الدوائر الخمس 14 للكاتب أسامة المسلم

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-03-22

الدوائر الخمس

ساقي النيل

جنوب أرض الشمس وتحديداً في منطقة تقع على ضفاف النهر الخالد تسمى بـ "سونو" كانت تعتبر قبلة تجارية للعديد من القوافل القادمة من الجنوب وكذلك مقبرة كبيرة للكثير من الملوك وكان من بين سكان تلك المنطقة الزاخرة بالحياة رجل من النوبة هاجر من مسقط رأسه عند أحد أحوض النيل وسافر لهذه المنطقة بحثاً عن الرزق وحياة جديدة. امتهن النوبي الذي عرف باسم (سربل) مهنة سقي الماء وكان يملك جرة وطاسة صغيرة فخاريتين ولا يملك شيئاً غيرهما في الدنيا استخدمهما لجلب ماء النيل للباعة والمتسوقين العطشى وسقيهم مقابل ما يحسنون به.

اعتاد (سربل) الاستيقاظ قبل شروق الشمس بقليل والتوجه لضفاف النهر لملء جرته بالماء وتغطية فوهتها بقطعة من قماش الحوت ليحافظ قدر الإمكان على برودة الماء ثم يقوم بحملها والسير نحو السوق الذي يكون قد بدأ للتو بالازدحام. يختار البائع النوبي من وقت خر زاوية أو بقعة بها ظل يجلس فيها ليرتاح من حمل الجرة ولأنه أصبح معروفاً عند تجار ومرتادي السوق فالبعض يقصده إذا رغبوا في شرب الماء ولم يعد يحتاج للتجول كثيراً كالسابق وقد عرف مع مرور الوقت بينهم بـ "ساقي النيل".

في أحد الأيام وبينما كان (سربل) يسقي رجلاً اقتربت منه امرأة ووقفت عنده تراقبه حتى انتهى من سقيه وأخذ حسنته فقال لها باسماً بأسنانه الناصعة البياض: "هل أسقيك من ماء نيلنا العظيم؟"

(المرأة) وهي تبادله الابتسام: وهل سيروي ماؤك عطشي؟

(سربل): لم يشتك أحد من مائي من قبل

(المرأة): أسقني إذاً

سكب (سربل) الماء في الطاسة الفخارية ومدها للمرأة التي أخذتها وعيناها لم تحيدا عنه ورفعت طرفها عند شفتيها وارتشفت رشفة بسيطة ثم قالت: برودة الماء تطفئ حر الجوف.. الآن.. كيف أسدد لك قيمة الماء؟

(سربل): بأي شيء تجودين به

(المرأة) مخرجة بيضة من جيبها: يمكنني أن أقرأ لك طالعك

(سربل): أفضل ألا أرى مستقبلي كي لا أخسر الأمل الأخير الذي أتعلق به

(المرأة) معيدة البيضة لجيبها: ألهذه الدرجة تعتقد أن حياتك لن تتحسن؟

(سربل): لم أقل بأنها سيئة.. ما أخشاه هو أن تسوء وليس العكس.. هل تملكين شيئاً آخر عدا أحاديث قراءة الطالع؟

(المرأة) مبتسمة: لا أملك سوى جمالي

(سربل) منزلاً رأسه خجلاً: لا بأس يمكنك الرحيل فهذه قيمة تفوق شربة ماء بسيطة.. سأكتفي بتلك الابتسامة التي أشرقت يومي أعادت المرأة الطاسة له وهمت بالرحيل دون أن تقدم أي حسنة بالمقابل واكتفت بقول: أراك غداً يا ساقي النيل..

تكررت زيارات تلك المرأة للساقي بشكل يومي ولم يكترث (سربل) بأنها لم تكن تعطيه حق الماء بل كان مكتفياً بتلك اللحظات الوجيزة التي يقضيها في مراقبتها وهي تأخذ رشفة واحدة فقط من الطاسة وتعيدها له وتهم بالرحيل بعدها ومن وقت خر يتبادلان بعض الجمل أو ابتسامة أو أثنتين. في كل زيارة كان (سربل) يصارع رغبته الشديدة في الحديث معها أكثر ولمدة أطول لكن خجله في نهاية المطاف يتغلب عليه وعلى توقه فيصمت ويكتفي بالابتسام لها عندما تعيد له الطاسة بالرغم من أنه يرى في عينيها الكثير من الأحاديث لكن ذلك لم يكن كافياً لكسر الحاجز الذي رآه شاهقاً بينهما.

انكسر وانهد ذلك الحاجز يوماً عندما سكب الساقي الماء لها كما اعتاد في الطاسة الفخارية الصغيرة وسقط مع الماء خاتم بفص أخضر وخلال تمعنه فيما سقط خشية أن يكون حشرة ما أو شوائب من النهر سحبت المرأة الطاسة والتقطت الخاتم ببهجة كبيرة وقالت وهي تتمعن في فصه اللامع: "خاتم جميل!"

عندما رأى (سربل) فرحتها بالخاتم قال بارتباك وتحرج إنه هدية لك مني

(المرأة) تضم الخاتم بقبضتها بسعادة: حقاً؟!

(سربل) مبتسماً بتوتر: نـ.. نعم..

(المرأة) وهي تلبس الخاتم على بنصرها وتقلب كفها ممعنة النظر فيه أكثر: وما هي مناسبة هذه الهدية الجميلة يا ساقي النيل؟

(سريل): هي شيء بسيط مقابل ما ستقدمينه لي

(المرأة) بتعجب: وما الذي سأقدمه لك؟

(سربل) مبتسماً: اسمك.. أريد معرفة أسمك

(المرأة) تبادله الابتسام قائلة: .. (نانيس)

(سربل): اسمك جميل يا (نانيس)

(نانيس) تهم بالرحيل ضاحكة: أعرف!

سارت (نانيس) مبتعدة عن ساقي النيل والسعادة تغمرها لأنها كانت تحمل له مشاعر كبيرة ولكنها لم تكن واثقة من مشاعره نحوها لكن وبعد إهدائه الخاتم تيقنت من أنه يبادلها الشعور ذاته فأخذت تتجول في السوق بلا وجهة وكأنها تسير على الغيوم حتى وجدت نفسها أمام محل يملكه صائغ للحلي كانت تمر به كل يوم ويقوم بمعاكستها مع صاحبه وجاره في السوق بائع الأقمشة وعندما لمحاها بدأت معاكساتهما اليومية لها بدأها الصائغ بقول: "العقد الذي وعدتك به لا يزال بانتظارك يا صاحبة القيمة والقوام"

(نانيس) بنبرة غير مكترثة وهي تكمل السير متجاوزة محله: فلينتظر مع صاحبه!

(بائع الأقمشة) رافعاً قطعة من الحرير: لا يليق بك سوى هذا النسيج الفاخر من الحرير والذي يتوق لتغطية جسدك

(نانيس): غط به رأسك!

أكملت (نانيس) سيرها متجاهلة معاكسة البائعين التي اعتادت عليها كما اعتاداهما رفضها للتجاوب معهما.

(الضائع) وهو يراقب (نانيس) تختفي خلف زحام المتسوقين: إنها متعنتة وتملك رأساً أصلب من الحجر.. لم أقابل في حياتي قط امرأة تستطيع مقاومة لمعان الذهب

(بائع الأقمشة) وهو يشاركه النظر إليها: ولا نعومة الحرير.. ربما تكون متعففة

(الصائغ): هذا ليس حاجزاً قوياً يحول دون الإيقاع بها

(بائع الأقمشة): ماذا إذاً؟

(الصائغ): المرأة الوحيدة التي تملك مثل تلك المقاومة هي العاشقة.. وبصدق

(بائع الأقمشة) معيداً قطعة القماش الحريرية لمحله: فلننسها إذاً.. السوق مليء بغيرها من النساء.

(الصائغ): لا.. سوف أوقعها بطريقة ما

(بائع الأقمشة): وكيف تنوي القيام بذلك؟

(الصائغ): لقد انتبهت لشيء مختلف فيها اليوم

(بائع الأقمشة): نعم صحيح.. كانت سعيدة على غير العادة وتبتسم قبل أن تشاهد وجوهنا

(الصائغ): ليس هذا فقط.. ألا تلاحظ يدها؟

(بائع الأقمشة): لا.. مراقبة الأيادي ليست من اهتماماتي

(الصائغ): لا يا أحمق.. أقصد أنها كانت تلبس خاتماً بفص أخضر لم تكن تلبسه من قبل

(بائع الأقمشة): وماذا في ذلك؟

(الصائغ): الخاتم ليس ذا قيمة فهو ليس من معدن نفيس أو يحمل فصاً كريماً ولم تلبسه إلا لأنه من شخص تعزه كثيراً

(بائع الأقمشة): كل هذا توصلت إليه من خاتم بسيط؟

(الصائغ): وسأصل لأكثر من ذلك في المرة القادمة التي تمر بنا مضت أيام ولم ير أحد (نانيس) في السوق بعد ذلك اليوم سواء (سربل) أو البائعان اللذان لم يفتقداها كثيراً مثل ساقي النيل حيث إن القلق والتفكير بها تمكنا منه لدرجة أنه بدأ يلوم نفسه وعزا غيابها للهدية التي أهداها لها وحدث نفسه بتأنيب قائلاً: "كيف أهديها شيئاً لا أعرف قيمته؟.. لعلها فحصته ووجدت أنه خاتم رخيص وغضبت مني.. ليتني لم أقل ما قلته وقتها".

خلال تجوال (سربل) على أقدامه وسط السوق والجرة الفخارية على كتفه لمح من بعيد (نانيس) وهي تقف عند أحد المحلات تتفحص البضائع المعروضة فسار بخطوات متسارعة نحوها وما أن وقف خلفها حتى قال: "أعتذر.. أعتذر بشدة عما.."

لم ينه ساقي النيل عبارته لأن (نانيس) التفتت إليه ليرى وجهها المزرق والمتورم والمصاب بما بدا أنها عدة ضربات قوية للوجه والعنق. فجع (سربل) من ذلك المنظر وقال: "من فعل بك ذلك؟

غطت (نانيس) وجهها بوشاحها المتدلي وجرت مبتعدة لكن (سربل) لحق بها حتى أدركها وأمسك بذراعها قائلاً: أخبريني!.. ما الأمر؟

(نانيس) وقد بدأت تدمع: لم أكن أريدك أن تراني بهذه الحالة.. كنت..

(سربل): هل ما حدث لك بسببي؟

(نانيس): بسببك؟.. لا.. عن ماذا نتحدث؟

(سربل) واضعاً جرته على الأرض: افترضت أن أحداً من أقاربك أنزعج من هديتي لك

(نانيس): لا لا.. أنا أعيش وحدي

(سربل) متجهماً: في هذه الحالة أخبريني من فعل بك ذلك لأقتص لك منه

(نانيس) وهي تلتفت يميناً وشمالاً وكأنها تخشى شيئاً أو أحداً ما: ليس هنا..

(سربل): أين إذا؟

(نانيس): عند تجمع قوارب الصيادين وقت الغروب

(سربل): حسناً سأراك هناك

قبل غروب الشمس بقليل توجه (سربل) للمكان المتفق عليه ليجد (نانيس) بانتظاره جالسة على ضفة النهر وأقدامها نصف مغمورة في الماء وعندما وصل عندها وضع جرته وجلس بجانبها يتأمل النهر وقوارب الصيادين الطافية معها لثوانٍ ثم قال:

"ما الذي حدث؟.. أخبريني بكل شيء"

(نانيس) منزلة رأسها وبصوت مهزوم: لا أعرف.. منذ عودتي ذلك اليوم الذي أهديتني فيه الخاتم وأنا أتعرض لشيء غريب كل ليلة أخلد فيها للنوم

(سربل) ملتفتاً عليها بقلق: هل هناك من ينتهك حرمة منزلك عنوة؟

(نانيس): لا.. وهنا المشكلة.. الشخص أو الشيء الذي يهاجمني لم أستطيع رؤيته فهو يأتي ويرحل في ظلمة الليل.. أحس به فقط وهو من فعل بي ما تراه على وجهي وعنقي وما لا تراه على بقية أجزاء جسدي

(سربل) والغضب يتسلل إلى جوفه: سأعود معك اليوم وأقوم بحراسة المنزل والقبض عليه

(نانيس): لا أظن أن ذلك سيفيد

(سربل): قلت بأنك تعيشين وحدك.. صحيح؟

(نانيس): نعم.. أنا وحيدة منذ وفاة والدتي

(سربل): هيا بنا إذاً وأعدك بأن لا أحد سيمس شعرة من رأسك

تبسمت (نانيس) بوجهها المتورم قبل أن تنهض من مكانها وتعود مع ساقي النيل لبيتها الصغير. خلال سيرهما نحو المنزل أدرك (سربل) أن ما يقوم به أمر غير صحيح وأن طلبه العودة معها لمكان إقامتها لم يكن لائقاً لذا وعند وصولهما لعتبة الباب ودعوتها له للدخول قال:

سوف أبقى هنا بالخارج.. لا يستلزم الأمر دخولي

(نانيس): كيف؟.. هذا معيب في حقي وأنت ضيف علي

(سربل) واضعاً جرته على الأرض: لا تقلقي بهذا الشأن.. سأكون بالخارج لو احتجت أي شيء

(نانيس): حسناً كما تشاء وشكراً لقدومك معي

(سربل) مبتسماً: بل أنا الممتن لثقتك بي

دخلت (نانيس) وأطبقت الباب خلفها وخيم الليل بستاره المظلم ولم يسمع في الأرجاء سوى نقيق الضفادع وبعض الكلاب النباحة تحت ضوء القمر المكتمل. أشعل (سربل) ناراً صغيرة مستعيناً ببعض أغصان نبتة البردي الجافة وجلس مسنداً ظهره على جدار المنزل يتأمل لهب النار المتصارع. فتح الباب من خلفه ليرى (نانيس) تمد له باسمة بعض الطعام وتقول: "لا بد وأنك جائع.."

(سربل) آخذاً الطعام الممدود له: شكراً..

(نانيس): سوف أخلد للنوم الآن.. هل تحتاج إلى شيء آخر؟

(سربل): لا أحلاماً سعيدة

أغلقت (نانيس) الباب ليجلس ساقي النيل يتناول طعامه متأملاً القمر المنير بهدوء..

لم يمض وقت حتى فزع (سربل) بسبب صرخة آتية من وسط المنزل تبعها صرخات أخرى دفعته للدخول للمنزل مباشرة دون تفكير. لم يتمكن ساقي النيل من الرؤية بوضوح في ظلمة المكان فعاد للخارج والتقط قصبة مشتعلة وعاد جرياً لوسط المنزل وما أن توسطه حتى صدم بمنظر اقشعر له بدنه. رأى (نانيس) جاثية على ركبتيها ورأسها محني للخلف بفم مفتوح بالكامل لدرجة غير اعتيادية وكومة كبيرة من الشعر الأسود تخرج من بين فيها وتنشر في السقف وكأنها سحابة من الدخان تبعها صدور أصوات زمجرة قوية وتقلب لأعين (نانيس) بسرعة جنونية. وقف (سربل) عاجزاً أمام هذا المنظر ولم يعرف ماذا يجب عليه أن يفعل وقبل أن يقرر شيئاً بدأ جسدها يتحرك وكأنه يضرب بقوة من عدة جهات وكان يستطيع سماع فرقعات عظامها وفص الخاتم الأخضر يتوهج بقوة خلال حدوث ذلك مما دفعه لرمي القصبة المشتعلة والجري نحوها محاولاً تخليصها من تلك الحالة بسحبها لكنه لم يلحق أن يصل إليها قبل أن يرمي به إلى أقصى المكان بقوة.

نهض (سربل) متوجعاً ليجد (نانيس) تنقض عليه وتصرخ في وجهه كالحيوان المسعور وتحاول قضم رقبته وقد تحولت عيناها للسواد التام. صارع ساقي النيل قدر استطاعته لكنه أصيب في كتفه بقضمه أدمته قبل أن يتمكن من رميها جانباً وحمل القصبة المشتعلة مرة أخرى وتوجيهها نحوها ليشاهد مخلوقاً كالطفل بشعر أسود طويل منسدل على جسده الصغير يقف فوق رأس (نانيس). توقف (سربل) لثوانٍ يتنفس بثقل وهو يشاهد الشيء المخيف يدير نظره نحوه لكنه استجمع نفسه وبدأ يصرخ فيه ويلوح بالشعلة في يده لكن ذلك لم يحرك ساكناً في المخلوق فما كان منه إلا أن مد يده وأمسك بكاحل (نانيس) وسحبها بسرعة للخارج.

قام (سربل) بحمل (نانيس) واضعاً ذراعها خلف عنقه والسير مبتعداً عن المنزل ولم يلتفت وراءه بالرغم من سماعه لصرخات الكائن الغاضبة من خلفه. توهج فص الخاتم في تلك اللحظة لتقبض (نانيس) بأظافرها على عنق ساقي النيل وتقضم خده بأسنانها وتدخل معه في صراع قوي على الأرض. بدأ الدم النوبي يغلي في عروق (سربل) مما دفعه لضربها بقوة على وجهها عدة مرات حتى فقدت وعيها ويعاود حملها مجدداً والابتعاد بها حتى وصل لضفة النهر والتي كانت قريبة من المنزل ليضع جسدها على الأرض ويعود جرياً لمنزلها. بمجرد وصوله حمل ساقي النيل شعلة أخرى من النار المشتعلة بالخارج ودخل البيت على الفور ملوحاً بها كالمجنون بحثاً عن ذلك الكائن لكنه لم يجد أي أثر له فهم بالخروج بخطوات بطيئة رامياً القصبة المشتعلة جانباً وهو في حالة صدمة مما شهد وشاهد.

جلس (سربل) عند جرته يتصبب عرقاً وينزف من جروحه ونظره منصب على الأرض أمامه ولم يرفع رأسه حتى سمع (نانيس) التي استيقظت وعادت أدراجها للمنزل تحدثه قائلة: "ما الذي حدث؟.. لم أنا خارج منزلي ولم أنت بهذه الحالة؟"

حاول ساقي النيل وصف ما شاهد قدر استطاعته لها لكن ما مر به وعدم إدراكه للحقيقة بالكامل شوش ذهنه وبالتالي عباراته التي خرجت من فيه كانت غير مفهومة لكنه كرر عبارة: "فص الخاتم كان يتوهج" فاستنتجت (نانيس) التي لم تذكر شيئاً مما حدث معها أن الخاتم الذي أهداه لها (سربل) هو سبب ما يحدث معها فقالت له: "هل قمت بربطي بتميمة ما كي تظفر بي؟"

(سربل) نافياً بقوة: أنا؟!.. لا!.. مستحيل!

(نانيس): أنت من قدم لي الخاتم كهدية ومن الواضح أن هذا الخاتم هو سبب ما يحدث لي

شرح ساقي النيل لها أن الأمر كان مجرد مصادفة قام بمجاراتها بعد ما رأي أنها فرحت بالخاتم والحقيقة هي أنه لا يعرف شيئاً عن الخاتم أو مصدره وعلى الأرجح أنه التقطه من النهر خلال تعبئته للماء.

قضى الاثنان تلك الليلة عند ضفاف النيل ولم يدخلا المنزل ومع أول الصباح توجها للسوق وهما يفكران بطريقة للتعامل مع ما حدث لهما بالأمس وخلال تجولهما بالسوق طرأت فكرة على بال (نانيس) وهي الاستعانة بالصائغ الذي يعاكسها في فحص الخاتم ومعرفة إذا كان يستطيع معرفة مصدره. وافق (سربل) على الفكرة وعند وصولهما لمحله ورؤيته للحالة التي كانت عليها (نانيس) قال بتعجب: "ما هذا؟.. ما الذي حدث لك؟"

(نانيس) بوجهها المصاب بالكدمات والجروح: لا تلق بالاً لهذا الآن.. أريد منك خدمة

(الصائغ) ونظره يتوجه لـ (سربل) الواقف بجانبها بصمت ووجه يعاني من جروح مماثلة: هل تعرض لك أحد؟.. يمكنك الحديث بحرية وسوف نتعامل معه.. لا تقلقي

(بائع الأقمشة) مشاركاً في الحديث: ما الأمر؟

(نانيس) تمد الخاتم الأخضر للصائغ قائلة: ماذا يمكن أن تخبرني عن هذا الخاتم؟

(الصائغ) متفحصاً الخاتم: هل هذا النوبي هو من أهداك إياه؟

(نانيس): لا علاقة لك بذلك.. هل تعرف مصدر الخاتم أم لا؟

(الصائغ) مقرباً الفص من عينه بعد ما أغلق الأخرى: خاتم بلا قيمة وصناعته ليست متقنة والفص ليس نقياً أو كريماً

(سربل): ألا يمكنك معرفة منشئة أو أي من الصاغة قام بصناعته

(الصائغ) متجاهلاً (سربل) وموجهاً كلامه لـ (نانيس): من أهداك لم يعرف قدرك فهذا الخاتم قطعة نحاسية رخيصة مثله

مد بائع الأقمشة يده وأخذ الخاتم وبدأ يتفحصه هو الآخر..

(نانيس): حسناً شكراً.. أعد لي الخاتم الآن

أخذ الصائغ الخاتم من يد صاحبه ووضعه في جيبه..

(نانيس) بعصبية: ماذا تفعل؟!

(الصائغ): أفعل ماذا؟

(نانيس) بغضب: أعد لي الخاتم!

(بائع الأقمشة) مبتسماً بخبث: أي خاتم؟

(سربل) بتجهم: أعده لها وإلا استرددناه منك بالقوة!

(الصائغ) بلا اكتراث: حاول أيها النوبي. وسنرى بعد ما يجتمع الناس حولنا من سيتعرض للضرب والطرد من السوق

(نانيس): ألم تقل بأن الخاتم بلا قيمة؟!.. لم تحاول سرقته؟!

(الصائغ) بعبوس وصوت مرتفع: سرقة ماذا يا متسولة!.. اغربي عن وجهي قبل أن أستدعي حراس السوق!

(سربل) واضعاً يده على ذراع (نانيس) المستشيطة غضباً هامساً في أذنها: هيا لنرحل من هنا

(نانيس) بعصبية: لن أرحل قبل أن..!

(سربل) رافعاً كفه في وجهها ناظراً في عينيها مباشرة: لنرحل فقط

(بائع الأقمشة) بتهكم: أنصتي للنوبي قبل أن يزج بكما في السجن كظمت (نانيس) غيظها وسارت مع ساقي النيل مبتعدة عن المكان والصائغ يراقبهما مبتسماً..

دنا بائع الأقمشة منه وقال: أخبرني الآن.. لم فعلت ما فعلت؟

(الصائغ): كما أخبرتك سابقاً.. هذا الخاتم عزيز عليها ولن تتخلى عنه وستعود محاولة استعادته بأي طريقة بعيداً عن أعين الناس ووقتها سأعيده لها

(بائع الأقمشة): ما الفائدة مما فعلته إن كنت تنوي إعادته لها؟

(الصائغ): سوف أستخدم الخاتم لعمل تميمة ربط

(بائع الأقمشة): ربط؟

(الصائغ): نعم.. هناك كاهن مختص في إعداد التمائم السحرية التي تربط الناس بعضهم ببعض وسوف آخذ الخاتم له اليوم وأجعله يعد لي تميمة منه بحيث عندما تلبسه تجد نفسها لا تستطيع الابتعاد عني

(بائع الأقمشة): وهل هذا يمكن؟

(الصائغ): هذه ليست أول مرة أقوم بذلك.. ألم ترني أحاول أن أهديها شيئاً من الحلي في كل مرة تمر فيها بنا؟.. لدي مجموعة من المصوغات أعددتها خصيصاً للإيقاع بالنساء وهذا الكاهن هو من أعدها لي ولكن ولأنها دائماً ما كانت ترفض قبول هدية مني احتجت شيئاً أنا متيقن من أنها ستلبسه وها هو بحوزتي الآن

(بائع الأقمشة) مبتسماً: ماذا عن الأقمشة؟.. هل يمكن  أن أعد منها تمائم؟

(الصائغ) ضاحكاً: رافقني اليوم عندما أذهب للكاهن واسأله بنفسك!

مع غروب الشمس أغلقت معظم المحلات بالسوق ومن ضمنها محل الصائغ وصاحبه اللذين توجها لمنزل الكاهن المقيم في منزل متواضع عند أطراف المدينة وبعد وصولهما قال بائع الأقمشة وهو يتفحص المنزل بنظره: "من الغريب أن يقيم كاهن في منزل مثل هذا.. الكهنة في العادة ميسورو الحال"

(الصائغ) وهو يطرق الباب المتهالك: ليس هذا الكاهن.. لقد سقط من قمة العزة منذ زمن طويل

(بائع الأقمشة): ماذا تقصد بـ "سقط"؟

أتى صوت من الداخل محدثاً طارق الباب: أدخل يا (شهيم) وأحضر صاحبك (سالار) معك

(بائع الأقمشة) بتعجب: كيف عرف اسمي؟.. هل أخبرته بأني قادم معك؟

(شهيم) مبتسماً وهو يهم بالدخول: إنه يعرف أكثر من ذلك بكثير تبع تاجر الأقمشة (سالار) صديقه لداخل المنزل المكون من غرفة واحدة فقط توسطها رجل مسن يجلس القرفصاء على الأرض.

(شهيم) وهو يمد الخاتم الأخضر للكاهن: أريد صاحبة الخاتم..

(الكاهن) متناولاً الخاتم بأنامله النحيلة والمجعدة: هذه أول مرة تطلب امرأة بعينها.. هل هي مميزة لهذا الحد؟

(شهيم) مبتسماً: عنادها هو ما أشعل توقي إليها لكنها تمانع.. تمانع بشدة

(الكاهن) مقلباً الخاتم بين أصابعه: لا يوجد شيء لا يمكن كسره.

(شهيم): متى يمكنني أن آخذ الخاتم مرة أخرى؟

(الكاهن): لن تأخذه أنت.. هي من سيأتي لاستلامه مني بنفسها

(شهيم) بخليط من الاستغراب والتشكيك: لم؟ هذه ليست العادة؟

(الكاهن): نعم أنت محق.. طلبك هذه المرة مختلف لذا فطريقة التنفيذ مختلفة أيضاً.. عندما تعود إليك غداً تسأل عن خاتمها مع الرجل النوبي وجهها إلى هنا واترك الباقي علي

خرج الاثنان من منزله الكاهن وكان بادياً على الصائغ الإحباط فقال له صاحبه بتهكم: أعتقد أن الكاهن ينوي الظفر بها لنفسه

(شهيم): نعم هذا واضح

(سالار): ولم لم تعارض أو تأخذ الخاتم منه؟

(شهيم): أنت لا تعرف ما يمكن لرجل مثل هذا القيام به لشخص مثلي.. مشيئته أياً كانت ستتم.. سأنساها

(سالار): قرار حكيم.. وهي ليست آخر امرأة في الدنيا

حدث عكس ما تنبأ به الكاهن ولم تحضر (نانيس) في اليوم التالي مع (سربل) للمطالبة بالخاتم لكن الذي حدث هو أن الكاهن بنفسه جاء لمحل الصائغ نهاية اليوم قبل أن يغلق السوق مغطياً وجهه بوشاح أبيض فلم يتعرف عليه "شهیم" وظن أنه زبون من الزبائن فقال له: "بم يمكن أن أخدمك؟

أزاح الكاهن الوشاح كاشفاً عن إصابات متفرقة على وجهه وقال بنبرة صارمة: "فأرشدني لهذه المرأة في الحال!"

(شهيم) وهو مصدوم: ماذا حل بك؟!

(الكاهن) بغضب: لا تضيع الوقت.. أين أجدها!.. أين صاحبة الخاتم؟

(شهيم): لا أعرف!.. أنا لا أقابلها إلا في السوق عندما تعرج بمحلي!

(الكاهن) بعصبية: إذا لم تصل إليها في أسرع وقت فسنهلك.. هذا الخاتم ومن يسكنه سيقتلنا جميعا! 

(سالار) مشاركاً بالحديث: من سيقتلنا؟

(الكاهن) موجهاً الحديث لها كليهما بعد ما أعاد الوشاح على وجهه مجدداً وبنبرة متوعدة: أحضر أهالي اليوم عند الغروب وليكن معها ذلك النوبي.. وإلا فلن يرى أحد منا النور مجددا! 

رحل الكاهن تارك الصائغ وتاجر الأقمشة في عجب مما حدث لكن تلك الحيرة لم تدم طويلاً وتحولت تدريجياً لقلق وتوتر مما قد يفعله بهما إذا لم ينفذا أوامره فقال (سالار): كيف ستحضر تلك المرأة له ونحن لا نعرف أين تدب أقدامها؟.. ثم أي نوع من القدرات التي يملكها هذا الكاهن.. من المفترض أن تعقب الأثر أحدها.

(شهيم): إنه غير متزن على عادته.. لقد حدث له شيء قلب حاله.. لقد كان كالمجنون؟

(سالار) : لقد حدث له ما حدث للمرأة والنوبي..

(شهیم): هل لاحظت شيئاً غريباً في آخر كلامه؟

(سالار) : كل كلامه كان غريبة.

(شهیم): لا لا.. أقصد عندما قال: "لن يرى أحد منا النور مجدداً"..

لم قال "منا" وليس "منكما"؟

(سالار) : إلام ترمي بهذه الملاحظة؟

(شهیم): أعتقد أنه واقع في مشكلة معنا وعصبيته تلك لم تكن موجهة إلينا.. إنه خائف.. خائف جداً؟

(سالار) : وهل هذا سبب كي ننسى الأمر أم ماذا؟

(شهيم): أغلق دكانك وهيا بنا.

(سالار) : إلى أين؟

(شهیم) وهو يغلق محله: للبحث عن صاحبة الخاتم الأخضر.

بدأ الصائغ يسير بين جميع الناس في السوق المكتظ وصاحبه بائع الأقمشة يتبعه دون علم عن وجهته فقال: أين تنوي البحث عنها؟ (شهیم) وعيناه تجولان في أركان السوق خلال سيره: ليس هي.. بل هو

(سالار) : هو من؟.. النوبي؟

(شهیم): نعم.. لو وجدناه فسنجدها

(سالار): وأين ستجده في هذا السوق الكبير؟

(شهيم) رافع سبابته أمامه مبتسماً: هناك..

 كان ساقي النيل يجلس عند أحد أركان السوق بعرض ماء جرته كالمعتاد لمرتادي السوق فداهمه الاثنان وأمسك كل منها بذراع من ذراعيه كي لا يهرب لكنها فوجئا بعدم وجود أي مقاومة منه وكأنه لا يهتم إن وقع بين أيديها فسأله الصائغ بعد ما هز جسده بعنف وقال معنفاً: "أين هي؟!.. أين المرأة التي كانت معك؟!"

(سربل) بنبرة مكسورة: تقصد (نانيس)؟

(سالار): لا يهم اسمها!.. أرشدنا إلى مكانها فوراً!

(سربل): حسناً.. اتبعاني بدأ ساقي النيل بالسير والاثنان يقفان خلفه يراقبانه باستغراب شديد لانصياعه التام دون أدنى مانعة منه أو محاولة للهرب لكنها لم يناقشاه وتبعاه حتى وصلا لمنزله حيث وقف خارجه وأشار للباب قائلاً بحزن وانكسار شديد: إنها بالداخل..

(شهیم): هل هذه خدعة ما؟.. لم تسلمها لنا بهذه البساطة؟

(سربل): لأنها لا تدرك الحالة التي هي عليها.. إن كانت لا تزال على قيد الحياة ورغبت بالذهاب معك فلن أمانع.

(سالار) : ما الذي يجري؟

(شهیم) لـــ (سربل) وهو يسير نحو الباب: وأنت ستأتي معنا أيضاً؟

فتح الصائغ الباب ووقعت عيناه على (نانيس) المستلقية أرض على قطعة من الحصير متوسدة قماشة مكومة وما أن رآها لم يخط خطوة أخرى داخل المنزل وبقي يحدق بها بأعين متسعة في دهشة ورعب.

(سالار) من خلفه: ما بك؟.. هل هي موجودة كما قال؟

(شهیم) بصوت محشرج: ها.. هيا تعال وساعدني على إخراجها

(سالار) : ولم لا تخرج هي لنا؟.. هل تحمل سلاحاً؟

(شهیم) بوجه مفزوع ونظره على (نانیس) المستلقية: ماذا فعلت لها أيها النوبي؟

(سربل): لم يكن أنا.. كان هو..

(شهیم) ملتفتاً إلى ساقي النيل يغضب: هو من؟!.. هل جاء الكاهن إلى هنا؟! 

(سربل): کاهن؟.. أي كاهن؟

(شهيم) معید نظره لـــ (نانیس): كل هذه الدماء.. هل تملك لحاف أيها النوبي؟

(سربل): نعم.. لماذا؟

"شهیم": يجب أن نأخذها فوراً للكاهن.. هيا كلا كما تعالا وساعداني على حملها في تلك الحصيرة بعد تغطيتها باللحاف فلا أظن أننا تستطيع الخروج بها أمام الناس وهي بهذه الحالة.

(سالار)  متقدماً نحو مدخل المنزل: عن أي حالة تتحـــــــ..

أخرس لسان بائع الأقمشة من هول المنظر الذي رآه ولم ينطق بحرف ولم يتحرك من مكانه...

(شهیم) صارخاً في صاحبه المدهوش: لا تقف هكذا وتعال عاوني!

خلال أقل من ساعة وبعد غياب قرص الشمس بالكامل كان الأربعة عند باب الكاهن الذي خرج لاستقبالهم قبل أن يطرقوا درفة بابه المتهالكة وبعد ما ألقي نظرة على جسد (نانيس) المحتضر والغارق بالدماء ممدداً على الأرض أمام منزله قال: "يجب أن نبدأ حالاً بطقوس التطهير.."

(سربل): تطهير؟

(الكاهن) رافعاً رأسه عن جسد (نانیس) وموجهاً نظره وحديثه لــــ (سربل): من غيرك يعرف عن الخاتم الأخضر؟

(سربل): فقط الموجودون هنا حسب علمي

(الكاهن) لـــ "شهیم": خذوها للداخل لنبدأ

لم يجادل أحد الكاهن وحملوا (نانیس) ووضعوها وسط منزله ووقفوا فوقها يراقبونها بصمت..

دخل الكاهن خلفهم وأغلق الباب وأخرج من جيبه حجراً منحوتا على شكل جعران أسود ثم قال: هذه التميمة توارثها مجموعة من الكهنة ولم أظن يوماً أن أكون أنا من يستخدمها لإعادة شيطان الهرم لمثواه الأخير..

(سالار): عن ماذا تتحدث؟

(الكاهن): لا يهم أن تفهموا.. المهم أن تكونوا جميعاً حاضرين عندما أربطه.

(سربل): أنت تتحدث عن الشيطان الذي هاجم (نانیس) وحاول قتلها أليس كذلك؟

(الكاهن): هو لم يحاول.. لقد نجح وسوف تموت قريباً وسيكون دورنا بعدها إذا لم ننفذ الطقس بالشكل الصحيح.

(شهیم): أن أسأل أسئلة غبية لكن ما الذي تريد منا فعله؟ 

(الكاهن): أن لا تجزعوا.. وألا يخرج أحد من هذا المنزل حتى أقول له.. مفهوم؟

هز الجميع رؤوسهم بالموافقة..

(الكاهن) يخرج الخاتم من جيبه: من منكم سيضعه في فم "ديموس"؟

(سالار): (ديموس) من؟

(سربل): إنه يتحدث عن الشيطان.. أنا من سيفعل ذلك أعطى الكاهن الخاتم الأخضر لساقي النيل وقال له: لا تخطئ.. فلن تسنح لك سوى فرصة واحدة.

(شهيم): ونحن ما المطلوب منا؟

(الكاهن) وهو يهم بالخروج من المنزل: الثبات فقط.. الثبات.. وألا يموت أحد منكم قبل أن نربطه وإلا فإن الدائرة ستكسر وسنضيع الفرصة ونهلك جميعاً.

(سربل): إلى أين أنت ذاهب؟

(الكاهن) ملقياً نظره على الجعران الأسود في كفه: لأحضر شيطان الهرم.. كونوا مستعدين.. لن يستغرق الأمر طويلاً خرج الكاهن وأغلق الباب خلفه.. بقي الثلاثة واقفين يحدقون بعضهم ببعض و(نانیس) مستلقية وسطهم وشمعة وحيدة في ركن الغرفة أنارت المكان ولم توفر الكثير من الضوء لكنها كانت كفيلة بكسر عتمة الظلمة. سمع الجميع أصواتاً غريبة آتية من الخارج ولم تكن بعيدة وشيئاً فشيئاً تعالت الأصوات واتضحت معالمها وكأنها أصوات شخصين يتعاركان ولم يثر ذلك في نفوسهم سوى القلق الذي تحول لجزع عندما بدأت أصوات صرخات حادة رافقها ما بدا وكأنها صرخات الكاهن نفسه حتى توقفت جميع الأصوات وعم الهدوء فجأة. 

(سالار): هل كان ذلـــــ..

فتح الباب وارتطمت درقته بالجدار بقوة ليدخل الكاهن حاملاً بين يديه كائناً غريباً يشبه الطفل الصغير بشعر أسود طويل أثار الفزع في أعين من رأوه لكن الكاهن كان متماسكاً ورمى به بجانب (نانیس) وقال لــــ (سربل) وهو يتنفس بثقل لكن بهدوء وثقة: "انتظر حتى يستيقظ ويفتح فمه ثم أتتم الطقس.."

(سربل) بارتباك: أي طقس؟

(الكاهن) صارخاً فيه: هذا ليس وقت الغباء!.. طقس ربط "ديموس"!

(شهیم) بكلمات متقطعة متوترة: يقــــ.. يقصد أن تضــــ.. تضع الخاتم في فمه.

بدأ شيطان الهرم بالاستيقاظ محدثاً أنيناً أتبعه بزمجرة خفيفة..

(الكاهن) بأعين مترقبة وجبين يتصبب عرقاً: استعد أيها النوبي؟

قبض (سربل) على الخاتم الأخضر بقبضته وحني رأسه وجذع جسده تجاه (ديموس) المستلقي بجانب (نانيس) منتظراً اللحظة الحاسمة لكن شيطان الهرم باغته بالقبض على رقبته وغرس مخالبه في خاصرته ليسقط الخاتم من يده ويبدأ بالصراخ محاولاً تخليص نفسه وسط صراخ الكاهن، "سنهلك جميعاً!".

حاول (سالار)  التقاط الخاتم من الأرض لكن (ديموس) صرخ بوحشية رامياً بساقي النيل جانباً قافزاً على تأجر الأقمشة ينهش في وجهه بشراسة، قبل أن يهلك (سالار)  ركل صاحبه "شهیم" شيطان الهرم بقوة أزاحته مؤقتاً ولفترة كافية ليهرب منه ويجري نحو الباب للخروج لكن الكاهن اعترضه قائلاً بعصبية شديدة: لا يمكن لأحد أن يرحل قبل أن ننتهي من الطقس!

(سالار) بوجه دام وصوت مرتفع مشبع بالخوف: عن أي طقس تتحدث؟!.. سوف يقتلنا هذا المخلوق!

صرخ "ديموس" وأصدر زئيراً مخيفاً وأخذ يشد شعره كالمجنون والباقون يراقبونه ويرتجفون جزعاً ثم توقف ورفع نظره بأعينه التي توهجت ولمعت كاعين القطط وقال بصوت مبحوح: "لن تمسوها..".

التقط شيطان الهرم الخاتم الأخضر ثم باعد بين فكيه وأخرج لسانه ومده وحرك طرفه أمام الخاتم مصدراً قهقهات مرعبة معلناً فشل المجموعة في القضاء عليه لكنه توقف عن الضحك فجأة بعد ما ضربت (نانیس) ظهر يده بحركة سريعة وخاطفة رمت بالخاتم وسط فمه ليستقر بحلقه. دخل (ديموس) في حالة من الانتفاض العنيف أشبه بالصرع انتهت بسقوطه على الأرض وتبخر جسده الصغير كالماء تحت حر الشمس.

(شهیم) مبتلع ريقه: ماذا حدث؟

(الكاهن) متنفس الصعداء: لقد حبس في الخاتم ولن يؤذي أحداً بعد الآن.

جرى (سربل) نحو (نانيس) ورفع رأسها ووضعه على فخذه قائلاً: هل أنت بخير؟

(نانیس): لا.. ولن أكون بخير أبداً.

(سالار)  متحسساً جروحه بيده: هل يمكن أن نعود لمنازلنا الآن؟

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا