القبر رقم 232188
"موسى عبد الوهاب موسى"
كان يرقد هادئاً مبتسماً في قبره في أول ليلة له فيه، وروحه تشعر براحة لا توصف، فقد تخلص أخيراً من معاناته في الدنيا وترك في حاله، إذن هذا هو الموت الذي يخشاه جميع الناس، كم هو سهل ومريح، ليته مات منذ زمن طويل لينعم بالهدوء الذي يعشقه، وبالسلام الذي طالما تاق إليه.
لم يقلل من سعادته أن روحه كانت لا زالت تتوجع من قسوة سكرات الموت التي عاناها، إذ تقبلها كما كان يتقبل كل الآلام التي مرت به في حياته، فقد فاقت فرحة روحه بوحدته وبراحة باله كل ألم شعرت به وهي تفارق الجسد الذي سكنته مرغمة لسنين طويلة.
تقلب قريراً هانئاً، فلم يعد هناك أي شيء يجبره أن يترك مرقده ويخرج ليصارع الدنيا، لا عمل يذهب إليه ليجني لقمة عيشه، ولا طلبات للبيت عليه إحضارها، ولا مسئوليات تجاه أولاده يضطلع بها، ولا زوجة ثرثارة نقاقة مسيطرة تجبره على سماع هذرها.
ولا شيء على الإطلاق، فلم يعد يحتاج إلى طعام ولا شراب، ولم يعد هناك ثياب يقلق بخصوص ترتيبها ونظافتها، فهذا الكفن الأبيض الذي لفوا به جسده قد كفاه مؤونة كل ذلك، ولم يكلفه شيئاً ولم يبذل أي مجهود للحصول عليه، والأفضل من ذلك أن كل من هم حوله يلبسون نفس ما يلبسه، فلن يتمكن أي منهم أن يستخر مما يرتديه أو يتفاخر عليه.
وكان ينظر إلى الخراب الذي يسعى سريعاً إلى جسده بعدم اكتراث، فقد تحرر أخيراً من ذلك الجسد ولم يعد يشعر به، ولم يعد مجبراً أن يحافظ عليه ويحميه بكل ما استطاع، فلو قطع جسده إرباً لما ضره ذلك بشيء، ولم يعد يؤذيه حر أو برد، بل لم يعد يحتاج ذلك الجسد بشيء، فها هو يسمع كل ما يدور حوله بأفضل مما كانت أذناه المسنتان تمكنانه من سماعه في أيامه الأخيرة، ويرى كل شيء بدون أن يستخدم تلك العينين اللتين شاختا وضعفتا، والأجمل أنه لم يعد مضطراً لارتداء النظارة التي لازمته سنيناً طويلة حتى حفرت علاماتها على أرنبة أنفه.
ولم يكن يحتاج كذلك لرجليه الكسيحتين العاجزتين، فقد تركهما خلفه غير آسف، إذ أصبح بإمكانه الآن أن ينتقل بحرية بدونهما، وتحرر من ذلك الكرسي الذي كان مقيداً إليه طوال السنة الأخيرة من حياته، كم كره عجزه وحاجته للناس حينها، فلم يكن هناك شيء أبغض إلى نفسه من أن يثقل على أهله أو على أي أحد من الناس، لكن لم يكن لديه خيار، فلم تعد رجلاه قادرتان على حمله بعد أن شلتا وأصبحتا كجذعي شجرة يابسين يجرهما وراءه.
كان موسى إنساناً طيباً عاش ومات طيباً، لم يؤذ أحداً في حياته ولم ينو الشر لأحد، وكان قانعاً بكل ما أعطاه الله له، فلم يحسد يوماً إنساناً ولم يتمن شيئاً مما لدى الآخرين، ولطيبته كانت الحياة صعبة عليه، فقد كان التعايش مع أذى الناس يتعبه ويضني روحه، فلم يتركه الناس في حاله رغم أنه كان يتجنب الصدام مع أي إنسان ولا يتعامل مع أحد إلا بالحسنى.
لكن حياته كانت صراعاً مستمراً منذ ولد، فقد كان يجد دوماً من يحسده على ما عنده مهما قل، ففي صغره كان أخوه الأكبر يحسده على محبة أمه وعنايتها به، فوعى على الحياة وذلك الأخ يضربه يسرق ما لديه كلما وجد فرصة يغافل فيها أمه، كان يتجنب الشجار مع أخيه بكل طاقته، فحتى بعدما كبر لم يكن قلبه يطاوعه لينتقم من أخيه مهما آذاه، وكان يعطيه كل ما يريد ويتنازل له عن كل ما لديه في سبيل أن يتجنب غضبه، لكنه استمر بإيذائه، فقد جعلت سماحة موسى يطغي ويتجبر، ولم يتخلص منه إلا بعدما بلغ ذلك الأخ سن المراهقة، فانشغل بأصدقائه وبملاحقة الفتيات ونسى موسى.
وما كاد يتنفس الصعداء حتى التقطه أحد المتنمرين في مدرسته، فكان يسرق ماله وطعامه ويضربه ويسخر منه أمام أترابه، وتبعه كثير ممن وجدوه فريسة سهلة لهدوئه وطيبته، فكره مدرسته وأصبح يتهرب من الذهاب إليها، وما كاد ينهي المرحلة المتوسطة حتى رفض أن يواصل دراسته، وتحمل ضرب أبيه له دون أن ينبس بكلمة حتى يئس منه.
وجد وظيفة متواضعة بعدما أكمل الثامنة عشرة وقنع بها، وكان ينفذ كل ما يطلب منه دون شكوى، لم يعترض حتى عندما استمر رؤساؤه بتجاوزه في الترقيات وتعيين معارفهم الأقل منه خبرة في مناصب كان يعلم أنه أجدر بها، فلم يطمع يوماً بمنصب ولا سلطة، كان يريد فقط أن يترك في حاله ليؤدي مهام عمله بهدوء وصمت كعادته، وتسلق على أكتافه الكثيرون، وسرقوا ثمرة جده واجتهاده، وحملوه أخطاءهم دون أن يحمل في قلبه ضغينة لأحد.
وكان خلال ذلك قد تزوج من اختارتها له أمه دون مناقشة، لم يجدها جميلة ولا قبيحة، وكان يعلم أن ابنة خاله التي أحبها بصمت لن تقبل به يوماً، فقد كانت تحمل شهادة عليا وتطمح إلى الزواج برجل يناسب ثراءه جمالها الفاتن، فلم يتجرأ على مصارحتها بمشاعره.
وحتى عندما كشرت زوجته عن أنيابها بعدما اخترت هدوءه ومسالمته لم يعترض، واستسلم لتجبرها وتحكمها براتبه وبكل حركاته وسكناته بخضوع وسكينة، فقد كان سعيداً بأولاده وببراءة طفولتهم وحبهم له، لم يتوقف عن حبهم حتى بعد أن كبروا وجعلتهم وقاحة أمهم معه يحتقرونه بدورهم ويتجاهلون نصائحه ويسخرون من أوامره.
وانتظر بصبر دوره ليحصل على البيت الحكومي، فقد تجاهل أوامر زوجته للمرة الوحيدة في حياته ورفض أن يبني بيته الخاص، إذ كان واثقاً أن مقاولي البناء سيستغلون طيبته كما يفعل كل الناس ويخدعونه، فانتظر البيت الجاهز وفرح به كما لم يفرح بأي شيء آخر في حياته عدا ولادة أبنائه.
لكن فرحته لم تطلن فقد أوقعته القرعة في وسط منطقة يتركز فيها أبناء قبيلة واحدة، وكان كل جيرانه أبناء عمومة وأقارب، فكان بينهم كالشوكة في جنبهم، لم يهنئه أحد منهم ببيته الجديد، وكانوا بالكاد يردون تحيته إذا لقاهم، ويدفعونه بمناكبهم عندما يصلي بقربهم حتى يؤخرونه إلى الصف الخلفي.
واتخاذ أولادهم فناء بيته مزبلة لهم، فكانوا يرمون قمامتهم وزجاجات المشروبات الغازية عليه ليلاً ونهارا، وكان يجد خدوشاً جديدة بسيارته كلما أصلحها، لكن أصعب ما عاناه كان ترصد أولادهم الأشقياء لأولاده وضربهم لهم كلما اصطادوهم، ولم تجد شكواه لأهلهم شيئاًن فقد استخفوا به واستهزءوا برجاءاته المتكررة، التي بدت لهم لفرط لطفه وتهذيبه أشبه بالتوسلات الذليلة.
وبعد فترة من الوقت استسلم كعادته وباع بيته بسعر بخس وانتقل إلى بيت جديد، ورغم صغر مساحة البيت فقد كان سعيداً به وبالساحة الكبيرة أمامه، إذ اكتشف متعة جديدة عندما بدأ يزرع تلك الساحة وحولها إلى حديقة جميلة، فقد وجد أخيراً مخلوقات لا ترد جميله بالإساءة ولا تؤذيه في شيء، فكان يقضي أمتع أوقاته وهو يزرع حديقته ويعتني بها.
أصبح يعشق الزرع واللون الأخضر، وحاول أن يحيط نفسه به حيثما ذهب، فملأ مكتبه بأصص فخارية حوت كل ما استطاع أن يحشره في ذلك المكتب الصغير، وجعل بهجة ذلك اللون تغمر كل المساحات الفارغة في بيته، وكان يحرص على أن يعتني بتلك المزروعات بنفسه، فلم يسمح يوماً لأحد أن يشاركه تلك المتعة، وخاصة أن بعض ما يزرعه كان نادراً ويحتاج إلى رعاية بطريقة كان يشعر أنه لا يجيدها سواه، وبعد أن تقاعد من عمله صارت تلك النباتات هي تسليته الوحيدة.
ولما مات كان أكثر ما يسعده في رقدته تلك مساحة العشب الأخضر التي تجاور قبره، ونبتة نوير صغيرة ما زالت صامدة منذ الربيع تتدلي أزهارها الصفراء الفاتنة على قبره.
وبغتة اختفت ابتسامته وأحس بالقبر يظلم عليه، فقد شعر بالقلق على نباتاته الحبيبة، فمن المؤكد أن زوجته التي لم تخف يوماً ضيقها بتلك النباتات لن توليها ما تحتاجه من عناية، ولم يكترث أي من أبنائه يوماً بتلك المزروعات ولم يحاولوا أن يتعلموا شيئاً عنها.
لكن قلقه ذلك كان قصير الأمد، فراحة البال التي سيطرت على روحه جعلت الابتسامة تعود إليه ثانية، فلتمت بعض نباتاته أو كلها، ما المشكلة؟ فها هو قد جرب الموت وذاق حلاوة راحته، فلم يبخل بتلك الراحة على نباتاته الحبيبة؟
واستمرت تلك الابتسامة وامتدت لتشفى جرحاً أصاب روحه قبل سنة من تاريخ موته، فقد صحا من نومه يوماً مفزوعاً لسماعه ضجة هائلة خارج بيته، فخرج يجري ليتفاجأ ببلدوزرات جبارة تهدم حديقته، وبرافعات شوكية تقتلع أشجار النخيل التي رباها لسنين.
ورغم أنه عاش حياته كلها هادئاً مسالماً فقد أفقدته الفجيعة هدوء أعصابه، فاندفع صارخاً يحاول إيقاف أولئك المجرمين الذي كان يقتلون أشجاره وأزهاره الحبيبة بلا رحمة، لكنهم تجاهلوا صراخه، الذي انقلب بعد لحظات إلى توسلات باكية تجاهلوها أيضاً بعدم اكتراث.
كانت دموعه تسيل رغماً عنه وهو يقف عاجزاً عن الدفاع عن حديقته الحبيبة، بينما كانت تلك الآلات المتوحشة تقتلع كل ذرة من اللون الأخضر بذل من عرقه وعمره الكثير ليعتني بها، وتحطم نافورات المياه التي بناها بيديه، وتدوس سور أشجار المجنونة التي اختارها حمراء اللون تبهج كل من يراها، والتي صفها بترتيب جميل وكان يحرص على تشذيبها بانتظام، ولم يتوقف أولئك الوحوش حتى ساووا حديقته بالتراب، ولم يتركوا منها سوى جثثاً هامدة كان لون أزهار المجنونة يبرق بينها كقطرات دم مسكوب.
ولم يكتفوا بما فعلوه، بل أصدروا له أمراً شديد اللهجة بأن يزيل جثث أشجاره الحبيبة والبقايا المحطمة لحديقته بحلول الغد وإلا.
عاد إلى بيته وقد حفر الحزن جرحاً في قلبه، وكان ذلك الجرح يعمق أكثر في كل مرة يخرج فيها، فقد كان منظر بيته المكشوف والأرض الجرداء حوله يصدمه من جديد في كل مرة يراه فيها.
حاول أن يواسي نفسه، فاشترى المزيد من النباتات الداخلية وملأ بها فناء بيته، لكنه ظل يفتقد حديقته الجميلة، التي كانت مهربه وملاذه كلما اشتدت عليه وطأة صراخ زوجته وضجة أولاده وأحفاده، فقد كانوا كلهم يقيمون عنده ويزحمون بيته، مستغلين شدة حيائه، وطيبته التي كانت تمنعه من أن يجرح إحساس أحد مهما ضايقه.
وبعد فترة تحول ذلك الحزن إلى آلم يشتد قسوة كلما أوى إلى فراشه بحسرته، حتى استيقظ في أحد الأيام وقد ازداد ذلك الألم وأخذ يعتصر قلبه ككماشة تغرز أسنانها العاتية فيه، كان يشهق بكل قواه محاولاً دون جدوى أن يدخل نسمة هواء إلى صدره الذي شعر به يضيق حتى كادت أضلاعه تنطبق، لم يستطع حتى أن يصرخ فقد تحجر صوته في حلقه، ولولا أن أحد أحفاده الصغار دخل غرفته ليلعب متجاهلاً نوم جده كعادته لقضي نحبه وقتها.
تعافى بصعوبة من تلك المحنة وعادت الحياة إلى جسده تدريجياً، لكن رجليه خانتاه وبقيتا ميتتين، وضاعف شلل رجليه من ضيقه بالحياة، فقد أصبح حبيس منزله، ولم يعد به فائدة لنفسه أو لأحد، وكان كل يوم يعيشه ويحتاج فيه إلى أهله يشعره بأنه عبء ثقيل ويجعله يتمنى الموت أكثر فأكثر.
حتى جاء ذلك اليوم الموعود أخيراً، ففي هذه المرة هاجمه ذلك الألم في وقت متأخر من الليل عندما كان وحيداً في غرفته، وظل يصارع لالتقاط أنفاسه محاولاً أن يزيح ذلك الثقل الذي أحسه كصخرة تجثم على صدره، ثم أخذ يزحف على الأرض بيأس ليخرج من غرفته ويستنجد بأحد ممن حوله، لكن اليد الجبارة التي كانت تعتصر قلبه تمكنت من إيقاف دقاته قبل أن يصل إلى باب الغرفة.
توقف الألم أخيراً وتوقف كل شيء، وكان ينظر إلى جسده بتعجب عندما غادره كأنه يراه لأول مرة، مستغربا ضآلة جسمه ونحول أطرافه، والشعرات القليلة التي بقيت في رأسه والتجاعيد التي ملأت وجهه، هل هذا هو حقاً؟ متى أصبح مسناً إلى هذا الحد؟ أين ذهب شبابه وقوته؟
لكن ما استغربه حقاً كان فجيعة أهله عليه، فقد ألقت زوجته بنفسها على صدره وانخرطت في بكاء مر، وتوالت صيحاتها الجريحة وهي تبكي ذلك الزوج الطيب الذي لم يؤذها يوماً حتى بكلمة:
- آه يا حبيبي! يا عمري كله! يا روحي وحياتي! يا أنيس قلبي ومهجة فؤادي! ليتني مت قبلك! ليت الموت أخذ روحي أنا وترك روحك الطيبة الحنون!
يا للعجب! هل كانت تلك المتسلطة المتجبرة تحبه؟ لماذا إذن كانت تعامله بهذه الطريقة وتجرح كرامته كل يوم؟ ولماذا كان على روحه أن تغادر جسده إلى الأبد قبل أن يسمع لأول مرة هذه الكلمات التي لن تنفعه الآن بشيء؟
ولم تكن دهشته أقل وهو يرى دموع أبنائه وحسرتهم عليه، كأنهم لم يعقوه يوماً ولم يستهينوا به وبحقه عليهم، كان يظنهم يتمنون موته بأسرع وقت ليرتاحوا من همه، لكن محبتهم له وحزنهم على فراقه فاجأته وأذهلته.
ورغم أن جزءاً من روحه قد أسعده اكتشافه لمقدار حب أهله له، إلا أن ذلك لم يجعله يتمنى العودة إلى الحياة ولو للحظة، فللمرة الأولى منذ ولد شعر بالراحة من عناء الصراع الدائم مع الحياة والناس، وتحرر من كل القيود والهموم ولم يعد هناك من يؤذيه أو يجرحه. ومرت السنوات وهو قرير البال مرتاح في قبره، وكان أهله يزورونه كثيراً ويذكرونه دائماً بصدقاتهم ودعائهم، وكم كان يود لم تمكن من أن يخبرهم أنه بخبر حال ولا يحتاج إلى شيء، وأنه كان أسعد حالاً في بطن ذلك القبر الذي أشفقوا عليه من ظلامه ووحدته مما كان عليه طوال حياته، وأنه حتى حسد جيرانه في القبور المجاورة له وغيرتهم من زيارات أبنائه الكثيرة له لم تنقص شيئاً من السلام الذي كان ينعم به
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا