***
القبر رقم 232184
"فراس شافي عبد اللطيف
والقبر رقم 23189
"سالم فهد يوسف"
كانت سيارة الإسعاف تسابق الريح لتصل إلى مكان الحادث المروع الذي تم إبلاغهم به قبل بضع دقائق، لكن سائقها لم يكن يعلم أن لا فائدة تجدي من سرعته وتجاوزه لتلك الإشارات الحمراء، فقد كانت روح ذلك الشاب قد فارقت جسده منذ أول لحظة من حدوث ذلك الاصطدام الذي تسبب به تهوره.
وكانت تلك الروح تقف قرب جسده الممزق مدهوشة حائرة، فلم يتسع له الوقت ليستوعب ما حدث له، فقبل لحظة فقط كان يضغط على دواسة البنزين في سيارته السريعة ليقفز إلى حارة الأمان ويسبق السيارة التي أمامه، واستدار ليتجاوز المنعطف عندما فاجأه وجود سيارة معطلة كان صاحبها يجلس على حافتها منتظراً أن يأتي من يساعده.
أذهلته الصدمة وتجمدت حواسه، فلم يستطع أن يفعل شيئاً ليتفادى ذلك الاصطدام، وكان آخر ما رآه هو عيني ذلك الرجل وهما تتسعان فزعاً، وفمه وهو ينفتح ليطلق صرخة لم يتسن لها أن تخرج، فقد ارتطمت سيارته به بكل شراسة السرعة الجنونية التي كانت تسير بها، ثم جاء ذلك الدوي المرعب، لينتهي بعدها كل شيء، وليقف بعدها خارج جسده ليراقب سيارته وهي تتحطم ويتمزق جسده معها شر ممزق.
سارع السائق الذي حاول الشاب تجاوزه للاتصال بالإسعاف والشرطة وهو يهز رأسه أسفاً، فقد كان يقود سيارته بالسرعة القصوى المسموح بها في ذلك الشارع، لكن أولئك الشباب لا يكتفون أبداً من السرعة ولا يلتزمون بأي قوانين، وها قد ذهب ذلك المسكين الذي كانت جريرته الوحيدة أن سيارته قد تعطلت ضحية لاندفاع ذلك الشاب واستهتاره.
أخذ ينظر إلى جسد الشاب المحبوس تحت أنقاض السيارة، وإلى رأسه الذي بدا له ملتوياً بطريقة غريبة، لكنه لم يجرؤ على لمسه، فقد خشي أن تؤدى أي حركة خاطئة منه إلى زيادة وضع ذلك الشاب سوءاً، وإن كان الوضع الغريب الذي كان عليه رأسه قد جعله يحدس بأنه قد فارق الحياة.
وبسرعة قياسية وصلت سيارة الإسعاف وتبعتها الشرطة، فقد كانت الشوارع شبه خالية في ذلك الوقت المتأخر من الليل، لكنهم علموا بمجرد وصولهم أن الأوان كان قد فات، فلم يبق من الرجل الذي صدمه الشاب سوى أشلاء متناثرة، وما كادوا يرون الوضع الذي كان عليه جسد ذلك الشاب حتى علموا بأنه لم يعد سوى جسد لا حياة فيه، لكن واجبهم كان يحتم عليهم أن يبذلوا ما في وسعهم لإسعافه.
مضت ساعات مضنية قبل أن يتمكنوا أخيراً من إخراجه من تحت حطام سيارته، وعندها تأكد لهم حدسهم الأولى، وجاء تقرير الطبيب الشرعي ليؤكد أن ذلك الشاب قد توفى فور وقوع الحادث.
لكن ذلك الخبر لم يحمل أي عزاء لأهل الشاب المفجوعين، فقد أغمى على أمه فور سماعها لنبأ وفاته، وظلت فاقدة للوعي لعدة أيام بعدها، بينما كان أبوه المسن يحاول بجهد أن يكبت دموعه، وأن يتظاهر بالتماسك وهو يقف في المقبرة ليصلي على ابنه.
وكاد الأب يفقد الوعي من الحزن عندما كان يوسد بيديه فلذة كبده التراب، فلم تمض بضع سنوات منذ كان يحمل ذلك الصبي الحبيب الذي انتظره طويلاً بين يديه، وها هو الآن يهيل عليه التراب ويودع أمله الوحيد، ويفارق للدود من كان يظن أنه سيكون سنداً له في شيخوخته، ومن ظنه هو من سيحمله إلى القبر يوماً ما.
وكانت روح ذلك الشاب لا زالت تشعر بعذاب اللحظات الأخيرة من حياته، فقد كان الألم الذي مزق جسده لحظة وفاته بالغ الشدة، لكن ألم الندم على استهتاره وتضييعه لحياته كان أقسى وأشد، فقد كانت دموع أهله تقطع روحه بأقسى مما قطع ذلك الحديد جسده.
وكان أصعب ما يعانيه هو ذلك العتاب واللوم الدائم من الرجل الذي قتله، فقد كانت روحه تتبعه في كل نواحي المقبرة وحيثما ذهب وكانت ملامح وجهه لا زالت مسكونة بالرعب الرهيب الذي أصابه في اللحظة التي قتله فيها فراس.
لم يكن يحدثه أو يصغى إلى أي من أعذاره وحججه التي حاول أن يبرر بها ما فعل، بل كان لا يقول سوى جملة واحدة لا تتغير مهما قال له:
"أنت قتلتني! أنت قتلتني!"
وبيأس اصطحب ذلك الرجل إلى بيته، وأراه أباه الذي أنجبه في سن متأخرة وبعدما ظن أنه لن يرزق يوماً بصبي يحمل اسمه، والذي أعجزه الكبر عن أن يربيه كما يربي الرجال، فتركه لأمه التي كانت تغدق عليه ألوان الدلال بلا حساب، فلم ترزق بسواه، وكانت تعلم أنها لن تحظى بطفل غيره لكبر سن زوجها.
جال به من أنحاء البيت ليريه صوره في صغره، بشعره الطويل وملابسه الشبيهة بملابس الفتيات، وأمه الآسيوية الملامح التي تزوجها أبوه بعد وفاة زوجته الأولى، والتي لم ينس أهله يوماً أنها كانت تعمل خادمة لديهم، وشاء الله أن يبتليه، فجاءت ملامحه نسخة طبق الأصل من ملامح أمه، لينفر منه باقي أهله وينبذونه بلا ذنب جناه.
لكن ذلك الرجل ظل يردد تلك الجملة لا سواها:
"أنت قتلتني! أنت قتلتني!".
وهنا لم يجد مفراً من أن يأخذه لبيتهم القديم، ويسير معه إلى الجمعية القريبة ليقرأ معه ما كتب بصبغ الرش على حوائطها الخلفية:
"فراس البنية"
"أنا وفراس. على السطح"
"فراس. فوق المطعم"
لو كان للموتى أن يبصقوا لبصق ذلك الرجل في وجهه لشدة اشمئزازه منه بعدها، لكن كل ما استطاعه هو أن يكرر تلك الجملة بنبرة احتقار بالغة:
"أنت قتلتني؟ أنت؟ أنت؟ أنت قتلتني؟"
ولو كان للموتى أن يموتوا ثانية لمات فراس من الخزي والعار، ولتمنى أن يدفن ثانية تحت التراب حتى لا يضطر أن يدلى بتلك الاعترافات المخجلة، ولكن لم يكن لديه خيار سوى الكلام:
- لا تسئ الظن بي! فليس الأمر كما تعتقد، أنا لم أكن.! كلا! لم أكن أبداً كما تقول هذه الكتابات عني!
لم يتكلم سالم، ولم يعد قول تلك الجملة التي تمزق روح فراس كعادته، لكن عينيه ظلتا ترمقان فراس باحتقار، فأحنى فراس رأسه وأشار إلى إحدى الجمل المكتوبة عنه قائلاً:
- هذه كانت أول مرة يذكر اسمي فيها هنا، هل تعلم كم كان عمري حين كتب أولئك الأوغاد هذا الكلام القذر عني؟ لقد كنت في الثانية عشرة من عمري فقط!
استمر سالم ينظر إليه بصمت، فأكمل فراس حديث الخزي مرغماً"
- كنت منبوذاً في المدرسة كما كنت منبوذاً ومكروهاً من أهل أبي، فقد كرهني كل من هم في عمري، وكانوا يسخرون مني ويضحكون على كلما حاولت التقرب إلى أحد منهم، لم يكونوا يسمونني إلا ابن الخادمة، وكانوا يستهزئون بشكل وجهي وبنعومة صوتي وحديثي المختلط الألفاظ، ولم يكن المدرسون بأفضل حالاً منهم، فقد كنت أشعر أنهم هم أيضاً يهزؤون بي ويتكلمون عني بالسوء كلما رأوني.
صمت لحظة ليحاول أن يستجمع شجاعته قبل أن يكمل بأسي:
- وليتني كنت أعلم حينها كم كنت محظوظاً، ليتني ظللت منبوذا من الكل طوال حياتي، فما كدت أبلغ الثانية عشرة حتى ازداد طولي فجأة، وأصبحت أطول من كل من هم في عمري، فتركني الجميع في حالي ولم يعد أحد منهم يزعجني، لكن بعدهم عني أحزنني أكثر، فقد كنت أشعر بالوحدة، ولم يكن لي أصدقاء أو أحد أشاركه اللعب.
سكت متطلعاً إلى وجه قتيله آملاً أن يرى أي شفقة أو تعاطف في نظراته، لكن سالم ظل يحدق به بوجه جامد منتظراً أن ينهي حديثه، فاستسلم وأكمل:
- وفجأة بدأ أولاد ممن يكبرونني في العمر يتقربون مني، لم أصدق نفسي في البداية، وخاصة حين تقدم إلى زعيم شلة كان الكل يهابه ويحسب له ألف حساب في المدرسة، ودعاني لأرافقه وباقي شلته للعشاء ذلك المساء في أحد مطاعم الجمعية، وقفت ليلتها متردداً عند باب المطعم أنظر إليهم من بعيد، وأنا أنتظر أن أسمع ضحكات الاستهزاء وألفاظ السخرية المعتادة عندما يرونني، فقد كنت أظن أن ذلك الزعيم ما دعاني إلا ليهزأ بتصديقي الغبي لدعوته.
قاطعته حركة بدرت من سالم، إذ استدار وهو يهم بالرحيل، فقد سئم من التحديق بذلك الحائط، ومن قذارة الألفاظ التي تشمئز منها النفس التي سطرت عليه، لحق به فراس وهو يقول:
- هل مللت من حديثي الطول؟ لا بأس سأحاول أن أختصر وأوفر عليك التفاصيل التي لا تحتاج إليها، هل ترى مطعم الوجبات السريعة هذا؟ لقد أصبح مكاني المفضل في كل المنطقة، بل في كل الدنيا، فقد أصبحت ألتقي فيه بتلك الشلة كل يوم، وأصبح لي أخيراً أصدقاء يحادثونني كأنني واحد منهم ويشركونني في كل ألعابهم الشريرة.
ترددت في البداية، لكن رغبتي في أن أصبح أحد أفراد جماعتهم جعلتني أستجيب لكل طلباتهم وأفعل مثلهم، فقد شاركتهم في تجريح طلاء السيارات المتوقفة بعيداً عن الأنظار، وفي شتم المارة الأبرياء من النساء والشيوخ من الرجال ثم الركض بعيداً، بل وحتى في سرقة ما خف حمله وغلا ثمنه مما يسهل إخفاؤه من بضائع من الجمعية، بينما يشاغل أفراد آخرون من الشلة حراس الأمن.
انتبه فراس أن خطوات سالم المتجهة إلى المقبرة قد ازدادت سرعتها، ولاحظ أن وجهه قد اكفهر أكثر، وعندها أدرك أن حديثه قد جعله يحتقره أكثر بدل أن يكسبه تعاطفه، فقد كان سالم ملتحياً وله وجه هادئ وقور، من الواضح أنه لم يفعل أبداً أي من الأفعال الطائشة التي كان فراس يتكلم عنها، فقرر أن يخبره فوراً بما حدث له بدون مقدمات، فقال مرتجفاً:
- هناك على سطح ذلك المطعم حدث لي ما حدث!
التفت سالم إليه وخفف من سرعة خطواته، فأكمل فراس:
- بعد أن اطمأننت إلى تلك الشلة وظننت أنني أصبحت واحداً منهم، دعاني الزعيم في ظهيرة أحد الأيام إلى الصعود معهم إلى سطح المطعم، وكنت قد صعدت معهم إلى هناك عدة مرات قبلها، فقد كانت لعبتهم المفضلة هي قذف تعساء الحظ من المارة بالحجارة أو الزجاجات الفارغة أو السباب البذيء، ثم نختفي خلف مكائن التكييف فلا يعلم أحد من أين تأتي تلك القذائف.
لم أتردد في اللحاق بهم رغم استغرابي للوقت الذي اختاروه، فقد كان الحر شديداً والشمس تلهب الهواء بسياط شعاعها، والشارع خال من المارة، ناداني الزعيم لأقترب منه، فاستجبت باسماً وأنا أظن أنه يريد أن يسر إلى بشيء، لكنني فوجئت بأصدقائي المزعومين وهم يمسكون بي بقسوة ويشلون حركتي، ظننت في البداية أنهم يمازحونني، لكن عندما بدأوا ينضون عني ثيابي فهمت بفزع ما يجري.
اتسعت عينا سالم ترقباً، لكن فراس لم ينتبه له، فقد كان يخفض رأسه خجلاً مما هو على وشك أن يبوح به:
- حاولت المقاومة بكل قواي، لكنهم كانوا أقوى مني، ومنعوني من الحركة أو الصراخ، كنت أحس بجسدي يتمزق وأنا مسمر إلى الأرض اللاهبة بينما يتناوب أولئك الوحوش على اغتصابي! وكان الألم شديداً حتى ظننت أنني سأموت لا محالة، وحتى بعد أن انتهوا مني وانصرفوا ضاحكين لم أتمكن من النهوض إلا بعد عدة ساعات.
حملت نفسي حملاً إلى البيت، كنت أريد فقط أن أختفي من الوجود، أن أجد حفرة أختبئ فيها إلى أن ينسى الناس وجودي ومن أكون، لكنني وجدت والدي ينتظرانني فقد كانا قلقين لتأخري، وما كادا يريان منظري والدماء التي تلوث ثيابي حتى أدركا ما جرى لي.
بذلت كل ما تبقى لي من قوة لأقنع أبي بأنني لا أريد تقديم شكوى بحق أولئك السفلة، فقد كان الموت أهون عندي من الفضيحة التي ستطالني عندما يعلم الناس بما حدث لي، لكنه وللمرة الأولى في حياتي رفض طلبي، قبلت يديه وبللتهما بدموعي وأنا أتوسل إليه، لكنه لم يصغ إلي، وجرني رغماً عني إلى مخفر الشرطة، وتجاهلوا هم أيضاً توسلاتي، فقد كنت قاصراً فلم يضعوا أي اعتبار لرأيي.
توقف سالم تماماً عن السير وأخذ يصغي بإمعان إلى الاعترافات المهولة لفراس، التي استمر يسردها دون أن يرفع رأسه:
- ولو كنت قد عشت بعد ذلك اليوم سبعين سنة لا سبع سنوات لما كان ذلك كافياً لينسيني الذل الذي عانيته فيه، فقد كان محقق الشرطة يصرخ في وجهي بأسئلته التي كان يكررها بشك وارتياب، فلم يجد سبباً لتواجدي مع تلك الشلة السيئة السمعة في ذلك الوقت والمكان إلا أنني قد ذهبت معهم بإرادتي، وتركت بعدها عارياً تماماً لفترة بدت لي دهراً وأنا أتمنى الموت، بينما كان الأطباء يفحصونني ويستخرجون الأدلة من جسدي على ما حدث لي.
كان قتيله سالم قد بدأ يشعر بشيء من التعاطف معه، لكنه تجنب النظر إليه وعاود السير، ولم تخرج من فمه عندما تكلم سوى تلك الجملة:
"أنت قتلتني!"
فلم يكن قد وجد بعد في كل ما قاله فراس ما يبرر فقدانه لحياته بسبب طيشه. يئس فراس من إقناعه بعدم مسؤوليته عمل فعل، وأن الظروف القاهرة التي مرت به هي ما غيرت شخصيته حتى أصبح بهذا الاندفاع والاستهتار، لكنه رأي في عينيه رغبة في معرفة ما حدث بعدها، فأكمل حديثه:
- بالطبع لم تفدني تلك الشكوى بشيء، فقد خرج المجرمون من السجن بكفالة بعد بضعة أيام بعدما توسط لهم أحد المسؤولين الكبار، وما كادوا يخرجون حتى اندفعوا للانتقام مني، فقاموا بفضح ما فعلوه بي مدعين أنني كنت سعيداً وراضياً به، ثم شهروا بي على كل حوائط المنطقة التي نقطنها، بل إن السيارات أخذت تدور ليلاً ونهاراً حول منزلنا، ويصرخ من فيها بما رأيته مكتوباً على ذلك الحائط وبأشياء أخرى أقذر وأقبح.
لم أخرج بعدها من البيت ورفضت الذهاب إلى المدرسة رغم بكاء أمي وتوسلات أبي، فما كان لي قدرة على مواجهة الناس وأنا أحمل وصمة العار تلك، وظللت منطوياً على نفسي وأتجنب الناس حتى بعدما انتقلنا إلى بيت جديد والتحقت بمدرسة أخرى.
كان سالم قد أبطأ وتيرة خطواته ليعطي لفراس الفرصة للحاق به، فقد كان طريق العودة إلى المقبرة لا زال طويلاً، انتبه فراس لما يفعله، لكنه عندما بحث يائساً في ملامح وجهه لم يجد أي أثر للتعاطف، وإن كان الغضب الدائم الذي يحمله ضده قد بدا له أخف وطأة، فأكمل سرد ما حدث له:
- وما كدت أبلغ سن المراهقة حتى تحولت إلى وحش، أصبحت أضرب أخواتي الأكبر مني وأحطم أغراضهن وأؤذيهن بكل ما استطعت، لم أرحم حتى أمي المسكينة من نوبات غضبي، والتي ازدادت بعد أن برأت المحكمة التي انتظرتها لسنوات ساحة أولئك المجرمين، فقد وجدوا محامية بلا ضمير تمكنت من إبطال القضية التي كانت محكمة ضدهم، زاعمة وجود خطأ في إجراءات القبض عليهم، وهكذا لم يدفع أحد ثمن ما حدث لي، وذهبت فضيحتي وعذابي سدى.
بح صوت أبي وهو ينصحني دون جدوى، فلم يجد مفراً من الاستجابة لكل طلباتي ليأمن شري، وكان أهمها تلك السيارة التي صدمتك بها، والتي كنت أقضى معظم وقتي في تزيينها والعناية بها قبل أن أنطلق بها متجولاً في الشوارع لساعات طوال بلا هدف، فقد كانت تلك اللحظات التي أسابق فيها الريح هي اللحظات الوحيدة في حياتي التي أنسى فيها عاري، وأشعر بقوتي وبقدرتي على السيطرة على ما يحدث لي.
توقف فراس عن الكلام فقد قال كل ما عنده، لكنه لم يظفر من سالم بجواب سوى تلك الجملة التي أصبحت كلمتاها كسياط تمزق روحه، واستمر يلاحقه حيثما ذهب بوجهه الحزين ولومه الدائم.
وبعد سنتين من عمر البشر من ذلك التاريخ أشار له سالم ليتبعه، تملكه الفضول وهو يجر روحه المعذبة خلف روح سالم التي كانت نشيطة وقوية، حتى وصلا إلى بيت جميل يبدو حديث البناء، دخل سالم المنزل بثقة وتبعه فراس وهو يتمعن بإعجاب بجمال كل ما في ذلك المنزل من ديكورات فاخرة، لكنه استغرب أنه كان شبه خال من الأثاث، فسأل سالم:
- أهذا منزلك؟
هز سالم رأسه بالإيجاب دون أن يتكلم، فلم يستطع فراس أن يكتم فضوله أكثر:
- لكن أين الأثاث؟ لو هو خال هكذا؟
أحنى سالم رأسه بحزن ولم يجبه، بل اتجه إلى الدور العلوي فتبعه فرأس، وسار خلفه حتى دخلا غرفة واسعة كانت مليئة بحقائب السفر والأكياس التي كدست فيها الملابس وأغراض أخرى كثيرة، وكانت هناك سيدة شابة ذات وجه حزين منهمكة في محاولة إقفال إحدى الحقائب المتخمة بالملابس.
انتبه فراس فوراً للصبي الصغير الذي يقف إلى جوار تلك السيدة، فقد كان يشبه سالم كثيراً، خمن فراس أنه في الثانية عشرة من عمره تقريباً، ولاحظ الحزن المخيم على وجهه هو أيضاً.
وكانت هناك طفلة أخرى عمرها يقارب الرابعة جالسة على الأرض بقرب أمها وهي تلهو بلعبة إلكترونية استولت على كل انتباهها، وكان وجهها البريء سعيداً بتلك اللعبة، فقد كانت أصغر من أن تعي ما يحزن أمها وأخاها.
نظر إلى سالم مستفسراً، لكنه لم يره، فقد كانت عيناه مسمرتين بأسى بزوجته وطفليه الذين حرم منهم في لحظة بدون ذنب، صمت فراس متأثراً، وجاء صوت ذلك الصبي ليخرجه من شروده:
- ألا يوجد حل آخر يا أمي؟ ألا يمكننا أن نحتفظ ببيتنا ولا نبيعه؟
- لقد فات الأوان يا صغيري! فقد تم البيع ولم يعد لدينا إلا أيام قليلة لننقل باقي أغراضنا!
- لكنني لا أريد أن أعيش في بيت جدي، فليس لدينا هناك إلا غرفة واحدة لنا كلنا! وأنا أحب غرفتي الواسعة هنا ولا أريد أن أتركها!
- أرجوك يا يوسف لا تزد من عذابي فما بي يكفيني، فالله يعلم أنني أشعر كأنني أقتطع قطعة من جسدي وأنا أترك هذا البيت، فقد اخترت كل شيء فيه حتى أصغر بلاطة بنفسي مع أبيك، كانت أسعد لحظاتنا ونحن نجول معاً بين المحلات، ونختار أجمل المواد وأفضلها لنبني بها بيت العمر الذي سيضمنا معاً.
تنهدت بلوعة وهي تمسح دمعة فرت من عين ابنها عندما جاءت سيرة أبيه رغم محاولته اليائسة للتماسك، فقد كان يفتقده كثيراً، وخرج صوت الابن مرتجفاً من الحزن:
- لكنني أحب هذا البيت يا أمي! فهو يذكرني بأبي! ولا أطيق فكرة أنني لن أراه من جديد!
- لقد فقدنا ما هو أغلى من هذا البيت يا يوسف! فقدنا أباك الحبيب الذي أمضى سنيناً طويلة يخطط لحياتنا في هذا البيت ويرسم بعناية كل ركن فيه! لكن لم تسنح لنا الفرصة لنهنأ به طويلاً، فقد قتل ذلك الطائش أباك! وتركني أصارع لسداد الديون التي ناء بها كاهلي، فراتبي وحده لا يكفي لسداد الأقساط الكثيرة التي تحملناها في سبيل أن يخرج بيتنا بأجمل صورة، وها نحن نتركه ليتمتع به سوانا!
أحس فراس بنفسه يتضاءل من الخجل، ورفع بصره إلى سالم فرآه ينظر إليه بحزن، كان يعرف ما سيقوله له فلم يقل يوماً سواها، لكن العذاب الذي أحس به لسماعها في هذه المرة كان أشد، فقد أيقن حينها أن مرور الأيام لن يفعل سوى زيادة ذلك الألم.
"أنت قتلتني. أنت قتلتني".
***
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا