جيراني الأرواح 7 للكاتبة ليلى الرباح

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-01-15

القبر رقم 232186
 "سارة عبد الله عبد العزيز"
صاحت بمن حولها وعيناها تكادان تخرجان من محجريهما لشدة غضبها:
- هل تسمون هذه جميلة؟ ماذا جرى لكم؟ أين ذوقكم؟ بل أين أبصاركم؟   عميت حتى ترون هذه المهزولة ذات الشعر المنفوش كجبة الأسد جميلة؟
- هيا يا سارة! لنكن منصفين قليلاً، فإن وجه هذه المطربة جميل حقاً!
- هل عميت أنت أيضاً؟ أين هو هذا الجمال الذي تتكلمين عنه؟ ألا ترين أسنانها البارزة؟ وعينيها الصغيرتين اللتين لولا الأصباغ والعدسات الملونة لما تمكن أحد من رؤيتهما؟
- لكن أنفها صغير وجميل، وهو يتناسب كثيراً مع وجهها!
- وهل تظنين أن هذا هو حقاً أنفها؟ كلا! إنه مخلوق هجين! ونتاج عمليات تجميل كثيرة مرت عليه حتى انتهى إلى هذا الشكل الذي انخدعتم كلكم به!
تململ أخوها في جلسته، وضرب بكوعه يد شقيقه الجالس بقربه وهو يوجه له نظرة لوم قاسية، فقد تهور ذلك الأحمق بقوله عن تلك التي كانت تتراقص وتقفز على شاشة التلفاز بأنها جميلة ناسياً وجود أختهم العانس الحاقدة على الدنيا وعلى كل الناس، والتي لا تسمح لأحد أن يمتدح أي امرأة في وجودها، وتقيم الدنيا ولا تقعدها إذا تجرأ أحد وخالف لها رأياً أو اعتراض على أي شيء تقوله.
لكن المصيبة أن لا أحد كان يستطيع توقع ردود أفعالها، فقد كانت غالباً ما تنفجر بالغضب بدون أي سبب، وتشعل جدالاً يستمر أحياناً لأيام، فقدرتها على الكلام كانت عجيبة حقاًن وليته كان كلاماً مفيداً، فقد كانت تعيد وتزيد وتكرر ما تقوله بلا توقف كأنها اسطوانة مشروخة
والأسوأ من ذلك أنها كانت تحمل ضغينة وحقداً أسود على كل من يغضبها، حتى لو كان ما أغضبها صنيعة خيالها وفهمها الخاطئ للأمور كما هو الحال في أغلب الأحيان، وكما حدث اليوم، إذ ثارت غاضبة وأخذت تزيد وترعد وتصيح في وجه زوجته لمجرد أنها اتفقت مع رأي أخيه حول تلك المطربة.
أخذ يشير لزوجته من خلف ظهر شقيقته لتلتزم الصمت وتتوقف عن الكلام، فلم يعد هناك فائدة من كلامها ولا من محاولاتها اليائسة لتهدئة ثورة أخته التي فاجأتها، فقد كانت عروساً جديدة ولم تكن تعلم أن شقيقته قد كرهتها من قبل حتى أن تراها كما تكره كل النساء المتزوجات وتغار منهن، لكن زوجته لم تنتبه له، واستمرت في محاولة إقناع شقيقته برأيها بكلام رزين متعقل مستعينة بالمنطق السليم الهادئ، ومصرة أن تحتفظ بابتسامتها في وجه ثورة أخته العارمة.
وزاد هدوؤها وتعقلها من غضب أخته، فأخذت تصيح في وجهها بأنها غبية وحمقاء وأنها محظوظة إذ وجدت أبله مثل أخيها يقبل أن يتزوجها، مضيفة بحقد أنه من الطبيعي أن تدافع عن تلك القبيحة وتقف في صفها لأنها قبيحة مثلها، وأنه لولا طبقات الأصباغ الكثيفة التي تلطخ بها وجهها والساعات الطويلة التي تقضيها في محاولاتها العقيمة لتغطية عيوبها لظلت عانساً.
انفجرت زوجته بالبكاء يائسة، فقد كانت أخلاقها تمنعها من أن ترد الصاع صاعين لشقيقة زوجها الكبرى، التي تكبرها بأكثر من ضعف سنوات عمرها، والتي تصرخ في وجهها وتشتمها بدون أي ذنب جنته.
وهنا طفح الكيل بأخيها، فنهض من مكانه وأمسك بيد زوجته الباكية ودفعها أمامه خارجاً، وصاح قبل أن يصفق الباب خلفه بأنه لن يعود إلى ذلك البيت ثانية، لكنه ورغم غضبه الظاهر فقد كان في أعماقه سعيداً وممتناً لتلك الفرصة التي سنحت له، فقد تخلص بسبب هذه المشاجرة من الالتزام الكريه الذي فرضته أمه عليه بالحضور إلى بيت أهله كل يوم جمعة.
كانت أخته سيئة الطباع وسريعة الغضب منذ نعومة أظفاره، لكنها أصبحت لا تطاق بعد أن كبرت دون أن تتزوج، فقد ظلت ترفض كل من يتقدم لها بازدراء معتقدة أنها تستحق من هو أفضل منه، حتى تجاوزت الخمسين وشاب شعرها وهجر الخطاب بابها.
وكانت أمهم هي الضحية الأولى لغضب ابنتها الكبرى، فقد كانت تنفس عن حرمانها وإحباطها بالصراخ في وجه أمها لأدنى سبب، والتحكم بكل تصرفاتها وفرض آرائها السقيمة على كل صغيرة وكبيرة تحدث في بيتهم دون أن تقوى الأم العليلة على التصدي لها، حتى كف قلب الأم الطيب عن المقاومة وتوقف عن الخفقان.
ولولا شعوره بالذنب تجاه أمه وخوفه من كلام الناس لما اقترب من ذلك البيت منذ زواجه، فقد كان يكره اضطراره إلى التزام الصمت وتوخي الحذر في كل كلامه وتصرفاته بوجود أخته، التي كانت كعود الكبريت الجاهز للاشتعال في أي لحظة، ورغم حزنها على أمهم بكائها الطويل عليها، فلم يستطع يوماً أن ينسى إحساس قلبه بأنها هي من قضت عليها بسوء معاملتها لها ومشاجراتها الدائمة معها.
وهكذا استغل تلك الفرصة لينجو بجلده من سلاطة لسانها، فلم يعد لزيارتها بعد ذلك، وتجاهل كل اتصالاتها، ويئس باقي إخوانه من محاولة إقناعه بمسامحتها فتوقفوا عن الإلحاح، وإن كانوا يحسدونه في قرارة أنفسهم لظفره بالخلاص منها، فيما ظلوا مجبرين على الحضور في موعد الزيارة البغيض ذلك على مضض دون أن يجرؤ أحد منهم على التخلف عنه يوماً.
لكن تصرفات أختهم العانس كانت تزداد سوءاً كل مرة، فكانت تفتعل المشاجرات معهم ومع زوجاتهم، وتمعن في الصراخ على أطفالهم ومحاولة التدخل في شئونهم، وكانت الطامة الكبرى عندما حاول أكبر إخوانها إقناعها بتناول حبوب مهدئة لتسيطر على عصبيتها، فقد فقدت رشدها من الغضب، ولحقت به إلى الباب البيت وهي تصب اللعنات والشتائم البذيئة على رأسه.
توقف ذلك الأخ عن الكلام معها بعد تلك الحادثة، وتدريجياً كرت السبحة ليهجرها أخوتها كلهم، وأصبحت تمضي الأيام والليالي وحيدة ولا تجد من تفرغ في وجهه إحباطاتها سوى الخادمات، فقد كانت تعيش لوحدها في بيت العائلة الكبير بعد وفاة والديها وزواج جميع إخوتها.
وحتى هؤلاء الخادمات ضقن ذرعاً بها، وتركن البيت لينجون بأنفسهن من غضبها الدائم، ولم يبق معها سوى خادمة كسولة باردة الأعصاب لا تلقي بالاً لها ولا لصراخها، فقد كان كل ما يعنيها هو انتظار وقت نوم تلك العجوز لتتفرغ لأحاديثها الهاتفية الطويلة مع عشاقها الكثيرين، أو لتستقبل في غرفتها فوق السطح من تختار منهم لتمضي معه ليلتها كلما سنحت لها الفرصة.
وكانت كثيراً ما تسنح، فقط حطمت الوحدة الدائمة والصمت المحيط بتلك العانس باقي أطلال تماسكها وتظاهرها الزائف بالقوة، فأصبحت تمضي أياماً وأياماً دون أن تخرج من غرفتها، وأدمنت مشاهدة التلفاز فلم يعد لها رفيق غير أبطال المسلسلات التي تعرض فيه.
وتركت الحبل على الغارب للخادمة والسائق ليتصرفا كما يشاءان، فلم تعد تسأل أين تذهب كل تلك الأموال التي يأخذانها منها لمصروف البيت وللطعام الذي لم تعد تذق منه إلا القليل، وتوقفت عن الاتصال بأخواتها بعد أن تمزقت كرامتها إرباً وهي تتوسل إليهم ليزوروها، أو ليسمحوا لها بزيارتهم لترى أولادهم الذين اشتاقت إليهم، وكانت تنام باكية كل ليلة وهي تنادي أمها، وتلومها لأنها تركتها وحيدة في هذه الدنيا ورحلت.
كانت قد مرت سنة منذ رأت أحداً من أخوتها عندما حن قلب أحدهم عليها يوماً، فزارها ليصدم بهزالها وعينيها الزائغتين وصمتها الغريب، فقد كانت تقضي الأيام والليالي دون أن ترى أحداً أو تتكلم مع أحد.
لم تعترض عندما اصطحبها إلى الطبيب ليكتشف أسباب هزالها، لكن الطبيب أخبره بأن ما تعاني منه قد يكون نفسياً، فلم يجد بجسدها أي مرض، وبتردد عرض عليها أخوها أن يأخذها إلى عيادة طبيب نفسي نصحه صديقه به، ولدهشته لم تعترض البتة على اقتراحه، بل هزت رأسها مستسلمة، فقد كانت مستعدة لفعل أي شيء ليعود إخوانها لها بعد أن ذاقت مرارة الوحدة.
وبعد عدة أيام أعادها أخوها إلى البيت محملة بأقراص الأدوية المهدئة والمنومة التي وصفها لها ذلك الطبيب، ولم يتعب أخوها كثيراً ليجعلها تعده بالالتزام بمواعيد الدواء، فقد كانت توافق على كل ما يطلبه منها بخضوع تام، وبتردد سألته عندما استدار ليرحل:
- هل ستعود لزيارتي قريباً؟
- ربما، لا أعلم، هذا يعتمد على الظروف فأنا مشغول كما تعلمين.
أسكتت بصعوبة صراخ كرامتها، وابتلعت غصة الذل التي خنقت صوتها، لتعود فتقول له بصوت متوسل:
- يمكنك أن تأتي في أي وقت من الليل أو النهار، فأنا لم أعد أخرج من البيت أبداً.
- أجل أجل، أعلم ذلك، لكنني مشغول كما قلت لك، سأحضر لزيارتك عندما أستطيع.
- هل يمكنك أن تحضر لي ابنك أحمد لأراه؟ فأنا مشتاقة له كثيراً ولا أريده أن ينساني.
- سأرى! علي أن أرحل الآن فقد تأخرت.
وعادت إلى وحدتها وحزنها، ومرت أشهر طويلة قبل أن يقتنع أخوتها بأنها قد تغيرت ويعودوا لزيارتها على فترات متباعدة، وبحرص التزمت بدقة بالأدوية التي وصفت لها رغم أنها كانت تجعلها متعبة على الدوام ولا تفارق فراشها، فقد كان ذلك ثمناً بخساً تدفعه لتنعم برؤية أخوتها وأولادهم.
وجعلها خوفها من أن تعود وتفقدهم لا تنبس ببنت شفة لدى حضورهم لزيارتها، بل كانت تكتفي بالابتسام والاستماع إلى أحاديثهم، واحتضان صغارهم وتدليلهم بالهدايا الغالية التي ترسل السائق يسرقها منها في كل مرة يشتري لها ما تطلبه، فقد أصابتها تلك الأدوية التي لم تكن تحتاجها برهاب كان يمنعها من أن تخرج من البيت، ويجعلها تتخيل الناس في الخارج وحوشاً تتربص بها لتؤذيها.
وكان لتلك الأدوية آثار جانبية أخرى لم تكن تعلمها، إذ كانت ترسل السائق لإحضار جرعات جديدة منها كلما فرغت دون أن تعود لمراجعة الطبيب لخوفها من مغادرة البيت، متجاهلة الصداع الدائم الذي لم يعد يفارقها، ولم تذكر شيئاً عن ذلك الصداع لأي من أخوتها، فلم تكن تجرؤ على أن تشكو لهم آلامها أو أن تطلب من أي منهم شيئاً، إذ كانت تخشى أن يضيقوا بها ويتوقفوا عن زيارتها.
وفي أحد الأيام ازداد ذلك الصداع حتى أحست بأن رأسها يكاد ينفجر وأنها تكاد تفقد عقلها، وأخذت تصرخ من شدة الألم حتى اضطرت الخادمة والسائق إلى اصطحابها إلى عيادة الطبيب، ورغم أن ذلك اليوم كان يوم جمعة إلا أن العيادة كانت مزدحمة بالمرضى، وكانت الخادمة تمسك بها وتحاول إسكات صرخاتها المجنونة دون جدوى.
- آه يا أمي، رأسي يؤلمني يا أمي، سأموت من الألم يا أمين، أين أنت يا أمي يا حبيبتي؟ أين أنت لتساعديني؟ تعالي يا أمي! تعالي فأنا أحتاجك وأريك! لا أحد سواك يرحمني يا أمي، لا أحد يحس بألمي إلا أنت، تعالي ولا تتركيني وحدي مع آلمي! رأسي يا أمي! رأسي سنفجر من الألم يا أمي!
استمرت في الصراخ بأعلى صوتها، وارتبكت الخادمة والسائق تحت نظرات الموجودين التي انصبت عليهما وعلى تلك المرأة التي كانت تمسك برأسها وتصرخ دون شعور، وتشاورا لبضع دقائق ثم قررا أن يعيداها إلى البيت، فجرتها الخادمة من يدها وتبعت السائق الذي جري إلى الخارج ليهرب من تحديق الناس به، وشعرت المرأة بأنهما سيعيدانها إلى البيت فأخذت تصرخ:
- لا! أرجوكما لا تعيداني إلى البيت! أريد أن أرى الطبيب! أنا متعبة! أنا مريضة! أتوسل إليكما! ارحماني!
أحست إحدى الجالسات بالشفقة عليها فصاحت بالخادمة:
- لا تخرجاها! دعاها تدخل قبلنا! لا بأس ما دامت متعبة إلى هذه الدرجة!
لكن الخادمة تجاهلت تلك السيدة كما تجاهلت صرخات مخدومتها التي ارتفعت وتيرتها بيأس، وأعادتها إلى بيتها بمساعدة السائق ثم دفعتها إلى غرفتها وألقت بجسدها الهزيل على فراشها، وتناولت حفنة من الحبوب المهدئة الموضوعة قرب سريرها وأرغمتها على ابتلاعها لتتخلص من صراخها، وبعد بضعة دقائق كانت قد استغرقت في النوم والدموع تسيل على خديها، تنفست الخادمة الصعداء وتركتها لتتفرغ لشئونها ولعشاقها.
وفارقت تلك المرأة الحياة في نومها، فقد أصابتها تلك الحبوب بارتفاع في الضغط كان هو ما يسبب لها ذلك الصداع المستمر، وكان ضغط الدم قد ارتفع إلى درجة خطيرة في ذلك اليوم، وزادت تلك الجرعة الإضافية التي دفعتها الخادمة في حلقها من حدته، فانفجر أحد الشرايين في رأسها، لتصاب بنزيف داخلي وتفارق الدنيا.
واستيقظت بعد ذلك لتجد نفسها في القبر والظلام يحيط بها من كل جانب، وهي ملفوفة بشدة بخرقة بيضاء غطت جسدها كله، وأخذت روحها تصرخ، فقد كانت تخشى الظلام وتكره الأماكن المغلقة، وفجأة سمعت صوتاً يناديها باسمها:
- سارة! سارة يا ابنتي لا تخافي فأنا هنا بجانبك! أنا هنا بقربك! ألا تسمعينني؟
لم تصدق ما سمعته، فقد كان ذلك صوت أمها، أمها الحنون الطيبة التي لم ترها منذ سنين، لكن هذا مستحيل! لا يمكن أن يكون هذا صحيحاً فأمها ميتة! لابد أنها تتخيل! بل من المؤكد أنها تحلم، وعادت إلى الصراخ فعاد ذلك الصوت يكلمها بحنان:
- سارة حبيبتي كفي عن الصراخ فقد أزعجت أرواح من حولك! افتحي عينيك وانظري إلي! أنا هنا  بقربك! ألا تريدين رؤيتي؟ ألم تشتاقي إلي؟
فتحت عينيها فرأت أمها تقف إلى جوار قبرها، وصاحت بفرح فقد أيقنت الآن أنها ترى أمها حقاً، كان جسدها شفافاً والكفن الأبيض يحيط بها، لكنها كانت أمها! وكانت تبتسم لها بحب وتمد يدها لها تناديها، أرادت أن تجري إليها لتحتضنها، لكنها لم تكن تعرف كيف تفعل ذلك، فلم يعد لها قدرة على التحكم بجسدها، واستمرت أمها تناديها وهي تحاول رفع جسدها دون جدوى.
نظرت إلى أمها مستنجدة، فابتسمت الأم قائلة:
- لم يعد ذلك الجسد ملكاً لك يا ابنتي! ولن تتمكني من أن تفعلي شيئاً به! لكن روحك هي الآن حرة طليقة، لقد انعتقت من قيود ذلك الجسد وأصبحت حرة، تعالي إلي يا ابنتي فقد اشتقت إليك!
- لكنني لا أعرف كيف أفعل ذلك!
- فقط أطلقي لروحك العنان، استسلمي للموت واقبليه! فخوفك من الفناء هو كل ما يبقيك مقيدة إلى ذلك الجسد!
- هل تعنين. هل تعنين أنني ميتة؟ لكن كيف؟ أنا لم أشعر بشيء!.
- لقد مت في نومك تحت تأثير تلك الحبوب، لكن كل هذا لم يعد مهماً الآن، فقد عملت منذ توفاني الله بأنك ستلحقين بي في هذا اليوم، بل كنت أعلم بالضبط في أي ساعة سيوسد جسدك التراب، ولهذا جلست هنا أنتظرك، هيا بنا فإن أباك ينتظر قدومنا!
- أبي! هل أبي هنا أيضاً؟ لكن كيف؟ فلقد مات منذ زمن طويل! 
- أجل ولقد بلى جسده وفني إلا قليلاً، لكن روحه تجلس هنا قرب قبره وتنتظرنا، فقد أخبرته بأنني سأحضرك معي!
- أبي! أبي الحبيب! كم اشتقت لرؤيته! لكنني لا أستطيع الحركة! ساعديني يا أمي!
- أنت لا تحتاجين لمساعدتي، فكل ما عليك فعله هو أن ترغبي في القدوم إلي، اجعلي ذلك الشعور يغمر كل جوانب روحك، فلم تعودي بحاجة إلى أن تستخدمي جسدك لكي تتحركي، فأنت لا سواك من يبقي روحك معلقة بجسدك، اتركيه وتعالي! هيا تشجعي!
استجمعت قوتها وخرجت من جسدها، وتفاجأت عندما أحست بنفسها خفيفة كنسمة هواء، توقفت لحظة لتتأمل ذلك الجسد الذي قضت حياتها حبيسة فيه، وكادت تعود إليه جزعة عندما رأت دودة تزحف بقربه وتدخل من فمها المفتوح إليه، لكن أمها نادتها من جديد، فتركته غير آسفة وطارت مسرعة إلى أمها.
وأخيراً وجدت روحها المعذبة راحتها بقرب أمها، فلم تعد وحيدة وهي تقضي الليالي تتحدث مع أمها وأبيها وجدتيها، وتراقب ما يحدث لأخوتها، وتنتظر بلهفة زياراتهم لقبرها كلما زاروا قبر أمها، تماماً كما كانت تتلهف لزياراتهم في أواخر أيام حياتها.
وتجاهلت بغير اكتراث محاولات جاراتها في القبور المحيطة بها لمصادقتها، ولم تمنح لأي منهن الفرصة لتبادل الزيارات معها كما كن يفعلن بينهن، فلم تكن يوماً ممن يحب مصادقة الأغراب سواء كانوا أحياء أم موتى، ولم يغير موتها طبعها ذلك، فقد اكتفت بالتزاور مع أقرب الأقربين من أهلها، واستغنت بهم عن كل من حولها من الأرواح.
وكانت تنتظر بفارغ الصبر قدوم أصغر أخوتها ليلحق بها، لتعتذر له عن كل مرة آذته فيها بلسانها، ولتلومه على فرحته التي لم يستطع إخفاءها بموتها وخلاصهم من همها، وعلى عدم زيارته لقبرها منذ ماتت، فقد كانت تعلم بالتحديد متى سترى أخوتها من جديد، وكان ذلك الشاب المشاغب هو من سيكون أسرعهم لحاقاً بها.

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا