23)
خلت سكرتيرة السيد عبد الله عليه وقالت: سيدي هناك سيدة تريد مقابلتك في موضوع خاص.
السيد عبد الله: سيدة؟ ما اسمها؟
السكرتيرة: تقول اسمها السيدة دانة.
السيد عبد الله: دعيها تتفضل..
دخلت دانة بخطى ثابتة مكتب السيد عبد الله الذي هب واقفاً احتراماً لها كما تقتضي اللياقة: تفضلي هل من خدمة؟
دانة: سيدي أتيتك في موضوع خاص وكلي أمل في تفهم سيادتك، إن حياتي وسعادتي بين يديك ويؤسفني أن ما سأقوله لن يعجبك لكنني لم أجد ملجأً ألجأ إليه سواك بعد الله تعالى.
السيد عبد الله: لقد أخفتني يا سيدة هلا أخبرتني الموضوع؟
وبدأت دانة تحكي.. حكت له كل شيء، أخبرته عن نفسها وزواجها وكيف نال زوجها الدكتوراه وأخبرته بالتفصيل كيف أحست أن زوجها يخونها وأخيراً أخبرته كيف حصلت على رقم دلال وكيف عرفت اسمها بالكامل وكيف ذهبت ورأتها عن بعد في الجامعة وكيف أنها ترددت طويلاً في أن تأتي إليه وأخبرته أنه إذا أراد التأكد فليأخذ هاتف دلال، وبالتأكيد سيجد رقم زوجها والرسائل المتداولة بينهما محفوظة في الهاتف النقال.
وأخبرته أنها لم تصارح زوجها بما عرفته، ولا تريد أن تعرف دلال أنها هي من أخبرت والدها ورجته أن يلتزم بذلك حتى لا يغضب زوجها وقد يطلقها ويتشرد أولادها.. وعندما انتهت دانة من حديثها صمت عبد الله طويلاً.. طويلاً جداً ثم رفع عينيه وقال: لا تقلقي يا ابنتي وأشكرك على ثقتك بي.. اعتبري دلال من الآن خارج حياة زوجك ولن أخبرها أنك من أخبرتني وسأتصرف.. وما أن خرجت دانة حتى انطلق عبد الله عائداً إلى المنزل، وكانت دلال لا تزال في الجامعة فدخل غرفتها وجلس في انتظارها.
وصلت دلال إلى المنزل بعد يوم دراسي شاق خاصة مع حرارة الجو الفظيعة التي لا تطاق وبعدت الدرج إلى غرفتها وما أن فتحت الباب حتى وجدت والدها واقفاً قبالتها تماماً وما أن شاهدته حتى قفزت بفزع فهي لم تتوقع وجوده داخل غرفتها فقالت: أبي؟! لقد أفزعتني! لم تكد تنتهي من جملتها حتى فوجئت بوالدها وقد رفع كفه وصفعها بكل قوته على وجهها، فارتمت دلال على الأرض من قوة الصفعة ومن هول المفاجأة عند قدميه، ورفعت رأسها لترى أباها صرخ في وجهها: أيتها المجرمة، لقد أعطيتك كل شيء الثقة والمال، أيتها الحشرة الوضيعة كيف تجرأت وأقمت علاقة مع ذلك الدكتور المنحل كيف؟ ارتعشت دلال من الخوف فهذه المرة الأولى التي يضربها فيها أحد، ولم تقوَ على الرد، فعاد والدها إلى الصراخ: أجيبي ماذا فعلت مع هذا المجرم أجيبي وإلا قتلتك الآن.
وفجأة انفجرت دلال باكية، وبدأت الكلام وهي لا تزال على الأرض عند قدمي والدها وبدأت تحكي لوالدها قصتها مع صلاح بكل التفاصيل، انتهت دلال من سرد قصتها وظل والدها صامتاً برهة وقال: اسمعي لقد أخطأت خطأ كبيراً في حقي وفي حق نفسك، كيف تهدمين بيتاً لأجل سعادتك؟ ثم إن هذا الرجل الذي انجرف في مشاعره وراءك وهو متزوج.. غداً سينجرف وراء أخرى إذا تزوجك، إنه رجل خائن خان عشرة زوجته وجميلها وخان الأمانة عندما أقام علاقة مع طالبته والمفترض به أن يكون مربياً فاضلاً.. اسمعي من الآن لن تخرجي من المنزل وسوف تسحبين أوراقك من الفصل الصيفي ولن أسمح لك باستخدام سيارتك أو هاتفك النقال وأقسم بالله العظيم إن خالفت أوامري أنك سترين شيئاً لن يسرك.. مفهوم؟
وأخذ منها هاتفها النقال ومفتاح سيارتها وصفق الباب واتجه إلى المكتب وبدأ يقرأ مسجات دلال التي أرسلتها إلى صلاح وكذلك المسجات الواردة منه إليها ثم اتصل برقم صلاح من هاتف دلال.. رن الجرس فأجاب صلاح: أهلاً حبيبتي، فرد والد دلال: أنا السيد عبد الله والد دلال أريد أن أقابلك حالاً في مكتبي خذ العنوان.
وخرج السيد عبد الله من المنزل وذهب إلى المكتب وجلس بانتظار صلاح وهو يرتعش من الغضب كان يحاول جاهداً أن يضبط أعصابه وما إن أخبرته السكرتيرة بوصوله حتى أمرها أن تدخله.. دخل صلاح مضطرباً ممتقع الوجه.. وقال: سيد عبد الله.. أرجو ألا تستعجل بالحكم علي.. أنا أحب دلال فعلاً ولم أتلاعب بمشاعرها فأنا أريد الزواج منها.
قاطعه السيد عبد الله بحزم وصرامة وقال: اسمع لن أزوج ابنتي برجل مثلك حتى لو انطبقت السماء على الأرض.. ليكن كلامي واضحاً أقسم بالله إن لم تبتعد عن ابنتي فسأذهب إلى عميد الجامعة وأشتكي عليك وأفضحك وأريه رسائلك إلى ابنتي وسأعمد على فصلك من الجامعة وفضحك أمام الملأ.. أنت لا تعرفني، أنا لن أزوج ابنتي من رجل خان أمانته وهتك حرمة مهنته الشريفة وانجرف وراء شهواته، كان الأجدر بك صدها لا استغلالها وأي غرض شريف غرضك وأنت متزوج ولديك أولاد؟ اسمع لقد قلت كلمتي وإياك الاقتراب من دلال.. مفهوم؟!
ولن ينبس صلاح بكلمة، كان موقفه ضعيفاً مخزياً وتمنى لو انشقت الأرض وابتلعته.. وصل صلاح إلى منزله وهو شعر أن قلبه يكاد يتوقف.. كان طوال الطريق يسترجع لقاءه المهين مع والد دلال وتهديداته له والتي لم يستطيع أن يتجاهل أثرها في نفسه، لقد أحس أنه جبان وأنه ذليل أمام والدها.. ترى كيف عرف والدها بعلاقتهما؟! لم يعد يستطيع فعل شيء بعد ما حدث.. دخل صلاح فوجد دانة جالسة تنتظره ومنذ وقع بصرها عليه عرفت في نفسها أن شيئاً قد حدث.. اقتربت دانة من صلاح وقالت: حبيبي هل أنت بخير تبدو مريضاً؟
رد صلاح عليها: أشعر بتعب وضعف..
دانة: سلامتك.. تعال لترتاح قليلاً.
استسلم صلاح لها وابتسمت دانة في نفسها فهي تعلم أنه لم يعد مريضاً إنما هو في طريقه إلى الشفاء.
كانت دلال تكاد تجن، وبدت كالنمرة الجريحة، إلا أنها تخاف أن تخرج من غرفتها وأصابع والدها قد انطبعت على خدها الأملس وآثار البكاء واضحة في عينيها.. وأخذت تدور غرفتها كأنها في قفص.. وتنظر إلى الساعة.. لم يأت أحد من إخوتها إلى المنزل بعد.. ويبدو أن والدتها ستتغدى مع عمتها مريم خارج المنزل وفجأة سمعت وقع خطوات في الممر خارج غرفتها، فدخل والدها عليها كالعاصفة وقال دون مقدمات: لقد أنهيت الأمر مع ذلك الدكتور الوغد واعملي حسابك أنت ستنتقلين إلى كلية أخرى.
صرخت دلال: أرجوك يا أبي لا تضيع مستقبلي.. دراستي وتفوقي حرام أن أخسرهما.
رد الأب بحدة: تخسرين دراستك خير من أن تخسري نفسك وشرفك هذا الذي سيحدث وسأكون معك خلال إجراءات النقل ومن الآن فصاعداً تخرجين مع السائق وسينتظرك عند باب كل محاضرة.
صرخت دلال: أبي ستفضحني أمام الناس.
الأب: أنا أحميك من نفسك لن أسمح لك أن تضيعي نفسك لن أسمح بذلك أبداً.. واعلمي أن لا أحد في البيت سيعرف قصتك غيري وسأقول إن التحويل من كليتك رغبتك أنت حفاظاً على ماء وجهك وهذا قرار لا رجعة فيه ولا مناقشة.
وخرج الأب وانهارت دلال تبكي كل دموعها.
(24)
في اليوم الثاني كان السيد عبد الله جالساً في مكتبه وجاءت السكرتيرة تخبره أن أحد الموظفين واسمه سعد يريد رؤيته، وكان سعد موظفاً نشيطاً ذكياً يعمل في قسم المحاسبة، وكان السيد عبد الله يحبه ويحترمه فهو أمين ونشيط ويتقن عمله تماماً.. دخل سعد المكتب وهو يبتسم في ارتباك وبعد أن سلم على عبد الله قال: سيدي أنا هنا اليوم لأمر عاجل وأنا أعلم علم اليقين أنه لن يعجبك ما سأقوله لكن يعلم الله أنه لولا حبي لك وحرصي على مصلحتك ما تجرأت للقدوم ومفاتحتك بما أعرفه.
شعر عبد الله بالقلق، وقال: خير يا سعد ماذا هناك؟
رد سعد: سيدي أنا أعرف مدى علاقتك وحبك للسيد عامر لكن يؤسفني أن أخبرك أنني اكتشفت أن السيد عامر يسرقك من مدة ولدي الأدلة على ما أقول.
صمت السيد عبد الله وشعر أن الدنيا تدور به وقال: ماذا تقول يا سعد؟
وبدأ سعد يشرح لقد كانت المناقصات التي تقدمها الشركة يتم تسعيرها بسرية وحرص تام حتى تفوز الشركة بها لكنه لاحظ أن إحدى الشركات المنافسة دائماً تضع سعراً أقل من شركة السيد عبد الله وتفوز بالمناقصة، وتكرر ذلك كثيراً مما أثر على أرباح الشركة وفي أحد الأيام كان واقفاً خارج مكتب السيد عامر فسمعه يتحدث مع شخص ويقول له سأخبرك السعر الذي وضعه عبد الله لكن المبلغ هذه المرة سيكون كبيراً ثم ضحك وأقفل الخط، وقد شك سعد بالأمر فقام بوضع جهاز تسجيل خاص في هاتف مكتب عامر، صحيح أنه شريك مع عبد الله في الشركة لكن الرشوة التي يأخذها كبيرة جداً تتجاوز ربحه الشخصي من مناقصات الشركة، وبالتالي كان يسرب سعر المناقصات إلى هذه الشركة المنافسة التي يديرها ابن عم عامر ويضر بالشركة لأجل المبلغ الكبير الذي يأخذه كرشوة، خاصة أن الشركة المنافسة شركة جديدة وتحتاج إلى إثبات وجودها من خلال المناقصات التي تفوز بها.. شعر عبد الله أنه يكاد يختنق.. فقدم له سعد شريطاً وضعه في جهاز التسجيل بيد مرتعشة وسمع صوت عامر وهو يفاوض ابن عمه على مبلغ من المال مقابل تسريب أسعار مناقصة معينه وكيف أخبره أنه يريد مبلغاً يفوق ما يعود عليه من أرباح المناقصات التي كانت تربحها الشركة.. كيف حدث ذلك؟ تساءل عبد الله وهو ينظر إلى سعد بألم وحزن.. فهو لم يتوقع ذلك من صديق عمره الذي يثق به ويحبه، وخرج سعد فاستدعى عبد الله عامر وواجهه بالشريط.. صرخ عامر: هل تتجسس علي؟ صرخ عبد الله: عامر.. لا تتهرب من الموضع.. هل تسرقني؟ بل تسرق شركتك، ألست شريكاً معي؟ ماذا حدث لعقلك.. هل جننت؟
وانهار عامر.. أخذ يخبر عبد الله أنه بدأ يخسر ماله في البورصة وخسر الكثير أيضاً على موائد لعب القمار التي كان عبد الله يعرف أن عامر يرتادها في جلسات خاصة في الشاليه الخاص به أسبوعياً على سبيل التسلية ولم يتخيل أنه أدمنها أخيراً وكيف أصبح مديوناً وفي حاجة إلى المال وأنه شريك بنسبة عشرة في المائة فقط في الشركة، وأن المال الذي أخذه مقابل الرشوة يساوي ضعف أرباحه السنوية التي تدرها المناقصات على الشركة.. كانت تبريراته غير معقولة.. كيف اختل توازنه لهذا الحد.. هل هو الطمع.. الجشع.. القمار.. لكن الرجل الذي أمامه الى، هو رجل آخر.. كأنه يراه للمرة الأولى هل من الممكن أن نعاشر إنساناً عمراً طويلاً ثم نكتشف فجأة أننا لا نعرفه.. هكذا فكر عبد الله اليوم وهو يسمع عامر وأخيراً حسم الموقف.. قال عبد الله: ستتنازل عن حصتك في الشركة لي وسأدفع لك قيمتها وهذا فوق ما تستحق فأنا أعمل حساباً للعشرة ولظروفك لكنني لا أريد أن أراك بعد اليوم في حياتي، ولن أسامحك على ما فعلت.. إن خسارتك كبيرة يا عامر خسرت ربك ودينك ومالك.. وخسرتني أنا.. أخوك.. وصديق عمرك.. صحيح أنك لا تستحقني.. وهكذا انتهت صداقة العمر الطويلة وافترق الرجلان وقد شرخت علاقتهما شرخاً عميقاً لا يمكن أن ينجبر. وخرج عامر ووضع عبد الله رأسه بين يديه وقد تكالبت المصائب عليه، بالأمس مشكلة دلال، واليوم مشكلة عامر، فجأة تذكر ابنته رغد يا إلهي بغد تحب أحمد وأغمض عينيه ليقاوم دموعه..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا