جيراني الأرواح للكاتبة ليلى الرباح

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-03-15

 

ٍالقبر رقم 232190

 "يعقوب راشد علي"

توقف أخيراً عن الصراخ بعد أن ابتعد آخر المعزين عن مرمى بصره، ثم سكت هنيهة ليلتقط أنفاسه، فقد أمضى اليومين الماضيين في صراخ متواصل كلما اقترب أحد من جسده الهامد، لكن أحداً لم يسمع صراخه.

كان قد استيقظ مما ظنه غفوة قصيرة ليجد نفسه خارج جسده دون أن يفهم كيف ولا لماذا، فقد أصابه الخرف في السنوات الأخيرة من عمره فلم يعد يدري ما يفعل به.

لكن ما كادت روحه تخرج من ذلك الجسد البالي حتى عاد عقله كاملاً إليه، وإن كاد ذلك العقل يطيش ثانية لشدة الخوف الذي شعر به عندما وجد نفسه يحوم خارج جسده دون أن يتمكن من العودة إليه، ومنظر ذلك الجسد المسجي بلا حراك، والذي بدأ له غريباً وأكبر سناً بكثير مما يتذكره.

أخذ يصرخ بالخادمة التي غطت وجهه عندما وجدته بارداً كالثلج ليسألها عما حل به، ثم في وجوه أولاده واحداً واحداً، وسبقت ذلك الصراخ فترة بسيطة من الصمت لدى رؤيته لبعضهم، فقد استغرق وقتاً ليتعرف إليهم بعد أن شاخوا وكبروا.

ولم يصدق نفسه عندما رأي ابنته الوحيدة، فلم يجد في وجهها أي من ملامحها السابقة، ففقد اختفى إلا قليلاً ذلك الأنف الضخم الذي ورثته عنه، وبرزت عيناها فجأة بعد أن كانتا ضيقتين صغيرتين تحت أجفانها المتدلية التي لم يكن له ذنب فيهما، فقد أخذتهما من جدتها لأمها.

لكن ما أدهشته حقاً كان حجم شفاهها، فلم ير يوماً شفاهاً بهذه السماكة، ولو كان حياً للسع ظهرها بعقاله لما كانت ترتديه، فقد هجرت العباءة التي كانت يمنعها من الخروج من البيت بدونها، وارتدت ملابساً ضيقة فاضحة تطل أثدائها من فتحة الصدر فيها بكل وقاحة، ونفشت شعرها الذي صبغته بلون أصفر فاقع بدا منفراً ومتناقضاً مع سمرتها الداكنة التي لم تستطع المساحيق إخفاءها.

"من تخدعين بهذه الملابس يا سكينة يا ابنتي؟ لقد أصبحت عجوزاً وكل ما فعلته بنفسك لا يكفي لإخفاء هذه الحقيقة المرة! ألم يكن من الأجدى أن تحترمي عمرك وتستري لحمك المترهل عن العيون التي لابد أنها تستهزئ بك من وراء ظهرك؟"

لكن لم يسمع صرخاته ولم يرد على أسئلته أحد، كان قد أدرك الآن أنه ميت، لكن لم يستطع أن يفهم كيف حدث له هذا دون أن يشعر بشيء، وكيف بلغ هذا العمر بدون أن يعلم، ولا أين كان كل هذه السنين التي بدت آثارها واضحة على أولاده، ولماذا لم يذرف أغلب أبنائه أي دمعة لموته.

وأخذ يراقب عاجزاً جسده الذي غطاه أولاده ثم تركوه في غرفته حتى الصباح، وقبل أن تبزغ الشمس كانت الخادمة التي كانت أول من رآه بالأمس تنضو عنه ملابسه.

تمنى لو استطاع أن يقطع يدها قبل أن تمتد لتكشف عورته، لكنه ذهل لرؤية ما كانت تسحبه من تحت ثيابه، ما هذا؟ لماذا كان يرتدي حفاظاً بلاستيكياً كالأطفال؟ وأين جدوا له حفاظاً بهذه الضخامة؟ وما هذه الرائحة المنتنة التي تنبعث منه؟ ولم يبدو جلده محمراً ومتسلخاً حيث كان الحفاظ يغطيه؟

وبعد القليل من الوقت كان يحمل إلى المقبرة واثنان من أولاده الذكور يتبعان جسده بسيارتهما، ورأى نفسه يدخل إلى مكان تغسيل الموتى محمولاً على نقالة من قماش أبيض، وهناك عراه ولده بمساعدة مغسل مفتول العضلات من ثيابه ثانية، ولم يتركوا عليه إلا خرقة صغيرة بالكاد تستر عورته.

وفاجأه أن ذلك المغسل دس خرقة أخرى بين ساقيه ثم سحبها لتغطي مؤخرته، ماذا يفعل؟ هل سيلبسونه حفاظاً آخر للقبر؟ وما الفائدة منه؟

وقبل أن ينتهي من تساؤله ذهل لرؤية المغسل يضغط على بطنه بيديه الضخمتين، وأخذ يصيح به:

"ماذا تفعل أيها المجنون؟ لقد فقدت السيطرة على جسدي ولم أعد أتحكم بأي من عضلاته ولا بما يخرج منه! فلماذا تضغط بهذه القسوة على بطني المسكين؟

ومرة أخرى لم يسمعه أحد، وأغرقه الخجل عندما رأى المغسل يرمي تلك الخرقة التي تلوثت بما خرج من جسده ثم يضع أخرى مكانها ويعيد الكرة، فغطي ابنه الأصغر أنفه بغطاء رأسه واستدار ببصره بعيداً عن جسد والده وهو يكاد يقذف ما في جوفه لفرط اشمئزازه.

تمنى لو اختفى من الوجود قبل أن يرى اشمئزاز ابنه منه ويسمع ما قاله عنه همساً من بين أسنانه، وأخذت روحه تجر أكمام المغسل وابنه الآخر الذي كان يساعده وتتوسل إليهما:

"اتركوني في حالي! أرجوكم! لقد غسلتني الخادمة وفركت جسدي بكل قسوة قبل أقل من ساعة! استروا جسدي ولا تخزون أكثر!".

لكن المغسل استمر في عمله، وأمسك بيديه الهزيلتين وأخذ يثنيهما ويلويهما إلى الأمام والخلف ويديرهما حول مفصلي كتفيه حتى شعر بأنهما تكادان تنفصلان عن جسده، ثم كرر ذلك بساقيه المعروقتين، اللتين جعلت حركتهما تلك الرائحة البغيضة تنبعث ثانية من بينهما، ليبتعد ابنه الأصغر وينزوي بعيداً في ركن حجرة التغسيل وهو يتمني لو استطاع الهرب.

تنفس الصعداء عندما انتهى المغسل أخيراً مما كان يفعله به، وأخذ خرطوم المياه وبدأ يسكب الماء على جسده، ويأخذ من وعاء بقربه ماء مخلوط بشيء من الصابون ويفركه به، صاح ابنه الآخر بالأصغر لكي يساعده في قلب جسد والدهما ليغسلوا ظهره، لكن الابن رفض أن يلمسه وأوكل للمغسل تلك المهمة، فيما أمسك هو بخرطوم المياه من أبعد مسافة استطاعها.

انتعشت روحه رغم حزنه عندما أخذ المغسل وابنه الآخر يغسلان رأسه بالسدر ثم يفركان رأسه وجسده بخليط المسك الأبيض والكافور، فقد أسعده أن من يحملونه سيشمون منه تلك الرائحة الطيبة، وليس الرائحة المنتنة التي فاحت منه رغماً عنه في بداية تغسيله.

ورغم أنه أصبح نظيفاً الآن فقد ظل ابنه الأصغر يرفض لمسه واضطر المغسل إلى الاستعانة بزميل له ليساعده والابن الآخر في لف الكفن وشده حول جسده، ثم أعادوا وضعه على النقالة وتركوه هناك حتى يحين موعد دفنه.

وقبل الساعة التاسعة بقليل جاء الابن الذي غسله مع اثنين آخرين من أبنائه وبعض أقربائه، الذين لم تقل صدمته لرؤية ما فعله الزمن بهم عن صدمته لرؤية أبنائه من قبل.

وكم فرح عندما رأى أخاه الذي يصغره بأكثر من عشر سنوات يتحامل على شيخوخته وعجزه ويصر أن يساهم في حمل جثمان أخيه، بينما وقف الابن الأصغر بعيداً وقد أسعده أنه تخلص من تلك المهمة البغيضة.

وحملوه على أكتافهم وهو يصيح بهم أن ينتظروا قليلاً فلم يشبع منهم بعد، ويشير بيأس إلى كل منهم محاولاً أن يظفر بجواب على السؤال الذي يعذبه، فقد كان يريد أن يعرف أين ذهبت كل تلك السنوات من عمره ولماذا لم يعد يذكر شيئاً عنها، لكن القادمين الجدد لم يسمعوه كما لم يسمعه أي من أبنائه قبلها.

أشفق على أبنائه ومن معه عندما طال الأمد قبل أن يحين دوره للدفن، فقد دفن تسعة قبله، لكن لم يحتج أحد منهم، بل شارك معظمهم في كل الصلوات طمعاً في ثواب صلاة الجنازة، ما عدا ذلك الابن الأصغر المتمرد الذي استمر في التذمر والاحتجاج دون خجل.

وكم تمنى لو استطاع أن يصفع ذلك العاق ليعيده إلى رشده، فقد أدرك من الأحاديث المتناثرة لمن حوله عنه أنه قد عاش حتى بلغ الثمانين من عمره، إذن فإن عمر ابنه ذاك لا يقل بأي حال عن الخمسين، فلماذا لا زال يتصرف كالطفل الصغير؟ وكأنه سيخلد في هذه الدنيا ولن يأتي قريباً اليوم الذي سيضيق أبناؤه بغسله كما ضاق هو بأبيه!

وأخيراً جاء دوره ليوسد التراب، وكان قد انشغل بمراقبة أهله ومحاولة مخاطبتهم والبحث في ملامح المعزين به عمن يعرفه، لكن ما كادت الصلاة عليه تنتهي وحمل ليودع في قبره حتى فزع وارتعب.

"إلى أين تأخذونني؟ ما هذا المكان المظلم الذي تضعونني فيه؟ إنه ضيق جداً! كيف سأستطيع أن أتحرك؟ لماذا كشفتم وجهي بعدما تركتموه مغطى لكل هذا الوقت؟ وما هذه الأحجار الطويلة التي ترصفونها فوقي؟ ولماذا تهيلون كل هذا التراب فوقها؟ هل تخشون أن أخرج؟ لكن كيف وأنا لا أملك حتى أن أفتح عيني؟"

ظل يصيح حتى خلا المكان حوله وانصرف كل الناس، وتلفت حوله مفزوعا عندما وجد نفسه وحيداً في ذلك القبر المظلم، وازداد فزعه عند حل الليل وتوقفت أصوات البشر في المقبرة، وفجأة استنار قبره بضوء هادئ جعل قلبه يطمئن وخف خوفه.

كان يتساءل من أين جاء ذلك الضوء الذي آنس وحشته، عندما رأى أمامه، دون أن يفهم كيف، صورة ابنه الأكبر حمد وهو ساجد يصلي، ارتاح قلبه لمرأى ابنه الحبيب فقد تذكر حنانه عليه بينما كان يغسله وعندما وسده القبر، وصاح من الفرح لما اقترب منه وسمعه يدعوه له بحرارة وإخلاص.

"ابني! ابني الحبيب! أنت لم تنسني! لقد أحسست بوحشتي في قبري! أنت إذن من بعث لي بهذا الضوء! آه يا أغلى ما خرجت به من دنياي! كم أحبك! كم أتمنى لو استطعت أن أخبرك كم أنا ممتن لك! إذن لم تضع حياتي هباء! فلو كنت أنت أيها الابن البار العزيز هو كل ما خرجت به من هذه الحياة لكفيتني!".

لم يسمعه ابنه، لكنه استمر يدعو له ويذكره في صلاته، بينما نسيه باقي أبنائه، بل إن بعضهم كان سعيداً بالخلاص منه، فقد طال عمره حتى أصبح هماً ثقيلاً في شيخوخته ومرضه، فلم يكونوا يطيقون صبراً في آخر أيامه لينزاح ذلك الحمل عن أكتافهم.

وأصبح كل ما يشغل بال باقي أولاده هو متى سيتم توزيع ميراثه وكم سيحصل عليه كل منهم، ولكسلهم أوكلوا للابن الأكبر حمد محمد تسييل العقارات الكثيرة والأسهم والأموال السائلة التي كانت يملكها والدهم.

وكان الأب ينتظر هو أيضاً بنفاد صبر انتهاء تلك الإجراءات، وبعد سنتين كان كل ما يملكه والدهم قد وزع بينهم وفقاً للقسام الشرعي، فاندفعوا لصرف تلك الأموال التي لم يتعبوا فيها ولشراء كل ما يشتهون.

وكانت فرحته هو بفطنة ابنه الأكبر وحدبه عليه حتى في موته لا توصف، فلم يهن على ذلك الابن أن يبيع أسهم والده برخص التراب، لكن إخوته كانوا يريدون نصيبهم من الميراث ولم يرغبوا بالانتظار، فدفع لهم قيمتها واستبقاها لنفسه، وسهر لليال عديدة يفكر أي الاسم يبيع وأيها يبقى.

وبعد جهد لا يوصف تمكن من أن يدخل إلى أحلام ابنه في إحدى الليالي، فهمس له بأسماء الأسهم التي كان يعلم أن أسعارها سترتفع، لم يستطيع أن يجعل ابنه يراه، لكنه كان سعيداً لأنه سمعه، وإن لم يعلم من هو.

وكان أكثر سعادة عندما استيقظ ابنه في ذلك الصباح فرحاً مستبشراً، وأسرع بالتخلص من الأسهم التي لم يسمع ذلك الصوت يخبره بها، واشترى بقيمتها مزيداً من التي أخبره أنه سترتفع.

وبعد سنتين من ذلك التاريخ كان يعقوب يراقب بفرح شديد ابنه وهو يبيع تلك الأسهم التي تضاعفت أسعارها عدة مرات، بفضل نصيحته أصبح حمد أغنى من كل إخوانه، الذين ضيعوا ميراثهم على تفاهات ولم يدخروا منه شيئاً.

منحته طاعة ابنه له مزيداً من القوة، فتمكن في المرة التالية أن يجعله يراه بوضوح، وكم كان ذلك الابن فرحاً برؤية أبيه وبسماع صوته يناديه باسمه:

"أبي، أهذا أنت؟ هل تعرفني الآن؟ هل تعلم من أنا؟"

"أعرفك بالطبع يا ولدي الحبيب! يا أغلى الناس!"

"لكنك نسيت من أكون كما نسيت كل من كنت تعرفه في آخر أيامك! كم أنا سعيد برؤيتك يا أبي! أخبرني كيف حالك! إنني أدعو لك دائماً بالرحمة!"

"أعلم ذلك يا ولدي، فدعاؤك هو ما يخفف عني وحشة قبري!.

اسمعني جيداً الآن فلدي أمر مهم أخبرك به!".

"هل تحتاج إلى شيء؟ لقد حفرت بئراً باسمك لتوى، وأنا أتصدق دائماً بنية أن يصلك الأجر! هل تريدني أن أدفع المزيد؟ أخبرني يا أبي فأنا طوع أمرك!"

"جزاك الله عني خيراً يا ولدي، إنني أعلم بكل ما تفعله من أجلي، ولهذا جئت إليك من بين إخوانك كلهم، هل تذكر صديقي القديم إبراهيم عبد الله؟".

"بالطبع أذكره فقد كنتما كالإخوان، لكنه مريض جداً الآن، فهو في غيبوبة منذ فترة طويلة".

"لقد دخلت معه في شركة محاصة قبل أكثر من عشرين سنة، وقد اشترينا معاً بلوك أراضي في جنوب السرة".

"لكنني لم أجد أي أرض باسمك في تلك المنطقة!"

"لم تجدها لأنها مسجلة باسم الشركة وليس باسمي، ولن تجد أيضا أي سجل لتلك الشركة فقد كان ذلك في زمن لم تكن هناك سجلات رسمية لذلك النوع من الشركات".

"لا أفهم يا أبي! إذا لم يكن هناك سجل للأراضي ولا للشركة فكيف سنطالب بها؟"

"ستجد وثائق تلك الأراضي وكل مستندات الشركة في خزنة صغيرة يخفيها إبراهيم خلف لوحة تضمنا معاً في منزله، فقد رماها هناك بعد أن غضب علي لأنني اشتريتها بسعر غال بمقاييس تلك الأيام، فقد كان الخرف قد بدأ يتسلل إلى عقلي، وبعد وقت قصير كنت قد نسيت كل شيء كما تعلم".

"لكنك لم تذكر لنا يوماً شيئاً عن هذه الأراضي يا أبي!".

"قبل أن يصيبني الخرف كنت خجلاً مما فعلت، فلم تكن تلك المنطقة مرغوبة في تلك الأيام، ولهذا كانت الخمسون ألف دينار التي دفعتها ثمناً للأرض الواحدة ضرباً من الغباء حينها!"

"ما تقوله عجيب يا أبي! فإذا كنت أنت قد نسيت هذا الأمر بسبب الخرف، فماذا عن عمي إبراهيم؟ كيف ينسى أحد شيء كهذا؟".

"لم ينس إبراهيم شيئاً! إذ كان ينتظر موتي بفارغ الصبر ليستولى على كل تلك الأراضي! فقد كان لكل منا الحق في التوقيع عن الشركة مجتمعين أو منفردين! لكنه لحسن الحظ وقع مريضا قبل موتي".

شهق الابن متعجباً واستيقظ من نومه فزعاً، وحزن الأب فلم يتمكن من إكمال كلامه، وسيمر وقت طويل قبل أن يتمكن من إظهار نفسه له مرة أخرى، فقد أنهكت تلك الزيارة قواه.

وبطيبة وأمانة اندفع الابن يخبر كل إخوانه، سخروا منه في البداية لتصديقه لحلم سخيف كهذا، ولكن الطمع جعلهم ينضمون إليه عندما ذهب إلى بيت صديق أبيه وأخبر أولاده بما حلم به، احتمل الابن بمرارة ضحكات أولئك الأبناء واستهزائهم به، ومشاركة إخوانه لهم بالضحك، لكنهم صمتوا جميعاً مذهولين عندما رأوا تلك الخزنة حيث وصفها.

اقتسموا جميعاً حصيلة بيع تلك الأراضي، وكان ابنه سعيداً فقد ظن أنه نفذ وصية أبيه، لكن الأب كان غاضباً، فلولا أن ابنه المسكين قد استيقظ وقتها لكان قد أوصاه أن يحتفظ لنفسه بكل تلك الأموال، وأن لا يخبر إخوانه ولا يعطيهم شيئاً منها، فقد كان ذلك الابن الطيب الحبيب حمد هو وحده من يستحق تلك النهاية التي بعثها له من القبر.

***

النهاية

لابد أنكم تتساءلون الآن من أنا وكيف عرفت بكل هذه القصص عن جيراني، لكن لا تتعبوا أنفسكم بمحاولة تخمين أي من هؤلاء هو أنا، فلست واحداً منهم، فقد مت قبلهم بأكثر من خمسين سنة، وقد دفنني أهلي في هذا المكان المنعزل من المقبرة لبغضهم لي وعدم رغبتهم لأن أجاروهم في قبورهم.

ولو عرفتموني في حياتي لما لمتموهم، فقد كنت فاسد الأخلاق دنيء الطباع، لم أترك منكراً إلا وفعلته، حتى كرهني أهلي وتمنوا موتي ليرتاحوا من فضائحي، وكانت متعتي المفضلة هي الصبيان الصغار، فقد كنت أدفع لهم المال ليستسلموا لرغباتي، ولو كنت حياً لما أعتقت هذا الشاب الجميل فراس، فلم يكن في أيامي أحد بهذه الملامح العجيبة.

وإذا كنتم تتساءلون عن مصير الابن اللقيط لتلك الفلبينية فاطمأنوا، فسيعيش ويموت منبوذاً كما يجدر بأمثاله من أولاد الزنا، فلم يفكر أبوه يوماً أن يبحث عنه، بل لم يعلم يوماً أنه ابنه، فقد أخبرته خادمتهم الجديدة بعدد عشاقها ومن كانوا بعد أن فضحتها صديقتها خادمة البيت المجاور، فكرهها وكره نفسه عندما علم أنه كان يتشارك تلك المرأة مع أبيه وأخيه ورجل آخر، وربما كان هناك آخرون لا يعلم عنهم.

هل اطمأننتم الآن؟ هل ارتاحت قلوبكم القاسية؟

شش. اخفضوا صوتكم فقد اقتربت! تسألون من؟ ألا ترونها؟ إنه يسرية "الملسونة"! ها هي تعود إلى قبرها بعد أن تركته لبرهة قصيرة استغليتها لأروي لكم هذه القصص، أو لأسمح لبعض هؤلاء المساكين أن يسردوها بأنفسهم بسلام، وبدون أن تتدخل تلك الحشرية في كل ما يقال كعادتها، وإلا لما تمكنتم يوماً من معرفة قصة الخادمة الفلبينية، فيسرية هي أكثر واحدة هنا تكرهها، وتشتمها وتشتم كل الخادمات من أمثالها صباحاً ومساءً! والآن اتركوني فعلي أن أصمت حتى لا تعلم بوجودي.

كيف تسألونني لم أخاف منها؟ هل تعلمون أين أنا؟ إنني مدفون في نفس القبر معها! فقد درست عظامي ورمت بعد كل تلك السنين، فلم ينتبه الحفار لوجودي عندما حفر هذا القبر.

وها أنا الآن قد وقعت في شر أعمالي، ففوق كل العذاب الذي أعانيه فقد حكم علي أن أجاور هذه الثرثارة إلى الأبد.

فلو كان في قلوبكم ولو شيء يسير من الرحمة، فارحموني، وادعوا الله معي لتنبت الجرأة يوماً ما في روح أحد جيرانها، فيجاهر بالاحتجاج على ثرثرتها كما فعل ذلك التعيس، لتنشغل بالرد عليه وإذاقته مر العذاب جزاء ما قاله، ولأنعم أنا أخيراً بشيء من الراحة وبانتظار ذلك اليوم سوف أظل صامتاً مختفياً عن أنظارها إلى أجل لا يعلمه إلا الله، فالويل لي منها لو علمت بوجودي، أرجوكم لا تخبروها! أتوسل إليكم.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا