قلب وحيد للكاتبة عليائ الكاظمي

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-03-22

قلب وحيد

لا أعرف لم كتبت علي الوحدة في جميع مراحل حياتي... أيكون القدر قد أبى علي أن أنعم بالصحبة؟ ولدت طفلة وحيدة لأبوين جاهدا طويلاً لإنجابي وجابا العالم للحصول على علاج فعال لعقمهما...

وبعد خمسة عشر عاماً من زواجهما جئت أنا لأفرح قلبيهما بعد طول انتظار.

لم أكن طفلة سعيدة رغم كل الدلال والاهتمام اللذين حظيت بهما منذ ولادتي... شعوري أنني فتاة تعيض تحت المجهر كان يلازمني... لقد كنت الشغل الشاغل لوالدتي فمنذ أصحو من نومي وهي تكاد تلتصق بي من شدة اهتمامها بكل ما يخصني.. تصر على مراقبتي طوال الوقت فمنذ أبدأ بتنظيف أسناني كل صباح إلى أن أعود لتنظيفها قبل أن أنام أكون تحت عيني أمي التي تكاد لا تفترق عني لحظة واحدة...

يعود أبي كل مساء لتقدم له أمي تقريراً كاملاً عن كل ما حدث خلا يومي.. تقرير مفصل بكل ما فعلته.. حتى التافهة من أموري كانت لا تغفل عن ذكره له.. رفضت أمي دخولي إلى الحضانة في متفرغة لي ولا تجد أن هناك داعي لأخذي لحضانة مليئة بالأطفال والذين قد يضربونني وقد ينقلون لي عدوى الأمراض الموسمية كما أنها لا تثق بالمدرسات أو مساعداتهن... تفاصيل كثيرة كانت أمي تحكيها لكل من يسألها عن سبب بقائي بالبيت في حين تجاوزت الرابعة من عمري.

عندما جاء وقت التحاقي بالروضة ذهب والداي إلى جميع المدارس الخاصة بالكويت بحثاً عن مدرسة تليق بي أنا أميرتهما السجينة باهتمامهما المبالغ به.

كان الاختيار في قاموسهما صعباً للغاية حيث تشعر أمي بالقلق وعدم الارتياح على الدوام بمجرد تفكيرها بالتخلي عني كي أذهب إلى المدرسة!

بعد عناء طويل وذهاب وإياب تم اختيار مدرستي الأولى لألتحق بالروضة فيها... كانت تلك المدرسة الخاصة هي الأشهر والأعرق بالكويت.. حيث تمتلئ بأبناء العائلات الراقية والمهمة بالبلد. خلال المقابلة بالكاد سمحت أمي للمدرسة بامتحاني.. وبالكاد سمحت لي بالإجابة عن أسألتها التي كانت أمي دائماً تتدخل لتوضحها لي إلى أن نهرتها المدرسة صراحة وطلبت منها الخروج من غرفة الاختبار.. خرجت أمي وأبي يسندها كي لا تقع على الأرض بسبب اضطرارها لتركي لأخوض أول امتحان لي وحدي دون وجودها بجواري!

تم قبولي في تلك المدرسة وكنت أتوق بداخلي ليوم بدء الدراسة فيها لأنني ومنذ ولادتي وحيدة حيث يخاف أبناء العائلة من اللعب معي أو زيارتي لأن أي تصرف يزعجني كان يستفز أمي التي تهب لنجدتي دائماً وكأنها الحارس الشخصي الخاص بي والمسئول الدائم عن حمايتي حتى من تجارب الطفولة الطبيعية.

في الصباح الأول الذي ذهبت فيه للمدرسة قضت أمي نصف ساعة كاملة وهي تقرأ علي القرآن الكريم والأدعية لحفظي خلال الدوام من كل الشرور والحسد والأذى الذي قد يصيبني وأنا بعيدة عنها.

سرحت لي شعري باهتمام بالغ ووضعت فيه شرائط ملونة جميلة زاهية وركبنا في سيارة أبي الذي كان القلق ينهش صدره على مصيري بالروضة والذي أوصاني باللجوء إلى ناظرة المدرسة شخصياً في حال أذاني أي طفل بالصف..

خلال الطريق جلست أمي معي في المقعد الخلفي في سيارة أبي وظلت تمسك بيدي وهي تضغط عليها طوال الطريق... بالحقيقة زادتني تصرفاتهما توتراً وأصبحت في ذلك العمر الصغير مرتعبة من دخولي إلى المدرسة التي أصبحت أتخيل أنها تضم عالماً من الأشرار لا الأطفال.

عندما حانت اللحظة الحاسمة لدخولي للصف بكت أمي وأمسك أبي بذراعها كي يشد من أزرها فما كان مني إلا أن بكيت أنا أيضاً فقد بثت تصرفاتهما رعباً كبيراً في قلبي الصغير.

لن أطيل في ذكر تفاصيل أكثر لكن أمي أعادتني إلى البيت في منتصف اليوم الأول.. والثاني.. والثالث... إلى أن تدخلت إدارة المدرسة ورفضوا عودتي إلى البيت فعرفت وقتها أنني يجب أن أتكيف مع بيئة المدرسة مادام بكائي لم يعد مجدياً لأعود إلى حضن أمي كل يوم.

مر عامي الدراسي الأول متناقضاً فقد كانت أمي تجن كلما حكيت لها عن تفاصيل يومي التي تصر على استدراجي لأحكيها لها كما لو كنت في تحقيق جنائي... فتذهب في اليوم التالي لتشتكي على تلك المدرسة التي لم تشجعني عندما أجبت إجابة صحيحة أو تلك المدرسة التي لم تقدم لي هدية صغيرة مثل زميلتي المتفوقة بالمادة أو ذلك الطفل الذي مد لسانه لي...

عشرات الحوادث التافهة التي أتت بأمي إلى المدرسة لدرجة أن غدارة المدرسة ضاقت ذرعاً بها وأصبحوا يتهربون من مقابلتها فتجن هي أكثر... تلك المواقف المتكررة جعلت المدرسات ينفرن من التعامل معي ويتحاشين توجيهي أما زملائي بالصف فكانوا يطلقون علي لقباً التصق بي طوال سنواتي الدراسية في كل المدارس التي نقلتني أمي إليها خلال رحلتي التعليمية الطويلة.. لقب (الدلوعة)... كانت دائماً تلك الدلوعة التي لا يحبها أحد... والتي يتحاشاها الجميع كي لا تبكي فتأتي أمها لتشتكي عند الناظرة... أصبحت منبوذة في المدرسة وفي كل مدرسة انتقلت إليها كنت أتعرض للاضطهاد لاسيما مع مرور السنوات...

لم أحظ قط بأي أصدقاء.. حظيت فقط بأم لا هم لها سواي وأب لا هم له سوى محاصرة حياتي بحيث أصبحت عاجزة عن التنفس.

في الصف الثالث الابتدائي أصبحت أشعر بمغص غريب يكاد يفتك بأمعائي كل صباح... جرى بي والدي إلى المستشفى وأدخلت على الفور لإجراء الفحوصات اللازمة لأن أمي لا تكتفي أبداً بالمعاينات الروتينية فكلما أصبت بالزكام كانت تجزع بشدة وتصر على إدخالي المستشفى لمعرفة الأسباب الكامنة وراء كل مرض أصاب به! فما بالكم بمغص شديد! كان الأمر يستلزم فحصاً أدق بلا شك.

جاءت الفحوصات التي تؤكد أنني سليمة تماماً لكن ذلك المغص أبى أن يفارقني ثم أصبح يزداد سوءاً لدرجة أنني كنت أتلوى على الأرض من شدة الألم.

سافر بي أهلي على الخارج، وهناك تم عرضي على لجنة طبية كاملة كلفت أهلي مبلغاً طائلاً وجاءت النتيجة أن ما أمر به هو اضطراب نفسي بلا شك حيث أن جسدي سليم وجميع فحوصاتي جيدة...

فسر والدي هذه النتيجة بأنني أحتاج إلى المزيد من العناية وأصبحا يلومان نفسيهما على إهمالهما لي وأصبحا يفرضان نفسيهما أكثر وأكثر على حياتي وطبعاً قرار أن أترك المدرسة التي كنت أدرس فيها واختيار مدرسة أخرى لأنها بلا شك السبب الرئيسي لعلتي.

لا أذكر متى بالضبط اختفى ذلك المغص اللعين... لكنني أذكر بالضبط ظهور تلك التقرحات على ذراعي.. كانت تلك التقرحات المؤلمة حقاً... كانت وردية اللون وتحيط بها دائرة قرمزية منتفخة بدت كمرض جلدي خطير وكدت أموت من الرعب وأنا ألاحظها. كنت وقتها بالمرحلة المتوسطة ضربت أمي على صدرها بخوف وهي تشهق لرؤيتها وصرخت تستنجد بأبي الذي أخذني مباشرة إلى أشهر طبيب للجلدية بالكويت... شخص الطبيب حالتي بأنه مرض جلدي شائع... وعندما سألته أمي عن أسباب هذا المرض قال الطبيب حائراً: إن من أهم أسبابه الضغط النفسي!

فجرت جملته تلك اهتمام والدي لاحقاً واللذان أجلساني في غرفة المكتب في منزلنا لإجراء تحقيق كامل معي عن السبب الذي يجعلني حزينة أو مهمومة وطبعاً كانت المدرسة هي أول متهم في نظرها كالعادة... اتخذ أبي قراره لتغيير المدرسة ولأول مرة في حياتي اعترضت على قراره قائلة أنني أحب هذه المدرسة... ففي تلك المدرسة بالذات لم أكن أتعرض للكثير من المضايقات ولم ألقب بلقبي الشهير بالدلع كما أن هناك زميلة تستلطفني وتسمح لي باللعب معها أحياناً في ساحة المدرسة... لأول مرة في حياتي أبدي رأيا بأمر يخصني... يومها ربتت أمي على ظهري بحنان وأشارت إلى التقرحات في ذراعي وقالت: انظري ماذا فعلت بك هذه المدرسة... حبيبتي نحن أكثر من يعرف مصلحتك ويخاف عليك تلك المدرسة أثرت عليك ألا ترين ذراعيك؟

نظرت إلى أمي حائرة... ولم أعرف كيف أخبرها أن الحصار الذي تفرضه علي هي وأبي سبب علتي كلها... كانت تحبني بصدق... لكن هذا النوع من الحب يخنق متلقيه.. هكذا كنت أشعر ببساطة... كنت أختنق... فقد فرض علي حبها وحب أبي حصاراً قاسياً... لم أقم قط بزيارة صديقه لي لأنني أساساً لم أحظ بواحدة وحتى لو حظيت ما كانت أمي لتسمح بالمخاطرة بي أبداً في منزل أناس لا نعرفهم... لم أقم قط بحضور حفلة عيد ميلاد طوال سنوات دراستي لأنني عادة لا أكون من ضمن المدعوين أو أن أمي لا تسمح لي بالاختلاط بأشخاص لا نعرف كيف هي تربيتهم كما لم احتفل أنا قط بعيد ميلادي فأنا فتاة منبوذة بالصف ولا يحبني أحد ,أخاف إن دعوت زملائي في حفلة أن لا يلبي دعوتي أحد فأزداد ألماً على ألمي.

وانتقلت من المدرسة... وتخرجت من الثانوية بعد سنوات طويلة من المعاناة وبعد أن انتقلت إلى عشرة مدارس خاصة مختلفة... تصوروا أن يغير الشخص مدرسته عشر مرات! نعم هذا ما حدث معي أنا... وأخيراً جاء وقت التحاقي بالجامعة... واخترت دراسة الإدارة... اخترتها لأن أبي طلب مني اختيارها فهي تخصص سلس وسهل ولا يتطلب مني تعباً وجهداً كبيراً كما أنني سأجد فرصاً كثيرة للعمل بعد التخرج كما قال.

وبالجامعة عرفته... عرفت أول حب في حياتي... وآخر حب كما أظن... كنت أراه كل يوم وسط أصدقائه في حين أكون أنا كعادتي وحيدة... أجلس على أحد الكراسي في فناء الكلية لأقرأ في حين يجلس هو أمامي مع أصدقاء يضجون المرح... أراقبهم من تحت نظارتي الشمسية التي أخفي تحتها وحدتي وثقتي المهزوزة بنفسي... كنت لا أخلع نظارتي إلا أثناء المحاضرات ولو كان الأمر بيدي ما كنت خلعتها أبداً... لمحته من بعيد يسترق النظر إلي... لابد أنني لفت نظره فهو يراني وحيدة كل يوم... ولأول مرة تفيدني وحدتي بشيء...

في أحد الأيام... كنت أجلس وحيدة كعادتي في مقهى الجامعة لأشرب قهوتي بالحليب كما أن أشربها أمي... لأفاجأ به يقف أمامي مباشرة... رفعت رأسي فإذا به يبتسم لي بعطف... فارتكبت وكدت أسقط الكوب الساخن من يدي... هتف بي: انتبهي... انتبهت على الكوب وقد تناثر رذاذ القهوة على ثيابي فوضعته على الطاولة... وتناولت منديلاً لأمسح السائل الساخن عن طرف ثوبي ويداي ترتعشان من شدة ارتباكي... قال برقة: أيمكنني الجلوس؟

وجلس أمامي قبل أن يسمع ردي... كنت أرتدي نظارتي الشمسية الداكنة... والحمد لله لأن دموعاً غبية امتلأت بها عيني... هكذا كنت دوماً أجد الدموع تملأ مقلتي كلما شعرت بالإحراج، أخبرني أنه يلاحظني منذ مدة وسألني إن كنت بحاجة لأي مساعدة بالدراسة فهو في سنته النهائية ولديه ملخصات لكل المواد التي أدرسها... سألني أين درست... فارتبكت وأخبرته عن المدرسة الأخيرة التي تخرجت منها لم أجرؤ طبعاً على أخباره عن تاريخي المخجل في المدارس التي ارتدتها، بدا لي لطيفاً جداً كما لم يكن أحداً على الإطلاق لطيفاً معي من قبل... تركني بعد أن وعدني بأن يشرب معي قهوته الصباحية بالغد.. وعندما رحل عرفت أنه لم يرحل لوحده فقد أخذ قلبي معه... يومها نسيت حتى أن أسأله عن اسمه من شدة ارتباكي.

عدت إلى المنزل في ذلك اليوم وأنا حريصة كل الحرص أن لا أخبر أمي التي تستدرجني دائماً لأحكي لها كل ما يمر في يومي... فقد قررت ان احتفظ بهذا السر الصغير لي وحدي... أكان مجرد تعرفي على زميل لي بالجامعة ووعده لي بشرب القهوة معي بالغد سراً مهما؟ لا أدري لكنه كان بالنسبة لي سراً شديد الأهمية بل ربما يكون أهم سر احتفظت به على الإطلاق.

لم أنم جيداً تلك الليلة وفكرت مراراً بالثوب الذي سأرتديه بالغد... واستيقظت قبل الموعد المحدد بثلاث ساعات كاملة... ولأول مرة في حياتي أولى اهتمامات خاصاً لزينتي... تطلعت إلى وجهي النحيف بالمرآة وأخذت أتأمله وكأنني أقيمه... كانت أمي دائماً تتغنى بجمالي وكذلك أبي الذي دائماً يخبرني أنني أجمل فتاة رآها في حياته... لكنني رغم ذلك كنت أعرف أنهما يبالغان في وصفي فبعد مقارنتي لنفسي بالفتيات اللاتي أراهن حولي سواء بالمدرسة سابقاً أو في الجامعة حالياً كنت أعرف أنني فتاة عادية جداً... وجهي نحيف جداً... مما يظهر ملامحي كبيرة نوعاً ما، عيناي كبيرتان لا أستطيع وصفهما إلا بالخائفتان... نعم هناك نظره جزع دائمة مرتسمة فيهما وانفي طويل نوعاً ما... في حين شفتاي رفيعتان جداً وكأنني بلا شفتين أصلاً... لدرجة أن لون الطلاء الخفيف الذي أضعه عليهما كل صباح لا يكاد يظهر عليهما... نظرت إلى جسدي ذلك الصباح أيضاً لأقيمه... إنني أكثر نحافة مما يجب... فأنا أقرب على الهزال مني إلى الرشاقة... صحيح أن أمي تشبه جسدي بعارضات الأزياء لكنني لا أظنه مثالياً إلى هذا الحد.. بدأت بتمشيط شعري الخفيف الناعم والطويل... أحياناً كنت أسمع تعليقاً من عاملة صالون التجميل التي تصففه لي في المرات القليلة والنادرة التي حضرت فيها أحد الأعراس – والتي كنت أكاد ألتصق فيها بأمي ولم أكن أغادر مقعدي أبداً إلى نهاية الحفل – كانت العاملة تقول لي أن علي قص شعري لأنه خفيف جداً... وقصة الشعر القصير ستعطيه كثافة أكثر كما أنها ستلائم وجهي أكثر وتقلل من حدة نحوله... وقتها كانت أمي تنهرها وتقول أن الفتيات يحلمن بالشعر الطويل وأن شعري الطويل نعمة كبيرة تحسدني عليها كثيرات! رغم أنني لم ألمح قط من تحسدني عليه، تسببت تلك الأفكار السلبية التي اجتررتها عن نفسي ذلك الصباح باهتزاز عنيف بثقتي بنفسي لدرجة أنني بدأت بالبكاء وعندما تمالكت نفسي ارتعشت يداي مراراً وأنا أحاول وضع الكحل الباهت الذ ي يشبهني حول عيني...

أخبرت نفسي أن لا شيء يستدعي مني كل هذا القلق فمجرد تناول للقهوة مع زميل لي لا يستدعيني مني كل هذا التأزيم... لكنني كنت أرتعش فعلياً... أتت أمي لتجدني قد ارتديت ملابسي وأصبحت جاهزة للذهاب لجامعة... كانت تعلم أن لدي امتحان مهم بهذا اليوم لذا فسرت ارتباكي أنه بسبب الامتحان... بدأت أمي بقراءة المعوذات والأذكار اليومية علي ككل يوم وأخبرتها أنني سأتناول إفطاري في الجامعة وخرجت لأركب مع السائق فأنا لا أقود السيارة ولم أتدرب أصلاً على ذلك ولا أملك رخصة قيادة لأن أبي يخاف أن أتعرض لحادث والسائق الذي يقلني كل يوم تم اختباره من قبل أبي عشرات المرات والتأكد من أنه يقود بهدوء قبل أن توكل إليه مهمة توصيلي.

وصلت إلى الجامعة قبل موعدي واتجهت إلى المقهى وجلست وكل شيء في يرتجف بلهفي...

لا أعرف كم مر من الوقت حتى رأيته أمامي وبيده صينية تضم إفطاراً لي وله وكوبين ساخنين من القهوة... جلس أمامي ليبدأ بيننا حديث التعارف... قضينا ساعة كاملة ونحن نتحدث، في الحقيقة كنت أجيب على أسئلته أكثر من كوني أتحدث معه... أخبرني أن اسمه يوسف وأنا الولد الوحيد بين ثلاث بنات... والده علمه تحمل المسئولية والاعتماد على النفس... علمه أن يكون مسئولاً عن أخواته البنات... لم يكن هيناً معه كونه الولد الوحيد ولم يفسده بالدلال ولم يخف عليه كما يخاف علي والدي... وفي الأيام القليلة التالية أصبحت عادة شرب القهوة مع يوسف كل صباح أجمل ما أفعله خلال يومي بل أنني كنت أنتظر طلوع الصباح لأراه وأتحدث معه وأكره الأجازة الأسبوعية التي تحرمني منه... اكتشفت أنني كنت بعيدة عن الحياة قبل أن تعرفني بيوسف كنت مجرد فتاة تعيش على هامشها... كان دخوله لحياتي أهم شيء حدث لي على الإطلاق فتعلقت به بجنون تعلق الإنسان الوحيد برفيق ظهر له فجأة لينتشله من وحدته، شيئاً فشيئاً بدا يوسف يعرفني على أصدقائه وصديقاته بالجامعة... وبعد أن اعتدت أن أجلس أمامهم وحدي بدأت اجلس بينهم... صحيح أنني كنت قليلة الكلام لكن صخبهم وضجيجهم كان يكفيني... لقد أصبحت الجامعة عالمي الجديد الذي وجدته بعد عناء وأصبح يوسف سيدي وسيد مشاعري فقد كان قلبي يصرخ بحبه لدرجة أنني كنت أحياناً أشعر بالغيرة عليه من بعض الزميلات الجميلات في شلته.

تغيير آخر طرأ علي عندما همست لي زميلتي هاجر: لم لا تقصين شعرك؟ أتخيلك أجمل لو فعلت.

اعتراني خجل شديد فقلت: أمي لا ترضى بأن أقصه... ضحكت هاجر والتي كانت مثالاً حياً لكلمة موضة فهي من أكثر الفتيات أناقة بالجامعة كما أنها تدير مشروعها الخاص بتصميم الأزياء وتشارك في معارض مختلفة في الكويت والخليج... همست لي: لا داعي لأن تخبريها... لم تعودي طفلة صغيرة... ثم أن قص شعرك ليس بقرار خطير... تعالي معي.

شدتني هاجر من يدي وكنت قد انتهيت من محاضراتي لذلك اليوم وأصرت أن أذهب معها في سيارتها الرياضية الفارهة إلى أحد صالونات التجميل... ذهبت معها وأنا أتعثر بين الخوف والخجل... الخجل من نفسي لأنني كنت فتاة تعيش في عالم مختلف عن هاجر فقد أشعرتني بمدى تخلفي وضعف شخصيتي... والخوف من ردة فعل أمي إن عرفت ما أنا مقبلة عليه...

جلست في الصالون... وهمست هاجر للعاملة فهزت رأسها موافقة... ولأول مرة منذ زمن طويل بدأت أطراف المقص الحادة تلامس خصلات شعري الناعمة فتتساقط على الأرض عند قدمي... كنت أرتجف وقتها وبشدة... كانت هاجر تتأملني مشفقة وهي تقول: بعد قليل ستشكرينني على ما افعله معك... انتهت العاملة من قص شعري وبدأت تضيف إليه خصلات ملونة... كانت تلك المرة الأولى في حياتي التي أصبغه فيها... خلال ساعتين نظرت إلى نفسي بالمرآة غير مصدقة للنتيجة... لا يمكن أن تكون هذه الفتاة في المرآة هي أنا!! أيعقل لقصة شعر وصبغة جديدة أن تحدثا كل هذا التغيير في فتاة؟ كنت ببساطة رائعة بشعري القصير النافر الأطراف والذي يصل إلى أسفل رقبتي وتلك الخصل البنية الطبيعية التي أعطت طلتي رونقاً لامعاً بهياً. ابتسمت هاجر برضا ودفعت هي ثمن الصالون... عندما رن هاتفي ورأيت أن المتصلة أمي ارتبكت... سحبت هاجر الهاتف من يدي ضاحكة وكتبت رسالة على أمي بأنني مشغولة بالمكتبة وسأحادثها لاحقاً ثم أغلقت هاتفي النقال... أخذتن هاجر إلى محلها الصغير في أحد المجمعات المعروفة واختارت لي ثوباً جميلاً جداً ومختلفاً عن كل ثيابي... أخبرتني أن هذا الثوب هدية منها لي... ووعدتها أن أرتديه في الغد للجامعة... أعادتني هاجر للكلية وشكرتها كثيراً وأنا أشعر أنني أصبحت إنسانة أخرى حتى أن السائق لم يعرفني عندما ركبت معه ليعود بي إلى البيت... حسناً لا أنكر أن قدماي كانتا ترتعشان عندما دخلت إلى المنزل ذلك اليوم لأقف مباشرة أمام أمي وأبي اللذين وقفا دهشة من رؤيتي بهذه الصورة الجديدة... شهقت أمي بقوة وصرخت: ما هذا؟ من فعل بك ذلك؟

قلت ولأول مرة في حياتي: أنا... رأيت أن هذه القصة تناسبني أكثر لقد سئمت شعري الطويل.

قال أبي: حرام... شعرك كان جميل جداً... قلت بحزم: الآن هو أجمل...

جريت من أمامهما بسرعة كي لا أفقد شخصيتي الجديدة التي بالكاد كنت أتقمصها فبعد سنوات من الخنوع والاستلام التام لكل شيء يريدانه كان من الصعب علي الصمود أمامهما.

اعتكفت في غرفتي يومها وتظاهرت بالنوم عندما أتت أمي مساء لتتحدث معي وباليوم التالي ارتديت الثوب الذي اختارته لي هاجر والذي شاهدته أمي فكادت أن تصاب بذبحة قلبية...

أخبرتها أنه هدية من صديقتي وأنه من تصميمها وخرجت بسرعة قبل أن تفيق من صدمتها!

وصلت إلى الجامعة والنظرات تكاد تأكلني... وعندما رأتني هاجر شدتني إلى الحمام وزينتني قليلاً ثم أخذتني إلى حيث تجلس شلة يوسف التي أصبحت جزءاً منها... بمجرد اقترابنا منهم من جهة الخلف هتفت هاجر بسعادة: مفاجأة... التفت الجميع صوبي في حين كنت أركز فقط على عيني يوسف الذي هب واقفاً – كما فعل والداي بالأمس – وأخذ يحدق بي بإعجاب صريح، أثنى الجميع على طلتي الجديدة... في حين كنت بانتظار كلمة منه، فهو وحده من يهمني رأيه... قال أخيراً: لقد تغيرت تماماً وكأنك فتاة أخرى... نظرت إليه بقلق فابتسم لي قائلاً: تبدين جميلة جداً... وبكلمته تلك شعرت بالدم يتدفق في عروقي فهي أول كلمة إطراء أسمعها من رجل ولم يكن أي رجل بالنسبة لي... كان حبيبي...

لن أطيل بالتفاصيل فقد اندفعت في تحرري... أصبحت حقاً وكما قال يوسف فتاة أخرى... أهتم بزينتي وشعري كل صباح... ملابسي كلها أصبحت بذوق هاجر التي صارت صديقتي المقربة، أصبحت أصرخ في وجه أمي وأصر على فرض رأيي عليها، وأناقش أبي في نصائحه التي دمرت حياتي الماضية وضعضعت شخصيتي. عرفت أن الحياة جميلة وأن خارج أسوار أسرتي المستبدة هناك عالم مختلف من الناس والأصدقاء الذين يعيشون حياتهم بالطول وبالعرض... لم أنجرف لأي شيء معيب لكنني أصبحت فتاة تعيش عمرها كما تعيش أي فتاة أخرى في مثل سني... ارتدت المطاعم ودخلت السينما وأصبحت أقضي عطل نهاية الأسبوع أتسوق مع هاجر ووالداي عاجزان عن قمع ثورتي، عاجزات عن التعامل مع تمردي الذي أضحى واقعاً لا مفر منه... وفي خضم كل تلك التغييرات شيء واحد كان ثابتاً في قلبي... حبي ليوسف...

كان ذلك الحب هو نقطة التحول في حياتي... أصبحت أكثر جرأة بالتحدث غليه... وكنت ألمح إعجابه بي يتزايد يوماً بعد يوم... كان هذا الإعجاب قوت حياتي كلها.

في نهاية العام تخرج يوسف... كنت حزينة لأنه تخرج حيث سأشتاق لرؤيته وسعيدة بنفس الوقت لأنه بالتأكيد بعد أن يعمل سيتقدم لخطبتي... كل نظراته لي تؤكد لي هذا الحلم.

أتت العطلة الصيفية بمللها وتمنيت أن أدرس فصلاً صيفياً لكن هاجر كانت ستسافر وشعرت بالوحدة من غيرها... حاولت أمي التقرب مني خلال العطلة وخططت لسفرنا فرفضت ففي السفر معها ومع أبي أفقد خصوصيتي التي حظيت بها مؤخراً وأصبح مضطرة على عودتي لوضعي القديم كفتاة تحت المجهر... قضيت العطلة كلها وأنا في ملل لا يطاق حتى أتى اليوم الأول للجامعة فارتديت أجمل ثيابي وقد اشتقت لكل أصدقائي... واشتقت أكثر لسماع أخبار يوسف الذي عرفت من أحد برامج التواصل الاجتماعي حيث أقوم بمتابعته أنه عمل في أحد البنوك.

وصلت إلى الجامعة حيث كانت هاجر تقف بكامل أناقتها وجمالها، احتضنتني على الفور فعانقتها بقوة لدرجة أنها ضحكت قائلة: لابد أنك افتقدتني كثيراً...

تجمهر حولها بقية الأصدقاء... سرت إلى أذني كلمة مبروك التي نطقت بها زميلة أخرى، سألت هاجر: على ماذا يباركون لك؟ بخجل ودلال قالت هاجر: الخبر جديد... بالأمس فقط تقدم يوسف لخطبتي... فاجأني الأمر تماماً... لم أكن أعرف أنه يحبني... كدت أطير من الفرح عندما أخبرتني أمي بالموضوع...

لا أعرف كيف بدا وجهي في تلك اللحظة كل ما أعرفه أنني سقطت من علو... نعم... عرفت أن الحياة قاسية... خادعة... ظالمة... انهار عالمي الجميل بلحظة لاكتشف أنني خدعت نفيس وخُذلت من أقرب الناس لي... لم تخني هاجر... أنا التي خنت نفسي وصنعت من الوهم عالماً انجرفت فيه... من أنا؟ أنا مجرد مسخ قلد الآخرين على أمل أن يلفت نظر شخص لا يكترث بوجوده أصلاً... لم كلمني يوسف منذ البداية؟ لم جرفني نحوه؟ أكان يشفق علي من وحدتي؟ ألا يعلم أن وحدتي كانت أهون علي كثيراً من خسارته... بعد أن بنيت معه أحلاماً وقصوراً في الهواء؟

وعدت إلى شرنقتي... عدت عودة صادمة لكل من حولي... لم يفهم أحد سر تغيري... ربما فهمت هاجر بذكائها لكنها تجاهلتني فمن أنا لتضيع عريساً مثل يوسف لأجل مشاعر غبية ومن طرف واحد؟ وفرحت أمي بعودتي كما فرح أبي... وعادا يتحكمان بأنفاسي... معهما حق... فأنا إنسانة غبية وحمقاء ومن الأفضل لهما أن يعتنيا بي كي لا أتوهم أن نظرات الشفقة التي قد يتوجني بها شاب آخر مثل يوسف... هي نظرات حب ما عدت أحلم أن أحظى به في يوم من الأيام.

 

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا