رواية إختلال 4 للكاتب سعد البدر

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-03-15

11-5-2015
الطريق الصحراوي
الشارع في تلك المنطقة الصحراوية، يبدو مهجوراً، لا أحد يمر إلا نادراً، يباين فصل الشتاء؛ إذ تجده مكتظاً بالسيارات التي تذهب إلى المخيمات المنتشرة في بقاع تلك الصحراء، حتى الشاحنات الصغيرة التي تحولت إلى بقالات متنقلة، تركت المكان بحثاً عن مكان آخر أكثر حركة وحيوية من هذا المكان.
على جانب الطريق، توقفت مركبة جيب بيضاء، فُتح غطاؤها الأمامي وإشارة التنبيه ذات اللون الأصفر تعمل بلا توقف، كان بداخل السيارة هاشم، كان ينتظر أن يبتسم له القدر، ويتوقف له "القاتل" الذي كان يستغل من تتعطل مركباتهم (حسب توقعاته) ليقوم بمهمته وهي القتل.
كان بحالة يرثى لها، فهو منذ أربعة أيام يتردد على هذا المكان ذاته لكن كما في كل يوم لا يتوقف له سوى بعض الناس الذين يسألونه إن كان يحتاج مساعدة ثم يذهبون بسرعة بعد أن يقول "لا" وكأنهم فرحوا بتلك الكلمة حتى لا يحملوا هم رجلٍ في طريقهم الطويل ويضطروا لإيصاله إلى مكان ربما هو بعيد عن وجهتهم المقررة. السجائر ملأت الكيس الذي وضعه هاشم على مقود السيارة، نزل ليرميها في الخارج وينظر إلى المكان، بدأ الظلام يحل ولا شيء يحدث، عاد إلى سيارته مفكراً بالرحيل والاستسلام، ضرب المقود بقوة.
- "لا جديد.. لا جديد".. تلك الفكرة لم تنفع أيضاً.
وقبل أن يدير محرك السيارة، وجد خلفه شاحنة نقل السيارات المعطلة، ترجل منها شابٌ قصير القامة، سمينٌ ذو وجهٍ دائري وأنفٍ صغير، يرتدي قميصاً أزرق وبنطلوناً رمادياً، يقترب من سيارة هاشم، ينظر إليه من خلف زجاج السيارة يلوح له بيده؛ يفتح هاشم الزجاج.
- أهلاً أخي.. هل تحتاج إلى مساعدة؟
ينظر إليه بطرف عينه ويجيبه:
- أحاول أن أقوم بإصلاح عطل السيارة.
يدخل رأسه داخل السيارة قائلاً: 
- إذا كنت تحتاج أن أنقل سيارتك، إلى كراج قريب، فأنا مستعد. ينزعج هاشم من تصرفه الغريب وإصراره!!
- شكراً لا أريد.
يخرج هاتفه ليشغل الإضاءة وينظر إلى داخل السيارة.
- لماذا لا تريد.. هل تنتظر أحداً أن يقلك من هذا المكان؟
يضع هاشم يده على الإضاءة، ويرد بغضب: 
- وما شانك أنت.. دعني وأذهب.
يتراجع خطوتين للوراء.. مردداً: 
- حتى سيارات الأجرة لم تعد تأتي إلى هنا 
ينظر إليه هاشم وقد ازداد شكوكه حوله وأخفى ابتسامة زهوٍ كادت أن تفضحه وهو يسأل: 
- لماذا لم تعد تأتي إلى هنا؟
ينظر إليه ذلك الشاب بتفحص قبل أن يكرر طلبه: 
- هل تريد أن أقل سيارتك؟
يهز هاشم ورأسه بالنفي.
يبتسم ذلك الشاب ويبتعد قليلاً، هاشم قرر أن يدير محرك السيارة لكنه يتوقف فجأة يفتح الباب، وينادي ذلك الشاب
- لو سمحت.. لو سمحت!
يعود الشاب مسرعاً إليه وهو يقول: 
- يبدو أنك تراجعت عن قرارك.. لن نختلف في السعر.
يضحك.. 
- لن نختلف بلا شك.
"ما تبادر في ذهن هاشم أنه لا يوجد كراج قريب من هذا المكان وأيضاً ناقل السيارات المعطلة لا يأتي "مصادفة" فأعماله مزدحمةٌ، فلماذا يبحث عن سيارات معطلة بالشارع ليعرض خدماته عليهم؟! ولماذا حاول التهرب من سؤال غياب سيارات الأجرة؟! يبدو أن هناك أمراً مريباً يستحق أن يبحث بأمره"
- أين الكراج القريب.. أوصلني إليه 
هز الشاب رأسه، قبل أن يسأله هاشم عن اسمه فيجيبه: 
- أخوك حسام عطوان 
مربتاً على كتفه 
- هيا يا حسام.. لننهي قصة تلك السيارة.
يقوم حسام بعمله بتركيب السلاسل الحديدية على المركبة لنقلها بينما هاشم يراقبه وتقوده أفكاره بعيداً "هل هذا الشاب هو القاتل.. أو ربما هو أحد أعضاء المجموعة التي ارتكبت تلك الجرائم.. أو ربما بريء.. سنرى ذلك".
ينتهي حسام من عمله ليطلب من هاشم أن يصعد معه الشاحنة، لينطلقا إلى الشارع.. صمت مطبق، يحاول أن يكسره هاشم، يشاهد صورة طفل معلقة أمام حسام ويسأل: 
- من هذا؟
يخرج الصورة المعلقة ليضعها أمامه.
- ابني طه.. أتمنى أن أراه قريباً. 
يعطيها لهاشم.. الذي قربها منه ..
- أين هو؟
يتنهد وكأنه يخرج لهيباً من داخله وهو يجيبه: 
- في بلدي.. لا أستطيع زيارته بسبب ظروف الحرب.
يعيد هاشم الصورة إلى مكانها وهو يقول ليواسيه: 
- أعانكم الله.. 
يصمت هاشم قليلاً قبل أن يقول بتردد
- أريد أن أسألك لكن إن وجدت السؤال محرجاً، فلا تجاوب أنت حر؟
ينظر إليه بابتسامة باهتة، رسمت بصعوبة على شفاهه وهو يجيب: 
- تفضل؟
يحوّل بنظره إلى الأمام..
- مع اشتداد الحرب في بلدك.. هل أنت مع النظام أم المعارضة؟
يبتسم حسام ويعدل صورة ابنه ويجيب: 
- أنا مع الأمن والأمان.. مع رؤية ابن وطني ينام مرتاحاً.. لا يخشى أن ينهار سقف بيته.. أو يفجع في اليوم التالي بوفاة قريب منه.. أن لا يذهب وسط البحار.. مجازفاً بحياته.. من أجل يابسة تقوده إلى بلد يجد فيه الأمان.. لكن في النهاية تبتلعه تلك البحار.. لترميه على شواطئ البلدان الأخرى التي يغص فيها المصورون ليلتقطوا صوره وهو جثة هامدة.. كم مشهد لا يزال راسخاً برأسي قتلوا دون سبب.. دائماً.. ضحية الحرب الأولى هم الأبرياء.. أما المنتصرون، فهم بلا شك.. المرتزقة ومَن على شاكلتهم!
يصمت هاشم، فجواب حسام كان "مراً" للغاية وتتلاشى شكوكه بعد أن أحس بنية هذا الرجل الصادقة، عاد الصمت مجدداً وحضر الصداع هاشماً وكأنه يزيد هم فشله هماً جديداً، أغمض عينيه، لكنه أحس أن العثرات أصبحت كثيرة، فتح عينيه ليرى الشاحنة تخرج من الشارع العام وتدخل الصحراء المظلمة!! فتعجب وسأل: 
- هل الكراج وسط تلك العتمة؟
يكتفي حسام بالابتسامة الباهتة ذاتها، فعاودت هاشم الشكوك وبدأ يشعر بالريبة والتوتر، تحسس المسدس الذي وضعه في جيبه الخلفي ليطمئن، دقائق حتى ظهرت بقعة ضوء من بعيد، اتضح بأنه بيت صغير يبدو بأنه قد بني حديثاً، يقاطع حسام تركيز هاشم وهو يشرح له: 
- كراج غير مرخص، لكنه يعمل بجدٍ واجتهاد.. لا تقلق ستحصل على أفضل النتائج.. وبسعر زهيد جداً.. خاصة أنني أساعد صاحب هذا الكراج بإيصال بعض السيارات المعطلة إليه وكذلك أتعلم منه تلك المهنة.. ستراقبني بعد قليل وأنا أصلح سيارتك.. سأصلحها جيداً!
يغالب هاشم نفسه ليبتسم ويزيح ألوان التوتر عن عينيه ويشعره بالطمأنينة، لكن جل تفكيره كان منصباً أن حدثاً مغايراً سيحدث له وأنه على بعد خطوات من لقاء القاتل، فوجه له سؤال: 
- ناقل السيارات المعطلة أعماله مزدحمة ولا يتوقف للناس مصادفة!!
التوتر بدأ ظاهراً على حسام بعد هذا السؤال، حاول في البداية أن يوجه نظره إلى المرايا الأمامية وكأنه يبحث عن شيء خلفه، قبل أن يرد: 
- صحيح.. لكنني كنت في طريق العودة إلى منزلي ورأيتك.. فقلت في نفسي لماذا أرفض رزقاً من الله أتأني.. فتوقفت.
لم يقتنع هاشم بالإجابة وعادت أفكاره تتوجه إلى ذلك الكراج! 
وصلا إلى المكان، طلب حسام منه النزول والجلوس في الكرسي القريب من الباب حتى ينادي "عبد المولى" الذي يدير هذا الكراج، تركه ودخل بينما جلس هاشم على الكرسي يلتفت يميناً ويساراً، يراقب المكان، يفكر كيف أن كراج في منتصف الصحراء، وغير مرخص! بدا غير مصدقاً لما قاله حسام!
- أخي هاشم.. هل تتفضل إلى الداخل.
(صوت حسام ينادي من الداخل)
يهم بالدخول، يدفع الباب، ينظر، لا أحد، ثوانٍ قبل أن يشعر بحركة خلفه، يلتفت ليجد حساماً يحمل آلة حادة، ودون تفكير وروية أخرج هاشم المسدس بسرعة وفجر طلقة له.. استقرت في قدمه.
وسط دهشة من حسام الذي سقط وهو يتأوه من الألم بينما يقترب منه هاشم ويصوب المسدس على رأسه وهو يقول: 
- هل هناك أحدٌ آخر في هذا المكان؟.. تكلم 
يحاول حسام التقاط أنفاسه.
- اهدأ.. اهدأ.. أبعِد ذلك السلاح عني أولاً، أرجوك.
يقطع حوارهما هذا صوت محرك السيارة التي جاء من الخارج، فيندفع هاشم نحو الباب ويخرج رأسه ليجد سيارة صغيرة تنطلق بسرعة بعيداً عن المكان، فيعود للنظر إلى حسام موجهاً اتهامه: 
- العصابة تهرب إذاً، يا جبناء.. إلى أين سيفر.. سنقبض عليهم جميعاً وستواجه أنت وهم حكم الإعدام.
حسام الذي كان مرتعباً بما فيه الكفاية ويحاول إيقاف الدماء من على جرحه لم يكد يستمع لشيء مما يقوله هاشم فطلب منه أن يقف على قدميه ويخرج لكن حساماً لا يزال يضغط على ساقه متوجعاً دون أن يرد، نفذ صبر هاشم فأطلق طلقةً على السقف، ففزع منها حسامٌ وتملكه الذعر والخوف وبدأ بالزحف محاولاً الخروج من المكان، يراقبه هاشم، الذي أخرج هاتفه ليتصل على الشرطة، فتوقف حسام، وخلع قميصه وشرع بلفه على الجرح، عينا هاشم تراقبانه، اقترب منه ووضع المسدس على رأسه موجهاً له اتهاماً وهو يسأل: 
- لماذا ارتكبت كل تلك الجرائم.. ما دوافعك؟
يطأطئ حسام رأسه إلى الأرض بيأس ويدخل في نوبة بكاء شديدة، وهو يردد: 
- أهرب من الموت في بلدي.. ويلاحقني إلى هنا.. يا لحظي العاثر! 
يصرخ هاشم: 
- كفاك تمثيلاً، مثلت بأن لديك ابناً.. وأنك عانيت من الحرب.. وأنت مثلك مثل القتلة الآخرين.. تقتل بدم بارد.. بل وتشوه الجثث بسادية ووحشية!!
ينخرط حسام بالبكاء دون انقطاع، دقائق حتى سمعا أصوات دوريات الشرطة تقترب، اقترب هاشم من أذن حسام: 
- نهايتك اقتربت.. اقتربت بشده. 
متألماً باكياً ومحاولاً إيقاف النزيف، يردد عليه بصوت متحشرج: 
- لماذا.. وماذا فعلت أنا؟
يجلس هاشم بالقرب منه وهو يجيبه بسخرية: 
- ستعلم بعد أن يقتادوك إلى السجن.
يزداد ألم حسام، قبل أن يردد.. 
- كنت أريد العودة إلى منزلي.. لماذا قادني حظي العاثر إليك.
بعد ساعة.. كان المكان مكتظاً بالشرطة والإسعاف ورجال التحري ورفع البصمات بينما يجلس هاشم على كرسي بالقرب من المكان، يجري اتصالاته مع أبو سالم ويبشره أن القضية في طريقها للحل بعد أن انتهى من أبو سالم، اتصل على الجلندي ليخبره بما حدث، مختتماً حديثه المفصل عن ما حث بالقول.. 
- الأمور تسير وفق "ما نريد"!
يعود بعدها إلى المنزل، مزهواً بهذا الانتصار، فيجد ضحى تقف أمام الباب تنتظره، يقترب منها ليقول لها: 
- أخيراً.. ابتسم الحظ في وجهي.. أخيراً.. سأكون المحقق رقم 1 في هذا البلد.
تكتفي ضحى بمراقبته دون أن تنبت ببنت شفة، تراقب أنغام الفرح وهي تطربه وتجعله يحرك جسده بطريقة تشبه "تشارلي شابلن" لكن دون عصا 
يدخل الغرفة ويغلقها خلفه بينما ضحى تتمتم.. 
— يا رب.. فرجٌ قريبٌ!

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا