ماذا يحدث هنا
كل شيء جاهز الآن.. لقد كنت أراقب تلك العمارة السكنية منذ شهر تقريباً.. منتظراً سفر أحد سكانها مع أفراد عائلته في إجازتهم الصيفية كي أنتهز الفرصة وأسطو على ممتلكاتهم.. وها قد حانت الفرصة.. لقد قمتُ بتحرياتي الخاصة جيداً.. وعلمتُ أن صاحب الشقة من جنسية عربية.. ويشغل منصباً هاماً في إحدى الشركات.. وله عائلة صغيرة تبدو على أفرادها ملامح الحياة الكريمة.. مما يرجحُ وود شيءٍ يستحق السرقة في شقتهم.. أو هذا ما أتمناه على الأقل.. إنها المرة الأولى التي أقوم فيها بعملية سرقة في هذه المنطقة.. فمن المهم تغيير مكان أنشطتي غير القانونية كي لا يكثف رجال الشرطة تحرياتهم في منطقة محددة.. مما سيثعّب عملية القبض عليّ.
إنها طبيعة حياتي.. فقد اعتدتُ السرقة منذ عدة سنوات.. بعد أن فشلتُ في كل شيء آخر في حياتي للأسف.. خاصة وأنني أكرهُ أن أكون من هؤلاء الذين يبحثون عن وظيفة براتب شهري.. أرى هذا قمة البؤس.. إذ سأبدو حينها مثل الثور المربوط في ساقية!!.. وستكون حياتي عبارة عن روتين قاتل أكرهه.. أما السرقات.. فرغم مخاطرها.. إلا أنها منحتني مبالغ كبيرة جعلتني أقطن في شقة يستحيل أن أحصل عليها براتب وظيفي.. والغريب أن سرقاتي ساعدتني على امتلاك ثبات أعصاب قد يحسدني عليه البعض.. حتى بتُ لا أشعر بأي خوف!!.
بكل تأكيد آمل أن أتوقف عن السرقة يوماً ما.. ربما أنتظر اللحظة المناسبة فحسب.. أن أضرب ضربة العمر وأسرق مبلغاً هائلاً يجعلني بأمان مدى الحياة.. هذا الأمان الذي بحثتُ عنه كثيراً من دون جدوى.. ومنذ طفولتي ربما.. بسبب أبي الذي تزوج 3 نساء وأنجب من كل منهن كومة أبناء.. ثم تركنا نواجه العالم دون اهتمام أو رعاية.. فكانت النتيجة المتوقعة أن يفشل معظمنا في دراسته.. لنفترق تدريجياً بعد وفاة والديّ.. وينشغل كل منا في حياته الخاصة.. حتى أنني لم أرَ أو أقابل أياً من أشقائي منذ سنوات.. وأصبح وقتي متوزعاً بين التخطيط للسرقات.. وتنفيذها.. مع بعض العلاقات العاطفية العابرة التي تتجه دوماً إلى طريق مسدود.. بالطبع.. فشخص مثلي يستحيل أن يتزوج أو يعيش حياة مستقرة.
نعود من حيث بدأت القصة.. كنت أقول أنني أعددتُ العدة لسرقة تلك الشقة بعد سفر أفرادها منذ يومين فحسب.. حين رأيتهم يقومون بوضع حقائبهم في سيارة كبيرة يقودها أحد معارفهم ليأخذهم إلى المطار.. ولحسن الحظ أن مراقبتي الطويلة وتحرياتي المكثفة جعلتني أعرف مكان شقتهم بالضبط.. بل وأعرف كل شيء عن أصحاب العمارة.. بعد أن دفعتُ مبلغاً من المال للحارس كي يمنحني البيانات التي طلبتُها.. بالطبع فعلتُ هذا كلّه متنكراً.. من السهل على الرجل أن يتنكر.. لحية مزيفة.. نظارات.. قبعة.. إلخ.
كانت الساعة تشير إلى الواحدة فجراً.. حين خرجتُ من شقتي مرتدياً ثياباً رياضية سوداء مع حقيبة صغيرة تحتوي كل ما سأحتاجه.. والواقع أن السينما قدمت لنا أدق صورة ممكنة للصوص.. إذ لم يعد يخفى على أحد أدوات السرقة التي يستخدمها اللص عادة.. فها أنا أضع حقيبتي اليدوية السوداء في صندوق سيارتي.. ثم أركب السيارة وأقودها متجهاً إلى العمارة السكنية إياها.. والشوارع شبه خالية.. لم أكن أشعر بأي توتر عصبي كما ذكرت.. فقد اعتدتُ الأمر.. وأعرف جيداً الاحتياطات التي يجب اتخاذها.
وصلت إلى العمارة السكنية وركنتُ سيارتي بمسافة بعيدة نسبياً.. ثم اتجهت سيراً إلى المدخل الرئيسي.. أعتقد أن هناك كاميرا مراقبة عند المدخل.. لكن هذا لا يهم.. إنني أرتدى وسائل التنكر التي قابلتُ بها الحارس.. وهذا ما يجعلني أسير بشيء من الجرأة.. وأستقلُ المصعد متجهاً إلى الدور السادس.. صاعداً إلى الشقة المطلوبة.. لن أتطرق إلى عملية فتح الباب.. فهذا الأمر لم يعد يشكل أي عائق بالنسبة للص محترف مثلي.
لحظات قليلة قبل أن أجد نفسي داخل الشقة.. لقد تركوا بعض الأنوار مضاءة.. هذا جيد.. ألقى نظرة سريعة حولي.. إنها شقة أنيقة جداً.. أتمنى أن أعثر على أشياء تستحق السرقة وألا يذهب تعبي سدىً.. أقول هذا لنفسي وأنا أمشي بخطوات بطيئة حذرة متجهاً إلى إحدى الغرف التي أتضح أنها غرفة النوم.. ثم.. ما إن وطأت قدمي الغرفة.. حتى سمعتُ حواراً ما.. وفتاة تبكي فجأة.. إنها في الغرفة المقابلة.. كيف يحدث هذا؟!.. لم أكن أتوقع وجود أحد في الشقة!!.. يفترض أنها خالية تماماً!!.. تجمدت في مكاني وتشنجت عضلاتي كلها.. ثم سمعتُ الفتاة تقول بألم وبصوت مرتفع:
- لم أظن يوماً أنك ستنسى وعودك وتغدر بي بهذه الطريقة!!.
ليرد عليها صوتٌ ذكوريٌ هادئٌ:
- لا أسميه غدراً.. إنك لا تعرفين كيف تحافظين عليَّ.. لقد حاولتُ كثيراً مد الجسور بيننا.. حاولت التفاهم معك.. لكنك تتعاملين معي بكبرياء.. فأنتِ لا تحترمين عملي ولا تحترمين عائلتي.. ولا تحبين حتى طباعي.. إنك تطلبين مني باستمرار أن أتغير.. في حين لا تقبلين أي نقد يوجَّه إليكِ.. وكأنك خالية من العيوب.. من الطبيعي أن أبتعد تدريجياً وأبحث عن حب جديد.. عن فتاة تقدّر كل ما أبذله من أجلها!!.
لترد الفتاة بعصبية:
- هذا لا يبرر خيانتك.. لا يبررها أبداً!!.. كان بإمكانك إنهاء زواجنا لتمضي في حال سبيلك!!.
فيقول بحزم:
- أنهي الزواج وأنتِ حامل؟!.. مستحيل.. ما ذنب الطفل الذي سيولد ويجد نفسه في أسرة مفككة؟!!.
تصرخ به بعصبية:
- وما ذنب الطفل كي يأتي إلى هذا العالم ويكون والده شخصاً خائناً حقيراً مثلك؟!.
صوت صفعة قوية تبعتها شهقة من الفتاة.. ثم خطوات سريعة متجهة إلى الباب وكأن أحدهم سيخرج ليجدني أمامه!!.. لم تكن تلك الثواني القليلة كافية للهرب من الشقة.. ولم يكن أمامي سوى دخول غرفة النوم والاختباء تحت السرير.. هنا.. يجب أن أعترف أنها المرة الأولى التي أفقد فيها أعصابي وأشعر فيها بهذا التوتر الغريب منذ زمن بعيد.. ربما لأنني لم أتعرض لموقف كهذا من قبل!!.
يخرج الرجل من تلك الغرفة متجهاً إلى غرفة النوم، حيث حسبتُ هناك أنفاسي تماماً كي لا يشعر بوجودي.. في حين تدخل خلفه الفتاة وهي تصرخ به وتشتمه.. وتعده بأن يدفع ثمن ضربه لها.. لكنه دفعها بعنف لتقع على السرير.. حينها.. فتحت الفتاة أحد أدراج (الكومودينو) ... وأخرجت مسدساً على ما يبدو.. إذ سمعتُها تهدد الرجل وتطلب منه الابتعاد والخروج وإلا أطلقت النار!!.. المشكلة أن الرجل لم يخشَ تهديديها.. بل أطلق ضحكة ساخرة وهو يدَّعي أنها عاجزة عن قتل دجاجة.. فكيف ستقتله؟!.. ثم أخبرها بطريقة استفزازية واضحة أنه سيذهب إلى الغرفة الأخرى ليأخذ المال الموجود في الخزينة!!!.. وسيخرج من هنا ليمضي ليلته عند عشيقته.
الفتاة تشتاط غضباً.. وتتبعه إلى الغرفة الأخرى وهي تصرخ به وتطلب منه أن يمنحها الرقم السري للخزينة.. وتهدد بأنها لن تسمح له بأخذ هذا المبلغ الهائل لوحده.. السجال يستمر بينهما بعض الوقت.. قبل أن أسمع صوت إطلاق النار.. ليعم الهدوء المكان!!.. وأسمع بعد لحظات صوت بكاء ونحيب الفتاة!!.. هنا فقدتُ السيطرة على أعصابي.. ونهضتُ من تحت السرير متجهاً بسرعة البرق إلى الباب لأخرج من الشقة أخيراً!!.. لقد شهدتُ جريمة قتل.. لكني لا أجرؤ على الإبلاغ عنها.. فبأية حجة سأبرر وجودي في مكان الجريمة؟!.. ثم.. كيف يتواجد هذا الرجل مع الفتاة في الشقة أصلاً رغم سفر أصحابها؟!.. لا أملك الإجابة.
أتذكر أنني قدتُ سيارتي بتوتر شديد وبذهن مشتت.. إلى أن وصلتُ إلى شقتي.. فجلستُ هناك محاولاً التقاط أنفاسي.. ولا أعرف كم مرَّ من الوقت قبل أن أتمكن من السيطرة على أعصابي.. لأفكر بتلك التجربة المروعة وما شهدته خلالها لحظة بلحظة.. و.. أتذمر كلام الرجل عن الأموال الموجودة في الخزينة في الغرفة الثانية.. لكن.. لماذا لم يُودع صاحب الشقة أمواله في البنك مثلاً؟!.. هل يمارس نشاطاً غير قانوني؟!.. وقبل كل شيء.. من هما هذان الشاب والفتاة؟!.. لم يكن يبدو صاحب الشقة كبيراً في السن ليكون له بنت أو ولد بهذا العمر!!.. هل يعقل أن أكون قد دخلتُ الشقة الخطأ؟!.. مستحيل.. لقد كنت شديد الدقة والحذر.. أعتقد أن ذلك الحارس الأحمق أخطأ في رقم الشقة!!.. فهذا ليس مستبعداً.. لقد كان كبيراً في السن.. وهناك احتمال لا بأس به أن ذاكرته ليست على ما يرام.. أو ربما كذب عليَّ لغرض ما؟!.
لم تعد تلك التساؤلات مهمة الآن.. فقد وقعت بالصدفة على صيد ثمين للغاية!!.. هناك أموال في تلك الشقة.. وقد سمعتُ الفتاة تقول أنها لا تعرف الرقم السري للخزينة.. ولا أظنها اعتادت القتل.. أي أنها -على الأرجح- هربت من شدة الخوف بعد أن ارتكبت جريمتها.. ولا أعلم إن كان أحدهم اكتشف وجود الجريمة أصلاً!!.. هل سمع الجيران صوت إطلاق النار؟!.. أو اعترفت الفتاة بجريمتها؟!.. الطريقة الوحيدة للتأكد أن أذهب إلى الشقة مساء الغد.. فأشعة الشمس بدأت تخترق ستائر غرفتي.. ولم يعد بالإمكان الخروج الآن والتستر بالظلام.
في اليوم التالي.. كنت قد عقدت العزم على الذهاب إلى العمارة السكنية ذاتها واستكشاف الحي أولاً.. كي أتأكد أن أحداً لم يكتشف وجود الجريمة بعد.. لأستولي بعدها على المال.. لكن.. عند وصولي.. بدا لي المكان هادئاً تماماً.. لحسن الحظ أنني كنت جاهزاً لاقتحام الشقة.. رغم التوتر الشديد الذي ظل مسيطراً عليَّ.. عالماً أنني سأجد هناك جثة على الأرجح.. وأنني يجب أن أكون مستعداً لما سأراه.. فأنا لم أكن قريباً من أية جثث يوماً ما.
دخلتُ العمارة السكنية مستخدماً وسائل التنكر ذاتها.. وبالطبع لم أشأ زيارة الحارس والتأكد منه بخصوص رقم الشقة.. لم يعد هذا مهماً الآن.. لأنني هذه المرة أعرف ما أريد.. اقتحام شقة قد أجد فيها ما يغنيني عن السرقة طوال العمر.. أتمنى أن تكون هذه عمليتي الأخيرة.. هكذا ظللت أردد لنفسي وأنا أصعد إلى الطابق السادس متجهاً إلى الشقة ذاتها.. حيث عبثتُ قليلاً في القفل وفتحته بخبرتي.. لأدخل بالطريقة نفسها.. وبخطوات بطيئة حذرة.. هذه المرة سأتجه إلى تلك الغرفة مباشرة.. لكن.. ما إن دخلتُ.. حتى وجدتُ المكان خالياً تماماً!!!.. ظللتُ مشدوهاً التفتُ حولي للحظات.. أتساءل.. هل يعقل انَّ الفتاة أتت لاحقاً وأخذت جثة الرجل لتخفيها في مكان ما؟!.. لا يمكن.. ليس هذا بالأمر اليسير.
جلست أفكر وأنا ألتفتُ حولي بقلق من دون أن أفهم ما يحدث هنا.. ربما عليَّ أن أنسى كل شيء وأبحث عن الخزينة فحسب لأخرج بعدها سريعاً.. إنها غرفة مكتب كبيرة نسبياً.. تحتوى على مكتبة تحتل جداراً كاملاً وتمتلئ بالكتب.. أين الخزينة يا ترى؟!.. هل قام صاحب الشقة بإخفائها خلف الجدار مثلاً؟!.. أم خلف الكتب؟!.
بدا منظري مضحكاً إلى حد ما وأنا أتحسس الجدار.. ثم أضع يدي على الكتب وأبحث خلفها من دون أن أنتبه لمرور الوقت.. قبل أن أسمع أحدهم يهم بفتح باب الشقة.. لم أجد مكاناً أختبئ فيه في غرفة المكتب هذه.. لذا خرجتُ وذهبت بخطوات سريعة إلى غرفة النوم ذاتها واختبأت في المكان نفسه.. تحت الفراش.. وأنا أتساءل بقلب يخفق بعنف عن هوية الزائر هذه المرة!!.. لقد تحولت الشقة فجأة إلى مزار!!!.
كنت أكتم أنفاسي بكل قوتي.. أحاول أن أسترق السمع.. ليتبيَّن أنهما شاب وفتاة.. حيث دخلا متجهين إلى الغرفة الأخرى!!.. لم يطل الأمر كثيراً قبل أن أسمع صوتاً أنثوياً:
- لم أظن يوماً أنك ستنسى وعودك وتغدر بي بهذه الطريقة!!.
ليرد عليها صوتٌ ذكوريٌّ هادئ:
- لا أسميه غدراً.. إنك لا تعرفين كيف تحافظين عليَّ.. لقد حاولت كثيراً مد الجسور بيننا.. حاولت التفاهم معك.. لكنك تتعاملين معي بكبرياء.. فأنتِ لا تحترمين عملي ولا تحترمين عائلتي.. ولا تحبين حتى طباعي.. إنك تطلبين مني باستمرار أن أتغير.. في حين لا تقبلين أي نقد يوجه لك.. وكأنك خالية من العيوب.. من الطبيعي أن أبتعد تدريجياً وأبحث عن حب جديد.. عن فتاة تقدّر كل ما أبذله من أجلها!!.
هذا جنون!!.. هذا غير معقول!!.. ما الذي يحدث هنا؟!.. لقد سمعت الكلام نفسه حرفياً بالأمس.. وبصوت الشخصين نفسيهما!!.. عقلي يعمل بسرعة البرق مفكراً في هذا المستحيل الذي يحدث أمامي.. إمَّا أنها أشباح تكرر أفعالها يومياً كما نسمع ونقرأ في القصص.. أو أنني رأيت المستقبل حين كنت هنا في الأمس.. وها هو يتحقق أمامي الآن!!.. خاصة وأن الفتاة ترتدي الجورب نفسه والثياب ذاتها.. والرجل كذلك.. لا يمكن أن أنسى جذاءه البني بزخارفه الغريبة.. لقد كان ينتعله بالأمس أيضاً!!.. ثم.. اتجها مرة أخرى إلى غرفة المكتب.. المحادثة ذاتها تتكرر.. حسناً.. بعيداً عن الاستنتاجات الماورائية هذه.. عليَّ اتخاذ القرار لأمنع جريمة قتل محتملة.. حتى لو كنت لا أفهم ما يجري.. نعم أنا لص.. لكن لا أرضى بالقتل أبداً.
المشكلة أنني لم أجد الوقت لأمنع الجريمة للأسف.. إذ سمعتُ صوت إطلاق النار.. لأخرج من مخبئي ممسكاً بالخنجر الذي أحمله معي دوماً للدفاع عن النفس ولم أستخدمه يوماً.. فلو فشلت في سرقة المكان ومنع جريمة القتل.. على الأقل سأفهم ما يحدث هنا.. أكرر هذا الكلام لنفسي وأنا أسير مرتجفاً متجهاً إلى باب غرقة المكتب الموارب.. حيث دفعته ببطء لأجد الرجل ممداً على الأرض.. والفتاة تبكي وتنتحب هي تكرر كلاماً قالته في الأمس أيضاً!!.
ويبدو أنها انتبهت لوجودي أخيراً.. فالتفتت تجاهي وبيدها المسدس.. لتحدث الصدمة الأكبر.. ما هذا؟!.. إنها لا تنظر إليَّ.. بل تحدق في الفراغ بصمت.. في اللاشيء إن صحَّ التعبير وبجمود غريب لا يوحي بكل ما يحدث!!.. و.. لم يستغرق الأمر جزءاً من الثانية حين تملكني الرعب.. وأطلقتُ ساقي للريح.. لأخرج من باب الشقة راكضاً كالمجنون!!.
هذه المرة لم أملك فرصة الضغط على زر طلب المصعد والانتظار كما فعلت في المرة السابقة.. فاتجهت إلى الخارج ونزلت منه بخطوات سريعة للغاية.. من دون أن أشعر بقدمي وأنا أنزل للدرجات واحدة تلو الأخرى.. إلى أن وصلت إلى باب الخروج في الدور الأرضي.. وللأسف.. لم أهرب بعيداً.. بعد أن وجدت الباب مقفولاً.. حيث علمت فيما بعد أن حارس الأمن يقوم كل يوم -وقبل منتصف الليل- بقفل هذا الباب لأسباب أمنية.. وأن أي شخص يدخل أو يخرج من العمارة في وقت متأخر كهذا.. عليه استخدام المصعد فقط.
كما تذكرت ما هو أسوأ.. أنني تركت حقيبة أدوات السرقة تحت السرير بعد حالة الرعب التي انتابتني!!!.. سيتوجب عليَّ استخدام الدرّج مرة أخرى للصعود إلى الشقة.. ومن ثم يجب أن أستقل المصعد للنزول وللهرب.. عضضتُ على شفتي قهراً وأنا ألهث من شدة التعب.. ثم.. فوجئتُ بضجيج على درجات السلم.. لأحد بعدها بلحظات.. رجلين من سكان العمارة كما بدوا لي بثياب النوم.. أحدهما ضخم الجثة.. هجما عليَّ وشلاَّ حركتي في لحظة واحدة.
لن أتحدث كثيراً عن الفوضى التي عمَّت العمارة بأكملها.. تلك الفوضى التي طالت عقلي نفسه كوني لم أفهم شيئاً مما يحدث!!.. لذا فسأقفز مباشرة إلى مكاني في التحقيق.. حين جلستُ مكبل اليدين وكل الأدلة والشهود ضدي.. أتحدث مع المحقق وأخبره بالتفاصيل كلها.. وأنا شاحب الوجه أنظر إلى الأرض بألم.. غير مصدق أنني وقعت أخيراً في قبضة الشرطة بعد سنوات من الحذر.. ليقول المحقق ساخراً:
- قصتك غريبة.. إنك لص محترف.. لكنك شديد الغباء في الوقت نفسه!!.. لقد وضعت كل الاحتمالات في عقلك سوى أبسطها!!!.. الرجل والفتاة اللذان رأيتهما في الشقة هما في واقع الأمر ممثلان مبتدئان وزوجان في الوقت نفسه.. وكل ما رأيته في المرة الأولى والثانية كان تمثيلاً فحسب!!.. لسوء حظك أنهما كانا يأتيان إلى الشقة كل يوم في مثل هذا الوقت كما أشارا في التحقيقات.. لكنك أحمق بالفعل.. فننت أن الأمر يتعلق بالأشباح وبعالم الماورائيات.
قلت بذهول:
- لا.. لا.. هذا مستحيل.. لم تنتبه الفتاة لوجودي رغم أنني كنتُ أمامها.. لقد كانت تحدق في الفراغ!!.. ثم ماذا عن زوجها الذي أطلقت عليه النار وتفجرت منه الدماء؟!.
قال المحقق بنبرة استهزاء واضحة:
- لأنهما ضريران.. ممثلان ضريران أيها الأحمق!!!.
سألته بعينين زائغتين:
- ضريران؟!.. زوجان ضريران؟!.. كيف؟!.
ضحك بتشفّ وهو يقول:
- لقد التقيا في أحد التجمعات الخاصة بالمكفوفين كما علمتُ منهما.. وهناك ارتبطا بعلاقة حب توَّجاها بالزواج.. خاصة وأن ميولهما متشابهة.. فكلاهما يعشق التمثيل.. وقد اختارا هذه الشقة تحديداً بعد أنت استأذنت الشركة المنتجة من مالك الشقة لتصوير لقطات من المسلسل هناك.. فكان الزوجان يذهبان يومياً لتمثيل الدور.. ولكي يستدلا على أرجاء الشقة جيداً ويتأقلما مع المكان نظراً لإعاقتهما البصرية.. هل عرفت الآن مدى حماقتك؟!!.. أما المسدس فيحمل رصاصات فارغة من تلك التي تستخدم في السينما.. والدم الذي رأيته على قميص الممثل عبارة عن لون صناعي بالطبع.. كان الممثل يأتي إلى الشقة برفقة زوجته الممثلة مرتدياً هذا القميص.. لكنك لم ترَه لأنك كنت مختبئاً تحت السرير!!!.. لقد شعرا بأنفاسك وأنت تدخل.. ولو انتظرت قليلاً لوجدتهما يستفسران عن هويتك.. هذا ما جعل الفتاة تنظر في اتجاهك!!.. أما مَن ظننتهم الجيران.. فقد كانوا أيضاً ممثلي كومبارس.. استأجرت لهم شركة الإنتاج شقة أخرى في العمارة نفسها.. إذ هرعت إليهم الفتاة لتخبرهم بوجود شخص في الشقة.. ولم يتطلب الأمر وقتاً كثيراً ليكشفوا أمرك.. خاصة حين سمعوا صوت خطوات سريعة على درجات السلم.. فتبعوك وهم يعلمون أنك متجه إلى طريق مسدود.
ظللت صامتاً مذهولاً وقد انعقد لساني وأنا أعيد الأحداث في ذهني.. ليقول المحقق بصرامة:
- كنت في طريقك لارتكاب جريمة سرقة.. ولم يوقفك شيء إلا غباؤك.. دعك من أن اقتحام بيوت الناس جريمة بحد ذاتها.. كما أننا سننبش في تاريخك جيداً.. من المؤكد أنك ارتكبت جرائم قبلها.. الأفضل أن تعترف.. هذا سيخفف العقوبة كثيراً.. بدلاً من أن نكتشف كل شيء بأنفسنا!! ... سأتركك لتفكر بكلامي.
قالها وهو يطلب من أحد رجال الشرطة أخذي إلى الحجز.. في حين ظلت افكاري تائهة حتى وأنا أسير مع الشرطي.. بعد أن ظننت أنني أستبصر المستقبل أو أرى الأشباح تكرر حادثة ما.. من دون أن أفكر بأبسط التفسيرات!! أعتقد أنهم سيكشفون تاريخي الأسود بأكمله كما قال المحقق للتو.. كل هذا بسبب حادثة غير متوقعة أسأت تفسيرها بغباء غريب مني.. وفقدتُ بسببها تركيزي كله.. حين ظللت أتساءل عمّا يحدث.. في تلك الشقة!!.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا