القبر رقم 232187
"يسرية عبد التواب عبد المقصود"
ارتفع صراخها فتململ جيرانها يائسين، فقد كانت لا تهدأ ولا تصمت لحظة واحدة لا ليلاً ولا نهاراً، ولكنهم لم يكونوا يملكون غير الصمت، فمنذ ليلة دفنهم وهذه الثرثارة تقلق راحتهم بهذرها الذي لا يتوقف، وبتكرارها الممجوج لقصتها مع زوجها الذي أحبته وخانها.
كانت تنشغل أحياناً بالاستماع إلى شكوى من حولها وهم في قبورهم وتحسرهم على ما فاتهم في حياتهم، ومناجاتهم لمن أحبوهم ولومهم لهم لنسيانهم، وأحياناً أخرى كانت تنهمك في التدخل في أحاديث جيرانها وإبداء رأيها في كل ما يقولون وما تظنهم قد أخطأوا بفعله في خلال حياتهم.
لكنها كانت سرعان ما تنسى من حولها وتعود إلى عويلها عند تتذكر زوجها، فتمضي الليالي تلو الليالي وهي تندب حظها لما فعله بها:
- بقي بعد السنين دي كلها يخوني؟ ومع مين؟ مع حتة خدامة سيلانية سودة ما تسواش ظفر رجلي!
ظل من حولها صامتين، فقد كانوا يعلمون أن أي كلمة يقولونها ستعيد تشغيل الزنبرك الذي يحرك لسان هذه المرأة الذي لا يهمد، ولم تكن هي تنتظر رداً منهم، فلم يتفوهوا سوى ببضع كلمات طوال تلك السنوات، بل إن بعضهم تجاهلها تماماً ولم يكلمها منذ يوم دفنها بقربهم، فاستمرت في شكواها ونواحها:
- قال إيه بيحبها؟ ودي تتحب من فين؟ اللي ما فيهاش حاجة تتشاف من أصله! دانا منقياها سوده زي الفحم، ووشها العكر يقطع الخميرة من البيت، حتى شعرها! لفيت مكاتب الخدم كلها لحد ما لقيت وحدة شعرها أكرت زي الليف، وأسنانها مش طايقين بعض ولا فيهم واحد قاعد على بعضه جنب التاني! وبرضه ما عتقهاش! الواطي الدون قليل الأصل!
توقفت لحظة لتطلق تنهيدة موجوعة، واستمر من حولها في صمتهم الحذر، وكان سكان القبور الأقرب لها أشدهم توجساً، فقد كانت أحياناً لا تكتفي بالنواح، بل تقتحم عليهم قبورهم لتطالبهم بإبداء رأيهم فيما فعله بها زوجها، ومهما أبدوا لها من تعاطف فلم يكن ذلك كافياً، إذ كانت تريدهم أن يشتموه ويلعنوه، غير عابئة بأن لا تعاطفهم ولا لعناتهم سوف تغني عنها شيئاً، فقد كانوا أموات مثلها لا حول لهم ولا قوة.
لكنها لحسن الحظ اكتفت في هذه الليلة بذلك الموال الذي لا تمل من تكراره، فكان بعض من حولها يردد الكلمات التي ستقولها قبل أن تنطقها وهو يهزون رؤوسهم بالتزامن مع ارتفاع وانخفاض نبرة صوتها.
ولم تعدم من يجدها مسلية أحياناً، فقد كان ضجيجها يلهيهم عن وحدتهم والوحشة التي لا تطاق التي يعيشون بها، لكن في معظم الأحيان كانوا يتمنون لو تصمت ولو لحظة فقط، لكن أمانيهم كانت تتبخر كل مرة، كما تبخرت الآن عندما انطلق صراخها من جديد:
- اللي ما حنش عليا ولا زارني ولو مرة! الجبان اللي هانت عليه العشرة! يا خسارة السنين اللي ضيعتها وأنا بستناه، ويا خسارة كل يوم عشته معاه! أهو رماني رمية الكلاب، وسابيني وحدي في ديرة الغربة، لا جنبي حد يؤنسني ولا حد يحس بيا!
استمر الصمت المطبق حولها، فعاودت شكواها المرة:
- ما كفهوش إنو قتلني بغدره! راح سايبني ملطوعة في الثلاجة زي الأكل البايت، وخد ديله في سنانو وهرب، وفاتني شهور لا حد يدري بيا ولا يترحم عليا! ولما أهلي سألوه عني قال لهم إني هربت! الندل اللي ما يخافش من ربنا! دانا ما فضحتوش بعدما رجعت من شغلي في يوم وشفته بعينيا مع الوسخة دي، وفضلت كاتمة في نفسي لحد ما القرحة اللي في معدتي اتفقعت م القهر، يقوم يشنع عليا ويوسخ سمعتي عند أهلي! ويسرق كل الفلوس اللي محوشاهم ويسيبني اتدفن لوحدي في الغربة! منه لله!
وسادت لحظات صمت ثمينة كان من حولها مستمتعين بها قبل أن تقطعها صرخة ألم جديدة:
- الجبان ما قالش لأهلي حتى أني مت، ومن ساعة ما عزاه الدكتور بيه رماني هناك وما سألشي فيه، ولولا إن السفارة بلغت أهلي لكانوا لسه فاكرين إني خنت جوزي وهربت مع راجل تاني، أنا اللي ضيعت عمري معاه وأنا عارفة إنو ما بيجيبش عيال، وسكت السنين دي كلها واستحملت رزالة أهله، وبلعت الكلام اللي زي السم اللي كانوا بيرموه عليا علشان ما أفضحهوش، يقوم هوه يفضحني ويسود وشي بالشكل ده! لكن حيروح من ربنا فين! منه لله! منه لله!
وطفح الكيل فجأة بأحد المحيطين بها فصاح بها:
- خلاص صكيتي راسنا! يبه درينا إن ريلك قطك هني وانحاش عنك! شنو كان راح يفيدك يعني لو اهو اللي دفنك! كانا مدفونين بديرتنا! وحالنا حالك منسيين لا أحد يسأل عنا ولا يتذكرنا، حتى عيالنا وأهلنا ودمنا ولحمنا نسونا، وما يتذكرونا إلا في السنة حسنة، والغصب جنه دافعين فلوس يقولون الله يرحمنا، شنو فايدة العيال وإلا الزوج وإلا الفلوس! بالأخير ما لنا إلا هالمتر ونص اللي انقطينا فيه وما خذينا معانا شي من الدنيا!
وسكت لحظة فقد أتعبه الكلام بعد صمته الطويل، ثم أكمل:
- الصراحة الريال ما ينلام! انحاش بعمره وافتك من الحنة! عفية مرة ما تسكت ولا تخلص قرفتها! فكينا خلاص بروحنا اللي فينا كافينا!
ارتعب باقي جيرانها وانكمشوا خوفاً في أعماق قبورهم، ولو استطاعوا لهربوا بعيداً، فها قد وقع ما كانوا يخشونه، وستمضي سنوات عديدة قبل أن تنتهي يسرية من الرد على ما قاله ذلك الأحمق الطائش، وسيجبرون على الاستماع لوصلات جديدة من مواويل الحسرة والحزن بعدما ينطفأ الغضب الذي أشعلته كلماته، وتقلبوا في قبورهم قانطين، فلم يكن لديهم مفر ولا مهرب يلجأون إليه.
لكن لدهشتهم لم تنبس يسرية ببنت شفة، فقد صدمها ما قاله جارها عنها، فظلت تبكي بصمت لفترة طويلة، وكم كان جيرانها رغم شعورهم بالأسى لها سعداء بنعمة الهدوء الذي افتقدوه طويلاً، حتى تهورت إحدى جاراتها التي أحست بالشفقة عليها لطول صمتها، فسألتها عن حالها قبل أن يتسنى للبقية أن يحذروها، لتعود صرخاتها لتقلق راحة من حولها:
- يعني حيكون حالي إيه يا ختي! أديني مرمية هنا بعد جوزي الندل ما سابني وهرب! تلاقيه دلوقتي متنعم في أحضان السودة اللي خاني معاها! وإلا يمكن لقالو تانية أوحش منها! ما هو واطي وذوقه وحش ما يبحبش إلا الوسخين! آه لو كنت أعرف قبل ما اتجوزه! ما كانش ده بقى حالي!
وانطلقت تندب حظها وتشكو ظلم زوجها لها، ثم تذكرت فجأة ما قاله لها جارها، فقفزت من مكانها وقد تحولت نبرة صوتها من الحزن إلى الغضب الشديد:
- قال إيه ما ينلام الريال! إلا يتلام ونص! ده لو كان ما لوش ذنب غير إنو سابني في وسط الظلمة دول كان ده كفاية! ما ينلام الريا! دانا كنت شايلاه في عنيا! ما كنتش مخلية حاجة في نفسه! ده حتى ما لقاش حاجة يقولها لما سألته عمل كده ليه بعدما لقيته ف أحضان الوسخة دي، والجبان بيقولي إنها بتحسسه بقيمته، بتفرح بيه وبتتلقاه لما يقرب منها كأنه هدية من السما! ما هية طبعاً حتشوفه هدية م السما! إذا كنت أنا شايفاها بعنيا إلى أكلهم الدود بتتضحك للزبال وبترمي نفسها عليه، ما همه دون عايزين أي راجل والسلام! قال ما ينلام الريال قال!
كانت روحها تقف متحدية عند قبر المسكين الذي نطق بتلك الكلمات، وفي اللحظة التالية كانت قد اقتحمت قبره مفزعة روحه التي كانت منكمشة هناك بانتظار أن يهدأ غضب يسرية، وقد ندم أشد الندم لما قاله، لكن اعتذاراته المتوالية لم تفده بشيء، فقد ألصقت وجهها بوجهه وهي تصرخ:
- بقا أنا ما تخلصش قرقتي! إنت لسه شفت حاجة! دنا حطفشك من قبرك لو كنت قادر تطفش! أنا تقولي الكلام ده، يا ظالم يا عديم الإنسانية! إنت ما لكش قلب؟ خلاص ما بقاش عندك رحمة؟ ده بدل ما تواسيني وتهون عليا؟ يا راجل دانا غريبة وما لياش حد في البلد دي! دانا اتخطفت ف عز شبابي وما لحقتش حتى أتهني بالكام قرش اللي جيت هنا عشان أحوشهم! تقوم تقولي ما ينلام الريال!! دانا حأوريك!
ومرت أكثر من سنة على هذه الحال، وكان من حولها يعزون أنفسهم بأنهم قد ارتاحوا على الأقل من نواحها، وأن تلك الاسطوانة المشروخة قد تغيرت أخيراً وأصبحوا يسمعون كلاماً جديداً، سئموا من ذلك أيضاً بعد فترة قصيرة، لكنهم ظلوا صامتين مفضلين السلامة، ولم يحاول أحد منهم أن يدافع عن ذلك الذي فقد صبره وجاهر بغباء بالاحتجاج أو أن يتضامن معه.
بعدها وفجأة هدأ غضبها كما بدأ، وابتعدت أخيراً عن قبر ذلك التعيس الحظ وعادت إلى قبرها، وظلت صامتة لفترة من الوقت، وفي هذه المرة كان كل من حولها قد تعلموا الدرس المر، فلم يقترب منها أو يكلمها أحد، والتزموا الصمت المطبق، فلم يكونوا حتى يتبادلون الحديث فيما بينهم خوفاً من أن تشعل كلمة غير مقصودة فتيل حزنها أو غضبها، أو أي شعور يعيد تشغيل لسانها.
لكن ذلك الصمت الذي كانوا يتنعمون به لم يطل، فقد جاء أحد أبناء جيرانها في زيارة نادرة، وما كاد يرحل حتى عادت إلى الصراخ، وعاد ذلك الكابوس يجثم على صدورهم من جديد:
— بقى لو كنت سبت السافل ده واتجوزت تاني مش يمكن كنت خلفتي لي عيل والا اتنين ينفعوني، وإلا حتى يفتكروني ويزوروني، بدل ما أنا ملطوعة هنا لوحدي لا حد بيسأل عني ولا بيزورني!
واستمرت في الكلام، واستمر من حولها يتقلبون في معاناتهم وضيقهم بها دون أن يجرؤ أحد منهم على التفوه بكلمة.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا