9)
استيقظت الأم من النوم ونظرت إلى الساعة لقد تأخرت في النوم فالساعة الآن الحادية عشرة ظهراً.. نهضت متكاسلة واتصلت بالخدم في الطابق السفلي ليحضروا لها طعام الإفطار.. أخذت حماماً بارداً ونزلت لتتناول فطورها.. جلست على كرسي في البهو يطل على حديقة المنزل الجميلة التنسيق وسرحت وراء أفكارها..
إنها تحس بالفشل.. لا تستطيع التخلص من هذا الإحساس الذي يسيطر عليها، صحيح أنها أمام الناس زوجة رجل مهم.. لكن الزوجة لا تحس بالنجاح والأهمية إلا إذا كان زوجها يحبها، وهي تعلم أن زوجها لا يحبها.. عندما كانت في بداية حياتها الزوجية كانت تظن أن الرجل يحب المرأة لأنها جميلة، وكانت مطمئنة إلى حب زوجها لأنها متيقنة أنها جميلة وترى هذا الجمال في عيون كل من حولها لكنها بعد هذا العمر اكتشفت أنها مخطئة، إن الرجل يحب المرأة ليس بسبب جمالها إنما بسبب طباعها وشخصيتها، فزوجها تعود على جمال شكلها ومله وعندما تعود على جمالها لم يجد فيها ما يلفت انتباهه فهي ضعيفة الشخصية وهادئة ولا تجيد فن المحادثة ولا تستطيع أن تكون مرحة وذكية.. إنها منذ صغرها كانت مجرد ظل لأمها رحمها الله.
كانت عندما تذهب إلى السوق تختار لها والدتها جميع ثيابها وعندما يعجبها شيء كانت والدتها تقلل من ذوقها وتشتري ما تراه هي مناسباً لم تكن والدتها تعطيها الفرصة للتعبير عن رأيها أو شخصيتها أو حتى ذوقها، كانت تفرض عليها كل شيء حتى صديقاتها، فالأم هي من تختار كل شيء في حياتها حتى دراستها اختارت لها أمها دراسة الرسم رغم أن وفاء كانت ترغب في دراسة اللغة الإنجليزية لكن أمها وجدتها موهوبة في الرسم فقالت لها تدرسين الرسم..
وهكذا كانت الأم هي المسيطرة علهيها وعندما كبرت وفاء أصبحت فتاة مترددة لا تستطيع أن تخطو خطوة بدون والدتها حتى إذا دعيت إلى العشاء احتارت ماذا تأكل فأمها كانت تطلب لها ما تأكله على ذوقها..
ومع الوقت لم يصبح لها صديقات سوى أمها وعندما تقدم عبد الله لخطبتها.. لم ترتح وفاء له شعرت أنه يضج بالصخب والحياة وأنه على عكس طبيعتها وبعد أن خرج قالت لها الأم مبروك يا وفاء لقد أعجبني العريس.. حتى في اختيار عريسها لم يكن لها رأي وكان والدها يرى تسلط والدتها عليها لكنه لم يحاول أن يتدخل وينقذها، وقد توفي والدها قبل عقد قرانها على عبد الله وحددت والدتها موعد الزواج بعد سنة وخلال هذه السنة كان عبد الله يزورها ولكنه يتحدث معظم الوقت مع والدتها.. لم يحاول يوماً التقرب إليها أو حتى محادثتها بالتليفون وبعد الزواج حاولت وفاء أن تبني لنفسها شخصية جديدة لكنها كانت لا تعرف كيف تفعل ذلك.
كانت ضعيفة جداً لا تكاد تفكر بقول كلمة حتى تتردد وترتبك وتشك أنها أخطأت التعبير وحتى بعد أن أنجبت أولادها وتوفيت والدتها شعرت دائماً أنها لا تستطيع التواصل معهم ومع الوقت كبر أولادها وصحيح أنهم يحبونها لكنهم لم يكونوا يحسبون لها حساباً.. فإن أرادوا الخروج استأذنوا الأب وإن اتخذوا قراراً أخبروا الأب وإن أرادوا مساعدة لجأوا إلى الأب فكانت هي تلعب دور المتفرجة فقط، وكأنها غريبة عنهم وكانت أحياناً تحاول أن تثور على ضعفها وأن يكون لها سلطة ومكانة في عائلتها لكنها لم تستطيع أن تخرج من دائرة الاستسلام التي تحيط بها منذ نعومة أظفارها..
وكان ابنها شاهين الوحيد الذي يهتم بأمرها ربما كان يشفق عليها من ضعفها وربما لأنه شاب ويفهم أن والده لا يكترث لها فقد حاول دائماً تعويضها..
وعندما أخبرها قصته مع بسمة فرحت كثيراً لأنه صارحها دون الآخرين ولكن كان قلبها مقبوضاً فعندما يتزوج شاهين من سيبقى لها في البيت؟!
ستفقد الشعور بالاهتمام بزواجه لكنها كانت تحاول أن تطرد هذا الشعور وأن تفرح له لكن كانت تشعر بالغصة كلما تخيلت شاهين وقد تركها إلى امرأة أخرى.
وكانت وفاء تحب حماتها مريم كثيراً، فهي طيبة ودودة حنونة وهي تعطف على وفاء زوجة أخيها المغلوبة على أمرها وكثيراً ما كانت تنصحها وتساعدها في حل مشاكل بيتها وأولادها ورغم أن وفاء التي فقدتها وقد أخلصت في حبها والتعلق بها..
دق جرس الهاتف فإذا هي مريم تتصل بوفاء كعادتها كل ظهيرة، وفي تلك الأثناء فتح الباب الخارجي ودخلت سمر كانت تشعر بتوعك منذ استيقظت فاستأذنت باكراً من المدرسة وعادت إلى البيت وما أن دخلت حتى هتفت بها الأم: سمر تعالي لدي أخبار تسعدك..
سمر: خير يا أمي؟
الأم: هاني ابن عمك يريد أن يتزوج، دق قلب سمر بسرعة وقالت: حقاً؟
الأم: نعم أخبرتني عمتك مريم للتو أن هاني سيخطب.
سمر: من سيخطب؟
الأم: هديل ابنتها!
(10)
لا تعرف سمر كيف استطاعت أن تقف على قدميها أمام أمها، كل ما تذكره أن أمها قالت إن هاني خطب هديل قبل يومين وأن هديل وأمها وافقتا وأنهما تريان أن خير البر عاجله فهو ليس غريباً عنها حتى تتعرف عليه وبناء على ذلك سيكون عقد قرانهما الخميس القادم في منزل العائلة، صعدت سمر إلى غرفتها وهي تشعر أن كل ما فيها يحترق.. عيناها.. شفتاها.. صدرها.. قلبها.. ورفعت السماعة تتصل على هاتف هديل النقال فوجدته ملقاً.. بعثت لها رسالة على الهاتف أن تتصل بها فوراً.. اتصلت على المنزل فردت عمتها.. سألتها بدون أن تسلم: أين هديل؟
العمة: سمر، حبيبتي أكيد سمعت الأخبار السعيدة عقبالك.. هديل في السوق عندما تعود سأخبرها أن تتصل بك.
وهكذا تهربت هديل من جميع اتصالات سمر ولم ترد عليها طوال اليوم وسمر تحس بالنار تأكلها كيف حدث هذا؟! كيف طعنتها هديل؟ كيف غدرت بها؟ كيف تناست صداقتهما؟ حبهما؟ كيف خطبها هاني؟
وإذا كان هاني لا يحب سمر كيف استطاعت هديل أن تبيع سمر وهي تعرف أنها تحب هاني من سنوات؟! كيف.. كيف.. كيف؟ مئات الأسئلة التي لم تجد لها أجوبة شافية.. ولم تستطع سمر النوم وقضت الأيام التالية كأنها تحتضر ولم تستطع محادثة هديل فهي تتهرب من اتصالات سمر بمئات الأعذار..
وأخيراً جاء يوم الخميس يوم عقد القران لا تعرف سمر ماذا ارتدت وكيف بدت وكان جميع أفراد أسرتها يظنوها متأثرة لزواج هديل بسبب تعلقها بها وقد فكرت سمر أن تذهب إلى هديل قبل عقد القران لكنها خافت أن تنفجر أمام عمتها.. وفي يوم العقد وصل الجميع إلى بيت العائلة فقامت سمر لتصعد إلى هديل قبل أن تنزل للضيوف وكان أمراً عادياً أن تصعد سمر إليها فهي صديقة عمرها وبمثابة أختها وقد تساعدها في زينتها.. وصلت سمر إلى الباب ودخلت، وشهقت هديل عندما وجدتها أمامها ودق قلبها بعنف..
صرخت سمر حالما رأتها دون مقدمات وكأن في صدرها بركاناً ثائراً: كيف حدث هذا؟ كيف فعلت بي هذا؟
هديل: سمر كوني عاقلة هاني تقدم لخطبتي فعرفت أنه لا يحبك وطبعاً سيتزوج غيرك وهو أرادني لذلك وافقت فأنا أولى به من الغريب.
هديل: وأنا؟؟ ألم تفكري بمشاعري؟ كيف استطعت.. هديل هل نسيت علاقتنا.. صداقتنا.. كيف استطعت؟
هديل: سمر قدري موقفي هاني شاب ممتاز ولو رفضته تأخذه غيري..
قاطعتها سمر صارخة: هديل هل تستوعبين ما فعلته بي؟ وانهمرت دموع سمر..
وفي هذه اللحظة دخلت العمة مريم وعندما رأت سمر تبكي احتضنتها وقالت لها حبيبتي أعرف أنك متأثرة لزواج هديل لكنها ستكون بقربك ولن تهاجر وأخذت تضحك مداعبة فنزلت سمر إلى الضيوف وجلست في ركن بعيد تبكي في هدوء وظن الجميع أنها متأثرة لزواج هديل فالجميع يعرف عمق علاقتهما.
وفي غرفة هديل جلست هديل على طرف السرير بثوبها الذهبي الجميل وطرحتها القصيرة تفكر.. إنها لم تفكر بهاني يوماً كزوج لها بالعكس كانت تدعو أن يكون من نصيب سمر وكانت مخلصة بدعائها فهي فعلاً تحب سمر.. ولكن في اليوم الذي اتصلت فيه نبيلة لخطبتها لهاني تبدلت نظرتها إليه، كانت هديل تعرف أن أمها مطلقة وأن أبيها رجل سكير عربيد زير نساء لم تره أبداً طوال السنوات الماضية ولم يفكر هو أن له ابنة تحتاج إليه، وكانت تعرف أن أمها ثرية ولديها إرث أبيها فلم تكن تحتاج إليه مادياً وكانت هديل تعيش في كنف خوالها، فهم المسؤولون عنها وعن أمها وكثيراً ما كانت تفكر أنها عندما تتزوج سوف تخرج من نطاق عائلة أمها فهي لا تحمل اسمهم بل تحمل اسم والدها الذي لا يربطها به سوى اسمه وعندما تقدم هاني للزواج بها شعرت أن زواجها منه ضمان لها أن تنتمي إلى عائلة أمها وإلى الأبد، ستكون أم أولاد يحملون اسم عائلة أمها وسوف تعيش معهم العمر كله، ومازالت تذكر حيرتها هي وأمها عندما خطبها هاني فزواجها يستلزم إعلام والدها وأخبرت الأم أخاها عبد العزيز والد هاني أنه يجب أخذ موافقة والد هديل وقد اتصل خالها به وطلب حضوره إليه فوالدها أقل من أن يذهب إليه خالها.. ليس لأنه أقل ثراء بل لأنه بلا أخلاق أو مبادئ أذاق أمها الويل والهوان ولم يسأل عن هديل منذ طلقها.. وجاء الأب وأخبره الخال عن موعد زواج ابنته وعندما تم عقد القران هذا الصباح كانت المرة الأولى التي ترى فيها هديل أباها فهي لم تراه منذ كانت في الثالثة من العمر ولا تحمل له أية ذكريات أبداً.. لم يقبلها ولم تنظر هي إليه طويلاً لكنها تبينت أنها تشبهه إلى حد كبير، وقد كرهته كثيراً منذ رأته فقد سلم عليها ببرود واكتفى بمصافحتها وعندما خرج من البيت دعت الله أن يخرج من حياتها إلى الأبد.. لا تريد أن تراه ثانية وحمدت الله أن هاني قد تقدم لها فهي لا تعرف من الدنيا غير هذه العائلة واليوم فقط أصبحت تنتمي إليها تماماً.. هكذا كانت هديل تفكر، وكانت هديل تعرف تمام المعرفة أن سمر ستصدم بخبر خطبتها وهي تحب سمر لكنها كانت تبرر لنفسها أنها ستتمكن من إقناعها بأسبابها ومبرراتها وكانت تخدع نفسها أن سمر ستقدر موقفها وتسامحها، ولم تقو هديل على مواجهة سمر فأقفلت جهازها النقال واشترت خطاً جديداً ذا أرقام متناسقة وتعمدت الهرب من اتصالات سمر بها في المنزل واستغربت أمها تهربها من سمر وهي صديقة عمرها لكنها لم تسألها فقد ظنت أنها ستتصل بها لاحقاً بالإضافة إلى انشغالهم بالتجهيز لحفلة الزواج.. ودخلت مريم الغرفة وقالت: هيا يا هديل حان وقت نزولك.. الجميع في الانتظار..
خرجت هديل من غرفتها ورسمت على شفتيها ابتسامة جذابة وأمسكت بباقة الزهور بين يديها وعندما وصلت إلى أعلى السلم شاهدت ابنتي عمها دلال ورغد أسفل السلم تصفقان على نغمات أغنية العروس وتنتظرانها، ورأت شيماء ابنة خالتها هناك أيضاً بالإضافة إلى أم هاني وخالتها مها وزوجة خالها وفاء..
وشعرت بغصة وهي تتذكر سمر.. كانت تتخيلها ستكون واقفة بجوارها يوم عرسها لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.. نزلت هديل وقد بدت جميلة بثوبها الذهبي المطرز وشعرها الأحمر اللامع مرفوعاً فوق رأسها وتتدلى من جوانب رأسها خصل رفيعة من شعرها، وقد ارتدت شبكة ضخمة من الماس زادتها تألقاً وجمالاً وانطلقت الزغاريد.. وأخيراً وصلت إلى مقعدها وعندما جلست رفعت رأسها فالتقت عيناها بعيني سمر جالسة أمامها في مكان منزو عندها هالها ما سببته لسمر من ألم كانت سمر أشبه بالذبيحة ووقتها فقط أدركت هديل ما سببته من أذى لسمر فجثمت على صدرها ضيقة فظيعة حتى كادت تحس بأنها ستختنق رغم أنها فعلت كل هذا بسمر بيديها وباختيارها..
عاد الجميع من الحفلة سعداء إلا سمر.. كانت تحس بأنها في كابوس، عادت وعيناها متورمتان من البكاء حتى وإن والدها جزع عندما شاهدها بتلك الحالة فقالت له الأم لا تقلق فهي متأثرة لزواج هديل تعرف كم هي عاطفية ولكن الأب أحس أن هناك أمراً لا يفهمه فوجه سمر خال من الفرحة إنه وجه تعيس متألم معذب لم يحتمل الأب ذلك.. صعد الأب وراءها وطرق على باب غرفتها بهدوء وحاول الدخول فإذا الباب مقفل من الداخل حاول أن يسترق السمع فلم يسمع شيئاً فتركها وفكر أنها نائمة لم يعرف أنها في الداخل تسبح في بحر من الدموع.. كلما تذكرت هاني وهديل تتأبط ذراعه في ليلة زفافهما.. ليلة الغدر بها من أعز إنسانة في حياتها..
عاد الجميع من الحفلة سعداء إلا سمر.. كانت تحس بأنها في كابوس، عادت وعيناها متورمتان من البكاء حتى وإن والدها جزع عندما شاهدها بتلك الحالة فقالت له الأم لا تقلق فهي متأثرة لزواج هديل تعرف كم هي عاطفية ولكن الأب أحس أن هناك أمراً لا يفهمه فوجه سمر خال من الفرحة إنه وجه تعيس متألم معذب لم يحتمل الأب ذلك.. صعد الأب وراءها وطرق على باب غرفتها بهدوء وحاول الدخول فإذا الباب مقفل من الداخل حاول أن يسترق السمع فلم يسمع شيئاً فتركها وفكر أنها نائمة لم يعرف أنها في الداخل تسبح في بحر من الدموع.. كلما تذكرت هاني وهديل تتأبط ذراعه في ليلة زفافهما.. ليلة الغدر بها من اأعز إنسانة في حياتها..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا