استهتار!!
ضحك هاني بصوت عال وهو يقول:
أنا لا أخاف من إي شيء وأنت تعرف هذا جيدا.. أريد أن أرى تلك العفاريت التي يتحدثون عنها.. أريد أن ألقاها لأجعلها تعرف من منا الأقوى.
ضحك صديقه قائلا:
أخشى إذا قابلت واحداً منها أن تعرف أنك لست الأقوى.
كانت تلك – كالعادة – جلستهم التي اعتادوا أن يقيموها كل ليلة في منزل هاني، يجتمع فيها كل الشلة، شابا، فتيات يستمعون إلى أحدث ألبومات الموسيقى ويرقصون على أنغامها ويتبادلون الحكايات والألعاب المختلفة. وأكثر.
قال هاني.
لقد أحسست بالملل من كل المغامرات الفارغة التي نقوم بها.
نريد شيئاً مختلفا هذه المرة. نريد أن نقوم بمغامرة نشعر فيها بالرعب الحقيقي والإثارة.. نريد أن ندخل إلى أماكن لم يدخلها أحد من قبلنا.
قالت إحدى الفتيات:
هل تريد أن ترى أحد تلك العفاريت التي نحكي لك عنها؟
رد هاني باستهتار:
نعم أريد، هل تعرفين مكان إحداهما؟
قالت:
نعم.. في المقابر قرب الطريق الزراعي، هناك مكان قالت لي إحدى صديقاتي إنها كانت مع صديقاتها هناك في سيارته وقابلوا أحد الأشباح هناك، وكاد يحطم زجاج السيارة فخرجوا من المكان فزعين وحكت لي ما حدث.. لذلك.. إذا كانت لديك الشجاعة الكافية أن نذهب إلى هناك، فأنا على استعداد أن أرشدك إلى المكان.
ضج المكان بالضحك عندما شحب لون هاني قليلا.. سكب ما في كأسه من شراب في فمه، وقام على الفور إليها.. أمسك يدها وقال لها:
هيا إذن..
التفت إلى أصحابه قائلا:
من منكم يريد مرافقتي إلى هناك؟
تردد الشباب قليلا ثم قال أحد الأصدقاء:
أنا أرافقك إلى هناك.. أنا لا أخاف شيئاً مثلك تماما.
أخذ هاني السيارة مع صديقته ياسمين وصديقه، وذهبوا إلى المكان الذي أرشدته إليه الصديقة، جلسوا في السيارة قليلا ولم يحدث أي شيء، كان المكان مظلما جدا في الساعات الأخيرة من الليل، وموحشا جدا، ولم لا وهم بجوار المقابر والمكان بالطبع غير مأهول بالأحياء؟
كان الجميع متوترين من الحكاية التي حكتها ياسمين لهم في أثناء الذهاب إلى المكان، قالت لهم:
كانت مع صديقها هناك في وقت مقارب لهذا الوقت، وكانا يجلسان في السيارة والأبواب مغلقة، والشبابيك كذلك، وبعد فترة قصيرة من الوقت، وجدوا الحجارة تلقي على سقف سيارتهم، وكان هناك من يقذفهم بها.. في البداية ظنا أن هناك شخصا ما، لا يريد تواجدهما في ذلك المكان أو أنه قد استفزه سلوكهما في السيارة وضحكت ثم أضافت:
أضاء صديقها أنوار السيارة وأخذ يتلفت حوله لكنه لم يجد شيئاً.. فلم يهتم للأمر، توقفت الحجارة لكن بعد فترة بسيطة جداً شعراً بالسيارة تهتز بشدة كان هناك من يحاول انتزاعها من فوق الأرض، فزعا بشدة وقام الشاب بالخروج من السيارة بعد أن أخذ في يده أحد المفاتيح التي يستخدمها في تغيير إطارات السيارة، لكنه لم يجد أي شيء بالخارج، دار حول السيارة التي كانت مازالت تهتز بعنف والفتاة تصرخ بداخلها، لكنه لم يجد شيئا، فدخل إلى السيارة مسرعا وأغلق الباب، وعندما حاول إدارة محرك السيارة لم يفلح في ذلك لبعض الوقت، ظل يحاول إدارة محرك السيارة للخروج بها من هذا المكان، وصديقتي تصرخ فيه أن يسرع بالخروج، لكنه لم يفلح إلا بعد فترة من الوقت بدت لهما كأنها أبداً ممتدا، وفي أثناء خروجه مسرعا من المكان، أصاب الزجاج الخلفي للسيارة حجر، فأدى إلى تهشمه تماما مما زاد من صراخ الفتاة إلي تحول إلى صراخ هستيري، والغريب أنهما عندما وصلا إلى مكان مأهول بالناس، وجداً الزجاج الخلفي للسيارة سليما ولا يوجد أي أثر للحجارة، على جسم السيارة، على الرغم من أن الشاب كان متأكداً من أن كل هذه الحجارة التي ألقيت فوق سيارته، لابد أن تكون قد أصابت جسم السيارة غالية الثمن بالخدوش والانتاجات.
صمتت الفتاة قليلا نثرى أثر كلامها على وجه صديقيها.
نظر الصديقان لبعضهما بعضا بخوف، لكن هاني قال بعد فترة الصمت:
هذا لا يؤكد وجود شبح أو غيره، ربما كما قلت من قبل هناك من استفزه سلوكهما في السيارة، فأراد أن يلقنهما درسا، خاصة أن المقابر تقع بالقرب من الأراضي الزراعية ما يعني وجود مزارعين هنا، وكما تعلمين فإن المزارعين لا يفكرون مثلنا ولا يعرفون الحياة الحرة التي نعرفها نحن خاصة مع سفر الأهل إلى الخارج وحياتنا في منازل خالية من كل منغصان تحكمات الأهل وأوامرهم.
ردت ياسمين:
ربما يكون ما تقوله صحيحا إلى حد ما، لكن الشاب لم يجد أي شيء في خارج السيارة، والمهم إنهما قررا ألا يحضرا إلى ذلك المكان مرة أخرى أبداً.
طالت فترة الصمت هذه المرة وعندما قرر هانئ الخروج بالسيارة من المكان فوجئ بالحجارة تنهمر على سقف سيارته وجوانبها، صرخت ياسمين بصوت مرتفع من الرعب.
أضاء هانئ أنوار السيارة الخلفية والأمامية، وأدار الأصدقاء عيونهم حول السيارة، علهم يعرفون مصدر الحجارة، لكنهم لمي روا شيئاً، فقام هاني على الفور بمحاولة السيارة للخروج من المكان، لكنه لم يفلح في ذلك تماما كما قالت ياسمين من قبل.
اهتزت السيارة بعنف كأنها قد أصيبت بالجنون وظلت ياسمين تصرخ، لكن هانئ بشدة قائلا:
اصمتي ربما صوتك هو ما يجذب هذا الشيء، أيا كان، اصمتي وإلا ألقيتك هنا وخرجت من المكان.
نظرت إليه الفتاة في فزع شديد ووضعت يدها فوق فمها لتمنع نفسها من الصراخ، فيما كان هاني يحاول إدارة محرك السيارة، وبعد فترة بدت لهما كأنها دهر، دارت السيارة أخيراً وخرجوا مسرعين من المكان دن النظر خلفهم.
عند عودتهم إلى باقي الشلة، كان ثلاثتهم في حالة سيئة جداً من الخوف والرعب، وحكي الجميع ما حدث لتتقلب الحكاية إلى السخرية الشديدة منهم.
قال أحد الشباب:
فزعتم جميعا، لو كنت معكم كنت خرجت إلى هذا الشيء ولقنته درسا في القوة، وعلمته كيف يكون الخوف الحقيقي.
قالت إحدى الفتيات:
ماذا لم تطلب من ذلك الشيء أني نضم إليكم في السيارة ليستمتع معكم؟
قالت أخرى:
إنه بالتأكيد شخص ما، لا يريد لأحد الوجود في ذلك المكان أو ربما عدة أشخاص، عصابة مثلا لا تريد لأحد أن يتواجد في مقرها حتى لا يعرف بوجودها أي شخص.
قال آخر:
نعم كلنا يعرف أن المقابر هي الأماكن المفضلة للعصابات ومسجلي الخطر، لأنها أماكن غير مأهولة ولا أحد يستطيع دخولها في الليل خاصة في الليالي المظلمة مثل الليلة.
قال آخر:
أنتم كان لديكم فكرة مسبقة عما سيحدث، ربما أنكم تخيلتم ما حدث خاصة أن السيارة لا يوجد بها أي أثار لأي شيء مما قلت!
قال آخر:
نعم كل هذا كان مجرد تخيل، هلوسة جماعية ولا تنسوا كمية البيرة التي شربتموها قبل نزولكم إلى هناك.
قال آخر:
هاني إذا كنت تريد أن ترى أشباحا فعلا فيجب ألا تشرب أي شيء قبل وجودك في هذه الأماكن حتى تعرف إذا كان ما ترى حقيقة أم خيالا، وعموما إذا أردت أن ترى أشباحا حقيقية فما عليك سوى دخول قصر البارون، فالجميع يعلم أنه مسكن بشبح ابنه البارون التي كانت ترى الشيطان في بدروم القصر، حيث حبسها والدها بعد إصابتها بالشلل، هناك سترى الأشباح بحق، ولن يكون هناك أي مجال للخلط بينها وبين البشر.
قال هانئ في كبرياء زائفة:
نعم هذا ما سوف أفعله.. سوف أحاول الدخول إلى قصر البارون غدا ليلا من منكم يريد الذهاب معي؟
وافق بعض أصحابه على الذهاب معه إلى هناك ليلة الغد، وأخذوا يسخرون مما سوف يشاهدونه هناك، ومما قد يكون موجوداً هناك بالفعل.
تحضر هاني جيداً لتلك الليلة، أخذ معه بطارية وبعض الشمع والثقاب، ولم يقرب البيرة أو أي شراب ذلك اليوم أبداً.. وأخذ معه هاتفه الجوال الذي يستطيع من خلاله تصوير بعض مشاهد الفيديو فائقة الجودة، وتقابل الأصدقاء في المواعد المحدد عند القصر.
كان الموعد في الثانية عشرة ليلا، أتى هاني مع أحد الأصدقاء في سيارته بينما أتى الآخران في سيارتهم.
ركنوا السيارتين في مكان بعيد عند فندق البارون وذهبوا إلى القصر المظلم من الداخل تماما.
داروا جميعا حول القصر ليستطلعوا الحراسة الموجودة حوله، وجدوا الحراسة بسيطة، مكونة من مجرد حارسين يجلسان حول نار أشعلاها للتدفئة في برد الليل القارص في ذلك الوقت من العام.
تسللوا إلى داخل الحديقة الخارجية للقصر وحاولوا دخول القصر من أحد أبوابه، لكنهم اكتشفوا أن الباب مغلق بالمفاتيح، داروا حول القصر بهدوء شديد دون التفوه بكلمة واحدة، بل اكتفوا بالإشارة لبعضهم بعضا، عليهم يجدون أي باب آخر مفتوحا للدخول منه، لكنهم لم يجدوا أي شيء.
تجمعوا في مكان بعيد عن الحارسين وقال هاني:
المغامرة هكذا ستفشل، ماذا علينا أن نفعل لكي ندخل إلى القصر؟
قال أحد الأصدقاء:
لا أعرف! ربما علينا أن نقتل الحارسين ونأخذ منهما مفاتيح القصر.
قال آخر في سخرية واضحة:
أنت ذكي جداً.. أتعرف هذا؟ هل نقتل شخصين لمجرد القيام بمغامرة مع الأشباح، لما لا نسرق بتكا أيضاً لمجرد المغامرة؟!
قال هاني:
عندك حق. لا يجب أن نتمادى إلى هذا الحد. ربما يمكننا أن نضربهما أو نقيدهما ونأخذ المفاتيح وندخل ثم نخرج دون أن نصيبهم بالضرر.
قال آخر:
وماذا لو تعرفا علينا بعد ذلك وتم القبض علينا؟ من رأيي أن ننهى المغامرة اللعينة عند هذا الحد، ونبحث لأنفسنا عن مغامرة أخرى.
قال هاني:
لا.. أنا لن أنهي هذه المغامرة دون الدخول إلى القصر ورؤية ما بداخله من أشباح.
قال صديق آخر:
يمكن أن نذهب إلى الحارسين ونعطيهما بعض المال لعلهما يسمحان لنا بالدخول، فغالبا لا يوجد بالداخل ما يخافان على سرقته أو ضياعه، والحراسة هنا لمجرد التأكيد من أن القصر يظل خاليا ولا يدخله اللصوص أو الإرهابيون للاختفاء بداخله.
لاقت تلك الفكرة استحسان الجميع، وتوجهوا إلى الحارسين اللذين فزعا لوجود عدد من الشباب ضعف عددهما بالمكان، وربما كان ذلك ما دفع الحارسين للموافقة على فتح باب القصر لهم للدخول، على أن يكون ذلك لمدة نصف ساعة فقط لا غير.
نصف ساعة كافية لنا لتفقد المكان التاريخي العظيم الذي كنا نتوق لرؤيته منذ زمن بعيد.
هكذا قال أحد الشباب ورد الباقي وراءه بالموافقة.
دخل الشباب الأربعة إلى القصر المظلم تماما من الداخل، أشهر كل منهم بطاريته ليضيء مساحة من الظلمة لا تتعدى المتر أمامه، لكن ذلك الضوء لم يكن كافيا ليبدد باقي مساحة الظلمة التي غطت المكان تماما.. عندما خطأ الشباب الأربعة إلى داخل المكان، أغلق الحارس الباب عليهم، حتى لا يتعرض للمساءلة القانونية إذا ما حضر حد أفراد الحراسة الأكبر منه رتبة.
استدار الشباب غليه، لكن الظلام ابتلع المكان ماما.
أخذوا يتهامسون فيما بينهم عن أفضل مكان يذهبون إليه في القصر ليشاهدوا الشبح الذي سمعوا عنه، قرروا النزول إلى بدروم. القصر، لكنهم لم يعرفوا مكانه في الظلام، ولم تسنح لهم الفرصة لسؤال الحارس عن اتجاه البدروم ليتوجهوا إليه، فقرروا أن يتمشوا قليلا في المكان لعلهم يجدون شيئاً يستحق المغامرة والتعب.
كان المكان فارغا من كل شيء، أخذوا يتجولون في حجرات الدور الأرضي دون أن يلاحظوا أي شيء يذكر، وقاموا بتصوير بعض اللقطات والأفلام القصيرة للمكان، وبعد فترة من الوقت بدت لهم قصيرة، سمعوا أصوات تأتي من إحدى الحجرات التي تبعد عنهم قليلا، قرروا على الفور التوجه إليها، وفي منتصف الطريق إلى هناك فتح باب القصر فجأة وقرر الحارس أن الوقت قد حان لهم كي يرحلوا، لأن موعد تغيير نوبة الحراسة قد اقترب، ولن يكون هناك فرصة لهم للخروج من هذا المكان إذا تأخروا أكثر من هذا.
حاول هاني أن يقول له شيئاً لكن الحارس قال له:
يمكنكم أن تحضروا في الغد مبكراً بعض الشيء عن هذا الموعد، وسوف نسمح لكم بالدخول إلى هنا لتقضوا الوقت الذي تريدونه.
كان الجميع بالطبع يعرف أن هذا الكلام لي صحيحا وأنهم قد باغتوا الحارسين الليلة، لهذا رضخا لهم وسمحا لهم بالدخول، لكن في الغد بالتأكيد لن يسمحا لهم بذلك، وربما سيكونان مسلحين ولن يستطيعوا مجرد الاقتراب من المكان.
وهكذا باءت المغامرة بالفشل مرة أخرى!
هكذا قال أحد الشباب الذين لم يذهبوا معهم ساخراً من الجميع، بعد أن شاهدوا الصور والأفلام القصيرة التي لم تبين أي شيء نظر إليه هاني بغضب وقال:
ولكني لن أيأس أبداً، سوف أذهب إلى أي مكان أعرف أن به أشباحا لأراها وأعرف ما يدور في فكرها.
قال أحد الأصدقاء:
هاني دعك من هذا الكلام الفارغ، هيا لنذهب إلى أحد شواطئ الساحل الشمالي لنقضي بعض الوقت هناك فالبحر في الشتاء أجل ما يكون.
قال هاني:
نعم سوف آخذ إجازة من عملي لبعض الوقت ونذهب إلى هناك.
ثم التفت إلى أصدقائه قائلا:
من منكم يريد الذهاب معنا؟
اتفق صديق ثالث لهم على الذهاب إلى هناك.
عند وصولهم إلى القرية التي اعتادوا أن يقضا فيها وقتا رائعا في الصيف، تعجبوا لخلوها من البشر وكأنها مهجورة تماما على الرغم من أنها لا تكون مهجورة هكذا أبداً في أي وقت من العام.
عند وصولهم إلى الشاطئ كان الشاطئ خاليا تماما من الجميع، نظر إليهم حارس الشاطئ الذي يعرفهم جيداً بدهشة، عندما وجدهم يجلسون على الشاطئ وإلى جوارهم زجاجة خمر من نوع غالي من الثمن.
لكنه لم يتحدث معهم أبداً.
بعد فترة من الوقت، نظر هاني فوجد سيدة ترتدي ملابس سوداء تمشي فوق الرمال، نظرت إليهم وهم يشربون بعض كؤوس الخمر وابتسمت لهم ثم أكملت طريقها.
بعد عدة دقائق وجدوا المرأة في عرض البحر وهي تستغيث بهم أن ينقذوها من الغرق، قام الثلاثة إلى الماء لكن الخمر كانت قد لعبت برؤوسهم فخافوا النزول إليها حتى لا يتعرضوا للغرق، لكن هاني قرر النزول إليها فوراً، حاول هانئ أن يستعيد تركيزه لكنه كان يشعر بالدوار من أثر الخمر والبرد، أخذ يقترب منها سابحا، لكنه لاحظ أنه كلما اقترب منها، كانت تبتعد عنه عميقا إلى داخل البحر، حتى شعر بأنه يكاد يفرق على الرغم من إجادته التامة للسباحة بعد فترة من السباحة باتجاهها، قرر هاني العودة إلى الشاطئ لأنه قد فشل في الوصول إليها، وعندما استدار نحو الشاطئ سمع صوتها، يخفت شيئاً فشيئاً وشعر كأن الماء يغمره وكأنه يغرق، لكنه أخذ يقاوم بشدة حتى وصل إلى الشاطئ بمعجزة.
وعلى الشاطئ أخذ يجفف ملابسه وهو يجري مع أصدقائه إلى حارس الشاطئ لإبلاغه بما حدث، وعندما وصولا إليه قال هاني:
هناك امرأة تغرق في البحر بالداخل.
نظر الحارس إلى شخص آخر كان يسير معه بالخارج ثم نظر إليهم وقال لهم:
امرأة ترتدي ملابس سوداء؟
رد أحد الأصدقاء صارخا:
نعم.. نعم امرأة ترتدي ملابس سوداء إنها تغرق في البحر أرجوك ساعدها.
نظر الحارس إليه بخوف وقال له:
إنها ليست امرأة.. إنها شبح امرأة غرقت هنا منذ خمس سنوات، يعود شبحها للظهور في الشهر الذي تغرق فيه كل عام، ولهذا تجد القرية السياحية مهجورة تقريبا في هذا الشهر من كل عام.. كنت أعتقد أنكم تعرفون هذا ولذلك لم أحذركم منها، لقد تسببت في غرق الكثير من الشباب الذين ذهبوا وراءها لإنقاذها.
نظر هاني إلى صديقيه.. وبلا كلمة واحدة، خرجوا جميعا إلى خارج القرية السياحية ليستقلوا السيارة ويعودوا بها مباشرة إلى القاهرة.
في المنزل، جلس الجميع يستمعون للحكاية الغريبة المرغبة التي حكاها ثلاثتهم.
قال هاني بعد أن انتهى من حكايته:
هذه المرة لم نستطع أن نرى من منا أقوى من الآخر، لأننا لم نعرف أنها شبح إلا بعد أن اختفت من أمام عيوننا، أنا أريد أن أرى شبحا أعرف أنه شبح لنقارن قوتنا سويا.
قال صديق:
عند منزل والدي عمارة تحت الإنشاء، يقولون إن بها شبحا لرجل قتل في تلك المنطقة من عدة سنوات، يظهر في الليل أحيانا حتى إن حارس العقار لا يبيت فيه، بل بيت في الجهة المقابلة لها، إذا أردت فعلا أن تذهب إلى هناك فأنا على استعداد أن أذهب معك.
قال هاني:
نعم لنذهب إلى هناك إذن غدا ليلا ونرى الشبح الذي تحكي عنه.
في الليلة التالية، استعد هاني وصديقه بنفس البطاريات السابقة والهواتف الجوالة لتصوير أي شيء غير طبيعي في المنطقة، وذهبا إلى هناك، كانت ليلة مظلمة تماما، وصلا إلى العمارة التي حكى له عنها صديقه، كانت عمارة تحت الإنشاء، بها نحو عشرة أدوار مبنية، كل دور به أربع شقق.. ولا يوجد لها سلالم ولا أبواب.. دار حول العمارة ليبحثا عن الحارس، فوجداه يجلس في الجهة المقابلة للعمارة يحتسى الشاي، دخلا إلى العمارة من الجهة البعيدة عن مرأى بصر الحارس.
ابتلعهما الظلام التام بالداخل، فأنار بطاريتيهما وأخذا يتجولان في المكان، بحثا عن أي شيء غير طبيعي، لكنهما لم يجدا شيئاً. بعد عدة دورات في الشقة الأولى، ذهبا إلى الشقة الثانية ثم الثالثة ثم في الشقة الأخيرة سمعا أصواتا تبدو كأنها أصوات همهمة منخفضة، وكأن هناك من ينادي باسميهما بصوت خافت، فزعا والتصاق ببعضهما بعضا وفتح هاني جواله ليلتقط بعض الصور للمكان الذي جاء منه الصوت، بعد عدة دورات أخرى في المكان وبعض الصور، خرج الصديقان بسرعة بعد أن زاد الصوت ارتفاعا حتى بدا وكأن هناك من يقترب منهما وينادي باسميهما.
عاد الصديقان وهما في غاية السعادة ليحيكا لباقي الأصحاب في جلستهما اليومية ما حدث.. باستهتار شديد قال هاني:
اعتقدت أن هذا الشبح سوف يقتلنا لكننا كنا أسرع منه وخرجنا إلى الشارع قبل أن يتمكن من اللحاق بنا.
قال الصديق الآخر:
كنت خائفا جدا.. تصورت أن نهايتي ستكون هناك، أنا لن أكرر تلك التجربة أبداً.
قال هاني:
لكني لم أكن خائفا، أنالا أخاف من شيء.. وسأكرر ذلك حتى أرى أي شبح وجها لوجه ونرى من منا أقوى من الآخر.
وأخذ الأصدقاء في الضحك على كلمات هاني.
قام هاني بعرض الصور التي صورها على جواله للمكان، فلم يظهر منها إلا الظلام وبعض الإضاءة الخفيفة التي تبدو وكأنها مصابيح باهتة آتية من مكان بعيد.
نظر هاني إلى الصور بإحباط شديد وقال:
لن أتراجع عن تصوير الأشباح.. سأذهب وراء الأشباح حتى آخر العالم لنرى من منا أقوى.
قال أحد الأصدقاء:
سمعت أن من يخلع ملابسه تماما في الظلام أمام المرآة، فإنه يرى الأشباح، خاصة لو قام بتصوير نفسه في المرآة عندها.
قال هاني:
هكذا الكلام إذن هيا لنجرب ذلك.
أخذ هاني جواله وخلع ملابسه أمام المرآة، بعد أن أطفأ الأنوار تماما، وقام بتصوير نفسه عدة صور بعد أن نظر إلى نفسه جيداً في المرآة، ليجد أمامه صورة لنفسه كهيئة شبح أبيض الشعر ذي ملامح مسنة وكأنه ينظر إلى نفسه بعد عشرات السنين.
خرج إليهم بعد أن ارتدى جزءاً من ملابسه ليريهم الصور التي التقطها، أخذ الجميع يضحكون على شكله فيها الذي كان يشبه شخصية خارجة لتوها من فيلم رعب رخيص.
في تلك الليلة، دخل هاني وصديقه إلى الحجرة للنوم، لكنهما فوجئنا بدقات شديدة على زجاج النافذة المجاورة لفراش هاني من الخارج، فزع هاني بشدة وقام إلى النافذة التي تقع في الدور الخامس، ومن المستحيل أن يكون بالخارج شخص يدق عليها! قام إليها ليغلقها بإحكام وينظر ما سبب الدقات العالية، لكن بمجرد أن اقترب من النافذة انتقلت الدقات إلى النافذة المجاورة لها بسرعة مرعبة، فذهب الصديق إليها لإغلاقها بإحكام أيضاً، لكن الدقات انتقلت إلى النافذة الثالثة بسرعة غريبة.
قام هاني وصديقه بإحكام غلق جميع النوافذ بسرعة، لكن الدقات لم تنقطع عنها طوال الليل، في تلك الليلة لم يتم هاني وصديقه أبداً حتى الصباح.
في الصباح، خرج الصديق إلى العمل بينما توجه هاني إلى الحمام ليستحم عله يفيق ويتمكن من النزول إلى عمله، بعد أن انتهى من الاستحمام، أخذ ملابسه النظيفة ليرتديها، وبعد أن ارتدى بعض ملابسه، حاول فتح باب الحمام لكنه كان مغلقا من الخارج بشدة، حتى أنه لم يستطع أن يفتحه ولو بعض سنتيمترات، أصيب بالرعب لمعرفته أن الشقة لا يوجد فيها أي شخص غيره.
أخذ هاني يحاول فتح الباب، لكنه لم يفلح، فكر في خلع ملابسه مرة أخرى ليرى تأثير ذلك على الموقف ككل، وفعلا عندما خلع ملابسه، حاول فتح الباب ففتح بسهولة شديدة!
تعجب هاني من الموقف، ماذا يعني هذا الموقف؟ هل هناك أحد أصدقائه بالخارج يمارس معه دعابة ما؟ خرج هاني من الحمام عاريا وهو بحث في الشقة عن أي شخص قد يكون هو من أغلق عليه الباب، لكنه وجد جميع النوافذ والأبواب مغلقة والشقة خاوية إلا منه.
دخل إلى غرفته وأخرج لنفسه ملابس أخرى، لأنه خاف أن يدخل مرة أخرى إلى الحمام ليأتي بملابسه حتى لا يغلق عليه الباب مرة أخرى، لكن ما إن ارتدى ملابسه حتى فوجئ بباب الحجرة يغلق عليه بعنف، فزع كثيراً من الموقف لكنه أسرع إلى الباب محاولا فتحه ففوجئ بأنه مغلق من الخارج ولم يستطع فتحه، استمر الحال هكذا فترة من الوقت كأن هناك من يداعبه، كلما خلع ملابسه وجد جميع الأبواب مفتوحة أمامه، وكلما ارتدى ولو أي جزء من ملابسه أغلقت عليه الأبواب!
في النهاية قرر ألا يذهب إلى عمله في ذلك اليوم، وأن يهاتفهم ليأخذ اليوم إجازة، وقرر أن يكذب ويقول أنه مريض وسوف يذهب إلى إحدى المستشفيات للعلاج.
بعد أن أخذ اليوم إجازة فعلا، دخل إلى الحمام مرة أخرى ليأخذ ملابسه من هناك حتى لا يصيبها البلل، لكن ما إن خطأ إلى الداخل حتى فوجئ بباب الحمام بغلق وراءه بعنف، وسمع صوتا يقول له:
لنرى الآن من منا أقوى من الآخر.
كانت تلك آخر كلمات أخذ هاني يرددها بعد ذلك لما تبقى من عمره الذي قضاه داخل إحدى مستشفيات العلاج النفسي، بعد أن وجده بعض الجيران عاريا يجري هاربا من شقته إلى الشارع وهو يصرخ بأعلى صوته:
لنرى الآن من منا أقوى من الآخر.
لم يستطع أي من أصدقائه تفسير ما حدث له لوالديه، عندما عاداً من الخارج ليجدا ولدهما الوحيد قد أصابه مس من الجنون فجأة، فلم يكن أحد منهم على استعداد أن يحكي لهما عن رغبة هاني في أن يرى الأشباح، وأن يعرف من منهما أقوى من الآخر.
مذكراتي في عنبر العناية المركزة:
منذ زمن بعيد، اعتدت أن أكتب مذكراتي على فترات متباعدة.. بدون أي انتظام.. وهذا ما سوف أستمر في عمله على ما أعتقد، إذ أن حياتي لم تعد تهم أي شخص حتى أهتم أنا شخصيا بكتابة كل ما يحدث فيها يومياً.
أنا طبيب مقيم في أحد المستشفيات الحكومية، كما يشاع عنها أن الداخل فيها مفقود والخارج مولود!
تخرجت منذ نحو العام والنصف، وعملت فيه لفترة التدريب الأولى، ثم تم تعيني فيه عن طريق وساطة أحد كبار الأطباء الذين يمتون لمدير المستشفى بصله قرابة بعيدة.
نسيت أن أحكي عن تخصصي.. أنا جراح أوعية دموية.
في بداية عملي في هذا المستشفى، لم أكن أعلم أي شيء عما يحدث بداخلها بالطبع، فحتى التدريب العملي الذي كنا نزور فيه هذا النوع من المستشفيات، لم يكن ليمكنا قط من اكتشاف كل هذه الأمور فيها، أو ربما أن تواجدنا المكثف هناك بعد التعيين، قد أتاح لي الفرصة أن أتعرف على أشياء لم أكن أستطيع رؤيتها حتى وإن حدثت أمام عيني لأنني لم أكن سأصدقها أبداً!
قد يعتقد البعض أنني أتحدث عن سرقات الأعضاء البشرية مثلا، أو جرائم قتل دموية يقوم بها ممرضون أو مافيا يستفيدون ببيع الجثث المجهولة التي يموت أصحابها هنا ولا يجدون حتى من يقوم بدفنهم. لا.. أنا لا أتحدث عن هذا.. فهذا شيء قد عرفه الناس منذ زمن وقتلوه بحثا وحديثا.. نعم هذا يحدث أحيانا ولكن للأسف لا نجد دليلا يثبت تورط أي شخص معين في هذه السرقات والجرائم المرعبة فنفضل السكوت على ذلك، حتى لا يكون مصيرنا الموت في حادث سيارة يقيد ضد مجهول في النهاية.
أنا أتحدث عن أكثر الأماكن رعبا في المستشفى العام، وهو بالمناسبة ليس المشرحة.. لسبب بسيط أن المشرحة لا يوجد فيها سوى جثث القتلى التي فارقتها الحياة فعلا، ولا يوجد منهم أي خوف أو قلق، لأنهم أناس قد استراحوا بالفعل من عذابهم الأبدي في الدنيا.
أنا أتحدث عن عنبر الإنعاش، أو العناية المركزة!
بداية الحديث لابد أن أصف عنبر الإنعاش في المستشفى وهو بالمناسبة ليس عنبراً واحداً، بل هناك عدة عنابر كل حسب تخصصه، فهناك العناية المركزية للقلب والصدر وهناك العناية المركزة للكبد والباطنة، وهناك عنبر الإنعاش لحالات السرطان.. وهكذا، كل تخصص له عنبر إنعاش وقصصه المرعبة التي لا تنتهي أبداً.
يتكون عنبر الإنعاش من حجرة كبيرة جداً، مقسمة إلى حجرات أصغر عن طريق وجود بعض الستائر التي تفصل كل سرير عن الآخر، ليتسنى للمريض بعض الخصوصية، يفصل بين تلك الأسرة ممر يمتد بطول الحجرة، وعند باب الحجرة يوجد مكتب كبير، خلفه بعض الكراسي التي يستخدمها الأطباء والممرضون للجلوس.
قد يظن البعض أنني سوف أحكي فقط عن قصص العذاب والمعاناة التي يلقاها المرضى البؤساء الذين يضعهم حظهم العاثر في طريق مستشفيات الحكومة.. لا.. أنا سوف أتحدث عن هؤلاء المرضى التعساء الذين يقضون ساعاتهم الأخيرة هنا في هذه العنابر الموحشة، ثم يموتون وتظل أرواحهم هائمة لدينا في العنابر تعاني من العذاب الذي ذاقته في لحظاتها الأخيرة، ولم تجد من يمد لهم يدا ولا حتى بمجرد مسكن يخفف من آلامهم البشعة!
في بداية تعييني هنا، لم أكن أعرف بالطبع شيئاً عما يحدث في عنبر العناية المركزة للقلب الذي استلمت عملي فيه، في تلك الليلة، ليلتي الأولى، التي لا يكن أن أنساها ولا أنسى أبداً تعبير اللامبالاة الذي رأيته على وجه الممرضين الذين كانوا يقضون ليلتهم معي، عندما كدت أن يغشى علي من الرعب عندما تواجهت للمرة الأولى مع أول روح أو شبح أو عفريت أو أي شيء يمكن أن يطلق على هذه الظواهر!
انتصف الليل ليلتها وكان كل شيء يبدو طبيعيا جدا، ولكن بعد أن تجاوزت الساعة منتصف الليل بقليل، سمعت صوت صراخ طفل صغير، يأتي من أحد أركان الغرفة، وكنت قبل ذلك بدقائق قد قمت بالمرور على كل من بالعنبر لأتفقده ولم يكن هناك أطفال، نظرت إلى الممرضة التي كانت تجلس إلى أحد الكراسي بلا اهتمام وسألتها:
ما هذا الصوت؟
نظرت إلي دون أي تعبير على وجهها وقالت:
لا شيء لا تهتم لما تسمع يا دكتور فهذا الشيء سوف يتكرر كثيرا!.
لم أفهم معنى كلامها، ولكن تعالت صرخات الطفل الصغير حتى كادت تصم أذني، كان الطفل يصرخ ولم يكن صراخا عاديا، بل صراخ ألم لا يمكن احتماله ولا وصفه، نظرت إليها وسألتها:
يجب أن تقولي لي ما هذا الصوت وإلا فسوف أبلغ مدير المستشفى حالا.
تنهدت بعمق وهي تنتظر إلي مباشرة وتقول:
حسنا لن تصدق ما سوف أقول لك، ولكن وجودك معنا بعد الليلة سوف يجعلك تصدق كلامي، ببساطة لأنك سوف ترى ذلك بعينيك، هذا الصراخ الذي تسمعه ويكاد يصم أذن كل الموجودين، لا يسمعه سوى الأطباء فقط وبالطبع الممرضات والممرضين، لأنه ببساطة صراخ الحالات التي لم يستطع هؤلاء إسعافهم عندما دخلوا إلى هنا في أثناء حياتهم، إما لأن تلك الحالات كانت مستحيلة العلاج وإما نتيجة أي تقصير أو إهمال منا في أثناء العلاج، هذا الطفل جاء إلى المستشفى منذ عامين مصابا بحروق شديدة نتيجة سقوطه في إناء من الحساء الساخن تركته والدته مكشوفا فوق الأرض، بينما طفلها البالغ من العمر عامين يلهو في المطبخ بجواره، ظل الطفل هنا عدة ليال، لم يكن من الممكن إسعافه وحتى إعطاؤه أي مسكن، ببساطة لأن جسده لم يكن فيه أي جزء يسمح بدخول حقنة المسكن، وجاء الأطباء به إلى هنا بعد أن اشتكى من وجوده كل من بالعنابر الأخرى نظراً لأن هذا العنبر في ذلك الوقت كان الوحيد الذي يكاد يخلو من المرضى.
بعد عدة ليال قضاها الطفل المسكين في البكاء، ازدادت حالته سوءاً حتى إننا منعنا عنه الزيارة وكانت والدته المسكينة في حالة انهيار كامل وترقد في أحد الأسرة في عنبر الباطنة في المبنى المجاور لمبنى العناية المركزة.
في ليلته الأخيرة هنا، كان الألم قد استبد به حتى إننا كنا ندعو له أن يخلصه الله سبحانه وتعالى من حياته تلك، ويتفضل عليه بالموت، وفي تلك الليلة ازداد صراخه بالدرجة التي تسمعها الآن حتى وصل إلى مسامع والدته المسكينة التي كان هو وحيدها، والتي كانت بالفعل تحمل نفسها مسئولية إصابته تلك، وبعد عدة ساعات توفي الطفل وما إن توقف صوته عن الصراخ حتى عرفت الأم المسكينة أن طفلها قد مات فظلت تصرخ لبعض الوقت، ثم قامت بإلقاء نفسها من الدور الرابع الذي كانت تعالج فيه، لتسقط على الأرض جثة هامدة.
نظرت إليها لفترة وأنا أستمع إلى الحكاية الخرافية التي تحكيها لي، وأذكر أنني قلت لنفسي إنها تسخر مني، ربما لأني طبيب جديد بالمكان، ولكن ملامح وجهها الجادة الخزينة لم تكن تعني إلا شيئاً واحداً.. أن كلامها صحيح!
قالت بعد فترة من الصمت:
لا تقلق، سوف يسكت الطفل في تمام الساعة الثانية صباحا، فهذا هو التوقيت الذي توفى فيه.
ظللت طوال الفترة التالية من الليل أنظر إلى الساعة وأنا أستمع إلى صراخ الطفل، حتى تمام الساعة الثانية صباحا، لدهشتي الشديدة توقف صوت الطفل تماما، وكان شيئاً لم يكن!
بعد دقيقتين تقريبا، سمعت صوت صراخ امرأة يأتي من المبنى المجاور، كان الصراخ عاليا لدرجة أنني توقعت أنه أيا كانت السيدة التي تصرخ فقد تقطعت أحبالها الصوتية تماما، نظرت إلى الممرضة وبدون أن أتكلم قالت:
والدته.. لا تقلق سوف يصمت صوتها بعد لحظات.
بعد عدة دقائق، صمت صوت الصراخ تماما!
لم يعد هناك أدنى شك إذن فيما قالت تلك الممرضة عما يحدث، لكن كيف أصدق كل هذا ولا يوجد أي دليل علمي على وجود ما يسمى بالأشباح الهائمة، ولا أي دليل ديني أيضاً، كما أن الميت لا يعود إلى الدنيا لأن الروح تذهب إلى خالقها عند الوفاة كما قرأنا في كتب الدين المتعلقة بالروح.
يجب أن يكون في الأمر مزحة ما، ربما هو مقلب دبرته هي وبعض من يعملون بالمستشفى للنيل مني، خاصة وإنني قد تم تعييني عن طريق الواسطة، بينما أصدقائي الذين تخرجوا معي في نفس العام قد تم تعيينهم في أماكن نائية بالصعيد وما زال أمامهم عدة سنوات ليستطيعوا العمل في أحد المستشفيات الحكومية في عاصمة المحافظة التي تخرجنا فيها.
ربما اتفق معها بعض هؤلاء الزملاء الذين رأوا عدم أحقيتي بالعمل في هذا المكان على إخافتي في أول ليلة بهذه التمثيلية المدبرة بإحكام، وربما في الصباح سوف يذهبون إليها لسؤالها عن تعبير وجهي الذي رأته وهي تحكي لي هذه القصة المرعبة!
إذن فلن أظهر أي تأثر بما حدث، وإذا كانت صادقة فإن هذا سوف يتكرر كل ليلة كما قالت لي من قبل.
فلأنتظر إذن الليلة القادمة وإذا تكرر ذلك؟.. إذا تكرر ذلك فهل هذا معنه أنها صادقة؟ وأن هناك أرواحا هائما تظل طوال الليل تصرخ حتى الصباح؟ ولا يسمعها سوى الأطباء والممرضون فقط؟
ما هذا الذي أقوله؟ هل سأصدق تلك الخرافات التي علمونا في كلية الطب أنه لا وجود للروح بمجرد مفارقتها للجسم؟ هل استمرت دراستي للطب كل تلك المدة حتى أصدق في النهاية تلك الخرافات السخيفة التي تقولها ممرضة، كل خبرتها أنها تواجدت هنا قبلي بعدة سنوات؟
في الليلة التالية التي كان لدي فيها مناوبة حتى الصباح.. بعد منتصف الليل انتظرت أن أستمع إلى صوت الطفل مرة أخرى لكن لم يحدث شيء، نظرت إليها نظرة سخرية واستهزاء وسألتها:
أين الطفل الذي كنت تتحدثين عنه المرة السابقة؟ هل تعاني وخرج من المستشفى هذه الليلة؟
نظرت إلي بلا مبالاة وقالت:
الطفل كان في تلك الليلة فقط وهي ليلة وفاته، أما الليلة فهناك أشباح أخرى سوف تشعر بها.
لن أكذب على نفسي، شعرت بالخوف فعلا هذه المرة بعد كلامها هذا، وكنت قد سألت في إدارة المستشفى عن قصة ذلك الطفل، فأكدها لي بعض من عاصروا تلك القصة المخزنة، لكني بالطبع لم أسأل عن أي قصص أخرى مشابهة، فماذا لو كانت صادقة فيما تقول وهناك فعلا أشباح أخرى، سوف أشعر بها هذه الليلة؟!
فلأنتظر إذن لأرى ما سيحدث.
بعد أن تعددت الساعة الواحدة صباحا، سمعته كان صوتا أشبه بنحيب شاب ينعي نفسه في كلمات مؤثرة، وهو يذكر نفسه بأنه لم يحقق أي شيء مما حلم به في حياته بعد، وبأنه لم يحقق ما أراده وبأنه لم يكن من المفروض أن يكون هنا الآن، بينما أبواه في الخارج ينتظران موته المحقق بسبب حماقته.
نظرت إليها مرة أخرى قالت:
هذا الشاب جاء إلى هنا مصابا بطلق ناري في الصدر بعد أن رفضت المستشفيات الخاصة إدخاله نظراً لحالته السيئة، وعرفنا أنه كان يلهو مع أحد أصدقائه بمسدس والده ضابط الشرطة، فانطلقت إحدى الرصاصات خطأ إلى صدره ليعجز الأطباء عن إخراجها منه، وتتسبب في موته بعد عدة ليال، قضاها بينما والده في الخارج ينتظران أمر الله.
كانت نوبتي حتى الصباح تتكرر ثلاث مرات أسبوعيا، وفي الليلة الثالثة وبعد منتصف الليل أيضاً بقليل، لم أسمع أصواتا هذه المرة بل شاهدتها بعيني.. سيدة عجوز ترتدي جلبابا أسود اللون، يبدو عليها الفقر الشديد، تمشي في الممر الذي يفصل بين الأسرة التي ينام فوقها المريض، كانت تمشى ببطء ويبدو عليها الألم الشديد كلما خطت أي خطوة، لم تكن تنظر إلى أحد معين، فقط كانت تمشي ببطء ناحية باب عنبر العناية وهي تنادي بصوت منخفض من شدة الإجهاد على الممرضة، التي كان من المفروض أن تكون في العنبر في ذلك الوقت، كانت السيدة تبدو وكأنها تجر إحدى قدميها وعندما اقتربت من حيث كنت أقف إلى جوار الممرضة، اكتشفت عدم وجود تلك القدم، بل لم يكن هناك ساق أيضا! كانت تستند إلى شيء وهمي غير موجود، وكانت الدماء تندفع من ساقها غير الموجودة بغزارة لتغرق كل شيء في الغرفة. ثم تجاوزتني إلى باب الغرفة المفتوح، فنظرت إلى الممرضة لحظتها فوجدتها تنظر إلى تلك السيدة والدموع تنهمر من عينها بدون صوت، حتى اختفت تلك السيدة من الغرفة فالتفت إلي الممرضة وهي تقول:
كانت تلك غلطتي، هذه السيدة جاءت إلينا مصابة في حادث سيارة مما استلزم بتر ساقها وقدمها، وفي ليلتها الأولى هنا بعد البتر، أصيبت بنزيف شديد وحاولت النداء على أي شخص بالمكان.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا