(6)
شاهين
انتهت عطلة العيد وعاد الجميع إلى روتين الحياة اليومية، الأب في عمله وشركته والأم تقضي وقتها في المنزل أو مع حماتها مريم والدة هديل سواء في زيارات عائلية أو في التسوق والبنات كل في عالمها، سمر عادت للتدريس، ودلال في الجامعة، ورغد في المدرسة.
وفي يوم انتهاء العطلة والجميع يجلسون في الصالة وقت العصر يشربون الشاي ويتحدثون، وصل شاهين الابن البكر والوحيد للعائلة. فرح الجميع بوصوله خاصة الأم التي تحبه أكثر أولادها ليس فقط لأنه الابن الذكر الوحيد بل لأنه يدللها ويحنو عليها، ودائماً يشعرها بأهميتها وهو الوحيد الذي يطلعها على أسراره. كان شاهين في الخامسة والعشرين من عمره وكان أقل ما يطلق عليه أنه جميل، كان شاباً جميلاً بكل معنى الكلمة، كان أسمر كأخته سمر وله شعر كثيف كأخته دلال، وعينان عسليتان واسعتان كأخته رغد، وكان طويلاً عريض المنكبين وله جسد رياضي مفتول العضلات نتيجة التمرين اليومي في النادي الرياضي الذي ينتسب إليه، وله ابتسامة رائعة رائقة تظهر في خده غمازة واحدة تزيده وسامة وجاذبية، كان شاهين حلماً يداعب خيال الفتيات، وكانت العائلة تعاني الكثير بسبب إزعاج معجباته ومعاكساتهن الهاتفية، فأغلب بنات الجيران كي يحملن به وكذلك شيماء ابنة عمته مها مفتونة به وكذلك صديقات أخواته البنات، وقد قام الأب بوضع خط هاتف خاص لشاهين في غرفته بعد أن كثرت اتصالات الفتيات به على خط المنزل وتعمد أن يسجل هذا الخط باسمه حتى يعرف الجميع رقمه الخاص على أمل أن يرتاح من المكالمات التي تدق ليلاً وتزعج أهل المنزل.. ورغم كل المعجبات لشاهين إلا أنه لم يكن شاباً مستهتراً عابثاً بل على العكس كان شاباً متزناً محترماً يرفض العلاقات الهاتفية ويصد المتصلات به ولم يقم يوماً بما يغضب الله وهو يؤمن بأن بنات الناس لسن وسيلة للعبث والتسلية فلم يستغل أي فتاة في طريقه، وكانت سمعته طيبة، وزاد ذلك من صيته فهو شاب صعب المنال وكان شاهين على علاقة طيبة بأخواته فلم يتدخل بشؤونهن يوماً وما يفرض عليهن أية قيود أو يتشاجر معهن على طريقة لبسهن أو اختيار صديقاتهن أو مراقبتهن كما يفعل الكثير من الأخوة مع أخواتهن، وهو يحب رغد على نحو خاص وعندما أخبره والده عن رغبة أحمد في الزواج بها فرح كثيراً، فقد كان يحب أحمد ويحترمه رغم أنه يصغره بالعمر إلا أنه يراه رجلاً كفؤ لأخته ورمزاً للعقل والشهامة، ورغم أن شاهين درس الهندسة إلا أنه لم يعمل مع والده، صحيح أنه كان يعمل خلال العطلة معه قبل السفر كما تفعل رغد إلا أنه أحب أن يكون مستقلاً وأن يبني نفسه بنفسه، ورغم غضب والده في بداية تخرجه إلا أنه صمم على رأيه فعمل في بنك معروف وكان موظفاً مثالياً خلب ألباب الموظفات والعميلات معاً، إنه محط الأنظار أينما حل، وكان شاهين يتساءل دائماً على الفتاة التي سيحبها، خاصة أنه بلغ الخامسة والعشرين ولم تلفت نظره أية فتاة إلى أن تعرف على بسمة، كان شاهين يقضي ليله على الإنترنت، ويحادث الكثير من الأشخاص وخلال الإنترنت تعرف إلى بسمة، شده أسلوبها وثقافتها وكانت مختلفة عن جميع من حادثهن، فهي ليست تافهة ولم تحدثه عن جمالها وشبهها بالمطربات المعروفات مثل باقي الفتيات اللواتي يتحدثن باستخدام الإنترنت، بل لم تشر إلى شكلها أبداً، كان حديثها جاداً عميقاً يعكس شخصيتها المثقفة الهادئة، وقد شدته حقاً بأسلوبها الراقي، حتى أنه أصبح لا يستطيع النوم دون أن يحادثها عن طريق الإنترنت، ومع الوقت أصبح لا يحادث غيرها وهي لا تحادث غيره.
كان يحادثها ساعتين يومياً من الحادية عشرة إلى الواحدة صباحاً وكانت هذه الساعات أجمل ساعات يومه، واستمر يحادثها ستة شهور دون أن يراها أو يعرفها أو تراه وتعرفه فقد اكتفيا بأسمائهما الأولى. ولكنه أصبح يتوق إلى رؤيتها بعد أن عرف تفاصيل حياتها كما عرفت تفاصيل حياته، كان والدها منفصلين منذ كان عمرها ثلاثة أعوام، وقد تزوج كل منهما بعد ذلك، وكانت بسمة تعيش في منزل جدتها والدة أمها، وتزور والديها بانتظام كل في بيته وهي تحب أخوتها غير الأشقاء كثيراً، وكانوا يحبونها كثيراً ويحكون لها عن أسرارهم ومشاكلهم، وكانت بسمة تعمل ولم تخبره أين وعندما أخبرها شاهين أنه يعمل في أحد البنوك لم تعلق بشيء ولم تسأله عن تفاصيل عمله فاحترم صمتها وعرف أنها لا ترغب بإخباره عن مكان عملها، كانت بسمة متحفظة معه في كل ما يتعلق بشخصيتها وكأنها لا تريده أن يعرف من هي وكان ذلك يقلقه فهو بدأ يحبها وأصبح لا يستطيع الاستغناء عنها وفي أحد الأيام تجرأ وأخبرها أنه يريد أن يراها، سألته: لماذا؟ فأخبرها أنه يهتم لأمرها وغلبه شوقه وفضوله بأن يعرف شكلها، فقد تعب من تخيلها في عقله وأخذ يلح عليها حتى وافقت أخيراً أن ترسل له صورتها ووعدها بأن يرسل لها صورته، وعندما أرسلت صورتها له عن طريق الإيميل، كاد قلبه أن يتوقف وهو ينتظر تحميل الصورة، وأخيراً ظهرت صورتها على الشاشة أمامه، وشهق بإعجاب فقد كانت جميلة حلوة عيناها مسحوبتان خضراوان وفمها صغير كحبة الكرز وأنفها صغير مستقيم وشعرها أشقر ذهبي قصير يصل حتى أسفل أذنيها، وعنقها طويل كأنه يفخر بأن يحمل هذا الرأس الجميل، وفرح شاهين بالصورة وأرسل لها صورته، وعلقت بأنه أوسم مما تصورت، وأخبرها يومها أنه يحبها ومن كل قلبه، وطلب منها أن يحادثها بالتلفون، وكأنها ضعفت أمامه وأمام اعترافه بحبها، فوافقت بعد تمنع قصير واتصلت به وسمع صوتها العميق لأول مرة في حياته، وأصبحت بسمة من يومها جزءاً من حياته فكانت توقظه للعمل يومياً وتتصل به في طريق عودته من عمله حيث تكون هي أيضاً عائدة من عملها وتتصل به في المساء وتحادثه ساعتين كما كانا يفعلان سابقاً وكانت صورتها دائماً أمام عينيه ومر شهران وتعلق شاهين بها أكثر وأكثر، وفي يوم ميلادها الثالث والعشرين وأثناء حديثهما في المساء قال شاهين: بسمة يعلم الله كم أحبك. بسمة أنا أرغب في التقدم لخطبتك ما رأيك؟ فأنا موظف وظروفي جيدة والحمد لله ولا أظن أن أهلي يمانعون.
صمتت بسمة فترة طويلة وأخيراً قالت: هذا أسعد خبر سمعته في حياتي، أنت لا تعرف كم أحبك يا شاهين سأكلم والدي في الموضوع عندما يعود من السفر فهو مسافر حالياً في عمل خارج الكويت، وعندما يعود سأحدد لك موعداً معه عسى أن يكتب الله ما فيه الخير لك ولي.
وفي اليوم التالي فاتح شاهين والدته بموضوع خطبته لبسمة وأخبرها بمنتهى الحماس عن طبيتها وأخلاقها وثقافتها وجمالها، ثم شدها من يدها وأراها صورة بسمة التي تملأ شاشة جهازه وفرحت الأم الطيبة له كثيراً وقالت له إنها طوال عمرها تحلم بيوم زواجه، وكانت دائماً تدعو الله أن يوفقه بابنة الحلال، وأخبرته أنها كانت تتمنى أن يتزوج هديل أو شيماء ولكنها طبعاً تحترم اختياره ورغبته، فبالنهاية هو من يختار عروسه، قبل شاهين رأسها وأخبرها أنه سيفاتح والده بالموضوع عندما يعود والد بسمة من الخارج وطلب منها ألا تخبر أحداً حتى ذلك الحين، وعندما أخبر بسمة أنه فاتح والدته لا يعرف لماذا أحس أنها متوترة قلقلة، فأخذ يطمئنها أن والدته فرحت كثيراً وتحمست لها وأنه لا داعي للقلق فكل شيء سيكون على ما يرام.
صعد شاهين غرفته واتصل ببسمة.. وعندما سمع صوتها قال: الآن فقط شعرت أنني عدت عندما رجعت إليك.. أنت وطني.. أنت أرضي يا بسمة أنت روحي وحياتي وأملي..
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا