اتصال
بقلم
م. عبدالوهاب السيد الرفاعي
لم يتبقى الكثير من الوقت لأضع خطتي قيد التنفيذ .. وهذا ما يزيدني قلقا وتوترا .. ورعبا !!! .. إنني مقبل مساء الغد على أكبر مغامرة في حياتي .. فقد قررت أن أترك زوجتي وأبنائي إلى الأبد بعد أكثر من 25 عاماً من الزواج والاستقرار العائلي !!! .. لماذا ؟!! .. لأنني عثرت على حبي الحقيقي أخيرا .. نعم .. عثرت عليه بعد كل هذه السنوات وبعد أن تجاوز عمري الـ 50 عاما بقليل .. لكن هذا ليس بخطأ .. لأنني أدرك جيدا الآن أنه لا يوجد حب يأتي متأخرا .. إنه يأتي فحسب .. يدق باب قلبك في أي وقت مهما كان عمرك.
ورغم أنني سافرت إلى كثير من البلدان لعقد صفقاتي التجارية وقابلت الكثير من الفتيات اللاتي يخلبن لب أي رجل في العالم .. إلا أنها المرة الأولى التي تستوقفني فيها فتاة كهذه .. لم يكن السبب جمالها أو رقتها .. بل شيئا آخر لا أعرف كيف أصفه .. شعور قوي تملكني وسيطر على كياني لأشعر فجأة أنني لا أستطيع الحياة دون هذه الفتاة .. ولم أجد أي تفسير لمشاعري تلك سوى الحب .. إنني أحبها دون شك .. أحببتها من أول نظرة .. كنت أسخر كثيرا من هذه المقولة في السابق .. لكني الآن أفهم من يعشقون من النظرة الأولى .. أفهمهم جيدا.
ورغم أن حبيبتي تصغرني بسنوات طويلة حتى لتبدو لمن يرانا معا وكأنها ابنتي !!! .. لكن الحب لا يعرف التمييز بين الأعمار كما تعلمون .. الحب عطاء .. الحب شعور .. الحب طاقة صافية .. هذا ما أردده لنفسي طوال الوقت .. وأعتقد أنني محق.
لقد تفجرت مشاعري حين التقيت بها لأول مرة وهي تقدم طلبها للعمل في شركتي كونها حديثة التخرج وتبحث عن العمل في القطاع الخاص .. فقد أسرتني وسرقت قلبي حتى رحت أتصرف أمامها وكأنني طفل صغير .. وبالطبع .. وافقت على عملها في الشركة مباشرة دون تردد لكي أراها وأكون إلى جانبها كل يوم.
وبعد أسابيع قليلة من مباشرة عملها .. صارحتها بحبي .. وبينت لها أنني على استعداد لأضحي بكل شيء وأقع تحت قدميها كي أكسب رضاها .. ورجوتها أن تمنحني الفرصة لأبين لها حسن نواياي مع وعود لا تنتهي بأنني سأكون الرجل الذي تتمناه طوال حياتها رغم فارق السن الواضح بيننا.
لا أنكر أنها حاولت أن تصدني في البداية .. بل ونبهتني أكثر من مرة إلى أن زواجنا هذا غير متكافئ إطلاقا لأسباب عديدة لا تخفى عليكم .. لكنها في النهاية .. اقتنعت بحبي لها وبصدق مشاعري ورغبتي الحقيقية في الزواج منها .. اقتنعت بأنني لن أكون سعيدا سوى معها .. وأنني مستعد أن أضحي بكل شيء لأكون معها .. فتوطدت علاقتنا أكثر وأكثر .. وتحول الحب - خلال فترة وجيزة - من جانب واحد .. إلى علاقة قوية بين حبيبين لن يفرق بينهما شيئا سوى الموت.
لم أكن أشعر بأي تأنيب ضمير كوني أخون زوجتي وعلى وشك تركها هي مع أولادي .. وأرجو ألا يلومني أحدكم على ذلك .. فأنا لم أذق طعم الحب يوما .. وحتى زواجي الحالي كان تقليديا للغاية .. إذ تزوجت إحدى قريباتي بعد إلحاح شديد من والدتي رحمها الله .. لنعيش بعدها سنوات طويلة لا أنكر أنها كانت هادئة بعيدة عن المشاكل أنجبنا خلالها 3 أولاد .. ولا أنكر أنها كانت نعم الزوجة .. حيث كافحت ووقفت معي في أسوأ الظروف إلى أن أصبحت مع مرور السنوات رجل أعمال يحسب له ألف حساب .. نعم .. توجد بيننا ألفة كبيرة دون شك وسببها السنوات الطويلة الهادئة التي عشتها معها .. لكن رغم ذلك .. كان هناك شيئا ينقصني .. شيئا لم أعرف ما هو إلا عندما التقيت بحبيبتي هذه .. وأدركت عندها معنى الحب الحقيقي.
وها أنا الآن بعد سنتين من علاقة حب ظلت كالشعلة التي أنارت حياتي بأكملها .. قررت أخيرا القيام بالخطوة الأهم والأخطر في حياتي وحياة حبيبتي أيضا .. إذ قمت ببيع الكثير من ممتلكاتي وأودعتها في البنك دون علم زوجتي وأبنائي .. وأعددت العدة للهجرة إلى (كندا) حيث سنبدأ هناك حياة جديدة هادئة أشعر أنني أستحقها تمام الاستحقاق .. بعد سنوات طويلة من العمل المتواصل والمسئوليات العائلية المرهقة والمنافسة التي أنهكتني مع كبار رجال الأعمال .. فالبدايات الجديدة حق متاح للجميع .. ووسيلة رائعة ليشحن الإنسان طاقاته ويشعر أن الحياة قد أعطته فرصة ثانية.
ولا أنكر أنني عانيت كثيرا في البداية لإقناع حبيبتي بالهرب والهجرة معي .. إذ لم يكن الأمر سهلا عليها بطبيعة الحال .. لكنها وافقت أخيرا أمام إلحاحي الشديد .. خاصة وأنها تعاني بدورها من مشاكل عائلية كثيرة بسبب شقيقها الوغد الذي يتحكم تماما في حياتها .. بل ويأخذ جزءا من راتبها أيضا رغما عن أنفها .. كما ترون .. وكأن كل شيء كان يجرنا إلى الهجرة !!!.
كنت أعد العدة للهرب دون علم زوجتي وأبنائي بالطبع .. إذ سأكتفي بإبلاغهم بقراري هذا من خلال رسالة سأتركها لهم بخط يدي .. ماذا ؟!! .. تسألونني لماذا لا أواجه الجميع وأبلغهم بأمر علاقتي بتلك الفتاة بنفسي ؟؟! .. حسنا .. الجواب هو: لأنني لا أمتلك الجرأة !!! .. نعم .. هكذا بكل بساطة .. أنا لا أمتلك الجرأة لمواجهة أبنائي وزوجتي وأقاربي والمجتمع بأسره لأخبرهم أنني أنوي الزواج من فتاة في عمر ابنتي ومن مستوى اجتماعي أقل بكثير.
فحتى لو واجهتهم بذلك وكنت قويا .. أعرف جيدا أنني سأخوض حينها صراعات عائلية طويلة متعبة لم أعد أحتمل مواجهتها .. وربما سيؤثر ذلك على حبيبتي أيضا بصورة أو بأخرى .. فلا أستبعد أن يتعرض لها أفراد عائلتي أو عائلة زوجتي لإبعادها عني بشتى الوسائل .. لذا وجدت أن الحل الأنسب هو الهرب والبدء بحياة جديدة .. خاصة وأنني أمتلك المال الكافي لهذا .. دون أن أنسى - بالطبع - ترك مبلغا محترما من المال لزوجتي وأبنائي لتأمين مستقبلهم.
لماذا لا أتزوج حبيبتي بالسر ؟!! .. لقد فكرت بذلك في بادئ الأمر بالفعل .. خاصة وأنني قمت باستئجار شقة فاخرة دون علم أحد .. حيث نلتقي فيها بين الحين والآخر بعيدا عن أعين الناس .. لكن .. لم أكن أحب تلك النوعية من الحياة .. فزواج كهذا قد ينكشف في أي لحظة .. ولا أستبعد أن يصل الخبر إلى الناس بوسيلة أو بأخرى .. أمورا كهذه لا يمكن أن تستمر في الخفاء في بلد صغير كـ(الكويت) .. صدقوني .. لقد فكرت بكل شيء .. فلا داعي أن تصدعوا رؤوسكم باقتراحات أخرى.
تنساب تلك الخواطر إلى ذهني المشتت وانا أركن سيارتي بالقرب من البيت محاولا أن أبدو طبيعيا وألاّ أثير شكوك زوجتي بشيء .. خاصة مع جو الترقب الذي كنت أعيشه .. والساعات التي تمر علي ببطء شديد مع اقتراب موعد الهرب والهجرة إلى (كندا).
كانت الأجواء في البيت هادئة كئيبة كالعادة .. حيث وجدت زوجتي - كعادتها أيضا - جالسة في غرفة المعيشة تشاهد التلفاز .. أما أبنائي .. فقد كانوا جميعا في الخارج .. إنهم في سن يملك فيها كل منهم حياته المستقلة .. وباتوا يخرجون ويدخلون دون أن أعرف أي شيء عنهم !!!.
رحت أنظر إلى زوجتي نظرة طويلة دون أن تنتبه .. شاعرا بشيء من تأنيب الضمير لما سأفعله .. لكني رغم كل شيء .. حاولت التغاضي عن نداء الضمير هذا وألقيت عليها التحية محاولا رسم ابتسامة توحي لها أن الأمور على ما يرام .. لتبادلني بابتسامة مماثلة وتسألني إن كنت أريدها أن تعد لي شيئا لآكله .. فهززت رأسي نفيا بامتنان وتركتها تشاهد التلفاز .. ثم ذهبت لأخذ حماما ساخنا بعد هذا اليوم الشاق.
جلست بعدها في غرفة النوم محاولا أن أندمج في قراءة أحد الكتب .. فيسرح ذهني للحظات أفكر فيها بالخطوة التي سأقدم عليها مساء الغد والتي ستغير حياتي بأكملها .. لكني أعود وأحاول التركيز فيما أقرأه .. قبل أن .. قبل أن أفقد تركيزي تماما عندما تلقيت اتصالا صاعقا على هاتفي النقال .. اتصالا مخيفا كان هو البداية الحقيقية لقصتي هذه !!!.
كان الاتصال من حبيبتي .. أرى رقمها واضحا على شاشة هاتفي النقال .. لقد حذرتها أكثر من مرة ألا تتصل بي في مثل هذا الوقت كي لا أثير شكوك زوجتي أو أولادي .. خاصة وأنها تعلم جيدا أنني في البيت الآن ولست معتادا على السهر في الخارج .. وقد التزمت تماما باتفاقنا هذا طوال السنتين السابقتين .. فلماذا تتصل الآن ؟!!.
أمسكت بهاتفي النقال .. ورحت أسترق النظر إلى باب الغرفة الموارب لأتأكد من أن زوجتي لا زالت تشاهد التلفاز في غرفة المعيشة وليست في طريقها إلى غرفة النوم مثلا .. ثم أجبت على حبيبتي بصوت هامس فيه شيئا من التوتر:
- لماذا تتصلين بي الآن ؟؟! .. ألم نتفق ألا نتصل ببعضنا على الإطلاق في مثل هذا الوقت ؟! .. إنني متواجد في البيت الآن وأخشى أن ....
قاطعتني بصوت مرتجف وهي تسألني:
- هل .. هل أنت على ما يرام ؟!.
أجبتها بالإيجاب باستغراب واضح لهذا السؤال السخيف .. فأردفت بتوتر وخوف:
- لقد .. لقد اتصلت بي زوجتك للتو !!!!.
قلت كالملسوع وقد اتسعت عيناي هلعا:
- ماذا ؟!!!! .. زوجتي اتصلت بك ؟! .. هل أنت متأكدة ؟!!.
ردت باكية:
- لقد كانت تتحدث بصرامة أخافتني كثيرا .. فأخبرتني أنها لن تسمح لي أن أهرب معك !!! .. وقالت أيضا أنه من الأسهل لها أن تقتلني من أن تراني أدمر حياتك وحياة أسرتك.
سألتها بشيء من الشك:
- هل أنت واثقة أنها زوجتي ؟! .. إنك لا تعرفين صوتها !!.
ردت بعصبية بالغة وكأنها تريد أن تتجاوز تلك النقطة:
- إنها زوجتك (مريم) بالفعل .. لقد أخبرتني بذلك بنفسها قبل أن تهددني مرة أخرى بالقتل وتقفل السماعة بوجهي مباشرة بعدها !!! .. لقد اتصلت بي من هاتف البيت كما هو مبين عندي في كاشف الرقم.
ارتجف قلبي بقوة إزاء كلامها هذا .. ورحت أنظر حولي بذعر بالغ .. قبل أن ألتقط أنفاسي وأطلب منها أن تبقى في البيت وتتجاهل ما جرى .. بل وقمت بالتأكيد عليها أن تذهب إلى المطار في الموعد المحدد مساء الغد حسب اتفاقنا دون أن تأخذ معها أي حقائب كي لا تثير شكوك أحد في بيتها .. وألا تتصل بي إلى ذلك الحين .. على أن أتصل أنا بها متى ما سنحت الظروف.
أنهيت الاتصال .. وجلست أفكر بقلق حقيقي .. من أخبر زوجتي بالأمر ؟! .. إنني شديد الكتمان في علاقتي مع حبيبتي .. بل أن موضوع هروبي معها لا يعلم به أحد سوانا .. ثم .. لماذا تصرفت معي زوجتي بصورة اعتيادية للغاية عندما وصلت إلى البيت قبل قليل ؟؟! .. لماذا لم تواجهني لو كانت قد علمت بأمر علاقتي بهذه الفتاة ؟!!.
الغريب إن زوجتي امرأة مسالمة للغاية .. وهي من نساء الجيل القديم .. فلا يمكن أن تتصرف بهذه الطريقة البوليسية المريبة .. بل ولا أتخيلها أن تتصل بحبيبتي وتهددها بالقتل !!! .. أنا لا أفهم شيئا .. يا إلهي .. ما الذي تخططين له يا زوجتي ؟؟! .. أعرف جيدا أن الغيرة قد تجعل المرأة تتصرف بصورة مغايرة تماما عن طبيعتها .. حتى لتبدو لك وكأنها شخصا آخر وليست زوجتك التي عرفتها طوال تلك السنوات وعشت معها في بيت واحد !!!.
و .. تلاشت أفكاري مع وصول زوجتي إلى الغرفة .. حتى أنني ولأول مرة في حياتي أشعر بالخوف منها !!! .. فازدردت لعابي بصعوبة .. وقلت متظاهرا ببعض المرح:
- هل أعجبك الفيلم ؟!.
نظرت إلي بلطف وقالت بابتسامة واسعة وصوت يوحي وكأن الأمور على خير ما يرام:
- أحب الأفلام العربية القديمة .. أحبها جميعها دون استثناء.
ضحكت بهدوء محاولا إخفاء توتري .. ثم قبلت جبينها .. ودسست جسدي تحت اللحاف مفكرا بما يحدث وما سيحدث .. شاعرا بتوتر شديد وأنني عاجز تماما عن النوم .. لكني وجدتها فرصة كي أحلل الأحداث وأفهم ما يدور حولي دون مقاطعة من أحد .. أقول هذا لنفسي وأنا أستمع إلى زوجتي التي تقوم بتفريش أسنانها في الحمام .. قبل أن أسمع خطواتها وهي تقترب من الفراش وتقوم بإطفاء النور استعدادا للنوم.
دقائق قليلة قبل أن أسمع تنفسها المنتظم مما يوحي بذهابها فعليا إلى عالم الأحلام .. أما أنا فكنت بعيدا تماما عن النوم .. الأفكار تصطرع في ذهني وتساؤلات لا تنتهي تنهال علي .. حتى بت أطرح السؤال ذاته مرة أخرى .. لماذا لم تواجهني زوجتي بأمر خيانتي لها ؟!! .. لماذا تتصرف بهذه الطريقة البوليسية ؟!!.
يا له من أمر غريب .. لقد واجهت عمالقة في عالم التجارة وهزمتهم وكسبت احترامهم جميعا .. لكن .. لم أظن يوما أنني سأكون ضعيفا في اختبار كهذا قد يبدو سهلا للكثيرين .. ربما هو الشعور الشديد بالذنب .. لأنني أعلم جيدا أن زوجتي طيبة للغاية ولا تستحق ما سأفعله بها .. قد يكون هذا سبب توتري وخوفي.
و .. شعرت أنني أنزلق بدوري إلى عالم الأحلام بعد أكثر من ساعة قضيتها مفكرا تحت اللحاف .. إلى أن نمت أخيرا بالفعل وغرقت في سبات عميق .. أو هذا ما ظننته .. قبل أن أشعر بشيء مريب يحدث حولي .. شيء لم أعرف ما هو .. لكنه يحاول بإصرار أن يوقظني من النوم !!! .. هل هي الحاسة السادسة ؟! .. ربما.
فتحت عيني لأجد ضوءا مألوفا يشع في كل أنحاء الغرفة .. إنه .. إنه ضوء هاتفي النقال بعد أن ألغيت خاصية الصوت كي لا يزعجني أحد أثناء نومي .. هناك من يتصل بي في مثل هذا الوقت والساعة تتجاوز الثانية صباحا ؟؟!! .. أمسكت بالهاتف .. وحاولت أن أغطي بيدي الضوء الخارج منه كي لا يوقظ زوجتي .. ثم نظرت إلى الشاشة لمعرفة هوية المتصل .. إنها .. إنها حبيبتي .. ماذا يحدث هنا ؟؟! .. لماذا تتصل بي مرة أخرى في مثل هذا الوقت ؟؟!!.
خرجت من الغرفة بهدوء شديد ممسكا بهاتفي النقال .. وتوجهت إلى غرفة المعيشة والهاتف لا زال يرن بإلحاح لكن دون صوت طبعا .. ثم:
- ماذا تريدين ؟!.
قلتها بطريقة غير لائقة .. لكن .. قالت ما لم أتوقعه إطلاقا:
- زوجتك .. لقد اتصلت مرة أخرى قبل قليل .. وأقسمت بأنها ستقتلني قبل أن أرحل معك إذا لم أتراجع عن قراري .. أرجوك افعل شيئا .. أنا خائفة للغاية !!.
كان هذا آخر ما أتوقعه !!! .. فقلت بذهول حقيقي:
- كيف بالله عليك ؟! .. إن زوجتي نائمة الآن .. بل وكنت نائما بجانبها قبل أن تتصلي !!!.
ردت بحنق:
- ربما استيقظت أثناء نومك وجاءت لتتصل بي .. ثم عادت بعدها إلى النوم .. من يدري .. هل كنت لتشعر بها لو فعلت هذا ؟!!.
بهت تماما لسؤالها .. بالفعل .. لا أعتقد أنني كنت سأنتبه لو فعلت زوجتي ذلك أثناء نومي .. ولكن .. راح السؤال يتكرر في ذهني .. لماذا تتصرف زوجتي بهذه الطريقة الغريبة أصلا ؟! .. لماذا لا تواجهني بدلا من تلك الاتصالات المخيفة وتهديد حبيبتي بالقتل ؟!!.
لم أبحث عن الإجابة على أسئلتي تلك .. بل توجهت مباشرة إلى غرفة النوم مرة أخرى .. ونظرت طويلا إلى زوجتي المتدثرة تحت اللحاف حيث كنت على وشك إيقاظها والتحدث إليها .. لكن .. هاجسا غريبا أوقفني .. فكرة غريبة لم تخطر ببالي من قبل رغم بساطتها !!! .. ترى .. هل .. هل .. هل تخدعني حبيبتي ؟؟! .. هل تتلاعب بي كي أواجه زوجتي وأنهي زواجي بنفسي بدلا من الهرب ؟؟! .. ربما تفعل ذلك لأنها لا تريد الهجرة معي وتريد أن أتزوجها هنا وأعلن زواجي منها أمام الجميع ؟؟! .. وربما هي تحبني من أجل المال فقط .. يا لي من أحمق .. لماذا لم أفكر بذلك سوى الآن ؟؟!! .. بكل تأكيد هذا ما قد يخطر ببال أي شخص يعرف عن علاقتي بها .. هل تحاول حبيبتي استغلالي وخداعي .. لا أعلم .. التساؤلات لن تنتهي أبدا.
ذهبت إلى الفراش وموعد السفر يقترب شيئا فشيئا مع مرور الساعات .. لا أعرف كيف ستسير الأمور .. لا أعرف إن كان أهل زوجتي سيعثرون علي في (كندا) وينتقمون مني بوسيلة أو بأخرى .. وإن كنت سأرى أبنائي مرة أخرى بعد أن تهدأ الأمور ويتقبل الجميع أمر زواجي وهجرتي ؟! .. لقد كنت أنتظر لحظة الهروب بفارغ الصبر .. لكنها الآن وقد اقتربت .. أشعر بشيء من الخوف !!!!.
في اليوم التالي .. استيقظت مبكرا وكان مزاجي متعكرا بشكل واضح بعد تلك الليلة السوداء .. حتى أنني توجهت إلى المكتب بعد أن ألقيت تحية سريعة مقتضبة على زوجتي وأبنائي حيث كان كل منهم يتأهب للذهاب إلى .. إلى .. لا أعلم في واقع الأمر .. فكل منهم له حياته الخاصة الآن كما أخبرتكم .. لكن لم يكن هذا المهم .. بل هو السؤال الذي يكاد يقتلني .. هل يجهل أفراد أسرتي ما سيحدث بالفعل ؟؟!! .. من الذي يتصل بحبيبتي إذاً ويقوم بتهديدها ؟؟! .. هل هي زوجتي بالفعل ؟!.
ولا أنكر أيضا أن الشكوك قد تفجرت مرة أخرى حول حبيبتي كما علمتم .. فهي التي أبلغتني باتصالات زوجتي المزعومة .. وأنا أعيش مع زوجتي في بيت واحد بطبيعة الحال ولم أجد في تصرفاتها منذ الأمس ما يثير الشكوك .. فهي تتصرف بشكل اعتيادي للغاية !!! .. ربما علي أن أتأكد بنفسي من أن هاتف حبيبتي النقال يحوي بالفعل رقم هاتف بيتي في قائمة الاتصالات الواردة .. سأفعل هذا حال لقاءنا.
جلست في مكتبي أفكر طويلا بالأمر .. عازما ألا أعود إلى البيت اليوم .. بل سأذهب إلى المطار مباشرة في المساء لألتقي بحبيبتي هناك حسب الاتفاق .. ونطير بعدها إلى (كندا) .. لحسن الحظ أنني طلبت منها ألا تأتي إلى العمل اليوم حتى تستعد جيدا للذهاب في المساء إلى المطار والسفر معي .. ولكن !!! .. لا بد من مواجهتها أولا .. نعم .. يجب معرفة ما تنوي فعله .. حتى لو اضررت لتأجيل السفر .. أو حتى إلغاءه لو اتضح أن هذه الفتاة تتلاعب بي .. ستكون صدمة هائلة دون شك بعد أن وقعت في الحب للمرة الأولى في حياتي !!.
مرت الساعات بطيئة للغاية إلى أن انتهيت من آخر أعمالي في الشركة التي سأتركها لأولادي .. وخرجت بعدها متوجها إلى الشقة إياها .. بعد أن اتصلت بحبيبتي وطلبت منها أن تذهب إلى هناك للضرورة القصوى .. نعم .. مواجهة أخيرة وحاسمة معها سيتوقف عليها مصير علاقتنا بأكملها .. أريد أن أعرف ما يحدث حولي .. هل تكذب علي ؟؟! .. أم أن هناك شخصا آخر يعمل في الخفاء ويحاول خداعي وإلغاء خطتي ؟؟! .. سأعرف كل شيء !!!.
وصلت إلى الشقة أخيرا والتوتر بلغ مبلغه .. ما أن فتحت الباب .. حتى فوجئت بحبيبتي هناك وقد سبقتني في الوصول كما يبدو .. فهي تسكن في نفس المنطقة التي استأجرت فيها تلك الشقة .. وقد فعلت هذا متعمدا حتى أوفر عليها مشقة زحام الشوارع .. المهم أنها ارتمت في أحضاني حال وصولي .. وراحت تبكي بشدة !!!.
لم أفهم شيئا بالطبع .. فسألتها بجزع عما يحدث .. لترد بذعر حقيقي:
- إنها زوجتك .. لقد اتصلت بهاتف الشقة منذ قليل !!! .. وأعطتني إنذارا أخيرا كي أبتعد عنك .. وإلا ستقتلني مساء اليوم قبل أن أذهب إلى المطار !!!.
دفعتها بقسوة وأنا أقول بغضب واضح بعد أن تيقنت من كذبها:
- كفاك كذبا .. لا أحد يعلم بأمر هذا المكان سوانا .. بل أن عقد الإيجار ليس مسجلا باسمي أصلا .. فكيف تعرف زوجتي رقم هاتف الشقة لتتصل بك كما تدّعين ؟؟! .. بل وكيف عرفت أصلا بأمر علاقتنا ؟!! .. إنني إنسان شديد التكتم ولم أخبر أحدا بأي شيء .. إنك تتلاعبين بي دون شك !!!.
يبدو أنها فوجئت تماما بردة فعلي .. إذ راحت تحدق بي باستنكار قبل أن تصرخ بدورها وتقسم أنها حافظت على سر علاقتنا جيدا وأنها صادقة فيما تقول .. لكني أردفت:
- هناك أمور لم أفكر بها سوى الآن بعد خدعتك الغبية هذه وأكاذيبك عن اتصالات زوجتي .. فأنا أكبرك سنا بسنوات طويلة .. بل أنا في عمر والدك بالفعل .. ربما وافقت على الزواج مني بسبب أموالي .. لكنك الآن ومع اقتراب موعد السفر شعرت بجدية وخطورة الأمر وربما لم تعودي ترغبين في الهجرة معي والهرب من عائلتك .. إنك لا تجرئين على إبلاغي بذلك خوفا من ردة فعلي .. كأن أقوم بفصلك من الشركة مثلا .. أليس كذلك ؟! .. لهذا قمت بالكذب علي بشأن تلك الاتصالات الهاتفية واتهمت زوجتي المسكينة التي أجزم تماما أنها لا تعرف شيئا !!!.
قالت مصعوقة وكأنها لم تتوقع مني هذا الكلام إطلاقا:
- ما الذي تقوله ؟!! .. هل نسيت إنك أنت من كنت تجري خلفي في بادئ الأمر ؟! .. هل نسيت أنني كنت مترددة أصلا في الارتباط بك ؟؟! .. حتى أنني نبهتك بنفسي أكثر من مرة إلى الفارق الشاسع بيننا في العمر والمستوى الاجتماعي دون أن أكترث أصلا إن كان هذا سيتسبب ذلك بفصلي من شركتك انتقاما مني كما تقول .. فكيف أخدعك بعد كل هذا ؟!!.
نظرت إليها طويلا وأنا أسترجع علاقتي بها .. كانت محقة في كل ما قالته .. خاصة وأنني انتبهت للتو أيضا إلى أنها لم تطلب مني يوما أي مبلغ من المال ولم تحاول استغلال ثرائي .. فكل ما فعلته يوحي بحبها لي .. يا إلهي .. قد تكون محقة !!!.
لذا .. لم أنطق بحرف .. بل رحت أنظر إليها مبهوتا .. قبل أن تردف وهي تكمل بصوت باك أثار شفقتي:
- لقد أخبرتك بنفسي أنك متزوج ولا يجوز أن تخون زوجتك وتترك أبناءك .. لكن .. لكني تخاذلت في النهاية بعد محاولاتك العديدة لكسب ودي .. وبعد أن وقعت بدوري في حبك .. خاصة عندما تبين لي أنك تحبني بصدق ولم تكن مجرد ذئب بشري كحال معظم الرجال الذين يلاحقوني !!! .. ثم أنك تستطيع أن تتأكد من كلامي بسهولة وتعرف أنني لا أخدعك.
قالت هذا وجاءت بهاتفها النقال لتعبث به ثوان قليلة قبل أن تضع الشاشة أمام وجهي وتكمل حديثها باكية:
- أنظر إلى قائمة الاتصالات الواردة مساء أمس .. أليس هذا رقم هاتف بيتك ؟!!.
رحت أنظر إلى شاشة الهاتف مبهوتا .. بينما توجهت هي مسرعة إلى هاتف الشقة وراحت تعبث ببعض الأزرار .. ثم جرّتني من يدي لأرى الشاشة .. يا إلهي .. إنها محقة تماما .. نعم .. فهناك اتصال وارد من بيتي بالفعل على الهاتفين .. لقد اتصلت زوجتي بحبيبتي على هاتفها النقال .. واتصلت أيضا على هاتف الشقة !!! .. هذه أدلة لا تقبل الجدل !!!.
لم أجد ما أقوله بعد كل هذا .. إذ خرست تماما وقد عرفت نوايا زوجتي لأول مرة وتأكدت منها .. بل وبدأت أخشاها كثيرا رغم سنوات زواجنا الطويلة .. حتى أنني أنزلت رأسي ببطء وكأنني طفل صغير وبّخته والدته للتو .. و .. قلت بعد لحظات بصوت هامس:
- لا عليك يا حبيبتي .. إنك محقة في كل ما قلتيه .. أرجوك سامحيني .. لن يتغير شيئا من خطتنا .. ستسير الأمور كما خططنا لها .. سأخرج الآن لأنهي بعض الأعمال .. على أن نلتقي في المطار بعد حوالي 4 ساعات من الآن .. سنهرب من هنا بغض النظر عن هوية المتصل .. ولننس الأمر برمته .. سامحيني يا حبيبتي.
قبلت جبينها وبادلتني بابتسامة حزينة .. ثم خرجت من الشقة لإنهاء أعمالي الأخيرة قبل هجرتي إلى الأبد .. ولم أنسى أن أضع رسالتي في مظروف مغلق بيد مندوب الشركة وطلبت منه أن يوصلها إلى زوجتي وأبنائي غدا صباحا .. بعد أن أكون قد خرجت من البلد.
انتهيت أخيرا من كل أعمالي مبكرا وقبل الموعد المتفق بساعتين تقريبا .. فلم أجد مكانا أذهب إليه سوى المطار وانتظار موعد الرحلة .. حيث توجهت إلى هناك شاعرا بنشوة لا توصف بعد أن تأكدت من حبيبتي وعرفت أن زوجتي هي من كانت تتلاعب بي طوال الوقت .. لكني ظللت أتساءل رغم كل شيء .. كيف عرفت بأمر علاقتي بتلك الفتاة .. وكيف عرفت رقم هاتف حبيبتي النقال ؟!! .. بل وكيف علمت بأمر الشقة وعرفت رقم هاتفها ؟!! .. يبدو أنني كنت محقا عندما أخبرتكم برفضي لفكرة الزواج بالسر .. لا يمكن أن نخفي شيئا في هذا البلد .. لا يمكن !!!.
جلست في مقهى (كاريبو) في المطار .. ورحت أشرب قهوتي شاعرا بقلق هائل .. أفكر بأخطر مغامرة سأقوم بها في حياتي وقد آن أوانها .. أفكر بتهديدات زوجتي لحبيبتي آملا ألا تقوم بتخريب خطتنا .. وأتساءل لماذا لا تواجهني زوجتي بكل شيء بعد أن حانت لحظات الحسم !!!.
و .. تصاعد القلق شيئا فشيئا .. فقد مر الوقت ولم يتبقى على موعد الرحلة سوى أقل من ساعتين .. لكن حبيبتي لم تأتي حتى الآن !!! .. أمسكت بهاتفي النقال .. وبيد مرتجفة رحت أتصل بها .. الهاتف يرن بإصرار دون أن ترد على المكالمة !!! .. اتصلت مرة أخرى .. وأخرى .. وأخيرا .. رد أحدهم على الهاتف .. رجل غريب لم أسمع صوته من قبل .. هل هو شقيقها أو أحد أقاربها ؟؟! .. لا أعرف .. لكني لملمت شتات نفسي وسألته بتوتر واضح:
- هل (.....) موجودة ؟! .. أنا رئيسها في العمل.
رد صاحب الصوت قائلا:
- المعذرة يا سيدي .. لم أتمنى أن أكون من يبلغك بالخبر .. لقد .. لقد لقيت المسكينة حتفها في حادث سيارة منذ قليل !!! .. لا أحد يعرف كيف انحرف مسار سيارتها فجأة وكأن انتابتها حالة جنون مفاجئة .. فاصطدمت بالحاجز الاسمنتي وانقلبت السيارة بعدها أكثر من مرة ..
سقط قلبي في أحشائي وأنا أسأله بذعر حقيقي:
- ماذا تقول ؟!!!! .. كيف حدث ذلك ؟!!! .. كيف انحرف مسار سيارتها فجأة ؟! هل كان هناك أحد برفقتها في السيارة ؟! .. و .. و .. من أنت ؟!!.
قال بأسى:
- إنني أحد الشهود على الحادث يا سيدي .. أنا أتحدث معك الآن من الشارع منتظرا وصول الشرطة وسيارة الإسعاف .. لقد سمعت هاتفها النقال يرن في حقيبتها .. فقمت بالرد عليه .. لا أعرف لماذا انحرف مسار سيارتها بهذه الطريقة الغريبة .. لعله قضاء الله وقدره .. تقبل تعازينا يا سيدي.
لم أكمل حديثي معه .. إذ سقط الهاتف لا شعوريا من يدي .. ورحت أنظر حولي بضياع حقيقي .. لقد انهارت خطتي بأكملها في لحظة واحدة .. الحب .. الهجرة .. ابتعادي عن زوجتي وأبنائي .. كل ما خططت له انتهى فجأة .. فبدا لي وجودي في المطار لا معنى له .. ستعود حياتي إلى طبيعتها رغما عن أنفي بعد أن خسرت حبيبتي.
خرجت من المطار بخطوات ثقيلة عائدا إلى البيت غير مصدق ما حدث .. وغير مصدق أنني كنت على بعد خطوات من الهجرة .. قبل أن يتغير كل شيء في لحظات قليلة لتعود الأمور بلمح البصر إلى ما كانت عليه في السابق .. هكذا بكل بساطة .. حتى أنني وجدت نفسي أبكي لا شعوريا بصوت مرتفع في السيارة أثناء عودتي إلى البيت آسفا على ما حدث لحبيبتي وعلى حبي الذي انتهى قبل أن يبدأ !!!.
وصلت أخيرا إلى البيت قبل منتصف الليل بقليل وعقلي لا يزال غائبا غير مصدق ما حدث .. لكني في النهاية تمالكت نفسي بصعوبة ورحت أمسح دموعي محاولا أن أبدو طبيعيا .. قبل أن أدخل أخيرا لأجد زوجتي نائمة .. إنها تنام مبكرا إذا لم تجد شيئا تشاهده في التلفاز .. هذا أمر معتاد.
توجهت بعدها لأخذ حماما ساخنا بعد يوم طويل حافل .. آملا أن تزيل المياه الساخنة كل هذا التوتر والحزن .. ثم ذهبت أخيرا إلى الفراش والخواطر تلتهمني .. حتى أن الدموع قد انسابت من عيني مرة أخرى دون أن أشعر وأنا أتذكر حبي الأول والوحيد وكيف انتهى بهذه الصورة التراجيدية .. لا أذكر متى كانت آخر مرة بكيت فيها بخلاف اليوم .. حقا لا أذكر.
كنت أتوقع أن تنتهي القصة عند هذا الحد .. وأن تعود حياتي إلى طبيعتها خلال الأيام القادمة بعد أن تندمل جروحي .. محاولا أن أتناسى أمر تلك الاتصالات التي تلقتها حبيبتي .. وإن كانت زوجتي هي المسئولة عن كل ما حدث أم لا .. وهو صراع عنيف عشته مع نفسي .. غير مصدق أن زوجتي البسيطة الساذجة قد تفعل أمورا كهذه .. المشكلة أنني لم أجرؤ على مواجهتها .. ولم أكن أملك البال الرائق أصلا بعد كل ما حدث ..
لكن .. لم أكن أعلم أن تلك الألغاز ستنكشف بأكملها وأنني سأكون على موعد مع صدمة جديدة مروعة !!! .. صدمة حقيقية ومفاجأة مذهلة كشفت لي كل شيء .. أو ربما زادت الأمور غموضا !!! .. فبعد بضعة أسابيع على موت حبيبتي .. وبعد عودة الأمور إلى طبيعتها شيئا فشيئا رغم وجود تلك الغصة في الحلق .. تذكرت الشقة .. الشقة التي استأجرتها سرا والتي كنا نلتقي فيها باستمرار .. فقررت الذهاب إليها لأخذ حاجياتي منها .. ومن ثم تسليم مفتاحها لحارس العمارة .. إذ لم أعد بحاجة إليها بعد الآن.
كانت هذه المرة الأولى التي أدخل فيها الشقة بعد وفاة حبيبتي في ذلك الحادث المشئوم .. لذا لم يكن الأمر سهلا حين رحت أمشي بين جنباتها وحيدا شاعرا أن حياتي بأكملها قد عادت إلى البرودة والملل مرة أخرى .. فكان الهدوء موحشا حميما بمزيج غريب متناقض لم أعرفه من قبل.
رحت أبحث في الشقة كي أتخلص من أي شيء يخصني وقد يكشف أمر علاقتي بالمرحومة .. على أن أتصل غدا بإحدى الشركات لأبيع الأثاث كله .. أو ربما سأتبرع به .. لا أعلم .. سأقرر فيما بعد .. لا أملك البال الرائق للتفكير في تلك الأمور الآن .. فلا زالت التساؤلات تتردد وتتكرر في ذهني بين الحين والآخر رغم محاولاتي المستمرة لتجاهلها .. هل حادث السير الذي أودى بحياتها مرتبط بالتهديدات الهاتفية التي وصلتها من زوجتي ؟؟! .. أم أن الحادث كان قضاء وقدر ؟!! .. وهل زوجتي وراء ما حدث بالفعل ؟!! .. هل كانت هي من اتصل بحبيبتي وهددها بالقتل ؟!! .. بدأت أشك بكل شيء .. لكن .. تلك الشكوك تجمدت فجأة .. بل شعرت أن الزمن بأكمله قد تجمد حولي .. وأكاد أقسم أنه كاد أن يغمى علي لولا أنني تمالكت نفسي سريعا واستندت إلى الحائط !!!.
كان هذا عندما أشغلت جهاز خدمة البريد الصوتي في هاتف الشقة لمعرفة إن كان هناك أي تسجيل صوتي قد يكشف علاقتي بحبيبتي .. لم تكن هناك سوى رسالة صوتية واحدة واردة في مساء يوم السفر .. وفي وقت تواجدي في المطار على ما أذكر .. رسالة من صوت بدا غريبا في البداية .. وهو يقول بحدة:
- ابتعدي عن (.....) وإلا سأقتلك بنفسي .. هذا آخر تحذير .. لا تدمري حياته وحياة أسرته !!!.
هذا الصوت .. هذا الصوت .. هذا الصوت مألوفا للغاية .. لا .. لا يمكن أن أصدق ما أسمعه .. قمت بإعادة تدوير الشريط لأسمع الصوت مرة أخرى وأخرى .. لا يمكن .. هذا مستحيل !!! .. شيئا كهذا لا يمكن أن يحدث .. جلست على الأرض من هول الصدمة واضعا يدي على رأسي لا شعوريا .. يا إلهي .. لقد قالت حبيبتي أن زوجتي (مريم) اتصلت بها وهددتها بالقتل ؟؟!! .. ولكن .. تلك المتصلة .. (مريم) .. إنها ليست زوجتي كما ظنت حبيبتي .. أو كما ظننت أنا أيضا .. بل هي .. بل هي والدتي !!! .. فوالدتي اسمها (مريم) أيضا .. والدتي التي توفيت منذ 10 سنوات تقريبا !!!!! .. الاسم .. الصوت .. الكلام .. يا إلهي .. هذا مستحيل .. مستحيل تماما .. إنه صوتها بكل تأكيد .. كيف تتصل بحبيبتي وتهددها ؟!! .. كيف جاء هذا الاتصال من عالم الموتى والأشباح ؟؟! .. كيف ؟!! .. كيف ؟!!!.
أنظر حولي بعينين زائغتين شاعرا أن شياطين العالم كلها تلاحقني .. وأستمع إلى صوت التسجيل للمرة العاشرة تقريبا .. إنني أسمع صوت شخص ميت !!! .. كيف يمكن أن يحدث هذا ؟!! .. كيف ؟!! .. لا أعلم .. لكن .. إنه صوت والدتي دون شك !!! .. يبدو أنها اتصلت بحبيبتي مرة أخيرة قبل خروجها إلى المطار .. أتذكر جيدا أنني طلبت منها ألا ترد على أي اتصالات هاتفية قد توتر الجو وتكشف أمرنا .. لذا فقد تركت جرس الهاتف يرن دون أن ترد على المتصل .. إلى أن تحول الاتصال إلى خدمة البريد الصوتي .. فتركت والدتي تلك الرسالة الصوتية المخيفة لعل حبيبتي تستمع إليها قبل خروجها من الشقة متوجهة إلى المطار.
أتذكر جيدا عندما قال الشهود أن حبيبتي راحت تقود السيارة فجأة بطريقة غريبة وجنونية !!! .. وكأنها فقدت عقلها أو اختل توازنها .. ترى .. هل ظهر لها شبح والدتي في السيارة مثلا وسبب لها رعبا ؟؟! .. هذا لا يصدق .. لقد كانت والدتي تريد حمايتي وحماية أسرتي من التفكك كما يبدو .. لذا تسببت بقتل حبيبتي بوسيلة مجهولة حتى أعود إلى صوابي ولا أقدم على تلك المغامرة.
نهضت من مكاني وحبات العرق تتكاثف بغزارة على جبيني .. وانتزعت الشريط الصغير من الهاتف وأخذته بيد مرتجفة عازما على حرقه !!! .. نعم .. فلأول مرة في حياتي أشعر بالخوف من والدتي المتوفية .. لا يمكن أن يظل هذا الشريط بحوزتي .. إنني أخشاه بشدة ولا أريد أن أحتفظ به.
لقد كنت أتساءل في فترة المراهقة .. كيف تنتقل المعلومات عبر أسلاك الهاتف ؟! .. وإذا كان هناك من يرى أشباحا على أرض الواقع كما نقرأ ونسمع دائما .. فهل هناك من يستمع إلى تلك الأشباح عبر خطوط الهاتف أيضا ؟!! .. لكني الآن عثرت على الإجابة بنفسي .. وها هو الدليل بيدي قبل أن أتخلص منه .. اتصال هاتفي تلقته حبيبتي من والدتي التي توفيت منذ 10 سنوات .. وقد أعادت حياتي إلى ما كانت عليه رغم أنفي !!.
وهذا ليس كل شيء .. فهناك مشكلة أخرى طرأت في ذهني للتو .. مشكلة مخيفة تجعلني أشعر وكأنني محاصر تماما إلى درجة الاختناق .. فقد كانت الاتصالات ترد من بيتي كما علمنا من خدمة كاشف الرقم .. هذا يعني أن شبح والدتي يسكن في بيتي !!! .. إنه دليل لا يقبل الشك .. كيف سأبقى في هذا البيت بعد أن عرفت أن هناك شبح يسكنه ؟؟!! .. كيف سأحتمل تخيل ما قد يحدث عندما أحاول إضاءة غرفتي أو أي مكان مظلم في البيت واشعر فجأة بيد تلامس يدي ؟!!.
هذا يفوق كل احتمال .. لقد أصبحت أخشى بيتي فجأة .. أخشى كل ركن فيه .. بل وأخشى دخول الحمام بمفردي .. سأخبر زوجتي أنني عازما على بيعه وشراء بيت آخر .. لن أحتمل المبيت فيه ليلة واحدة بعد الآن .. حتى لو اضطررنا إلى الإقامة في شقة مؤقتة إلى أن أجد بيتا آخر .. بالطبع سيثير هذا تساؤلات أفراد أسرتي .. لكني لن أكترث لتساؤلاتهم .. سأجد أعذارا كثيرة أقنعهم بها .. هذا آخر ما أفكر به الآن.
عزيزي القارئ .. إن الإنسان بطبيعته يهاب الموتى دون سبب واضح .. فما بالك لو تحدث الموتى إلينا وسمعنا أصواتهم ؟؟! .. ما بالك لو تأكدنا الآن بما لا يدع مجالا للشك أن الموتى يعيشون بيننا ؟!! .. لك أن تتخيل حالتي النفسية.
هذه هي قصتي .. أعلم أن البعض لن يصدقها وسيتهمني بالكذب أو الجنون .. لكن لدي أدلة مؤكدة على صحة كلامي .. الشريط الذي قمت بإتلافه والذي يحوي تسجيل سمعته عدة مرات لصوت والدتي المتوفية وهي تهدد حبيبتي بالقتل .. قيادة حبيبتي لسيارتها بطريقة جنونية مفاجئة كما يقول الشهود .. إنها أدلة لا تقبل الشك.
لقد تعلمت من قصتي هذه أن الموتى ليسوا صامتين دوما كما نظن .. فهم موجودين فعليا حولنا .. يراقبوننا .. ويراقبون تحركاتنا .. وربما يتدخلون أحيانا في حياتنا ظنا منهم أنهم يصلحون ما نفسده .. تماما كما حدث معي !!! .. فقد ثبت كل هذا الآن بعد الأحداث المهولة التي مرت بها حبيبتي .. وبعد تلك الاتصالات المخيفة من والدتي .. والدتي المتوفية !!!.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا