جيرني الأرواح 6 للكاتبة ليلى الرباح

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-01-11

القبر رقم 232185

"شفيع الدين محمد شريف"

كان حائراً هل يتكلم أم يظل صامتاً، فما أن ساد الظلام حتى ارتفعت أصوات من حوله من سكان القبور المجاورة، لكنه كان متوجساً من مشاركتهم الأحاديث، فلم يكن يجيد لغتهم ولم يعرف عم يتحدثون، فقد فارقت روحه جسده قبل أن يتسنى للسانه أن يتأقلم مع تلك اللغة الغريبة عليه، ولا لعقله أن يتعلم شيئاً منها.

وأخيراً قرر أن يستمر بصمته، فقد غلبه الخوف من أن يرفضه من حوله ويطردونه إذا اقترب منهم، وطغى ذلك الخوف على رعبه من ظلام القبر والوحدة التي كانت تعتصر روحه فيه، فأمضى ليلته الأولى في القبر وحيداً يتصارع مع وحشته، ويتمنى بيأس لو كان بقربه أحد من أهله، أو على الأقل من بلده، من يتحدث معه ليفهم شيئاً مما يحدث له، أو ليجيب على الأسئلة الحائرة التي كانت تتردد في جنبات نفسه.

لم تكن روحه قد استفاقت بعد من صدمة موته، فقد كان فجائياً أذهله وتركه مترنحاً من هول ما حدث له، وظل ذلك الألم المروع يلازمه منذ تلك اللحظة ويمزق روحه بلا هوادة بأشد ما كانت عليه تلك اللحظة من عذاب.

واستمر صوت تهشم جمجمته المريع عندما ارتطمت بالأرض يهز بقسوته كيانه كله، ولم يخفف من بشاعته صوت أفظع صاحت به عظام رقبته وهي تندق وتتحطم، ولا ما تلاه من صوت لحمه وهو ينسلخ عن الجلد والعظام، ليتناثر جسده أشلاء مبعثرة، وليضيع لون دمه على تلك الأرض المرصوفة بالقار الأسود، فلا يبدو منه إلا رطوبة جعلت ذلك اللون الأسود يلتمع تحت ضوء الشمس الساطع في الظهيرة التي قتل فيها.

لم يتسن له الوقت حتى ليصرخ، فلم يستغرق سقوطه من على سطح البيت الذي كان يقيم فيه سوى ثوان معدودة، فظل الفزع الذي شل صوته في تلك اللحظات الرهيبة ساكناً روحه، ولربما سيرافقه لأجل طويل في ذلك العالم الذي انتقل إليه في أقل من الثانية، والذي وقف فيه يتأمل أشلاء جسده الممزق كأنها لا تخصه، وكأنه لم يسكن ذلك الجسد يوماً ولم يتمتع بحواسه ولم يتعذب بعذابه.

لكن ما لم يكن يفهمه هو لماذا لا زال الألم الذي مزق الجسد الذي تركه ملازماً له، رغم أنه لم يكن يملك أن يفعل شيئاً ليحرك حواس ذلك الجسد، أو ليستخدمها في دفع الظلم الذي وقع عليه.

فقد بقي هناك ممزقاً صامتاً، بينما علت حول جثته أصوات جيرانه في ذلك البيت من عمال النظافة، الذين تجمعوا ضاجين مذهولين، تختلط أصواتهم المفزوعة بصيحات الرعب التي أطلقها بعضهم، وبنحيب البعض الآخر وتفجعه، وبكلمات من القرآن وألفاظ إيمانية تذكرها القليل منهم.

لم يستطع حتى أن يحرك لسانه ليرد على أكاذيب من قتله، الذي طغى صوته الجهوري على أصوات من حوله، وهو يصف كيف حاول منعه من قتل نفسه، وكيف بذل جهداً جباراً ليوقفه عن إلقاء نفسه من ذلك العلو ليتخلص من الدنيا.

واندفعت الأكاذيب تترى من الفم القذر لقاتله حول صدمة قتيله عندما استلم أول راتب له، وكيف اسودت الدنيا في عينيه عندما رأى كم يقل ذلك الراتب عما توقعه وما جاء إلى الكويت بأمل أن يحصل عليه، وكيف سالت دموعه وهو يصف فاقة أهله وحاجتهم، وعجز أبيع العليل عن الكسب وجوع إخوانه الصغار وهزالهم.

لم يملك سوى القهر وهو يستمع عاجزاً إلى ادعاءات قاتله الكاذبة بأنه أفلت من يده وارتمى في الهواء من فوق السور المنخفض لذلك البيت قبل أن يستطيع ردعه، فلم يكن أحد ممن حوله يسمع صراخه الموجوع بأنه لم يلق بنفسه، بل دفعه مواطنه الذي ظنه صديقاً له، والذي كان يتقرب منه في الأيام الأخيرة من حياته ويدعوه لمشاركته الطعام، ولمسامرته بينما كان يعب بنهم سائل أصفر من قنينة مياه بلاستيكية.

وتذكر دهشته عندما علم أن ما كان يشربه ذلك الجبان كان خمراً أدمنها وأخذ ينفق راتبه وكل ما يحصل عليه من مال عليها، وعلى الداعرات اللواتي كان يلتقطهن أحياناً من الشارع، وأحياناً أخرى يقطع بضعة دروب ليصل إلى الشقق التي يمارسن عملهن الدنس فيها.

ولو كان الندم يفيده حينها لسال ندمه من عينيه دماً، فقد تجاهل بعناد صيحات ضميره بأن لا يصادق فاسقاً كهذا، لكنه كان وحيداً وضائعاً في ذلك البلد الغريب، وكان بحاجة إلى من يكلمه ويسلي وحشة لياليه، فقد كان يمضي أول ليال قضاها منذ ترك بلاده في البكاء، كان يشتاق لأمه ولأهله ولبلده، الذين فارقهم رغماً عنه تحت وطأة الحاجة التي أضنتهم، والتي جعلت والده يسعى ويتوسل لكل من يعرف في سبيل أن يجد له هذا العمل، متأملاً أن يتمكن ابنه البكر من مساعدته للإنفاق على إخوانه الصغار وتعليمهم.

وبألم أخذ يسترجع لحظات بكائه، وتوسله لأبيه ليرحمه من الغربة التي أراد دفعة إليها، فلم يكن هو نفسه سوى طفل، ما كاد يبلغ السادسة عشرة من عمره حتى مزق أبوه شهادة ميلاده، وادعى فقدانها ليتمكن من استخراج جواز سفر له يظهره في الحادية والعشرين من عمره، ثم اصطحبه مرغماً إلى الشركات التي كانت تستاق الشباب في قريته بالعشرات للعمل في ذلك البلد.

كان سعيداً عند أخذ المسئولون في تلك الشركات يرفضونه تباعاً، فقد كان هزيلاً وضئيل الجسد، لكن ولسوء حظه فقط رق قلب أحدهم لتوسلات أبيه فقبله، وفارق أمه والدموع تجري من عينيه ليأتي لهذا البلد، وليمضي نهاراته الطويلة محاولاً بيأس أن يبحث عن ظل يحتمي تحته من الشمس المحرقة التي كانت تلسع جلده، ولياليه في البكاء تحسراً على ألمه ووحدته.

ولهذا استجاب سريعاً لتودد ذلك الرجل له، وكان ينصت بإمعان إلى نصائحه ويحاول أن يستفيد من خبرته، ويتلقف كلماته بلهفة ويوافق على كل ما يقوله، وإن كان الإيمان في قلبه قد جعله يعتذر بحرارة عن مشاركته الشراب، وعن مرافقته لتلك الأماكن الموبوءة التي أخذ يزينها له.

لكنه وفي تلك الظهيرة المشئومة استجاب بسرور لدعوته عندما طلب منه أن يرافقه إلى سطح البيت ليحدثه على انفراد، إذ كان يتوق للحديث معه ليستفسر منه عن كيفية إرسال راتبه الأول إلى أهله، فقد كان يقبض بسعادة على تلك الدنانير القليلة وهو يتخيل فرحة أهله بها.

وكما كانت صدمته عندما فاجأه من كان يدعي صداقته، وأمره بجفاء أن يعطيه نصف راتبه، وأن يلتزم بتسليم ربع رواتبه القادمة له ما إن يقبضها، ورد على استفساراته الذاهلة باستهزاء، قائلاً بفخر أنه عضو في إحدى العصابات التي تستعبد العمال وتتقاضي منهم الإتاوات، وأن ثمن رفضه، إذا تحامق وفكر في الرفض، سيكون حياته أو حياة من يختارونه من أهله، فقد كانت أياديهم، الأخطبوطية تمتد إلى بلده حيث منبع تلك العصابات.

لم يتمكن حينها من تمالك نفسه لشدة فجيعته، فانفجر بالبكاء متوسلاً لمن كان يظنه صديقه أن يرحمه، وأخذ يصف له حاجة أهله وانتظارهم اليائس لتلك النقود، لكن تلك التوسلات زادت من أمامه صلفاً، وصرخ في وجهة كاشفاً عن أنيابه بأنه سيقتله إذا استمر في عناده.

كان يدفعه في صدره وهو يتوعده ويهدده، وكان هو يتراجع خائفاً غير قادر على الاحتفاظ بتوازنه وجسده الهزيل يهتز كالريشة في مهب الريح تحت وطأة تلك الضربات المتوالية، حتى ألصقه بسور ذلك السطح، وأمسك بخناقه وهو يقذف في وجهه بالمزيد من التهديدات، كانت رجلاه تضربان في الهواء بينما كان يحاول يائساً الإفلات من تلك القبضة التي خنقت أنفاسه.

وفي اللحظة التالية وجد نفسه يطير في الهواء، جحظت عيناه فزعاً وفغر فمه مشدوهاً، وجاء ذلك الألم الذي لم يعرف مثله في حياته، ثم وبلحظة انتهى كل شيء، وها هو من قتله يتظاهر بالبكاء ويذرف الدموع الكاذبة حزناً عليه، ويجد بين المحيطين بجثة قتيله من يتعاطف معه ويواسيه.

وبعدها ببضع ساعات كان يقف مذهولاً قرب جسده، فلم يعامله أحد في حياته عدا أمه بذلك الرفق الذي كان رجال الإسعاف ورجال التحقيق الجنائي يتعاملون به مع بقاياه، وأخذ يراقب بدهشة كيف يجمعون كل جزء من أشلائه وكل قطعة من حطام جمجمته بهدوء وعناية، ودون أن يغفلوا عن أي قطعة منها مهما صغرت، وجعلت رقتهم وعنايتهم بصيصاً من الأمل يدب في صدره، فلربما تمكن أحد منهم من اكتشاف أنه قد قتل، ولربما، ربما نال قاتله الجزاء الذي يستحقه.

لكن أمله بدأ يضعف عندما انتبه لضيق الشرطي المكلف بالتحقيق في موته وتململه، فقد كان يقف قرب أشلائه بوجه جامد لا يحمل أي تعبير عدا السأم، ويمسح العرق المتصبب من وجهه بمنديل من الورق ويرش على يديه سائل شفاف من قنينة بلاستيكية صغيرة بين آن وآخر، وكان لا ينفك يسأل من حوله هل فرغوا من عملهم أم بعد، ويحثهم على الإسراع.

وضعف ذلك الأمل أكثر عندما سمعه يقول لمن كان يحدثه من هاتفه:

صار لي ثلاث ساعات وأنا واقف بهالحر، ويا ليت هالتعب على أحد عدل، أقصاه بنغالي خايس!

وحتى عندما اقترب قاتله من ذلك الشرطي، وأعاد بوقاحة سرد أكاذيبه، لم يعبأ به الشرطي كثيراً، فقد ضايقه منظر وجهه البغيض وقذارة ثيابه وكثرة كلامه، فصرفه باشمئزاز بعد أن سجل ما قاله باقتضاب في دفتره.

وأدرك من كلام الشرطي لمن معه لاحقاً بأن عين الشرطي الثاقبة قد مكنته من رؤية الخبث في وجه من قتله، ولكن كل ما فعله هو أن أبعده عن ناظريه، فقد كان يعتقد اعتقاداً جازماً أن من هم من جنسيته جميعهم خبثاء، وأن الطيبة والمسكنة التي يرسمونها على وجوههم ما هي إلا قناع يرتدونه حين الحاجة، بل كان موقناً أنهم جميعهم مجرمون في داخلهم، وأنهم مستعدون لارتكاب أكبر الرذائل وأفظع الجرائم لو أمنوا العقوبة، ولهذا لم تعن كمية الخبث التي فاضت على وجه قاتل شفيع الدين له شيئاً.

وبيأس تتبع شفيع الدين بقاياه حيث أخذوها، وظل أياماً عديدة يدور حول كل من يقترب من جسده في المشرحة، انتعش أمله الضعيف حين سمع الطبيب الشرعي يتلو للشرطي فحوى تقريره، وشعر بالفرح يغمر روحه حين علم أن ذلك الطبيب قد تمكن بخبرته من تمييز آثار الضرب على صدره، رغم عدم اختلاف لونها كثيراً عن لون جلده الداكن، بل إنه لم يغفل حتى عن الآثار المجرمة لأصابع قاتله حول عنقه.

وأخذ يمني نفسه بالثأر ممن قتله، وبرؤيته يشنق ليلاحق روحه المجرمة وينتقم منه، لكن ردة فعل ذلك الشرطي خيبت أمله، فقد ضاق بشده بما قاله الطبيب، وأخذ يحاول أن يثنيه عن رأيه، قائلاً أن جميع من زامله في السكن الجماعي من عمال قد أكدوا احتمال انتحاره، وأنه كان منعزلاً ومكتئبا منذ قدم من بلاده، ولم يكن له إلا صديق واحد هو من شهد انتحاره.

لكن الطبيب الشرعي أصر على رأيه، وبتأفف أخذ الشرطي ذلك التقرير وفتح ملف تحقيق في جريمة وهو كاره، واستمع بضيق وتبرم إلى أكاذيب قاتله، الذي انخرط في البكاء عندما استدعاه للمثول أمامه، وأمعن في اختلاق الإفك حول حديث صديقه الدائم عن قتل نفسه، وكيف كان كارهاً للحياة وراغباً بمفارقتها.

وبسهولة تدفقت الأعذار من فمه حين سأله الشرطي عن آثار الضرب، فقال من بين دموعه المنهمرة أنه كان يدفعه ليردعه عن إلقاء نفسه، وأنه بعدما تغلب عليه صديقه وألقي بنفسه رغماً عنه قد تمسك برقبته لينقذه، وكاد يتمكن من ذلك لولا أن صديقه ولشدة رغبته في الموت عض كتفه بعنف.

راقب بحقد وقاحة قاتله وهو يرى الشرطي آثار عضة أحدثتها إحدى الداعرات على كتفه في غمرة نشوتها، وانتاب الشرطي شعور بالقرف وهو يرى قذارة الثياب الداخلية التي كان يرتديها قاتله، وعندما نفذت رائحته العطنة إلى أنفه لما اقترب منه، فدفعه بعيداً باشمئزاز ليقع أرضاً، واستغل القاتل وقوعه ليمعن أكثر في البكاء والتوسل، فألصق وجهه بالأرض وهو يندب صديقه العزيز ويتحسر عليه، بل ويلوم نفسه لأنه أفلته ويتمني لو مات بدله.

وكم كانت فرحته عندما ألقى الشرطي قاتله في السجن حتى يستكمل تحقيقاته، فقد أمل وقتها أن دمه لن يذهب هدراً، وأن ذلك الجبان سيفقد حياته كما سلبه حياته، وكان منظر قاتله وهو ملقى على الأرض الإسمنتية لغرفة الحجز بين أمثاله من المجرمين كالبلسم لجراح روحه، فأخذ ينظر إليه مبتسماً وسعيداً.

وجاء الليل فتكور القاتل حول نفسه مستخدماً ذارعه كوسادة، ثم ارتفع شخيره، شعر شفيع الدين بالغيظ وقاتله ينام هانئاً كالثور بعدما حرمه الحياة، ودون أن يقلق منامه أي ندم على ما اقترفه، أو يقض مضجعه الخوف من اكتشاف جريمته.

كان يود لو كان لا زال يملك حواسه، ليقبض بيديه على عنق ذلك الجبان حتى تزهق أنفاسه، أو يخرق عينيه الكاذبتين بأصبعيه حتى لا يتمكن من استخدامها لاستدرار العطف وإخفاء جريمته بذرف دموع التماسيح على من قتله، لكنه كان عاجزاً، فاستمرت روحه تدول حول جسد قاتله النائم دون أن يتمكن من فعل أي شيء.

وبيأس أخذ يضرب بيديه وجه قاتله، لكن ذلك الوجه البغيض استمر يبتسم في نومه فاغر الفاه ببلادة، فلم تكن يداه قادرتين حتى على تحريك الهواء حول من قتله، أعاد الكرة بكل قوة حقده فصفع قاتله مراراً دون أن تهتز شعرة في رأسه، ودون أن يتوقف شخيره ولا لثانية، فأخذ يركله وهو يصرخ من الغيظ، ويدوس على صدره وهو يود لو كان بإمكانه تحطيم أضلاعه، لكنه لم يظفر بطائل، فأصغر حشرة كانت قادرة على أن تؤذي قاتله بأكثر مما استطاع هو أن يفعل.

استمر فيما يفعله والغل يتآكله، وزاده فشله غيظاً ورغبة في إيلام من قتله، لكن كل صفعاته وركلاته وصراخه لم تفد بشيء، فقد ظل قاتله نائماً ومستمراً في الشخير، ثم انقلب على جانبه وأصدر صوتاً منكراً وأكمل نومه.

ضاعف من قوة ضرباته رغم فشل من سبقتها، فقد تملك الحقد والغضب روحه فلم يعد يستطيع أن يتوقف، وكان قاتله قد اقترب أكثر من جسد جاره في الحجز عندما انقلب في نومه، فوقعت إحدى صفعات شفيع الدين على ظهر جاره.

وبغتة قفز ذلك الرجل مفزوعاً، وتحسس ظهره وهو يجيل النظر حوله محاولاً أن يعرف من ضربه، فوجد الجميع يغطون في نوم عميق، فاستلقى من جديد وعيناه لا زالتا تدوران بشك، وظل مفتوح العينين للحظات، ثم غلبه النوم ثانية.

تهللت روح شفيع الدين فرحاً، ولو استطاع لصفق من سعادته، فكم أبهجه اكتشاف أنه ليس عاجزاً تماماً، بل إن روحه لا زالت قادرة على أن تفعل ما كان يريد أن يفعله.

عاد إلى ضرب وجه قاتله الكريه والأمل يملؤه، لكن بلادة شعور قاتله وقساوة قلبه منعته من أن يشعر بشيء، فقد أكمل نومه هادئاً مطمئناً، واشتعل الغيط من جديد في نفس شفيع الدين، فأخذ يضربه بقوة أشد دون جدوى.

توقف لاهثاً من التعب، فلم يكن يعلم لماذا لم يكن قادراً على أن يحدث أي أذى بقاتله، فاقترب من جاره ثانية وشد شعره، فقفز ذلك الرجل صارخاً من الألم، ونظر بغضب إلى القاتل الذي كان مستلقياً بقربه وهو مستغرق في الشخير، تمعن في وجهه فاقتنع بأنه نائم حقاً، فاستدار إلى الرجل الآخر الذي كان يعطيه ظهره نائماً بهدوء، ثم شد شعره بغيظ ظاناً انه هو من آلمه.

استيقظ الرجل الآخر غاضباً لذلك الاعتداء غير المبرر الذي وقع عليه، وفي خلال لحظات كان الاثنان منهمكين في شجار عنيف، فقد كانا من جنسيتين مختلفتين فلم يتمكنا من التفاهم، وانتقلا مباشرة إلى تبادل الضرب، حتى جاء الشرطي المكلف بالحراسة وفرقهما بعصاه.

وكان شفيع الدين يضحك مسروراً في البداية، سعيداً بالقوة الجديدة التي اكتشفها، ولكن عندما وجد أن قاتله محصن بجلافته وغبائه ضد هجماته اغتم وحزن، فعاد إلى محاولة ضربه واستمات في سبيل أن يرى منه أي ردة فعل، أو أن يشعر بوجوده بأي صورة لكن تلك الليلة وليال عديدة بعدها انقضت دون أن يظفر بشيء، فعاد إلى متابعة الشرطي المكلف بالتحقيق في قضيته.

وأحزنه أن ذلك الشرطي لم يفعل الكثير ليكتشف قاتله، فقد كان مقتنعاً بأنه انتحر، وتأكد أكثر عندما أعاد استجواب العمال المقيمين معه، الذين أعادوا له ما قالوه سابقاً حول انعزال شفيع الدين وحزنه الدائم، وأن من قتله كان هو الوحيد الذي يحادثه ويجلس معه بالساعات.

وبعد شهر من ذلك اليوم كان الشرطي قد سئم من ذلك الملف الذي ظل مفتوحاً دون أن يجد أي مستجدات يضيفها إليه، فاستدعى صديقه القاتل للمرة العاشرة في ذلك الشهر، وأعاد ذلك المجرم تمثيليته المتقنة، وأضاف إليها مزيداً من الدموع والشهقات، شاكياً بكلمات يقطعها النشيج ما وقع عليه من ظلم بحبسه بدون ذنب غير أنه أحب صديقه وأخلص في محاولة إنقاذه.

وأخيراً قرر الشرطي إقفال ملف شفيع الدين واعتبار القضية انتحاراً والإفراج عمن قتله، وخرج ذلك الرجل سعيداً بالحرية، ولم يشعر جسده البليد بشيء من ضربات شفيع الدين ولا ركلاته التي لاحقه بها.

وبعد أقل من أسبوع كان الشرطي يوقع على ورقة عدم الممانعة لدفنه إذا لم يطالب بجثته أحد، وبالطبع لم يكن هناك من يسأل عنه، وبحزن تبع بقايا جسده عندما كانت تخرج من ثلاجة الأدلة الجنائية وتحمل إلى المقبرة، ليضيق المغسلون ذرعاً بها لقدمها وتهتك أطرافها، ويرقب بأسى الجلد المهترئ وهو ينسلخ عن لحمه حيثما أصابه الماء، وتأفف المغسلون من رائحته بعد أن تعفن الدم حول رأسه وجسده كل هذه المدة، حتى وسد أخيراً التراب، وحيداً غريباً لا يعرفه أحد.

كان حقده على قاتله يزداد بمرور الأيام، فلم يكتف ذلك المجرم بما فعله به، بل تجرأ أن يجول بين جيرانهم العمال في تلك المنطقة البائسة ليحثهم على التبرع لنقل جثمان شفيع الدين إلى بلده، وجاد أولئك المساكين بما استطاعوا، فأخذه الطمع وحمل صورته ليتسول بها المال من أهل البلد كلما وجد من يقبل أن يصغى إليه، ثم أخذ كل ما جمعه وأنفقه في ليلة واحدة قضاها بشرب الخمر بين أحضان داعرته المفضلة، وشفيع الدين يراقب كل ذلك عاجزاً.

وحاول جيرانه في القبور المحيطة به أن يواسوه ويخففوا من حزنه، وخاصة المسنون منهم ممن ماتوا طيبين وليس لديهم ما يندمون عليه في قبورهم، فقد رثوا له بعدما علموا بقصته، لكنه لم يكن يريد رثاءهم، فقد سلبت حياته منه بلا ذنب جناه ولم يدفع أحد الثمن وكانت روحه تغلي طلباً للثأر، وتتعطش للانتقام وللتنفيس عن الغل الذي دفن معه.

لم تكن روحه تطيق البقاء في المقبرة إلا في النهار لضعفه خلاله، لكن ما أن يخيم الليل حتى يكسبه الحقد قوة تمكنه من التجول بحرية، وبعد أن يئس من أن يتمكن من فعل أي شيء للانتقام ممن قتله حول حقده إلى الشرطي، الذي أحس أنه لم يبذل جهداً كافياً لحل قضيته.

لكن وكما حصنت بهيمية قاتله جسده من هجمات شفيع الدين، فقد حصن تكبر الشرطي وترفعه أذنيه وعينيه عن سماع صرخات روح شفيع الدين أو رؤيتها مهما تقافز أمامه، فكل ما تمكن من فعله بعد مجهود جبار كان أن اقتحم أحد أحلامه، ووقف أمامه يريد أن يذكره بنفسه وبما فعله به، لكن كل ما استطاع قوله هو اسمه الذي استمر يردده طوال ذلك الحلم، وفي اليوم التالي أخذ يستمع بغيظ إلى قهقهات الشرطي وهو يروي لزوجته حلمه الغريب:

- طول الليل وآنا أشوفه جدامي، وقعد يقول لي "شفيع الدين. شفيع الدين بابا" لي الصبح! إنزين درينا إن اسمك شفيع الدين، الحين شتبي؟ صج بنغالي غبي!

- قطيعة لا تقول اسمه هذولة أرواحهم قوية! أخاف أحلم فيه أنا بعد!

- شلون تحلمين فيه وأنتي عمرك ما شفتيه؟ أنا اللي شفته متكسر ومتقطع وابتلشت بقضيته!

- خلاص الله يخليك مالي خلق تخرع! ابتلشنا بها اللي تارسين شوارعنا وين ما تروح يطلون بويهك يطرون! والحين بعد دشوا بأحلامنا!

وقرر شفيع الدين أن يحول انتقامه إلى أولاد ذلك الشرطي، فقد كانوا أطفالاً ومن السهل التأثير على أرواحهم عندما تضعف خلال نومهم، وأصبحت لعبته المفضلة هي إيقاظهم بضربهم أو قرصهم أو شد شعورهم، ليصحوا من نومهم باكين خائفين، ولتحتار أمهم في تفسير آثار الضرب على أجسادهم الصغيرة.

وأخيراً وبعدما طال الأمد بعذاب أولئك الصغار استطاعت الأم إقناع زوجها بالانتقال إلى بيت آخر، وعندما تكرر ما يحدث هناك انتقلوا إلى غيره، لكن شفيع الدين تتبعهم حيثما ذهبوا، ولم يستطع أولئك الصغار أن يشرحوا لأهلهم لماذا يشعرون دوماً بأن هناك من ينظر إليهم، ومن يجلس معهم حتى عندما يكونون وحيدين في غرفهم.

وكان أكثرهم عذاباً البنت الكبرى، فبعد سنتين من موت شفيع الدين كانت قد بلغت الرابعة عشرة من عمرها ونضج جسدها، ولم تكن تعلم لماذا تستيقظ كل ليلة لشعورها بمن يلمسها، وإذا ما غلبها النوم لتعبها كانت تجد في الصباح آثار أصابع على لحمها حتى ظنت أن هناك من يتسلل إلى غرفتها خلال نومها.

لم تعلم تلك الطفلة المسكينة ماذا تفعل، ولم تجرؤ على إخبار أحد بمعاناتها، فلم تكن تعرف حتى الكلمات التي تصوغها بها، ولتحمي نفسها أصبحت تحرص على إقفال بابها عندما تخلد إلى النوم، وعندما لم يفيد ذلك هداها عقلها الصغير إلى أن تدفع بخزانة خلف الباب وبأخرى لتغطي نافذة غرفتها، لكن لم يكن هناك جدوى مما تفعله، فقد وجد شفيع الدين لعبة أمتع من الضرب يمارس بها انتقامه.

***

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا