6-5-2015
قسم التحقيقات في مبنى الأمن الجنائي
غرفة كبيرة، يتوسطها مكتبٌ فخمٌ، يجلس خلفه رجل يرتدي البزة العسكرية، ويجلس أمامه رجلان، يرتديان الدشداشة والغترة والعِقال، كانت وجوههم متجهمةً، يهز الرجل صاحب البزة العسكرية رأسه ويرفع الهاتف القريب منه:
- أريد هاشماً حالاً.
دقائق معدودة، حتى طرق الباب، ودخل ذلك الشاب بخطوات ثابتة لكن وجهه لم يستطع أن يخفي ملامح الخوف والقلق.
اقترب من المكتب، وخاطب من يجلس عليه:
- هل طلبتني أبو سالم؟
نظر إليه بحدة وقال:
- اجلس.
يجلس وينظر للرجلين أمامه ويلقي عليهما التحية لكنهما لم يردا عليه بالمثل!! فوجه نظراته إلى أبو سالم الذي يتصفح الأوراق التي أمامه.
- هاشم، أربعة أشهر دون أن تأتي بدليل واحد على ضحايا "جريمة الطريق الصحراوي"، الإعلام مازال يتساءل، أهالي القتلى أيضاً!! هل تعرف حجم الضغط الذي يقع عليّ وأنا أتلقى ذلك الكم من الاتصالات وأقرأ تلك الصحف التي تُشكك في مدى قدرتنا على إمساك المجرمين؟
يصمت هاشم وينظر للأرض ثم يرفع رأسه ليتحدث لكن "أبو سالم" لم يهبه فرصة قول أي كلمةٍ وقاطعه يقول:
- لا تقل لي إنك حاولت وأنك بحثت ولم تجد دليلاً، مهمتنا هنا ليس أن نبحث عن المبررات.. لكن أن نجد الحلول.
ينظر أبو سالم للرجلين الجالسين أمامه ويتبع:
- الذين أمامك هما والدي القتيلين يوسف وعلي، يطلبان مني أن مبحث عن شخص آخر ليتسلم ملف القضية.. وأنا طلبت منهما أن يمهلاك فرصةً أخيرةً ولم يقتنعا.. أريدك أنت أن تقنعهما بأسبابك وكيف ستحل تلك القضية الشائكة؟
نظر هاشم للرجلين، رمقاه بنظرات حادة وكأنها تهم بالفتك به! فوجه نظره للأسفل قليلاً وكأنه يوضح مدى أسفه لخسارتهما وقال: أقدر هذا المصاب الجلل.. لكن أتمنى أن تمهلاني فرصةً أخيرةً.. شهراً واحداً فقط.. وإذا لم أفعل شيئاً.. فسأبتعد عن ملف القضية وأتركها لأي زميل آخر.
- أسبوعين فقط.
قالها أحد الرجلين الجالسين أمامه وهو يرفع إصبعين ليحدد الرقم ثم سانده الجالس بالقرب منه مؤكداً:
- نعم، أسبوعين.. لا أريد أن يهنأ القاتل بمهلة "طويلة" صبرنا عليك كثيراً.. إن لم تكشف لنا القاتل.. فسنتحدث للإعلام.. وسنحملك أنت المسؤولية والمسؤولين عليك كذلك.. أنت لا تشعر بما نشعر به.. هل جربت شعور أن ابنك المقتول غدراً.. لا تعرف قاتله أو سبب قتله.. يذهب بدم بارد.. ويتم التمثيل بجثته بطريقة مقززة.. هل تشعر يا فتى!؟
وجّه كلامه إلى أبو سالم بعد أن وقف مستعداً للرحيل برفقة الجالس بجانبه..
- أرجوك.. لن نصبر أو ننتظر أكثر.. وإذا لم يلتزم يما قاله لنا.. فسننتظر منك أنت الحل.. أو سنذهب إلى وسائل الإعلام وإلى المسؤولين لنخبرهم بما يحدث.. من إهمال ولا مبالاة من قبلكم.
خرجا من المكان بينما ظل أبو سالم وهاشم يتبعان بأعينهم تحركاتهما وإيماءتهما الغاضبة، تحدث أبو سالم "بصوت أعلى" مما كان يتحدث به قبل دقائق للرجلين:
- يا هاشم.. إن لم تستطع وحدك أن تفك اللغز.. أستطع أن أمنحك المساعدة.. لقد فرغ المحقق جعفر قبل يومين من قضية المخدرات التي انشغل بها طوال الأشهر الماضية واستطاع أن يُسهم في القبض على العصابة ويقدمهم للعدالة.. كذلك المحقق حزام انتهى من الدورة التدريبية التي انشغل بها في المملكة المتحدة ونال درجة متقدمة بين مجموعة من المحققين على مستوى العالم.. سيساعدانك بكل تأكيد.
يصمت هاشم.. قبل أن يتحدث بصوت خفيض:
- سيدي.. أسبوعين فقط.. إن لم أفعل شيئاً.. فسأنسحب وأتركها لمن أنت تراه مناسباً!
هز أبو سالم رأسه موافقاً ولكنه في الوقت ذاته كان يفكر بالاتصال بـ "جعفر وحزام" من فور خروج هذا الشاب من مكتبه فهو يعتقد في قرارة نفسه بأن هاشماً لن يستطيع فك اللغز، فهذا المحقق لم يستطع أن يحل قضيتين سبقتا تلك القضية وتولى الأمر بعدها جعفر وحزام وأسهما بحلها وبشكل سريع، وهذا ما جعل أبو سالم يفقد ثقته به.
يعود هاشم إلى مكتبه.. يجلس ويستند إلى الكرسي. يخاطب نفسه بصوت خافت متبرماً:
- جعفر وحزام.. حزام وجعفر.. وكأنهما شارلوك هولمز وكونان ايدوغاوا.. فالأول يهدف إلى إثبات أنني مجرد شخص فاشل، والآخر لا يختلف كثيراً عن حزام وأعتقد أنه يريد مكتبي بسبب إطلالته على الشارع العام.
يدفع بعض الملفات بعيداً عنه لتسقط على الأرض..
- أبو سالم لا يجيد سوى أن يهددني بهما في كل مرة.. من أجل فشلي في قضيتين، أصبحت لا أنفه لشيء!! أحمق لا يعرف كيف يدعمني أو يساندني.. آه كم أتمنى أن يصل إلى التقاعد القانوني.. سأحتفل برحيله.
يعتدل بجلسته ليُخرج الملف الذي يحوي أوراق القضية، يراجع صور القتلى التي شاهدها مراراً وتكراراً، يقرأ التفاصيل، إفادات أهالي القتلى ...
يقف على قدميه.. يصرخ:
- لا شيء جديد.. لا شيء! كيف سأحل تلك المعضلة في أسبوعين!!
يرمي الملف بعيداً عنه لتتناثر أوراقه في كل مكان.
يمسك هاتفه ومفاتيح سيارته وعلبة السجائر ليضعها في جيبه، ويتجه إلى الباب للخروج، لكنه يتوقف فجأة، وكأنه تذكر شيئاً
- يجب أن أستشير "الجلندي" ربما يساعدني!
* * *
الساعة تشير إلى الثالثة ظهراً، تجلس ضحى ذات البشرة السمراء والشعر الكستنائي الطويل.. يميز وجهها الدائري شفتان بارزتان وسلسال فضي في طاولة وضع عليها عدة صحون فارغة، يتوسطها إناءٌ كبيرٌ، تمسك بيدها معلقةً وتضرب بها الصحن الذي ركزت عيناها عليه وكأنها تنتظر أمراً ما، دقائق حتى سمعت صوت الباب، يفتح بهدوء، خطوات أقدام تقترب منها وما إن أطل صاحبها حتى قال بتذمر:
- لا أشم رائحة "الأرز"؟!
تبتسم ضحى ودون أن تنظر إليه تجيب:
- أخبرتك بالأمس.. لا أرز اليوم.. سنكتفي بكرات اللحم والحساء.
ترتفع نبرة صوته:
- وأنا أريد الأرز.. هل سأضطر مجدداً أن أذهب إلى المطعم القريب.. فأنا هنا أعيش مع زوجة لا جدوى من وجودها.
تلفت ضحى بعينيها الناعستين؛ لترمق ذلك الرجل بنظرة حادة قبل أن تقول وبلهجة حادة: "هاشم".. اجلس مكانك!!
يصمت هاشم، ويحرك الكرسي القريب ويجلس، وتكمل ضحى حديثها: أخبرني.. هل حدث أمرٌ جديدٌ في تلك القضية.. فمنذ أن كلفت هذا وأنا شخصاً آخر.. لا تروق لي أبداً!
يفتح هاشم الإناء دون أن يهتم لكلامها، يخرج قطعة لحم ثم يسكب الحساء..
- هل سمعتني..
قالتها ضحى بصوت هادئ فرد عليها بصوت يشابهه:
- نعم.. سمعتك.
يتنفس بعمق، يوجه نظرته إليها:
- أولاً.. منذ متى وأنا أروق لك أو العكس.. ثانياً لا أعلم لماذا تلك القضية تطاردني في كل مكان، أنا هنا في منزلي، لست في مكتبي، أريد أن أحظى بالهدوء.. أريد أن أهنأ بأكلي.. لا أن أكرر حديثي الذي أخبرته لكل موظفي قسم التحقيقات هناك.
تبتسم ضحى، تعيد النظر إلى صحنها وتقول:
- أعلم جيداً أنك لا تستمع لنصائحي.. لكن أتمنى أن تفكر جيداً في نفسك.. في الفشل الذي يلاحقك في حل القضايا.. ومدى تأثيرها عليك..
يقف هاشم وينظر إليها بفورة غضب ويقول:
- هل تعلمين.. كنت أتمنى أن أجد رسالة إيجابية هنا.. من زوجة تؤمن بقدرات زوجها.. لكن كما توقعت.. لا جديد.. أنت كأبو سالم.. لا تعرفان معنى "المساندة"، تفكرين فقط في الإزعاج الذي أتسبب به كل ليلة وأنا أقلب الأوراق بحثاً عن "حل" لتلك القضية..
تقاطعه ضحى..
- لكن الأمر فوق طاقتك يا رجل.. ستفشل!!
يبعد الأكل عنه ويوجه نظره إليها..
- علي أن أعترف بأمر بالمناسبة.. أنت الخطأ الوحيد الذي ارتكبته أمي.. إلى الآن لا اعلم لماذا اختارتك أنت؟! كان الأجدر أن أبقى عزباً للأبد.
دفع الكرسي بقوة وذهب بعيداً وهو يردد:
-.. رحمك الله يا أمي.. رحمك الله.. لماذا فعلتِ بي هكذا!!
بقيت ضحى في مكانها دون حراك، تنظر إلى الطبق، قبل أن تضع يدها على رأسها ثوانٍ وتطلق ضحكتها البائسة وتقول:
- رحمها الله.. تدرك جيداً أن لا أحد بمقدوره تحملك غيري!!
يجلس هاشم في غرفته وهو لا يزال يقذف شتائم بذيئة، يفتح النافذة، يخرج سيجارة من جيبه ثم يلحقها بكبريت ليشعلها، ينفث الدخان وهو ينظر إلى الشارع المزدحم، أصوات السيارات، رائحة عوادم الدخان، كان المنظر كئيباً بما يكفي ليسمح له باستعادة ذكرياته الحزينة، وتذكر أمه، كيف كانت تعتني به، تدعمه في دراسته، تقف معه في أثناء التعثر، ينظر إلى السماء مناجياً كطفل:
- أمي.. أأنت في السماء.. أمددي يديك لقلبي إذاً.. أمي أتمنى أن تكوني في الجنة.. فهذا مكانك.. لن أنسى دعمك لي.. مساندتك التي لم أجدها بعد رحيلك.. لا أعرف كيف أصف لك حجم فقدانك.. فالحياة بعدك لم تعد حياة.. أصبحت بلا معنى.. اجزم بأنني ميت.. لا أعلم كيف أتنفس وأعيش بين الآخرين.. مازلت يا أمي أجهل.. لماذا ضحى؟ لماذا تلك الفتاة التي تكبرني بـ "10" أعوام ما الذي جعلك تعجبين بها. لماذا أصررت عليها هي فقط.. لم تكوني تصري على أي أمر.. لكن ضحى اختلف معها الأمر، استخدمت كل العبارات الممكنة من الرضا والزعل حتى أوافق على أن أتزوجها، أرغمتني على الزواج وأنا أعاني إلى هذه اللحظة من عدم انسجامي معها!!
ما الذي تمتلكه ضحى ولم تمتلكه غيرها.. منذ زوجي بها وأنا محبط.. فهي عصبية.. كثيرة الملام، تسرح غالباً، لا أعرف بماذا تفكر، مع الأيام.. أصبحت لا أطيق حتى النظر إليها، أمي لقد تخطت ضحى الأربعين عاماً.. أعرف أن القضية ليست قضية العمر، لكن حتى في التفكير نحن مختلفان جداً.. جداً يا أمي لقد أخبرتك مَنِ الفتاة التي أريد.. تدركين جيداً أنها "خديجة" لقد أخبرتك عنها مراراً وتكراراً لكن.. كنتِ تبحثين عن أي سبب.. حتى وإن كان تافهاً.. لتجعلي منه قضية وعائقاً.. أخبرتك أنها تريدني وأريدها.. لكن إرادتك وقرارك منعني لم أستطع أن أقف أمامه.. كان الفيصل في أن تنتهي قصتنا.. عذراً يا أمي.. لا أريد أن أعاتبك فأنت من حققت لي الكثير من الأحلام، ضحيت بكل ما هو غالٍ.. من أجلي.. رحيل أبي المبكر.. لم يجعلك ضعيفة، بل زادك قوةً من أجل أن تحميني من هذه الدنيا.. حتى آخر لحظاتك، تسألين عني وتهتمين أمري.. كم أفتقدك!
أغرورقت عينا هاشم بالدموع، مسحهما بكمه..
- آه أمي.. وألف آه.. لا أعرف إلى أين ستقودني الحياة من بعدك.
دقائق قبل أن يخرج هاشم هاتفه ويجري اتصالاً:
- أهلاً الجلندي، الساعة التاسعة مساء غداً في المكان المعتاد، أحتاجك أكثر من أي وقت مضى.
يغلق الهاتف ويذهب إلى السرير ليرمي جسده وينظر إلى السقف مفكراً في القضية.. وضحى.. وأمه!
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا