خدمة للمجتمع
مقدمة
هذه القصة جرت أحداثها مع أحد الأصدقاء.. وقد رواها لي ذات يوم بثقة ومن دون خوف. لعلمه أن كل ما يقوله غير مسجل في محضر رسمي، ولن يؤخذ به من الناحية القانونية.. وسينكر كل شيء لو شعر أنه سيقع في ورطة ما.
هذا ما أكده لي أثناء خروجي معه ذات ليلة وجلوسنا في أحد المطاعم لتناول العشاء.. فقد أخبرني بقصته من باب تأنيب الضمير الذي يصاحبه بين الحين والآخر.. وتمنى أن يسمع مني كلمات التأييد أو التخفيف على الأقل.
لكني لم أجد أفضل من الصمت.. خاصة مع الحزن الذي سيطر علي.. والذي قاطعته نظرات القلق في عينيه، كون ما قاله سيؤثر على احترامي له، ويقلل من قيمته في نظري.. وهو محق بالطبع.
المهم أنني فكرت لاحقاً أن أخرج بفائدة على الأقل بعد جلوسي معه والاستماع إلى قصته.. وذلك من خلال نشرها لكم.. لذا سأنسحب من الأحداث.. وأسرد لكم القصة على لسان صديقي هذا، مع بعض التعديلات الدرامية.. آملاً أن تنال إعجابكم.
لم أضع في عين الاعتبار للحظة.. أن هذا اليوم سيكون مختلفاً.. فقد بدا من الأيام العادية التي أذهب فيها إلى عملي في تلك الجهة الحكومية.. حيث يسير كل شيء بهدوء وبأعمال شبه روتينية اعتدت القيام بها.. على أن أعود بعدها إلى البيت، ثم أقضي النصف الثاني من اليوم مع أصدقائي.. كحال أي شاب أعزب لا يحمل أي مسؤوليات على عاتقه.. وقد كنت حريصاً - كعادتي. على إنهاء كل المهام المسندة لي قبل نهاية ساعات العمل.. وهو ما أفعله دوماً كيلا تتراكم المسؤوليات على كاهلي.
كان هذا قبل أن تطلب مني السيدة (سلوى) رئيسة القسم أن أحضر إلى مكتبها للضرورة.. فنهضت من مكتبي بخطوات هادئة.. متوقعاً أنها ستوكل إلي بمهمة جديدة من مهام العمل.. لكني فوجئت بها تغلق الباب حال دخولي.. وهو ما لم تفعله من قبل.. لتسير بعدها بخطوات مضطربة إلى مقعدها وهي تطلب مني - بكلمات سريعة- الجلوس وألا يعلو صوتي كونها ستتحدث حول أمر سري وبالغ الأهمية على حد قولها.
بالطبع شد كلامها انتباهي كثيراً.. فعلاقتي مع رئيستي وزملائي عموماً لا تتجاوز حدود العمل.. ولا أذكر أننا تحدثنا في أمور أخرى إلا قليلاً.. رغم أنني أعمل في هذه الوظيفة منذ حوالي عامين.. المهم أنني طرحت تلك التساؤلات جانباً، عالماً أنني سأعرف الإجابة بعد لحظات.. فجلست مقابل مكتب السيدة (سلوى) وأنا أنظر إليها بفضول، منتظراً منها أن تتحدث.. لتختلس النظر إلى الباب.. ثم تقول بصوت هامس:
- بطبيعة الحال.. أنت لا تعرف الكثير عن حياتي الخاصة.. لذا دعني أخبرك أولاً أنني متزوجة من رجل ثري للغاية.. وهو منحني كل ما أحتاجه من مال.. وأنا في الواقع لا أشغل هذه الوظيفة إلا لملء وقت الفراغ فقط.. فقد تجاوز أبنائي سن المراهقة وانتقلوا إلى المرحلة الجامعية.. أي أنني أعيش بلا مسؤوليات تقريباً.. لقد أخبرتك بذلك حتى تعرف أنني أمتلك المال.. ولن أكذب عليك فيما سأقوله.
كان واضحاً من كلامها أن الموضوع خارج نطاق العمل.. وأنها ستطلب مني خدمة ما مقابل المال.. لكن ما هي يا تري؟!.. و:
أريدك أن تضرب شخصاً ما.. تضربه ضرباً مبرحاً!!.
كان هذا آخر ما توقعته!.. فنظرت إليها مستغرباً من طلبها الصبياني.. لتكمل بحنق:
إنه رجل أعمال كبير في السن.. تستطيع أن تضربه بسهولة، ولن تواجه منه أي مقاومة.. حتى مع بنيتك متوسطة القوة.. ولو وافقت.. فستؤدي خدمة المجتمع.. صدقني.. إنه شخص متعجرف حقير.. يعامل موظفيه بفوقية، ويخصم من رواتبهم لأسباب تافهة.. وهو رجل فاسد أيضاً.. يدفع الرشاوي بين الحين والآخر كي يحصل على المناقصات الحكومية.
غير معقول!.. وكأنني أتحدث مع مراهق ضعيف يريد أن يستقوي بي أمام أحدهم.. لكني تمالكت نفسي سريعاً.. وقلت بطريقة رسمية:
- المعذرة.. أنا هنا في مكان عمل.. وليست من مسؤولياتي تنفيذ طلباتك خارج هذا النطاق.. دعك من أن طلبك غير قانوني أصلاً.
لكن يبدو أنها كانت مستعدة لرفضي.. إذ أخرجت من حقيبتها مظروفاً كبيراً وضعته على مكتبها وهي تقول:
- هذه 30 ألف دينار.. سأمنحك 70 ألف دينار إضافية بعد أن تنفذ ما أطلبه منك.
بصراحة كان المبلغ ضخماً بالفعل.. ولم أتوقعه أبداً.. حتى إنني تخاذلت كثيراً وأنا أقول:
- لكن لماذا أنا تحديداً من بين بقية الزملاء؟!.
ردت بحزم:
لا يوجد سبب محدد.. ولو أخترت أحد زملائك لوجه إلى السؤال نفسه.. عموماً.. لقد أخترتك بطريقة عشوائية.. فأنا لا أريد أن أطلب هذا من أحد أقاربي مثلاً.. هناك حدود رسمتها لكل من هم حولي من الأقارب والأصدقاء.. ولا أريد أن يتجاوزها أحد ويعرف شيئاً عن حياتي الخاصة. أما أنت فمجرد شخص غريب بالنسبة لي، ولا تتجاوز علاقتنا زمالة العمل.. ومن يعلم؟.. فربما تترك عملك هنا وتؤسس مشروعك الخاص حين تحصل مني على هذا المبلغ كاملاً بعد أن تنفذ ما طلبته منك.
سكت طويلاً وأنا أنظر إلى المظروف مفكراً.. لتقول هي محاولة بث الطمأنينة في قلبي:
- أريدك أن تفكر جيداً قبل أن ترفض.. سأمنحك حتى نهاية ساعات العمل لتقرر.. فأنا لن آتي بهذا المظروف إلى العمل كل يوم.. وتأكد أن الأمر سيبقى سراً بيننا إلى الأبد. ولو رفضت العرض.. سيستمر تعاملنا كما هو في نطاق العمل، وكأن شيئاً لم يكن.
قلت بحيرة شديدة وقد أغراني المبلغ كثيراً:
- هناك مخاطرة كبيرة بطلبك هذا.. أولاً.. أنا لست معتاداً على القتال والمشاجرات.. ثم إنني أخشى أن يكشف أحدهم أمري.. إنك تتحدثين عن رجل أعمال لا شك أن له الكثير من النفوذ كحال كل رجال الأعمال.. ولو تمكن من معرفة هويتي.. فسيعني ذلك نهاية مستقبلي.. ثم ما الهدف أصلاً من كل هذا؟!.
قالت وهي تختلس النظر إلى الباب خوفاً من أن يصل صوتنا إلى الخارج:
- ألم تشعر يوماً برغبة قوية في ضرب أحدهم؟!.. في الحقيقة أنا أتمنى أن تقتله.. لكن قتله لن يكون بالأمر الهين بالنسبة لك. وقد يوقعني أنا أيضاً في المتاعب.. كما أن رجال الشرطة لن يتوقفوا حينها إلى أن يتوصلوا إلى القاتل.. أما الضرب المبرح فأقل وطأة بكثير من الناحية القانونية.. ولن نكون عرضة لتحقيقات الشرطة المكثفة كما هو الحال مه جريمة القتل.. دعك من أن الضرب سيفي بالغرض.. إذ سيبعد ذلك الوغد عن تجارته وعالمه لفترة طويلة جداً – وربما إلى الأبد – سيرتاح خلالها الناس من شروره.. إنني أريد أن أراه يدفع ثمن عجرفته مع الآخرين.. ناهيك عن كبار المستثمرين الذين خدعهم ودمر حياتهم.. أما من ناحية اكتشاف أمرك فأرديك أن تطمئن.. لأنني سأستأجر خبيرة مكياج كي تصنع لك مكياجاً متقناً يغير ملامحك.. وسترى هذا بنفسك.. وكونك لست معتاداً على المشاجرات كما تقول فهذه ليست مشكلة.. لأن ما سيحدث بينكما ليس شجاراً بالمعنى المتعارف عليه.. بل أقرب إلى الاعتداء الجسدي.. ستكون أنت الطرف الأقوى.. وستتأكد من كلامي حالما ترى ذلك الوغد.. إنه قصير القامة نسبياً.. وهزيل للغاية.. أشبه بمقشة قديمة.
سألتها بقلق:
- وكيف سأستفرد به وأضربه من دون أن يتدخل أحد وينقذه؟!.
أجابت مطمئنة:
- مكتبه يقع في عمارة تجارية فاخرة يمتلكها بأكملها.. حيث يذهب إلى هناك يومياً منذ فترة المغرب تقريباً.. ولا يخرج إلا قبل منتصف الليل بقليل وبعد خروج جميع موظفيه. إنه لا يملك سوى عمله الذي يعشقه عشقاً مبرحاً.. فهو منفصل عن زوجته.. وجميع أبنائه يعيشون حياتهم الخاصة ولا يزورونه كثيراً بسبب سوء أخلاقه وعجرفته.
غمغمت بتخاذل:
- وماذا عن حراس الأمن؟!.
أشارت إلي بإصبعها وهي تقول:
- نعم.. يوجد حارس أمن عند المدخل.. لكنه لن يسألك عن سبب دخولك.. فقد دفعت له مبلغاً من المال حتى بغض النظر عنك.. ناهيك عن أن سيارة رجل الأعمال بعيدة عن مرمى بصر رجل الأمن.. أي أنك ستؤدي المهمة دون أي تدخل من أحد.. ولو أجرى رجال الشرطة أي تحقيق.. سيذكر رجل الأمن مواصفاتك التنكرية بطبيعة الحال.. ولن يعرف حقيقتك أبداً.. إنها خطة مكتملة
الأركان كما ترى.
سألتها للمرة الأخيرة:
- هل تسبب رجل الأعمال هذا بأي أضرار لك أو لعائلتك؟!. قالت بأسى:
- أضراراً كثيرة.. لقد كان أشقائي من صغار المستثمرين الذين تعرضوا للخداع على يده.. كما خدع زوجي ذات مرة، وسلب منه إحدى الوكالات الهامة للأسف وبطريقة ملتوية اكتشفها زوجي متأخراً بالصدفة.. المهم الآن.. أرجوك أن تتذكر.. إنني أعرض عليك مبلغاً سيغير حياتك إلى الأبد.. كل ما عليك أن تغير ملامحك بواسطة خبيرة المكياج التي أخبرتك عنها.. ومن ثم تذهب إلى العمارة الفاخرة التي سأدلك على مكانها لاحقاً.. ستنتظر رجل الأعمال في سرداب مواقف السيارات.. وحين تراه يخرج من المصعد متجهاً إلى سيارته.. ستنقض عليه وتضربه بكل قوتك.. أريدك ألا تتركه إلا حين ترى الدماء تنزف منه.. على أن تصور كل هذا دليل على إنجازك للمهمة.. لست بحاجة لإرسال الصور لي لو كنت تخشى ذلك.. فقط دعني أراها من شاشة هاتفك.. وإن كان لا يوجد أي سبب لخوفك مني.. لأنني سأصبح متورطة معك.. فوجود مبلغ كهذا مع شاب مثلك لا يملك سوى وظيفته سيثير تساؤلات رجال الشرطة.. وسيضعني تحت الشبهات لو وشيت بي.. أي أنني من المستحيل أن أغدر بك.
سألتها بخفوت:
- ولماذا التنكر المتقن حسب وصفك؟!.. لماذا لا أغطي ملامحي بقطعة قماش مثلاً؟!.. هذا لو وافقت بالطبع.
ردت ببساطة:
- سيضع هذا رجل الأمن في موقف صعب، وقد يثير الشبهات حوله.. فمن غير المعقول أن يرى شخصاً ملثماً يدخل عبر بوابة مواقف السيارات من دون أن يوقفه.. أما دخولك متنكراً تحمل ملامح شخص آخر أهون بكثير دون شك.
جلست دقائق طويلة أفكر في كلامها.. فالمبلغ مغرٍ بالفعل.. وكل ما علي فعله أن أضرب رجل الأعمال ضرباً مبرحاً..
وسأفعل ذلك متنكراً.. أي أنه لن يتعرف ملامحي أبداً.. دعكم من أنه لا يعرفني أصلاً.. كما أنني في هذه الحالة أقدم خدمة للمجتمع على حد قولها.. و.. وافقت أخيراً بعد أكثر من ساعة من التفكير.. نعم.. وافقت أمام عرضها المغري.. إنها 100 ألف دينار.. أي ما يعادل راتبي 10 سنوات ربما.. سأختصر سنوات طويلة بهذا المال.. هذه فرصة عمر وقد لا تتكرر.
أبلغتها بموافقتي.. لتتنفس الصعداء.. ثم راحت تخبرني بكل المعلومات اللازمة عن رجل الأعمال.. حتى إنني بحثت عن صوره فيما بعد في شبكة المعلومات.. ليتبين أنه رجل كبير في السن بالفعل كما أكدت لي السيدة (سلوى) .. كبير إلى درجة أنني لو ضربته بكل قوتي فقد أتسبب بموته.. أي أن في الأمر مخاطرة.. عموماً سأبذل جهدي كي أبقيه حياً.
بعد حوالي يومين - وفي فترة المساء حسب الاتفاق - خرجت من البيت متجهاً إلى شقة خبيرة المكياج بعد أن حصلت على العنوان كاملاً من السيدة (سلوى).. لم يكن العثور على العمارة السكنية صعباً، خاصة مع تحديد الموقع في خارطة الهاتف.. لأصل في الموعد المحدد.. حيث ظللت ألتفت بعض الوقت
لأتأكد أنني لن ألفت انتباه أحد.. ثم ترجلت من سيارتي واضعاً نظارة كبيرة الحجم وقبعة تخفي وجهي إلى حد ما.. لأسير نحو العمارة السكنية متجهاً إلى البوابة الرئيسية.. ومن ثم إلى تلك الشقة في الطابق الثالث.
لم أنتظر طويلاً حين طرقت الباب.. بل وجدت خبيرة المكياج بانتظاري مع السيدة (سلوى) التي كانت ترتدي ثياباً مريحة جعلتني أنظر إليها بشيء من الاستغراب؛ كوني اعتدت أن أراها بثياب رسمية في مقر العمل.. لتكسر هي حاجز الصمت سريعاً، وتقوم بتقديمي إلى صديقتها خبيرة المكياج.. ثم تطلب مني أن أتبعهما إلى الغرفة حيث أدوات التنكر.
جلست على ذلك الكرسي أمام المرآة.. وألقيت نظرة سريعة على عشرات الأدوات التنكرية التي عرفت بعضها.. في حين بدا البعض الآخر غريباً.. ويبدو أنهما لاحظتا استغرابي.. لتقول خبيرة المكياج موضحة:
- إنني خبيرة في التنكر أيضاً. ويتم الاستعانة بي في الوسط الفني كثيراً. خاصة هؤلاء الذين يريدون تغيير هيئتهم بالكامل من أجل أدوارهم في أعمالهم الفنية.
لم أرد.. فقط ابتسمت بتوتر. ثم أرجعت رأسي محاولاً الاسترخاء.. ولأتركها تعبث بوجهي، في حين راحت السيدة (سلوى) تنظر إلي مبتسمة، وهي تؤكد لي بين الحين والآخر أن الأمور ستسير على ما يرام.. وأنها تثق بصديقتها هذه التي قبضت مستحقاتها المالية نظير خدمتها كما علمت.
مرت أكثر من ساعتين أغلقت فيهما عيناي، بعد أن قررت ألا أنظر أبداً إلى المرأة لحين الانتهاء من المكياج.. ولم يكن يمنعني من الغرق في النوم سوى القلق من المهمة التي سأقوم بها بعد قليل.. ثم:
- لقد انتهينا.. ما رأيك؟!.
قالتها خبيرة الماكياج فجأة.. لأفتح عيني بسرعة وأنظر إلى انعكاسي في المرآة.. هل يعقل أن هذا أنا؟!.. يا إلهي!.. لقد أصبحت شخصاً آخر. ولو ذهبت بهذا التنكر إلى البيت لما عرفتني والدتي نفسها.. هذه السيدة خبيرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. إنني أحمل ملامح رجل في أواخر الأربعينيات أو أوائل الخمسينيات ربما.. والشيب يغطي الجزء الأكبر من شعري.
ظللت أنظر إلى نفسي بإعجاب واستغراب شديدين لبراعة خبيرة المكياج.. لتقول السيدة (سلوى) بفخر:
- هل ستعرفك والدتك لو رأتك؟!.
قلت بذهول.
لقد طرح ذهني السؤال نفسه للتو.. أنا.. أنا نفسي لا أعرفني!!.
ضحكت السيدتان من عبارتي. ونظرت إلي السيدة (سلوى) نظرة ذات مغزي.. وكأنها تخبرني أنه يتوجب على الخروج لتنفيذ مهمتي.. فرجل الأعمال في مكتبه الآن.. ويفترض أن يخرج قريباً كما هي عادته.. لكني تذكرت شيئاً هاماً.. فسألت بتوتر:
- ماذا سيحدث حين أنتهي من مهمتي؟!.. فأنا لا أستطيع
أن أدخل البيت متنكراً.
ردت خبيرة المكياج ضاحكة:
- المعذرة.. لقد نسينا إبلاغك.. تستطيع أن تعود إلى هنا بعد أن تنجز مهمتك، لكي أساعدك على إزالة كل أثر للمكياج.. لدي كل الأدوات اللازمة لذلك.. لن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً.
ظل عقلي يبحث عن ثغرات قد تفشل هذه المهمة قبل أن تبدأ.. لأسأل فجأة:
- ماذا لو خرج رجل الأعمال من مكتبه مبكراً على غير العادة؟!.. أو ظل في مكتبه لساعات طويلة ولم يخرج في موعده المعتاد؟!.
قالت السيدة (سلوى) ببساطة:
- هذا وارد.. ولو حدث.. سيتوجب عليك أن تعود إلى هنا لتزيل المكياج.. على أن تنفذ المهمة غداً أو بعد غد.
حسمت أمري بعد كلامها.. ونهضت من مكاني.. لتردد السيدة (سلوى) - بشيء من القلق - تفاصيل الخطة على مسامعي مرة أخرى.. مؤكدة ضرورة أن أركن سيارتي بعيداً عن عمارة رجل الأعمال.. وأن أذهب سيراً على الأقدام إلى مواقف السيارات في سرداب العمارة.. كما أخبرتني أن السرداب يحوي كاميرات مراقبة كيلا أفاجأ بوجودها.. لكن علي ألا أخشى شيئاً مع هذا التنكر المتقن. خرجت إلى تلك العمارة التجارية في العاصمة.. ثم جلست أنتظر في سيارتي.. كنت أعبث بهاتفي قتلاً للوقت.. ومشاعر التوتر والقلق تلتهمني، كوني لم أفعل شيئا ًكهذا في حياتي.. بل ولم أخض شجاراً من قبل ومن أي نوع.. حتى بت أخشى أن أتصبب عرقاً ويسيح المكياج.. مما جعلني أرفع درجة تكييف السيارة إلى أقصى حد.. فبت أرتجف برداً وتوتراً في الوقت نفسه.. مع شعور غريب بالدوار سيطر علي، وجعلني أسند رأسي على مقعد السيارة لبعض الوقت.
مر الوقت أخيراً.. لأخرج من السيارة. وأسير بضع دقائق متجهاً إلى العمارة التجارية من دون أن ألتفت.. إلى أن وصلت.. فنزلت إلى سرداب مواقف السيارات بعد مروري بحارس الأمن الذي بدا منشغلا ًبهاتفه ولم ينتبه إلى وجودي أصلاً.. أو ربما هو ينفذ ما طلبته منه السيدة (سلوى) فحسب.. لا أعلم.. لأقف في زاوية السرداب الخالي تقريباً سوى من سيارات قليلة هنا وهناك.. منها سيارة رجل الأعمال الفارهة التي عرفت نوعها مسبقاً من السيدة (سلوى) أيضاً.
إنه موجود إذاً.. وهذا يعني أن المهمة يجب أن تنقذ اليوم.. أمامي الآن دقائق أخرى من الانتظار.. أقول هذا لنفسي وأنا أكرر النظر إلى ساعتي والتوتر قد بلغ أعلى درجاته..
إلى أن رأيت أحدهم يخرج من المصعد الرئيسي.. إنه رجل الأعمال إياه.. أراه يسير متبختراً تجاه سيارته.. ألتفت بسرعة لأتأكد أن لا أحد يراني.. إن المكان بأكمله ليس في محيط بصر حارس الأمن الذي يجلس عند البوابة كما علمنا. حسناً إذاً.. الآن وإلا فلا.
ركضت تجاه رجل الأعمال بسرعة.. وأفرغت كل توتري وانفعالاتي بدفعة استخدمت فيها كلتا يدي.. ويبدو أن المفاجأة كانت أقوى منه بكثير.. إذ سقط أرضاً.. ولم يتفوه بحرف.. بل سمعته يتأوه فقط.. فكان لابد من طرق الحديد ساخناً.. لذا رحت أركله بكل قوتي وفي كل أنحاء جسده.. وأسدد اللكمات إلى رأسه واحدة تلو الأخرى.. وهو ينظر إلي ويحاول أن يتحدث.. لكني لم أمنحه الفرصة.. بل استمريت في ضربه إلى أن راح ينزف من فمه وأنفه وجبهته بغزارة.. و.. فقد وعيه.
حينها فقط.. التقطت له بعض الصور من هاتفي.. وهربت راكضاً، وشيء غريب في أعماقي يتصاعد ويجعلني أتوتر أكثر وأكثر.. يبدو أنه لا يوجد سقفاً للتوتر سوي توقف قلبك نفسه.. من المؤكد أن المكياج سيذوب بفعل العرق.. لكن لم بعد ذلك مهما الآن.. و.. لم أشعر بنفسي إلا وأنا عند سيارتي.. حيث رميت نفسي داخلها وأدرت محركها مبتعداً.
شعرت براحة بالغة بعد أن قمت بتأدية مهمتي على أكمل وجه.. مستذكراً كلام السيدة (سلوى) عندما أكدت لي أنني أقدم خدمة للمجتمع بفعلتي هذه.. بسبب مساوئ هذا الرجل الذي لم يسلم أحد من شروره على حد قولها.. خاصة وأنه بدا لي متعجرفاً بالفعل من ملامحه ونظراته المتعالية على كل شيء حوله.. أو.. ربما كنت ألتمس العذر لنفسي فقط بسبب فعلتي الشنعاء.. لا أعلم. لكني كسرت غروره وعجرفته هذه إلى الأبد.. هذا مؤكد.. لأبدأ بالغناء في سيارتي بسعادة شديدة، عالماً أنني خرجت من هذه اللعبة منتصراً.. ومبلغ سيغير حياتي بأكملها.. لا شك بأنني سأضع الكثير من الخطط لما يمكن أن أفعله بكل هذا المال.. إن أمامي أياماً جميلة دون شك.. أياماً رائعة.
ثم.. تتغير تلك المشاعر فجأة، ويبدأ الشك يسيطر علي ويجعلني أتساءل إن كان رجال الشرطة سيتوصلون إلي..
إنهم دائماً يعثرون على شعرة أو خيط من ثيابك.. فيقودهم هذا في النهاية إلى كل معارفك وأقاربك، وفي أي يوم ذهبت فيه لتناول الطعام في الخارج!!.. لا أقولها من باب السخرية، ولكن قدرات رجال الشرطة مخيفة بالفعل.
ظلت مشاعر الخوف تسيطر علي طوال الأيام القليلة التالية.. رغم أن الأمور سارت بعد ذلك ببساطة.. إذ منحتني السيدة (سلوى) بقية المبلغ لتتم (الصفقة) بالكامل وبسرية مطلقة.. كما قرأت في مواقع التواصل الاجتماعي بعد يوم أو يومين خبر تعرض رجل الأعمال هذا للاعتداء بالضرب من قبل مجهول.. وهو الآن في العناية المركزة.. إلا أنه سينجو على الأرجح.. وكان هذا مريحاً للغاية.. فأنا لن أتسبب بموت الرجل.. أي أنني نفذت المطلوب مني وعاقبته وأبعدته عن عمله. وأنني بت أشبه بــ (روبن هود) الذي يسرق من الأغنياء لمساعدة الفقراء.. مع بعض الاختلاف طبعاً.. فالفارق الأهم هنا أنني لم أسرق شيئاً.
لكن.. لم تنته الأمور عند هذا الحد.. فقد اتخذت القصة منحى آخر تماماً لم يخطر ببالي على الإطلاق.. حين تغيبت السيدة (سلوى) عن العمل دون سبب واضح وقبل انقضاء أسبوع على الأحداث السابقة.. علماً بأنها لم تغب يوماً منذ استلامي لوظيفتي هذه.. وبالطبع فإن الوحيد الذي شعر بشيء من القلق تجاه ذلك كان أنا.. حتى إنني سألت زملائي في العمل عن سر غيابها.. ليخبرني أحدهم أن الأمر يتعلق بزوجها.. لكنه لا يعرف أي تفاصيل.
لم يكن ما أخبرني به كافياً.. لذا قررت الاتصال بها وسؤالها بنفسي. نعم.. لن يثير هذا أي تساؤلات أو شكوك.. فمن الطبيعي أن يكون هناك تواصل هاتفي بين الموظف ورئيسته في العمل.. إلا أنها لم تجب على اتصالي.. ليشرد ذهني قليلاً وأغرق في شاشة هاتفي حيث وسائل التواصل الاجتماعي كما نفعل بين الحين والآخر.. فتوقفت نظراتي بالصدفة على ذلك الخبر في إحدى الحسابات الإخبارية.. والذي يتحدث عن القبض على رجل أعمال بعد أن اعتدى بالضرب المبرح على رجل أعمال آخر!!. لم أستوعب الخبر للوهلة الأولى.. لكن حين قرأت الأحرف الأولى من أسم المتهم.. انتبهت إلى أنه أسم زوج السيدة (سلوى).. نعم.. أنا أعرف أسمه.. سمعته منها ذات مرة.. و.. حينها فقط.. قفز إلى عقلي فجأة ذلك الاستنتاج المخيف.. هل يعقل أن يكون استنتاجي صحيحاً؟!.
رحت أبحث بسرعة عن صورة لزوج السيدة (سلوى) في محركات البحث.. لأجد الكثير من الصور الواضحة له.. يا إلهي.. الآن بدأت أفهم.. لقد كنت أشبهه كثيراً بالمكياج الذي تنكرت به في ذلك اليوم!!.. لا شك أن السيدة (سلوى) أرادت تغيير ملامحي - بواسطة صديقتها خبيرة المكياج - كي أشبه زوجها وأصبح نسخة منه، حتى تلصق به تهمة ضرب رجل الأعمال هذا.. لقد اتضحت الأمور جيداً.. لا يمكن أن تكون هذه مجرد صدفة!!.
ظللت أحترق في مكاني طوال اليومين التاليين قبل أن تأتي السيدة (سلوى) أخيراً إلى مقر العمل.. حيث التم حولها الجميع وهم يقومون بمواساتها بعد أن أنتشر الخبر.. فشكرتهم بشيء من اللامبالاة.. لتذهب إلى مكتبها بعد أن ألقت علي تحية باردة.. أما أنا.. فلم أنتظر أكثر.. بل ذهبت إليها بخطوات سريعة، وأغلقت الباب خلفي لأقول بعصبية هامسة:
- لقد خدعتني وجعلتني أتنكر بملامح زوجك من دون أن أعرف.. لكي تلصق به تهمة ضرب رجل الأعمال.. أليس كذلك؟!.
لوحت بكفيها مهدئة وهي تقول:
وما ضرك أنت؟!.. لقد قبضت أجرك كاملاً.. وحتى لا تشعر بتأنيب الضمير.. دعني أقل لك أن زوجي قد تزوج علي من فتاة بعمر أبنته.. لن أحدثك عن غضبي واحتقاري لما فعله.. وتهديده لي بالطلاق وأنني لن أحصل منه على دينار واحد لو أثرت المشاكل.. فقد وجدت زوجته الجديدة تلعب في عقله وتسيطر عليه تماماً.. إلى أن جعلته يمنحها مبالغ هائلة عن طيب خاطر. مما أشعرني بالذعر على مستقبلي ومستقبل أولادي.. ففكرت طويلاً ما يمكنني فعله.. لم تكن فكرة ارتكاب جريمة قتل متاحة.. فأنا لست بقاتلة.
قاطعتها ببرود ساخر:
- نعم.. أنت لست قاتلة.. بل نصابة فقط!!.
نظرت إلي بحدة وهي تشير بإصبعها ألا أتجاوز حدودي.. لتكمل:
- لو كنت نصابة. فأنت شريكي في النصب.. لا تنس ذلك.. عموماً.. كنت أقول أنني لم أجرؤ على القتل.. دعك من أن القتل سيدخلني متاهات كثيرة حتى لو أبعدت الشبهات عن نفسي.. لأن زوجته الثانية سترثه أيضاً في هذه الحالة.. ففكرت بهذا الحل.. أن أنتقم من زوجي لخيانته لي مع تلك الحقيرة.. وأن أنقذ ما يمكن إنقاذه من المال، من خلال وضع زوجي في مأزق كبير لن يخرج منه أبداً.. ولم أجد مأزقاً أفضل من أن يضرب منافسه في التجارة، خاصة مع العداء الشديد الذي عرف بينهما.. أتحدث عن رجل الأعمال الذي ضربته أنت.. حيث التصقت التهمة بزوجي بعد أن رصدتك كل كاميرات
السرداب متنكراً بهيئته.
سألتها بذهول:
- وهل يعلم زوجك أنك سبب ما حدث له؟!
قالت بخبث:
- لا شك في ذلك. فقد ظل يقسم أنه كان معي في البيت لحظة تعرض رجل الأعمال للضرب.. لكن.. حين سألني رجال الشرطة.. أنكرت كلامه.. مما جعله يجن غضباً..
ويتأكد أنني تآمرت عليه بشكل أو بآخر.. لكن عليه إثبات ذلك.. وهذا المستحيل بعينه.. أما بالنسبة لك.. فأنت أيضاً لن تتحدث أبداً بعد أن تورطت معي حتى النخاع.
سألتها مغمغماً:
- والآن ماذا؟!.. ماذا سيحدث؟!.
ردت ببساطة:
- الآن أستطيع أن أدير أعمال زوجي في الشركة، كوني أحمل توكيلاً منحه لي منذ زمن طويل قبل أن يتزوج من تلك اللعينة.
سألتها مستغرباً:
- لماذا إذاً لم تستخدمي التوكيل بدلا من كل ما فعلته؟!.
قالت بسخرية:
- لأن التوكيل يسمح لي بإدارة أعماله فقط أثناء غيابه القسري.. وهو غائب في السجن الآن.
أغلقت فمها وهي على وشك أن تقهقه ضاحكة.. لكنها سيطرت على نفسها لتضيف:
- أستطيع الآن أن أدير أعماله، وأصحح المسار، وأضمن مستقبلي ومستقبل أولادي. لدي ما يكفي من الوقت.. فلا أظن أنه سيخرج من قضية كهذه بسهولة.. خاصة وأن رجل الأعمال الذي ضربته قد استعاد وعيه مساء أمس.. وهو مصر تماماً على تدمير حياة زوجي وسجنه لسنوات.
كان ما تقوله أكبر بكثير من كل ما توقعته.. هل يعقل أن يفكر أحدهم بهذه الطريقة العبقرية وبكل هذا الخبث؟!.. هل يعقل أن يتصرف أحدهم بهذا الذكاء المريض؟!.. لقد ضربت السيدة (سلوى) كل العصافير بحجر واحد.. فقد انتقمت من زوجها بعد أن تزوج عليها.. وحرمته من إدارة أمواله بنفسه بعد زجت به في السجن بجريمة ارتكبتها أنا متنكراً بهيئته.. مما سيسمح لها بأخذ ما تشاء من أرباح شركته في الفترة القادمة. وأزاحت أيضاً زوجته الجديدة من الصورة، كونها لم تنجب له بعد كما علمت.. في حين قبضت أنا ما استأجرتني من أجله.. ولم يعد بإمكاني فضحها بعد أن أصبحت شريكاً في الجريمة.. لقد كنت مجرد دمية تحركني من خلالها السيدة (سلوى) حسب أهوائها.. مما أشعرني بالغباء. وأني أحمق.. أحمق كبير.
إلا أنني حاولت نسيان تلك الأيام من حياتي. وقد قررت البقاء في العمل لسنة أو سنتين قبل الاستقالة.. لماذا؟!.. ربما كي لا أثير الشبهات. أو لكي أستوعب ما حدث، ثم أبدأ بالتخطيط الفعلي لما سأفعله بهذا البلغ قبل أن أترك وظيفتي.. كما أن مخاوفي من أن يتم كشف أمري قد تلاشت تدريجياً مع مرور الوقت.. وبقي ذلك الشعور بالغباء وتأنيب الضمير بعد أن ظننت أنني أقدم خدمة للمجتمع فحسب، وأنصر المظلومين الذين عجزوا عن أخذ حقهم من هذا الرجل.
ومع مرور الأيام. أردت أن أخرج هذا السر من جوفي.. فقد أثقل كاهلي.. مما جعلني أبوح بكل تفاصيل القصة لصديقي المقدم (سالم فهد الـــــــ...).. عالماً أنه لن يملك أي شيء ضدي.. فكل ما قلته له كان أثناء خروجنا معاً.. ومن السهل أن أنكر كل شيء لو أراد تسجيل كلامي في محضر رسمي وتوجيه تهمة مباشرة لي. أعلم أنني قد أخسر صداقته، خاصة وأنه رجل مستقيم جداً. لكني شعرت برغبة ملحة في التحدث.. وستمعيي أنه أستمع إلي.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا