن يفك وثاقه لكنه فشل فصرخ بألم:

- هل تريد أن تقودني إلى حبل الإعدام؟!! هل تعتقد بأنني لم أخبرهم بما فعلته بي؟!! أموت هنا أفضل.. حتى تلصق التهمة بك يا هاشم.

انحني ليلتقط صندوق بالقرب منه، أخرج منه أسلاكاً كهربائية وربطها بمحول موجود بالقرب من الكرسي وهو يسدد نظرات خبيثة نحو حسام ويقول:

- هيا ستقتلني الآن.. لماذا.. لن تستفيد شيئاً؟!

يضحك: 

- سأستفيد صدقني.. من موتك أكثر من وجودك حياً.

شعر وكأن ماء حاراً قد انسكب على ظهره، فبردت أطرافه وهو يحدق بالسلك بذعر ثم انتفض راجياً:

- يا صاح.. ما بالك؟ أنا لم أفعل لك شيئاً.. اهدأ.. اهدأ.. ما تريده سيحصل.. ما الذي تريده بالضبط وسأفعله، أرجوك؟

لم يهتم لتلك التوسلات واقترب منه مستعداً لبدء حلقة التعذيب!!

بعد ساعة.

كان هاشم يجلس على شرفة الباب خارج المنزل، يرن هاتفه.

- صديقي.. لقد أصبح جاهزاً للاعتراف.

رد عليه ..

- إذا سنستطيع أن ننهي القضية، سأسحق هذا الرجل بيدي، لن أرحمه.

يضحك الجلندي ..

- هيا تعال بسرعة!

انفرجت أساريره، يدخل المنزل ليأخذ مفتاحه وهاتفه، وجد أمامه ضحى- بملامح متوترة- تعلق:

- يبدو أن أمراً سعيداً قد حصل.

اقترب منها هاشم وهو مبتسم بارتياح ويقول:

- نعم.. والسفر اقترب.. اقترب جداً.

ودعها وقبل خروجه من الباب بدأ يتحدث لنفسه بصوت مسموع..

- إذا انتهت تلك القضية.. سأنال ثقة أبو سالم.. وأعود إلى مكتبي مزهواً بانتصار عظيم.. وأيضاً سأبدأ الانتقام ممن تلاعب بي.. لكن ليس الآن.. عندما أنتهي من كل ما خططنا إليه أنا والجلندي!

انطلق مسرعاً إلى الكراج، وخلال الطريق كان يفكر في كل ما حدث وما قد يحدث مستقبلاً ..

عند وصوله فتح الدرج القريب منه، أخرج آله التسجيل، جربها- 1.. 2.. 3 مرحباً، مرحباً ..

تأكد بأنها تعمل.. أخرج هاتفه اتصل بالجلندي.

- أنا في الخارج.

خرج الجلندي تاركاً الباب مفتوحاً خلفه، يحاول حسام استراق النظرات لكن الشمس تمنعه.

كان هاشم ينظر إليه من بعيد، اقترب منه ..

- أخبرتك بأننا سنحل تلك القضية.. لقد أخبرني بأنه القاتل فعلاً.. اعترف بكل شيء.. ليس عليك الآن سوى أن تسجل اعترافاته.. لتكون دليلاً ضده وتفوز أنت.. وتهزم جميع من لم يتمنى لك الخير يا صديقي.

لم يقاوم هاشم مشاعره، فعانق الجلندي بقوة، ربت على ظهره وهو يقول:

- هيا يا صديقي.. لا وقت لتلك المشاعر عليك أن تنهي المهمة بسرعة.

ثم أخرج من جيبه القناع وطلب من هاشم أن يرتديه وهو يقول:

- ليس عليك سوى أن تخبره بأن يعيد اعترافه مجدداً.. أنا سأذهب الآن إلى مطعم قريب من أجل شراء الطعام، أنا أتضور جوعاً.

وافق هاشم رغم أنه كان ينظر نحو القناع بريبة متسائلاً عن جدواه وما إن هم بسؤال الجلندي حتى فوجئ به يطلب منه بأن يعيره هاتفه النقال بسبب نفاد بطارية هاتفه، فلم يتردد في إعطائه هاتفه.

ثم رجل الجلندي سريعاً، تاركاً هاشم، لينال "النجاح" الذي يريده ويحلم به.

فتح باب الكراج؛ ليجد حسام في وضعية مزرية إذ كان جالساً على الكرسي ورأسه متدلية نحو الأرض وأثار كدمات بارزة على يديه ورقبته لم تكن فيه حينما قيده فأثارت استنكاره!! اقترب منه فرفع رأسه بصعوبة وقال بصوت واهن:

- أرجوك.. لا مزيد نت الصعق.. لقد أخبرتك بكل ما تريد.

صدم من كلامه، لقد أًصبحت أبعاد الموضوع واضحة أمامه الآن، لقد استخدم الجلندي القوة لينتزع اعترافه ولكن كيف هان عليه استخدام هذا الأسلوب القذر!! لقد فهم بأنه سيهدده بالكلام فقط.. لا أن يعذبه على هذا النحو!!

ومع ذلك اقترب هاشم منه فلم يكن يشغل بآلة سوى تسجيل الاعتراف والحصول عليه لذا سأل:

- هل أنت مستعد إذا لتكرار الاعتراف؟

بصوت متعب:

- نعم، سأكرره.

خاطبه بحده:

- لا أريد أن تخبأ أي تفاصيل.

حرك جسده قليلاً وأجابه بإنهاك:

- سأفعل ما تريد لكن لا تضع ملاقط الكهرباء والأسلاك على جسدي.. فالألم لا أستطيع أن أتحمله.. أشعر بالرعشات التشنجية ولا أستطيع أن أجد شيئاً يخفف لي هذا الألم الفظيع.. أرجوك أن لا تكرر ما فعلته.. أرجوك!

حاول هاشم أن يبتلع خوفه والشك الذي ملأ صدره وحاول أن يقنع نفسه بأن الجلندي يعرف ماذا يفعل، ومع ذلك لم يستطع منع نفسه من التخفيف من ألم هذا الجالس أمامه لذا قام والتقط قارورة ماء وفتحها ووضعها أمام حسام، رفع عينين واهنتين نحوه ثم شرع في شرب الماء وما إن ارتو حتى حملق في عينيه وسأل معاتباً:

- لماذا فعلت بي هذا يا هاشم؟

- لم أفعل بك شيئاً.. ولا تسأل الآن.. قل ما لديك!

هز رأسه باستسلام وقال:

- سأخبرك بما قلته مجدداً.. لكن ماذا تستفيد من هذا كله؟!

يتأفف

- لا يهمك ما أستفيد.. المهم بأنني سأنهي تلك القضية.. قل هيا!

نظر له نظرة غريبة وهو يسأل:

- ستفك قيدي إن كررت ما قلته؟!

هز رأسه وأجاب:

- نعم.. لكن بحضور الشرطة طبعاً.

ترتسم ابتسامة باهتة على وجه حسام وهو يعلق:

- أنا أريد الشرطة أيضاً.

لم يبال هاشم لردة فعله، وأخرج آلة التسجيل. ووضعها بالقرب منه ليبدأ بتسجيل اعترافات حسام الذي شرع يقول:

قبل أن أقرر الهجرة إلى هنا، كنت شاباً يعمل في مخبز بإحدى المدن التي أصبحت اليوم ساحة معركة بين النظام والمعارضة، قبل أن يبدأ كل هذا الضجيج، كان لدي صديقان هما هاني وإسماعيل.. يرافقاني مثل ظلي.. ذكريات الطفولة والمراهقة كانت كلها معهما ..

ما ميزهما عني.. أنهما شجعان حقاً.. أما أنا، فأعيش حالة قلق.. هذا الأمر ورثته عن أبي- رحمه الله- كان قلقاً علينا بشكل دائم ويحذرنا من الخطأ.. مما كرس بداخلي شعوراً دائماً أن أتفادي الخطأ ليس من أجل نفسي بل من أجله.

في حين كان صديقاي يقعان بالمشكلات كنت أقوم بدور المتفرج فقط وعندما ينتهون يصفونني بالجبان.. وكان هذا الأمر يحزنني في البداية، فأن تجد نفسك مجرد صديق بالأقوال لا بالأفعال.. فأنت تستوي حينها مع الجدار.. أي جدار!! بل قل مع الفراغ، إذ تصبح وكأنك شيء هلامي. ومع ذلك، أصبح الأمر سيان لدي ولم أعد أكترث ولا أهتم بما يتصورني الناس وأصدقائي، تزوجت.. وكانا هما أول من وقف إلى جانبي في توفير احتياجات الزفاف، لم أنس قط ما فعلاه من أجلي.. لكن.. كل الأمور اختلفت وانقلبت رأساً على عقب عندما دقت الحرب طبولها.. كان أبي يطلب منى عدم الخروج من المنزل أبداً.. خشية أن أتعرض لطلقة طائشة أو اعتقال جائر بينما كان هاني وإسماعيل يطلبان منى أن أخرج لنقضي أوقاتاً ممتعة سواء في منزل أحدهما أو في أحد المقاهي التي تفتح بشكل جزئي كل يوم.. كنت أرفض باستمرار وأتعذر بأنني أريد البقاء بجانب عائلتي وطفلي الذي رأي النور في تلك الظروف.. اشتدت المعارك في مدينتنا.. أصبح سماع أعيرة النار أمراً طبيعياً، يرافقها دعواتك من أبي بأن يخرجنا سالمين من ما يحدث.. وفي يوم من الأيام.. سمعنا صوت طرقات متكررة على الباب.. ذهب أبي ليفتح.. ليتفاجأ بجماعة تتألف من 10 أشخاص مسلحين يقتحمون المنزل يسـألون عني.. شعرت بخوف شديد.. لم أتكلم.. فقام أحدهم بتصويب المسدس صوب رأس أبي.. هنا لم أتردد في الصراخ معترفاً بأنني الشخص المطلوب، اتجه نحوي شخصان.. اقتاداني إلى إحدى البنايات المهجورة.. والتي تضررت من آثار القصف.. كان هناك شخص يدعي العقيد عساف.. يوجه لي عشرات الأسئلة.. جميعها تتعلق بانتماءاتي.. ومع من أتعاطف.. قبل أن يقول لي بأنه سيدعني أذهب إلى منزلي في حالة أجبت عن سؤاله.. وافقت دون تردد.. ليفاجئني بالسؤال بأنه يريد معرفة مكان هاني وإسماعيل.. صمت ثواني حاولت أن أجمع بقايا الشجاعة بداخلي وأجبته بكل ثقة بأنني لم أرهما منذ أن وضعت الحرب أوزارها..

هنا تغير عساف من مجرد شخص يحقق إلى شخص يمارس العنف والكلام البذيء.. يتهمني بأنني شريكهما.. وعندما حاولت أن أفهم شريك بماذا.. قال لي بأنني أناصر الإرهاب.. وأدير برفقة إسماعيل وهاني المكائد لقتله وأصحابه.. كذلك اتهمنا بأننا نكتب على جدران المدارس والمرافق شعارات مناهضة لهم.. كان يقول كل هذا الكلام بصراخ وعصبية.. موجهاً بعض اللكمات لي بين الفينة والأخرى.

صدمت.. أقسمت له بأنني لم أخرج طوال فترة الحرب.. زاد من تعنيفه لي.. واستعان بأحد مرافقيه لضربي.

كنت أبكي بشدة.. أخبرتهم بأنني أخاف من ظلي.. فكيف لي أن أواجه أمثالكم.. كان يردد بأنني ممثل جيد وبأنه سيعرف كيف يكشف حقيقتي.

استمر هكذا عشرة أيام، أخبرني أحد السجانين أن أبي لم يفارق باب البناية.. كان يتردد ذهاباً وإياباً عليها.. وعلى الرغم بأن الحرس وجهوا له تهديدات وكلمات بذيئة.. لكنه كرر زياراته.

توقف حسام فجأة وبكي ثم أكمل بصوت متحشرج: الأب.. هو الشخص الوحيد الذي يقف معك حينما يغادرك الجميع، وهو نفسه صاحب القلب المرهف الذي يتزلزل مع تعرض أبنائه لأي سوء.

بعدها اتفق معي العقيد عساف على أن أكون "فخاً" من أجل اصطياد هاني وإسماعيل.. قال لي بأنه سيسمح لي بالعودة إلى المنزل لكنه سيعمل على مراقبتي على مدار الساعة حتى لا أقوم باللعب عليهم أو خيانتهم.. محذراً إياي بضرورة إبلاغه حال رؤيتي هاني وإسماعيل.

أبلغته بالموافقة على العرض.. لكنه هددني قبل أن يفك وثاقي.. بأن أي حركة خارجة عن الاتفاق لن تكلفني دمي فقط.. بل دم أسرتي!!

عدت إلى المنزل محملاً بآلام وخوف وقلق، كان أبي وأمي ينتظراني عند الباب الذي خرجت منه مرغماً.. غمروني بمشاعرهم.. شعرت بأنني طفل صغير وأنا أحتمي بهما.. أخبرتهما بما حدث لي من أوجاع وألم وضرب مبرح.. فكانا يطالباني بمزيد من الصبر وبأن كل شيء سينتهي والحياة ستعود كما كانت.

كنت أصلي كل يوم وأدعو الله بأن لا يزورني إسماعيل أو هاني، تمنيت لو أنني بقيت في ذهنهما ذلك الشيء الهلامي، الفراغ أو حتى الجدار، وكلما سمعت صوت طرقات الباب، شعرت بالذعر وعندما أعلم بأن الطارق هو جارنا أو أحد أقاربنا.. أسجد لله شكراً.. حتى آتي ذاك اليوم المشؤوم.. طرق الباب.. كان رجلاً متلثماً.. سأل عني.. كان إسماعيل الذي حضر للاطمئنان على صحتي.. قبل أن أتحدث.. طلب أن يلتقي بي في أحد المنازل في أطراف المدينة.. تركني وذهب دون حتى أن أستطيع أن ألمح له بأن هناك مكيدة ستوقع به وبهاني أيضاً.

عندما دخلت كان أبي يسألني من هو الشخص فأخبرته بأنه إسماعيل وبأنهما يريدان لقائي.. لم يطل بنا الحديث أكثر من ذلك لأن الباب طرق مجدداً.. كان العقيد عساف برفقته شخصان.. أخبرني بأنه رصد شخصاً ملثماً.. فسألني من هو.. قبل أن أحاول التفكير بإجابة مقنعة تبعد الشبهات عن إسماعيل.. جاء الرد الصاعق من أبي بأن من زارنا هو الشخص المطلوب.

أثني عساف على تعاونا معه وعلى شجاعة أبي في قول الصدق ووقوفه إلى جانب الحق "حسب تعبيره".. أكمل أبي تفاصيل حديثنا.. والصدمة تعلو وجهي.

بعد أن خرجنا، سألت أبي عن سبب قيامه بهذا فقال إنهم هم رجال سيتحملون الضرب والتهديد الذي تعرضت له أنا.

لم أشعر بالراحة مطلقاً فتهديدهما لي بالقتل يبين أن هناك أمراً عظيماً سيحدث.

في موعد اللقاء حضرت إلى المكان كان هاني وإسماعيل ينتظراني.. احتضناني بقوة.. تأسفا لما حدث لي.. وطلبا منى أن أصمد أمام تلك الظروف العصيبة.. لقد فشلا في قراءة بعض الكلمات التي كنت أتعمد أن أرميها بين كلمة وأخرى فجأة ويوسط أحاديثهما.. أمطرت السماء طلقات نيران.. بلا توقف.. شعرا بالصدمة.. بينما كنت أصرخ بروع:

- أقسم بالله لست أنا.. هذا أبي.. خوفه علي.. وضعنا في هذا المأزق.

انبطحت أرضاً دون حراك بينما تبادل معهما هاني وإسماعيل الطلقات أغمضت عيني وقدمت تتراقصان بلا توقف.. تمنيت بأن الموضوع مجرد كابوس.. لكنه كان حقيقة.. والحقيقة الأكثر إيلاماً عندما وجدتهما إلى جانبي جثتين هامدتين.. كانت نظرات إسماعيل موجهة نحوي وشفتاها ممتلئة بالدم وكأنها تقول لي "ستبقي خائفاً وجباناً للأبد" بينما بقي وجه هاني في الجهة الأخرى وكأنه لا يريد النظر إلىَّ.

خرجت زاحفاً من المكان خشية أن أتعرض لإطلاق النار.. كان العقيد عساف ومجموعة من المسلحين يراقباني ويضحكان على حالتي.. منهم من يردد جبان وآخر يقول "بمثل هؤلاء لن تقوم قائمة لهذه البلد"..

تركوني في هذا المكان الذي تشبع من رائحة الموت.. لم أستطع الحراك.. أصوات الطلقات تركت طنيناً بأذني.. التراب ملأ وجهي.. فكري مشوش.. شعرت بأنني اقتربت وقتها من الجنون.

عدت إلى المنزل.. ووجدت أبي- المرعوب كعادته- ينتظرني وهو سعيد بأنني ما زلت على قيد الحياة بينما كنت.. رجلاً مات فيه مل شيء.. دخلت دون أن أبين له أي مشاعر.. حتى أمي التي بدأت بمسح التراب من على وجهي.. لم تستطع أن تأخذ منى كلمة لأطمئنها عن حالي.. دخلت غرفتي وبقيت حبيسها أياماً.. لم يراودني نوم.. كنت أتذكر الطلقات التي انهمرت فوقى رأسي.. ودماء إسماعيل وهاني الحارة التي تناثرت على وجهي.. لم أتحمل أن أبقي في هذا المكان فقررت الهجرة.. قمت ببيع جميع ممتلكاتي.. أقنعت زوجتي بأنني سآتي بها وطفلي الوحيد فور استقراري هناك.. وافقت وقررت الوقوف إلى جانبي.. فهي أكثر من شعرت بما عانيته خلال تلك الفترة.. هاجرت إلى هنا.. وأحمد الله بأنني وعند وصولي وجدت الكثيرون من أبناء وطني ممن يرغبون بمساعدتي لإيجاد عمل.. وحصل هذا فعلاً.. عندما اقترح على صديقي عبد المولي أن أعمل معه في الكراج.. وكذلك أن أعمل بشكل جزئي في شاحنة نقل المركبات وافقت فهي مهنة إذا تعلمتها فستفيدني بالمستقبل.

بدأت الأمور تسير معي بالاتجاه الصحيح.. حتى حان ذلك اليوم المشؤوم..

- أخيراً وصلنا للمهم.. اليوم الذي بدأت فيه بالقتل.

استغرب حسام من تعليقه الأخير ورد:

- لا لن أقل هذا الكلام.. لقد أخبرتك بأن في هذا اليوم التقيت بك.. ودار بينا الحديث الطويل.. وعندما كنت في الشاحنة.. وجدتك تضع يدك في الجانب الآخر.. انتبهت لوجود سلاح.. هنا استعدت كل ذكرياتي السيئة.. فكرت جيداً بزوجتي وابني.. قررت الاعتداء عليك قبل أن تشهر مسدسك في وجهي.. عندما دخان ووجدت عبد المولي داخل الكراج أخبرته بأنني قد حملت معي رجلاً مسلحاً وغريباً وطلبت منه بأن ينتظرني في السيارة بالخارج.. حتى نستطيع الهروب معاً.. لكن خططنا فشلت وأنت نجحت بإصابتي.. لكن أقسم بالله لم أعلم بأنك من أفراد الأمن أو المنتمين إليهم.. ولم أعلم بأنك تبحث عن قتلة مجرمين، لذلك اعترف بأنني كنت أحاول الاعتداء عليك وبهذا تستطيع أن تثبت للجميع بأنك لم توهمهم بشيء وأنا مستعد للمثول أمام العدالة!

تعلو الدهشة وجه هاشم فليس هذا ما كان يبحث عنه ..

- هذا كل ما لديك؟

يسدد نظرات حانقة تجاهه وهو يؤكد:

- نعم.. لقد أخبرتك بهذا سابقاً.. وقلت بأن الأمر جيد ويكفي هكذا، فلماذا تطلب مني المزيد الآن؟! هل نسيت؟!

وهنا أدرك هاشم الأمر، والتقط قارورة الماء، وقذفها بقوة على الجدار، ردد بصوت عال:

- لقد فاض بي الكيل يا صديق السوء.

ترك حسام الذي يراقب ما يفعله في مكانه وخرج سريعاً برفقة مسدسه إلى الخارج.

"ارم سلاحك وانبطح أرضاً"

تلك هي العبارة التي جمدت هاشم في مكانه عندما وجد الكراج محاطاً برجال الشرطة، مشهرين أسلحتهم تجاهه، نظر يميناً وشمالاً، حاول أن يفهم ما يجري هنا، ظهر أبو سالم من بين تلك الحشود وقال:

- لقد انكشف كل شيء.. سلم نفسك.. ارم سلاحك أرضاً.. لقد خابت كل توقعاتي فيك، لقد خنت ثقتي وثقة الجميع بك.

سقط هاشم على الأرض، ليس تنفيذاً لتعليماته لكن ساقيه لم تعد قادرتين على حمله وقد انكشف له كل شيء.

وما هي إلا ثوان حتى قيد هاشم بالأصفاد واقتيد في إحدى الدوريات، بينما فك أسر حسام، الذي بقي ساجداً فترة طويلة متحدياً الآلام والأوجاع التي ضربت جميع أجزاء جسده.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا