أنبوبة البوتاجاز
مقدمة
إنها واحدة من القصص التي أسردها لكم بناء على الأدلة والتحريات والاستنتاجات.. إذ لم ألتق بأي من أطرافها الأسباب ستتضح لكم في نهاية القصة.. لكني سأسرد تفاصيلها على لسان الشخصية الرئيسية فيها.. والسبب هو – كالعادة - اللمسة الدرامية.
وسأعود بعد ذلك في الخاتمة لذكر بعض الملاحظات الإضافية التي لا أستطيع التطرق إليها الآن؛ كيلاً أفسد عليكم الأحداث.
لن أجد فكرة أبسط وأذكى من استخدام أنبوبة البوتاجاز لتنفيذ خطتي.. إنها الوسيلة المثلى لارتكاب جريمة قتل ولجعل الأمر يبدو وكأنه حادث منزلي عرضي.. أو إهمال منزلي.. إلخ من المسميات التي يطلقها رجال الشرطة على حوادث كهذه.
علي فقط أن أكون حذراً.. وأن أدرس خطتي جيداً وبسرعة.. حتى أتمكن من تنفيذها قبل فوات الأوان ومن دون نواقص أو ثغرات.. يجب أن أقتل عشيقتي التي ستتسبب لي بفضيحة تهز مركزي ومكانتي الاجتماعية.. ولا أبالغ لو قلت أنها ستدمر حياتي!!.
إنني رجل أعمال عصامي أعيش حياة هادئة مستقرة قد تبدو مثالية للجميع.. إذ أمنح عملي كل الاهتمام المطلوب..
لأعود بعدها إلى البيت كي أمنح زوجتي وأولادي اهتمامي أيضاً. كما أمارس الرياضة بانتظام.. فأبدو للجميع نموذجاً للرجل الناجح من الناحية الوظيفية والشخصية والعائلية.. لكني في الواقع أعيش حياة سرية لا يعرف عنها أحد شيئاً سوى قلة قليلة من أصدقائي المقربين.. إذ أستغل بعض أوقات فراغي في اللهو والعبث مع الفتيات.
نعم.. لقد اعتدت منذ زمن أن أقيم حفلات خاصة محدودة الحضور في أوقات متباعدة من كل عام؛ لأقضي وقتاً ممتعاً بعيداً عن المسؤوليات.. وبحضور مجموعة من الفتيات الجميلات اللاتي يأتي بهن أصدقائي لإضفاء المزيد من المتعة على الليلة التي تمتد عادة إلى صباح اليوم التالي.. فنعاقر الخمر ونتعاطى بعض المواد المخدرة الخفيفة.. وقد كانت الحفلة الأخيرة تحديداً هي البداية الحقيقية لقصتي.. حين تعلق قلبي بفتاة بدت وكأنها في الثلاثينيات من عمرها. حيث رأيتها تدخل بخطوات هادئة لتلقي التحية بصوت خافت.. ثم تجلس بكامل أناقتها وتنظر إلى السقف بطريقة تخلب لب أي رجل يراها.. وكان من الواضح أنها تفوقت بجمالها وأنوثتها ورشاقتها على كل الفتيات اللاتي تواجدن معنا في تلك الليلة.. مما جعلني أطلب من أصدقائي بإشارات واضحة أن يتركوا هذه الفتاة لي.. لأظل أحدق فيها وأنسي كؤوس الخمر والموسيقى الهادئة التي تزيد المكان شاعرية.. فتذكرت لا شعورياً سنوات مراهقتي.. حين كنت أرسم في مخيلتي فتاة الأحلام وأتمنى أن ألتقي بها في عالم الواقع. لذا أستطيع أن أقول وبكل ثقة أنني عثرت على فتاة أحلامي أخيراً وقد جعلت قلبي يخفق لأول مرة طوال سنوات عمري الـ 45.. فكان لابد بعد كل هذا من دعوتها لتجلس بالقرب مني لنتبادل أطراف الحديث.
لم يتطلب الأمر وقتاً طويلاً كي يزيد انجذابي إليها.. إذ كانت على قدر من الثقافة.. وتحمل عقلاً ناضجاً على عكس مثيلاتها من الفتيات.. مما جعلني أقضي الليلة بأكملها أتحدث إليها وأعرفها أكثر وأكثر.. وأكتشف أنها تتردد على هذه الليالي الحمراء بعد أن طلقها زوجها وسلبها كل شيء.. خاصة وأنها تنتمي إلى عائلة مفككة لم يفكر أي من أطرافها بمساعدتها.. فتراكمت عليها الديون. لتتحول إلى الفتاة التي أراها الآن.. إنها ظروف معتادة تتكرر كثيراً في كل المجتمعات.
كنت أرغب في التحدث مع (لمى)- وهذا اسمها- أكثر وأكثر.. لكن الوقت تأخر كثيراً وظهرت ملامح فجر اليوم الجديد.. ليقوم أحد الأصدقاء بتذكيرنا بضرورة إنهاء الحفل.. فنهضنا بتكاسل وخرجنا جميعاً كل إلى وجهته.. لكن ليس قبل أن أحصل من (لمي) على رقم هاتفها.
كانت تلك الليلة هي العلامة الفاصلة في حياتي.. فبعدها بدأت علاقتي بـ(لمي).. وراحت تنمو بسرعة مع مرور الأيام.. حتى إنني فكرت بالزواج منها بعد أن وجدت نفسي غارقاً في حبها. إلا أنني تراجعت عن تلك الفكرة بسبب وضعي الاجتماعي.. واكتفيت بتأجير شقة راقية جداً لها.. لتصبح وكأنها بيتي الثاني.. كما منحتها راتبا شهرياً كي تعيش حياتها دون صعوبات.. وبالمقابل.. كل ما كنت أطلبه منها السرية.. السرية التامة فحسب.
وهكذا أضافت (لمى) لمسة سحرية من الحب والمغامرة وكل ما كنت أتمناه في حياتي.. فكنت أذهب إليها بين حين وآخر.. وأستريح عندها من كل متاعب وضغوط الأسرة والعمل.. فنقضي معاً ساعات جميلة. لأخرج بعدها وأمارس حياتي الطبيعية شاعراً أنني حصلت على جرعة معنوية هائلة.. ولا أنكر أن موظفي شركتي كلهم لاحظوا التغيير الكبير الذي طرأ على شخصيتي. إذ أصبحت أكثر مرحاً.. وأكثر هدوءاً وتقبلاً للأخطاء.. ولم يكن من العسير أن يلاحظ أفراد أسرتي ذلك أيضاً.. لكني ظللت أعزو تلك التغييرات إلى النجاح الكبير الذي أحققه في شركتي فحسب.
ظللت على هذا الحال لأكثر من سنة.. ازدادت خلالها علاقتنا قوة.. حتى بت لا أتحمل مرور يوم من دون أن أراها.. أو أتحدث معها هاتفيا على الأقل.. في حين ظلت هي تمنحني كل الاهتمام المطلوب.. وقد بدت ممتنة لهذا التغيير الجذري الذي أضفته إلى حياتها من سكن ومصروف شهري وإنهاء كل ديونها.. فلم تكن تخرج من الشقة كثيراً.. بل تقضي فيها جل وقتها.. ويقتصر خروجها فقط على الذهاب إلى النادي الصحي القريب الذي تقضي فيه ساعتين أو أكثر قليلاً يومياً.
إلى أن جاء ذلك اليوم الأسود.. حين اتصلت بي (لمى) أثناء وجودي في الشركة.. وطلبت تقائي للضرورة القصوى.. وعبثاً حاولت فهم ما تريده عبر الهاتف.. إلا أنها أصرت على أن تلتقي بي وجهاً لوجه كي تخبرني بما لديها.. مما جعلني أترك أعمالي وأتجه إليها ظناً مني أن الأمر بسيط ولن يكون بالخطورة التي تتحدث عنها.. فأنا أملك المال.. وهو كفيل بحل المشاكل كلها.. و.. حين وصلت.. وجدتها قلقة متوترة.
وما أن جلسنا في صالة الشقة.. حتى صعقت حين ألقت بتلك القنبلة:
- أنا حامل!!.
ربما توقع بعضكم هذا التطور في الأحداث بسبب الأعمال الدرامية العربية التي تكرر الفكرة نفسها حتى حفظناها جميعاً.. لكن.. أصدقكم القول أنني لم أفكر بذلك أبداً.. إلى درجة أنني التفت إليها بذعر سقط معه كل كبريائي.. لأسألها:
- متى؟!.. وكيف حدث ذلك؟!.
هزت رأسها أسفاً مشيرة أنها لا تملك الإجابة.. فسألتها بعصبية:
- هل يدخل أحد غيري شقتنا هذه؟!.
أعلم أن في سؤالي هذا إهانة كبيرة لها.. لذا ردت بحدة غير مصدقة اتهامي الواضح لها بالخيانة:
- هل جننت؟!.. كيف تتهمني بشيء كهذا؟!.
للأسف!.. في لحظات كهذه تسقط أقنعة الحضارة التي نرتديها.. وهذا ما جعلني أنهض وأقول صراحة:
- ولم لا؟!.. هل نسيت أين التقينا؟!.. هل نسيت من أنت؟!.
اغرورقت عيناها بالدموع لأول مرة منذ عرفتها.. ولا أنكر أنني بذلت جهداً خارقاً كيلاً أحتضنها رغم دقة الموقف وخطورته على سمعتي.. لتقول بأسف:
- لو كنت فقط تعلم مدى حبي.. لما طرحت هذا السؤال.. أنت أنقذتني من الشارع.. أنت حبيبي وولي نعمتي.. فكيف أخونك؟!.. إنني حتى لم أطلب منك يوماً أن تقصر بحق أسرتك من أجلي.. وكنت أكتفي بأوقاتك القليلة التي تقضيها معي.
لم أرد على كلامها.. بل ظللت بين الشك واليقين.. أنظر إليها وأتذكر أنها فتاة تصغرني بأعوام طويلة.. وربما ترغب في علاقة مع شاب في مثل عمرها.. وقد أحبت أحدهم وباتت تلتقي معه هنا في فترات غيابي و:
- تستطيع أن تسأل رجل الأمن الموجود في الاستقبال؛ لتتأكد أن أحداً لم يدخل هذه الشقة يوماً سواك.. بالإضافة إلى الخادمة التي استأجرتها لي لتزورني مرتين أسبوعياً كي تقوم بأعمال التنظيف.
أطرقت برأسي شاعراً بالأسف لشكوكي.. بالفعل.. أستطيع التأكد بسهولة إن كانت تخونني.. لذا فإن أمر الخيانة غير وارد هنا كما هو واضح.. وهذا ما جعلني أصمت مفكراً.. فاحترمت هي صمتي في المقابل.. لأقترب منها وأحتضنها بحنان.. ثم أقول:
- على كل الحال.. سنسافر معاً إلى إحدى الدول التي تسمح بعمليات الإجهاض.. و...
لم أكمل عبارتي.. إذ قاطعتني بعصبية واستنكار بالغين وهي تقول:
- مستحيل.. مستحيل أن أقتل طفلي بنفسي.. إنه طفلك أيضاً.. كيف تقتله؟!.
قلت بصرامة:
- إنه ما زال في بطنك ولم ير الحياة بعد.. لا مفر من التخلص منه.. لن أدمر حياتي وكل ما بنيته من أجل لحظة عبث.. هل تفهمينني؟!.
حسناً.. لا داعي للخوض في هذا الحوار الطويل المكرر الذي نعرفه جميعاً.. فنتائجه واضحة.. إنها لا تريد التخلص من الجنين.. وأنا لا أريد جنينها هذا.. لأن ظهوره إلى الحياة سيعني كارثة ستدمر حياتي وحياة أسرتي.. حتى إن حبي لـ (لمي) قد انهار فجأة.. بعد أن أصبحت تمثل في تهديداً حقيقياً.. فهذا الطفل لا يمكن أن يرى الحياة.. لا يمكن أبداً.
المهم أن عنادها استمر رغم كثرة نقاشاتنا التي استغرقت أسابيع طويلة.. مما سبب لي ضغطاً نفسياً هائلاً.. مع تهديدها المستمر أن أمنح جنينها الشرعية المطلوبة وأعترف به وأتزوجها - وهو المستحيل بعينه بالنسبة لي. وإلا ستلجأ إلى القضاء.. فبت في موقف لا أحسد عليه أبداً.. حتى بدت في شهور حملها كعداد القنبلة.. كل يوم يمر.. تقترب القنبلة من الانفجار.. وأعني بذلك ولادتها لذلك الجنين.
هنا يجب أن أعترف أنني حين استخدمت لفظة (قنبلة) في مخيلتي.. طرأت في ذهني تلك الفكرة.. أن أتخلص منها.. وأعني بذلك القتل!!.. لم يكن الأمر بهذه السهولة.. فعلي أولاً أن أتقبل أنا نفسي فكرة أن أرتكب جريمة قتل.. لكن الفكرة ظلت تتكرر في عقلي وتصبح أكثر قبولاً حين عجزت عن العثور على أي حلول أخرى.. فقط علي التفكير بالوسيلة المناسبة لقتل (لمي)، وأن أكون بعيداً عن الشبهات.
ظللت أفكر أياماً طويلة وقد قل إلحاحي للتخلص من الجنين.. مما جعل (لمي) تشعر بالانتصار وأنها وضعتني أمام الأمر الواقع.. خاصة حين أخبرتها أنني أفكر في الزواج منها.. كل هذا لأكسب المزيد من الوقت.. و.. في النهاية اكتملت الخطة في ذهني.. من خلال العودة إلى عنوان القصة نفسها.. أتحدث هنا عن أنبوبة البوتاجاز التي ستجعل جريمتي تبدو كحادث منزلي عادي.. لكن قبل ذلك.. كان علي أن أطرح سؤالاً هاماً:
- من يعرف بأمر علاقتي بتلك الفتاة؟!.
ابتسمت لا شعورياً حين تذكرت أن لا أحد إطلاقاً يعلم بأمر علاقتنا.. حتى أصدقائي المقربون أنفسهم.. فهم لم يروا (لمى) سوى مرة واحدة منذ أكثر من سنة في تلك السهرة.. ولا يعرفون ما حدث بعد ذلك.
لقد احتفظت بسرية علاقتي بها لحسن الحظ. فالشقة مسجلة باسم (لمى) أيضاً.. كما كنت أمنحها مصروفها وكل ما تحتاجه من مال دون أي تحويلات بنكية. أي أن اسمي ليس مرتبطاً بتلك الفتاة إطلاقاً.
ربما الوحيد الذي يعرف بأمر علاقتنا هو رجل الأمن الذي يعمل في صالة استقبال المجمع السكني الذي استأجرت فيه الشقة.. لقد شاهدني كثيراً داخلاً وخارجاً.. فكنت أشتري سكوته وحفاظه على السر بجنحة بقشيشاً محترماً بين حين وآخر.. لكن الأمر سيختلف الآن.. عليه الرحيل والعودة إلى بلاده قبل تنفيذ خطتي.. لأن موت (لمى) في حادث عرضي سيعني تدخل الشرطة.. وربما يعترف لهم هذا الأحمق بأنه يراني ذاهبا إلى شقتها بين الحين والآخر.
لذا طلبت من رجل الأمن أن ألتقي به في الأيام القليلة القادمة خارج المجمع السكني للضرورة.. فوافق وهو يعلم أنني سأطلب منه شيئاً يستوجب فيه دفع بقشيش كالعادة.. لكنه لم يتوقع أبداً أن أعرض عليه شيئاً كهذا.. إذ قابلته فعلياً في أحد شوارع منطقة سكنية حديثة.. وأخبرته أنني سأمنحه راتب 5 سنوات دفعة واحدة.. شرط أن يقوم بإنهاء عقد عمله ويترك البلد في أقرب فرصة.. مع ضرورة أن يمحو كل تسجيلات كاميرات المراقبة الموجودة في قاعة استقبال المجمع السكني.. ويبدو أن العرض كان مغرياً كما شعرت من البريق الذي ظهر في عينيه.. بل تأكدت من ذلك حين وافق مباشرة من دون أي مساومة.. وقد زاد اطمئناني بعد أن أثبت لي لاحقاً أنه لا توجد أي تسجيلات لكاميرات المراقبة أصلاً.. لأنه يقوم في نهاية كل أسبوع بمحو التسجيلات السابقة.. مما أشعرني براحة نفسية هائلة.. لذا لم أتأخر كثيراً.. إذ أنهيت كل إجراءات الاتفاق في الأيام التالية ليرحل رجل الأمن عائداً إلى بلده.. مما يعني أن أحداً لم يعد يعرف بأمر علاقتي بـ (لمي).. لتتبقي الخطوة الأهم.. تنفيذ خطتي.
مرت أيام قليلة أخرى لم أقم خلالها بزيارة (لمى) إطلاقاً بحجة انشغالي الشديد.. لكن الواقع أنني لم أكن أرغب أن تكشفني كاميرات المراقبة في أي زيارات جديدة.. إلى أن حان يوم التنفيذ، حيث اتصلت بها وطلبت منها أن تعد لي وجبة عشاء على أن نقضي أمسية هادئة.. لأنني أحمل لها خبراً ساراً.. مما حفزها وجعلها تظن أنني سأزف لها بشرى إعلان زواجنا.. بل وتعمدت أن ألمح فعلياً لذلك.. لأجعلها تترقب قدومي بفارغ الصبر.. مما وضعني أمام الخطوة الأخيرة.. وهي أخطر الخطوات.
لم أظن أنني سأخرج يوماً بهذه الطريقة.. إذ ارتديت ثياباً شبابية.. ووضعت قبعة تخفي جزءاً من ملامحي مع نظارة طبية كبيرة نسبياً.. ووضعت شنباً ولحية مستعارين كنت قد طلبتهما من أحد مواقع التنكر عبر شبكة المعلومات.. فبدوت شخصاً مختلفاً تماماً.. لأذهب بعدها إلى تلك الشقة التي بت أكرهها أكثر من أي شيء.
كانت الخطوة الأخطر هي المرور في قاعة الاستقبال بسبب كاميرات المراقبة كما علمنا.. لذا كنت أسير بقلق وبأقدام تهتز توتراً. وقد عقدت العزم أن أعود أدراجي لو سبب لي حارس الأمن الجديد أي مشاكل.. أعلم أن وجوده شكلي لا أكثر.. وأنه لا يسأل أصلاً من يدخل أو يخرج عن إثباته الشخصي.. لكن هذا لم يكن كافياً لأطمئن.. فتجاوزت حارس الأمن الجديد لأسير بخطوات حاولت جعلها هادئة إلى المصعد.. وحين وصلت إلى باب الشقة.. خلعت أدوات التنكر.. ووضعت كل هذا في حقيبة صغيرة كنت أحملها معي.
لم تراود (لمى) أي شكوك حين رأتني.. ففرحتها كانت أكبر من أي شيء وهي تترقب مني الخبر السار.. حتى إنها لم تنتبه إلى الحقيبة.. أو ربما انتبهت لكنها لم تكترث، وظنت أنني أحمل فيها أشياء تخص العمل.. المهم أننا جلسنا نتناول العشاء الذي أعدته لي.. وفي أجواء رومانسية أخبرتها خلالها أننا سنتزوج بالفعل.. وسأضع الجميع أمام الأمر الواقع.. وأنني أحبها ولا أقوى على فراقها.. ليرقص قلبها طرباً وتنهض لتحتضنني.. ثم تدور بيننا أحاديث طويلة ظللنا نتبادلها بحماس مفتعل من طرفي.. إلى أن أخرجت من حقيبتي زجاجة لمشروب التفاح الغازي كنت قد وضعت فيها منوماً قوياً جداً.. وصببت كأساً لي ولها احتفالاً بالقادم من حياتنا.. مدعياً أنني لا أريدها أن تشرب الخمر أبداً خوفاً على الجنين.
كنت أشعر بقلق شديد.. إلى درجة أنني لم أشعر بطعم العشاء وهو يدخل جوفي.. لكن كان يتوجب أن آكل كي تقتنع (لمي) أن الأمور على ما يرام.. ويبدو أنني نجحت في ذلك.. خاصة حين رأيتها تشرب من كأسها لحسن الحظ وهي تبتسم ممتنة.. مما يعني أن خطتي متجهة إلى النجاح.. في حين كنت أضع كأسي على شفتي وكأنني أرشف منه أيضاً وبطريقة تمثيلية تدربت عليها جيداً.. مدعياً أنني لا أرغب بشرب الكثير بسبب الأكل الذي ملأ معدتي.
عندها فقط جلست أعد الدقائق، وأنا أتحدث معها بحماس مفتعل عن مشاريعنا المستقبلية.. وأنني سأسير معها حتى لو اتجهنا إلى الهاوية.. و.. بدأت ألاحظ نعاسها وخمولها التام.. أراها تحاول أن تفتح عينيها بعناد.. لكن يبدو أن جفونها ثقلت كثيراً بفعل المنوم.. فنهضت لتخبرني أنها لا تعرف ما يجري لها.. وأنها تشعر بالدوار.. إلى أن فقدت وعيها ووقعت أرضاً لتغرق في نوم عميق.
دب الحماس في جسدي فوراً.. فنهضت من مكاني وحملتها حملاً إلى فراشها، بعد أن استبدلت لها ثيابها بثياب النوم.. ثم قمت بتنظيف الأطباق، ووضعت كل شيء في مكانه.. ومن دون أن أفكر ببصماتي التي تملأ المكان.. لأن الحريق سيمحو كل شيء بطبيعة الحال.. لأقوم بعدها بفتح أنبوبة البوتاجاز.. ومع المدفأة الموجودة في غرفة النوم كوننا في فصل الشتاء.. سيبدو موتها وكأنه حادث عرضي.. إذ سيصل الغاز إلى المدفأة.. ويشتعل المكان بأكمله قبل أن تستيقظ (لمى).. نعم.. هذه هي خطتي.
والآن كل شيء على أهبة الاستعداد.. حتى بت مستعداً للخروج بعد أن وضعت أدوات التنكر مرة أخرى، وألقيت نظرة طويلة على نفسي من مرآة الحمام لأتأكد من إخفاء ملامحي جيداً.. لكن.. حين خرجت من الحمام.. فوجئت بضربة عنيفة على جبهتي أوقعتني أرضاً، وجعلت رأسي يدور إلى أن فقدت الوعي!!!.
استيقظت بعد فترة قصيرة.. لأجد نفسي مقيداً في صالة الشقة بشريط بلاستيكي قوي.. وأحدهم يقف أمامي وهو يغطي وجهه بقناع.. فسألته بصعوبة وما زالت الآلام تسيطر على رأسي من قوة الضربة:
- من.. من أنت؟!.
رد بحزم وهو ينزع القناع عن وجهه:
- إنني قريب حارس الأمن الذي رحل من البلد.. لقد كان يراقبك جيداً.. وأخبرني أنني أمام فرصة لا تعوض لأسرق هذه الشقة.. وأحصل على مجوهرات حبيبتك.. لم يكن من العسير عليه ملاحظة ما كنت تشتريه لها من هدايا ومجوهرات.. ولأن حبيبتك هذه لا تخرج من شقتها تقريباً.. تأكدنا أنها تخفي كل شيء هنا.. لقد حصلت على مفتاح الشقة من قريبي. وظللت في الخارج أسترق السمع.. لم أدخل الشقة إلا حين لاحظت الهدوء الذي خيم عليها.. الواقع أنني توقعتكما نائمين.. لكني فوجئت بالفتاة فقط نائمة.. وأنك في الحمام.. فتربصت بك لأقوم بضربك حال خروجك.
ظللت مشدوها من قوة الصدمة!.. وما زالت آثار الضربة تشعرني بالدوار.. لكني تمالكت نفسي وسألته متأوهاً:
- لماذا لم تسرق الشقة في وقت غيابي وترحل؟!.. سيكون هذا أقل مخاطرة من أن تفعل ذلك أثناء وجودي.
رد ببساطة:
- لا.. فربما تقود تحقيقات الشرطة إلى.. الحل الأسهل موتكما هنا. أما أنا فسأكون في بلدي صباح غد وقبل أن يكتشف أحد جثتيكما.. لقد اتفقت مع أحد تجار الذهب والمجوهرات أن يشتري مني مسروقاتي نقداً.. لن تكون عملية إرسال المال إلى بلدي صعبة.. هناك طرق كثيرة لذلك.. إنها خطة متكاملة درستها بدقة.
و.. قبل أن أتفوه بكلمة.. اقترب مني وهو يضع شريطاً لاصقاً قوياً على فمي.. ثم تأكد من قيودي تمهيداً لقتلي على ما يبدو.. ونظر إلي بسخرية بعد ذلك ليكمل بهمس:
- هؤلاء الأثرياء الملاعين.. يريدون كل شيء.. ولا يرغبون بدفع الثمن.
قالها وهو يخرج من جيبه سيجارة.. ويمسك بقداحته وسط نظراتي المذعورة.. هذا الوغد سيقتلنا ويموت معنا أيضاً..
كيف لم تصل إلى أنفه رائحة الغاز بعد؟!.. إنها في كل أنحاء الشقة.. لكني فهمت السبب سريعاً.. من الواضح أنه يعاني من الزكام وجيوب الأنفية مغلقة.. أرى هذا واضحاً وهو يحاول التقاط أنفاسه بين الحين والآخر.. لهذا لا تصل إلى أنفه أي رائحة.. ما هذا الحظ اللعين؟!!.
حاولت أن أطلق همهمات عالية وأنا أحاول تحذيره ألا يشعل سيجارته.. يا إلهي.. إنها المرة الأولى التي أرى فيها النار تشتعل في الهواء نفسه بعد أن تشبع بالغاز.. إنني أتنفس النار.. وأرى هذا الغبي ينظر حوله بذهول ودون فهم بسبب حدوث كل هذا في لحظات قليلة.. ثم راح صراخنا يعلو ويعلو والنار تلتهمنا وتلتهم كل شيء حولنا مع صوت انفجار أنبوبة البوتاجاز.. إلى أن علمت أخيراً أنها نهايتي.. وبسبب لم أضعه أبداً في الحسبان. وجود طرف ثالث في القصة كان يراقب كل شيء.. ويطمع بكل ما اشتريته لـ (لمي) من ذهب ومجوهرات.
خاتمة
قد يتساءل القارئ عن هوية الشخص الذي أخبرني بالقصة.. بما أن سياق أحداثها يوحي أن جميع شخصياتها الرئيسية لقيت حتفها.. وهو تساؤل قد يبدو مشروعاً ومنطقياً للوهلة الأولى.. لكن.. يجب أن نتذكر أنه ليس من العسير أبداً على جهاز الشرطة في أي مكان في العالم فهم ما حدث بعد هذا الحريق الذي التهم الشقة بأكملها.. خاصة مع التحقيقات المستمرة وتقرير الطب الشرعي.. بالإضافة إلى بعض الخيال.. مما جعلني أصل النقاط ببعضها وأفهم ملابسات القصة.
لأشرع بعدها وأكتبها على لسان الشخصية الرئيسية فيها كما ذكرت في البداية.. حتى تصل إلى قلوب القراء، وليفهموا كيف كان يفكر رجل الأعمال هذا الذي أراد التخلص من حبيبته بواسطة حرقها وجعل الأمر يبدو وكأنه حادث منزلي.. لكنه لم يضع في اعتباره أبداً وجود طرف ثالث كان يراقب حياته ويخطط لسرقة محتويات الشقة.. ليحدث ما ذكرته لكم في تفاصيل القصة.. ويلقوا جميعاً حتفهم احتراقاً في النهاية.
لقطات
مقدمة
ستبدو لك هذه القصة غير مفهومة في البداية.. وستتساءل عن المغزى منها.. إلا أن الأمور ستتضح لك في نهايتها الغريبة.. النهاية التي ستجمع شتات الأحداث في حادثة واحدة تكشف لك كل شيء. عليك فقط بالصبر قليلاً.. وقراءة التفاصيل.. أو.. اللقطات القادمة.
بيت جميل حديث البناء في منطقة سكنية حديثة أيضاً.. استثمره صاحبه بطريقة مميزة.. فهو مهندس معماري يعرف جيداً ما يفعله.. إذ قام بتقسيم البيت إلى 6 شقق.. في كل دور شقتان.. حيث تحتوي الشقق على كل ما قد تحتاجه الأسر الصغيرة.. لذا لم يكن من العسير أن تستأجر في وقت قياسي.. فقد امتلأ البيت بالفعل.. وباتت كل شقة تحوي عالماً خاصاً بها.. ومن هنا بدأت القصة.. والآن.. لنتعرف على ما يحدث في بعض تلك الشقق.
الشقة رقم 3:
يعيش فيها رجل في منتصف الأربعينيات من العمر مع زوجته وابنتيه.. إحداهما في سن المراهقة. والأخرى طفلة في الـ 9 من العمر.. وتبدو الأسرة طبيعية لا تعاني أي ظروف خارجة عن المألوف.. وربما لا تختلف عن أي أسرة من الطبقة المتوسطة.. فالزوج وزوجته حاصلان على الشهادة الجامعية، ويعملان في وظائف حكومية بدخل جيد يؤمن لهما حياة كريمة.
أما الطفلة فلا تختلف أيضاً عن أي طفلة في مثل عمرها.. لذا سيكون حديثنا عن الابنة المراهقة فحسب.. إنها في الـ 16 من العمر.. تعيش حياة المراهقات وتحلم أحلامهن ولديها اهتماماتهن.. وتقضي معظم أوقات فراغها في وسائل التواصل الاجتماعي.. لكن الأب لم يكن يعجبه حالها كثيراً. إذ يشعر دوماً أن ابنته تعبث مع أحد المراهقين الملاعين الذين لا يتركون بنات العوائل المحترمة في حالهن.. فأراد القيام بدوره الرقابي كأب.. وهو يعلم جيداً أن أخطاء المراهقين قد تكون قاتلة وتدمر سمعة العائلة بأكملها.. خاصة الفتيات منهم.
فكر الأب في أحد الأيام وأثناء إحدى الإجازات أن يفعل ما خطط له منذ زمن.. أن يراقب ابنته جيداً للتأكد من سلوكياتها.. فاستغل فترة نومها.. وتسلل إلى غرفتها من دون أن تشعر وهي نائمة كالملاك.. ثم أخذ هاتفها.. نعم.. لقد لمحها منذ أيام قليلة وهي تضغط الأرقام السرية التي احتفظ بها في ذاكرته منتظراً اللحظة المناسبة.. وها قد أتت.
الأب يخرج من غرفة ابنته متجهاً إلى غرفة المعيشة.. ليبدأ بعدها بتصفح الهاتف بشيء من القلق.. مدركاً أن أسرارنا في هذا الزمن تختبئ كلها في هواتفنا.. عيناه تبحثان بفضول شديد في تطبيقات التواصل الاجتماعي التي تستخدمها ابنته.. و.. يبدو أن ما رآه الأب لا يسر أبداً.. فوجهه يحمر فجأة.. وتكاد ترى أنفاسه تهبط وتعلو.. ليسير وهو يشتعل غضباً مقتحماً غرفة ابنته بحدة.. وبصورة تختلف تماماً عن كيفية دخوله إليها.
يقف الأب أمام فراش ابنته.. وينظر إليها في غل.. ثم ينفجر صارخاً وهو يهزها بعنف ويرمي الهاتف في وجهها.. يفعل ذلك وهو ينعتها بأقذر الكلام ويصفعها أكثر من مرة متحدثاً عما شاهده من محادثات وصور وكوارث - على حد وصفه - في حين نرى الفتاة مستسلمة تعيش صدمة الاستيقاظ المفاجئ وصدمة فضح أسرارها معاً. مما جعلها تلتزم الصمت التام.. ناهيكم عن أن ما قاله والدها لا يمكن الكذب بشأنه أو الالتفاف حوله أصلاً. لقد كشف أمرها.. وهذا يكفي. في حين نجد الأم تستيقظ مرعوبة من هذا الصراخ، فتذهب بخطوات سريعة لمعرفة سبب غضب زوجها.. وتندفع لحماية ابنتها من هذا العنف.. لكن الأب يدفع الأم.. ويضرب ابنته مرة أخرى.. ثم يتركهما وابنته تنهار باكية.. وكأن صدمة كشف أمرها أكثر ألماً من الضرب الذي تعرضت له.
أما الابنة الصغرى.. فقد استيقظت بدورها، ووقفت عند عتبة باب غرفة شقيقتها من دون أن تفهم شيئًا مما حدث!.. لكن تلك الأجواء المتوترة أصابتها بالخوف بكل تأكيد.. خاصة وأن الجميع تجاهلوا وجودها.. سوى الأب الذي صرخ بها أن تذهب إلى فراشها فورًا، وألا تتدخل في مشاكل الكبار.
تمر بعدها الأيام.. وتبدو فيها الابنة المراهقة منكسرة إلى حد ما.. كما أن علاقتها بوالدها لم تعد على ما يرام.. فهو لم يعد يتحدث إليها كثيرًا.. وأصبح يصدر إليها الأوامر فقط.. أهمها ألا تستخدم هاتفها في غرفتها أبدًا.. بل عليها استخدامه دومًا في غرفة المعيشة أمام الجميع.. حيث سيتمكن من الاطلاع على محادثاتها وألبوم صورها في أي وقت وبشكل مفاجئ.
ثم.. يأتي ذلك اليوم الذي نرى فيه جانبًا آخر من حياة الأسرة.. إذ نرى الأم تستعد مع ابنتيها للذهاب إلى حفل زفاف أحد الأقارب.. فخرجن جميعهن متأنقات والأب يتمنى لهن سهرة سعيدة وقد قرر البقاء في الشقة هذه الليلة.
لكن بعد خروج الزوجة والابنتين.. سنفهم جيدًا سبب بقاء الأب.. فها هو ينهض بخبث ليتأكد من قفل باب الشقة جيدًا.. ثم يتجه إلى غرفة الخادمة.. ويدخل إليها ليحتضنها بقوة..
ويأتي بها إلى غرفة نومه.. وهناك.. مارست الخادمة معه أشياء مقرفة بغيضة.. لا نسمع أو نقرأ عنها إلا عند أصحاب الخيالات الجنسية المريضة!!.. ولا يمكن أن نذكرها هنا.. وإلا سيتدخل مقص الرقيب ومنع هذه القصة من أن تصل إلى القارئ.
الشقة رقم 4:
قطط لطيفة جميلة ونظيفة للغاية.. هذا أول ما سنلاحظه في تلك الشقة.. سنعرف أن صاحبتها تعشق القطط بالفعل.. إنها سيدة مطلقة في منتصف الخمسينيات من العمر.. ويبدو أنها لم تنجب.. فلا نراها تخرج كثيرًا.. ولا نرى أحدًا يزورها بالمقابل.. مما يجعل جل اهتمامها يتعلق بالقطط فقط.. هناك على الأقل 18 قطة في شقتها.. وما يميز تلك الكائنات اللطيفة أنها هادئة غالبًا، ولا تتطلب اهتمامًا زائدًا كما هو الحال مع الكلاب.. فبعضها ينام بأمان في أماكن متفرقة من الشقة.. وبعضها الآخر يلهو هنا وهناك دون صخب.. لذا لم يشعر أحد من الجيران بالضيق.. بل إن بعضهم لم يعلم أصلًا بهواية تلك السيدة التي تعيش حياتها بهدوء، والقطط في كل مكان من حولها.
وسيتبين لنا أيضًا أن السيدة لها حساب على أحد مواقع التواصل الاجتماعي تعرض فيه قططها للبيع بمبالغ ليست بالقليلة.. وهذا ما يفسر اهتمامها الشديد بعملية التزاوج؛ حتى تحصل على المزيد والمزيد من القطط لتجارتها.. ولكن.. بعد مراقبة حياة تلك السيدة جيدًا.. نكتشف ذلك الجانب الأسود الذي يمحو تمامًا الصورة الوردية عنها.
دعونا نلتفت إلى هذه القطة التي لا يتعدى عمرها شهرًا واحدًا على الأرجح.. هناك شيء ما يجعلها مختلفة عن قريناتها.. نعم.. إنها تعاني من إعاقة جسدية واضحة.. كما لوحظ خروج السيدة من شقتها برفقة تلك القطة لأكثر من مرة.. ربما بحثًا عن طبيب بيطري يشفيها من إعاقتها.. لكن.. يبدو أن لا علاج هنالك للأسف.. لذا نرى السيدة وهي تضع القطة في كيس بلاستيكي مغلق بإحكام شديد، دون أن يسمح للهواء بالدخول إليه.. ثم تضع الكيس في جهاز (ميكروويف) بعض الوقت، حيث تسمع فيه صرخات القطة إلى أن تهمد حركتها!!.. قبل أن تخرج السيدة ذلك الكيس وقد امتلأ بالدماء.. لا شك أنها يئست من علاج القطة..
وعلمت أنها لن تتمكن من بيعها لأحد.. فاستخدمت هذه الوسيلة البشعة لقتلها ومن دون مبرر.. لتتخلص من ذلك الكيس في حاوية القمامة خارج البيت.
ثم ننتقل إلى قطة صغيرة أخرى حديثة الولادة قبيحة الشكل.. قطة سوداء يحوي جسدها وحمة بيضاء زادت من قبحها.. إنها طفرة جينية كونها لا تشبه أيًا من القطط الأخرى.. ونرى السيدة ذاتها تنظر إلى القطة، وتقلبها بيدها أكثر من مرة وهي تمط شفتيها بامتعاض.. وكأنها تمسك ببضاعة لا تجد فيها مربحًا.. ثم تقوم بعمل أكثر بشاعة من المرة السابقة.. حين وضعت القطة في كيس بلاستيكي مغلق بإحكام أيضًا.. لترميه في قدر مغلي قامت بتغطيته سريعًا.. لنسمع صرخات مؤلمة تحت غطاء القدر الذي ظل يهتز بقوة للحظات.. لكن السيدة كانت تضع قفازًا للطبخ، وتمسك رأس القدر بيدها كي لا يُفتح.. الغريب أن وجهها يحمل نشوة غريبة أثناء قيامها بذلك.. نعم.. إنها تستمتع بما تفعله.. وتنظر إلى القدر بتلذذ إلى أن همدت الحركة فيه تمامًا.. فتقوم السيدة بفتحه والتخلص من محتواه في حاوية القمامة إياها.
يتضح بعد مراقبة السيدة.. أنها لا ترى في تلك المخلوقات اللطيفة أكثر من عملية تجارية.. ولا تحمل أي عاطفة تجاهها.. بل هي تستمتع بتعذيبها.. ولا نبالغ لو قلنا إنها تشعر بشيء من الفرح حين يكون لديها بين الحين والآخر قطًا لا يصلح للبيع.. وما نراه من اهتمام في بقية القطط هو مجرد اهتمامها في (البضاعة) لا أكثر.
الشقة رقم 6:
تعيش فيها أسرة صغيرة مكونة من الأب والأم مع ولد في سن المراهقة.. بالإضافة إلى شقيقتيه الصغيرتين.. ولا شك أن أول ما نلاحظه.. غياب الأب المتكرر عن البيت.. ربما تكون وظيفته السبب.. نستطيع أن نستنتج ذلك بسهولة بسبب الرداء الذي يرتديه أثناء خروجه.. والذي يحمل شعار إحدى شركات النفط.. أما الأم فنجد آخر اهتماماتها تربية أبنائها.. إذ تخرج معظم الأوقات تلبية لدعوات وولائم يبدو أنها تمنحها كل اهتمامها.. أما أثناء وجودها في البيت فمن الصعب أن نراها من دون هاتفها.. حيث تتواصل مع الأقارب والأصدقاء طوال الوقت.
نلاحظ أيضًا أنها تقوم بواجباتها الدينية فيما يتعلق بالعبادات بدقة شديدة.. أما الشق الآخر من حياتها فلا نراه تقريبًا.. نتحدث هنا عن دورها كأم.. ناهيكم عن تعاملها الصارم من دون رحابة صدر مع أطفالها؛ كونها لا تتحمل منهم أي خطأ.. فهي تقوم بمساعدة طفلتيها في الدراسة.. إلا أنها تقوم بمعاقبتهما بقسوة في حال تقصيرهما.. ويبدو هذا واضحًا حين تجلس مع كل منهما قرابة الساعة من كل يوم، تحاول إنهاء فروضهما المنزلية.. وتتأكد من وجود ذلك الصندل قريبًا منها.. فقط لكي تنهال به ضربًا على طفلتيها لو أخطأت إحداهما أو قصرت في واجباتها الدراسية.. فنرى الطفلتين تبكيان بحرقة وهما تحاولان حل فروضهما، وملامحهما تمتلئ خوفًا من ارتكاب الخطأ.. في حين نرى ولدها وقد اختفت شخصيته تمامًا.. وبات منعزلًا عن الجميع بسبب سطوة والدته وقسوتها.. إنه يسمع عن حنان الأم.. لكنه لا يراه.. ويشعر بالأسى تجاه ما يحدث لشقيقتيه مع عجزه التام عن حمايتهما. لقد حاول التحدث مع والده أكثر من مرة.. لكنه وجد الأب مهزوزًا ضعيف الشخصية.. ترك كل شيء للأم التي تقود الأسرة بقسوة غير مفهومة.. أما التحدث مع الأم نفسها فهو المستحيل بعينه.. إنها لا تستمع إلى أحد.. وترى أن طريقتها في التربية هي الصحيحة.. ففكر الولد كثيرًا بالانتحار وهو يرى هذا الظلم.. خاصة حين قامت والدته بِكَي يد شقيقته الصغرى ذات مرة وهي تمارس شقاوتها كأي طفلة.. نعم.. هناك أمهات يفعلن ذلك بالفعل!!
من الواضح أن الولد في صراع شديد مع نفسه.. ومشاكله النفسية أخذت منه الكثير.. وجعلته بالكاد قادرًا على مواجهة حياته.. فنراه - في غمرة يأسه - يحاول الانتحار فعليًا بين الحين والآخر.. آخرها تلك المرة حين أفرغ علبة من الأقراص الطبية في راحة يده.. لقد كان ينوي ابتلاعها.. لكنه تراجع في آخر لحظة.. قبل أن يلوم نفسه بسبب خوفه من الإقدام على تلك الخطوة.. هذا واضح من بكائه المستمر.. وضربه لحائط غرفته بقبضته كل يوم من شدة القهر.
نستطيع القول أن لا أحد يعلم إلى أين تتجه حياة تلك الأسرة؟.. وأن مصيرها لا يبشر بالخير.. إذ يبدو لنا الأبناء وكأنهم على موعد مع أمراض نفسية كثيرة في المستقبل.. أبسطها الاكتئاب.. فمعظم الأمراض النفسية التي تصاحب الكبار.. تكمن جذورها في طفولتهم.
الشقة رقم 1
بعيدًا عن كل ما يحدث.. نجد أن الشقة رقم 1 هي أهم شقق البيت.. فهي التي يعيش فيها صاحب البيت وحيدًا.. إنه رجل غريب الأطوار.. لم يتزوج قط كما علمنا لاحقًا.. وبسبب الملل الذي يعيشه.. قام بتصرف بغيض جدًا.. لكنه مغرٍ جدًا في الوقت نفسه بالنسبة للنفس البشرية الفضولية بطبعها.. فقد أشرف على وضع كاميرات المراقبة الدقيقة- بالصوت والصورة- في أماكن مخفية لا ينتبه إليها أحد في كل غرف الشقق.. ثم بدأ بمشاهدة سلسلة من أهم الأفلام وأكثرها إثارة.. أفلام الواقع!!.. إنها لذة ما بعدها لذة، أن تتجسس على الأغراب، وترى أدق أسرارهم بنفسك.. فقد كان يستمتع كثيرًا في البداية.. ويقضي كل وقته أمام الشاشات يراقب حياة جيرانه.
لكن.. مع مرور الأيام.. علم أن الإنسان كائن مخيف.. وأن له جانبًا مرعبًا يجهله من يعيشون حوله.. من دون أن ينتبه صاحب البيت نفسه إلى سوء تصرفه، والذي يعكس أيضًا طبيعة الإنسان المخيفة.. المهم أنه أصيب بنوبة اكتئاب حادة بسبب كل ما رآه.. لتسوء حالته النفسية تدريجيًا مع إدمان مشاهدته لأسرار أصحاب الشقق.. وفي النهاية.. لم يعد يحتمل المزيد.
الخاتمة
طلب الضابط الأعلى رتبة - وهو مسؤولي المباشر - لقائي ليسألني عن تلك الحادثة.. فقلت له ما كتبته لكم.. وقلت له أيضًا:
- لقد حاول مستأجرو الشقق التواصل مع المالك أكثر من مرة، من أجل صيانة التكييف والصرف الصحي كما تنص عقود الإيجار.. ومع وجود سيارة المالك في الخارج لفترة طويلة، وعدم رده على اتصالات المستأجرين، أو استجابته لمن يضرب جرس باب شقته.. ومع الرائحة الكريهة التي بدأت تخرج من تحت الباب وتزكم أنف كل من يقترب.. اتصل أحد الجيران بالشرطة.. فاتجهنا إلى البيت.. واضطررنا إلى فتح الباب بوسائلنا.. وحين دخلنا.. رأيت المالك جالسًا على كرسي كبير ومريح، مما يوحي أنه يجلس عليه معظم الوقت.. ومقابله تمامًا شاشة التلفاز المقسمة بدورها إلى عدة شاشات تبث ما يجري في كل شقق البيت.. ورأيت الدماء تسيل من معصميه اللذين نزفا حتى موته.. حيث أثبت الطب الشرعي أن الرجل أقدم على إنهاء حياته بنفسه.. وأنا لا أجد أي أسباب لانتحاره سوى ما رآه.. خاصة حين شاهدت بنفسي تسجيلات التجسس على جيرانه، ورأيت فداحة ما يفعلونه.. لقد ذكرت كل هذا في تقريري.
سألني الضابط المسؤول باهتمام:
- هل ستفعل شيئًا تجاه ما رأيته في تلك التسجيلات؟!
قلت صراحة:
- لا يمكن أن أتجاهل ما رأيت يا سيدي.. سأتحدث مع تلك الأم وأحذرها من معاملة أطفالها بهذه القسوة.. وسأقوم بتهديد السيدة اللعينة التي تقوم بقتل القطط.. وسأفعل الأمر ذاته مع ذلك الوغد الذي يخون زوجته مع الخادمة.. لكن للأسف! لن نستطيع توجيه اتهامات رسمية كوننا كشفنا هذه الأمور بطرق غير قانونية أصلًا كما تعلم.
أومأ الضابط المسؤول برأسه ارتياحًا، وراح ينظر إلى شاشة الكمبيوتر على مكتبه بما يوحي أنه لا يملك ما يقوله.. فأديت التحية العسكرية.. لأخرج من مكتبه ومنظر مالك البيت لا يغيب عن ذاكرتي أبدًا.. ذلك الرجل الذي أراد الاستمتاع بمشاهدة أسرار جيرانه.. لكنه لم يتحمل ما رآه.. فأصيب بالاكتئاب الشديد مع مرور الأيام.. وهو السبب الوحيد والمنطقي لانتحاره.. خاصة وأنه لم يكن يعاني من أي مشاكل صحية أو مالية كما أثبتت التحقيقات.. دعكم من أن شقته بدت مهملة للغاية.. وكذلك حالته وذقنه التي نمت كثيرًا على عكس جميع صوره التي عثرنا عليها في ذاكرة هاتفه.. مما يؤكد سوء حالته النفسية التي أدت إلى الانتحار.
على كل حال.. سأقوم بما أخبرت به الضابط المسؤول، وأزور أصحاب تلك الشقق لأتحدث إليهم.. عالمًا أنني قد أضع نفسي في ورطة.. لأن وجودي هناك ليس له أي مبرر قانوني.. كما أنهم سيتساءلون عن كيفية معرفتي بكل ما سأخبرهم به.. فهم لا يعرفون بأمر التجسس.. لكن.. ربما علينا أحيانًا أن نخاطر ونكسر القانون.. علنا نتمكن من تحقيق العدالة.. فالفارق بينهما شاسع.. شاسع جدًا.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا